بينت تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم أن الديمقراطية الغربية التقليدية التي لها خصوصيات داخلية، وتختلف من بلد إلى أخر داخل بلدان أوروبا الغربية والشرقية وأمريكا نفسها ، يمكن أن تتعايش مع نظم القيادة التقليدية الخصوصية المتجسدة في أحزاب وجمعيات ذات مرجعية وثقافة قبلية أو عشائرية أو مناطقية أو زعامات الطوائف الروحية، تحقق بفضلها اكتساحا في صناديق الاقتراع.
وعلى الساحة الدولية بينت ذلك تجارب تجارب ميدانية عديدة في أسيا حيث يتولى الحكم رئيس وزراء الهند نارينرا مودي منذ 2014 وخلف مانموهان سنغ، الذي حكم من 2004، وهو أول رئيس وزراء من طائفة السيخ في أكبر ديمقراطية في العالم.
كما يتحقق التناوب السلمي علي السلطة بالشكل الغربي الكلاسيكي في السينغال منذ عدة سنوات بدعم من الطريقة التيجانية المتصوفة مع الرئيس مكي سال . ونفس الأمر ينطبق على نيجيريا البلد الأكثر كثافة سكانية في إفريقيا والأكثر تنوعا عرقيا ودينيا والأقدم في مجال الإنتقال الديمقراطي دون انقلابات منذ بداية تسعينات القرن الماضي.
وفي بوليفيا بأمريكا اللاتينية، حكم الرئيس إيفو موراليس، المنحدر من أصول محلية بفضل صندوق الاقتراع على الطريقة الديمقراطية الغربية الكلاسيكية، ولكنه طعمها بأليات استشارية من الإرث المحلي للهنود الحمر في مجال الحوكمة المحلية والإستشارة الشعبية القبلية. وقد حقق استقرارا سياسيا ونموا اقتصاديا بفضل المزج بين أليات الديمقراطية الغربية السائدة والإرث المحلي للأجداد في مجال الحكم التشاركي والاحتكام للقيادات القبلية على المستوى المحلي وعلى مستوى حدود القبيلة الترابية الواسعة.
وفي بلدان الخليج العربي تتوفر الأنظمة هناك على آليات للحكم المحلي التشاوري بين القمة والقاعدة، عبر ممثلي القبائل الذين يلتقيهم الملك أو الأمير أو السلطان حسب التسميات في مناسبات قارة كل أسبوع، أو في مناسبات موسمية دورية، سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية. وبالتوازي مع ذلك، يقوم أفراد العائلة المالكة بعقد لقاءات دورية مع المواطنين للاستماع إلى مشاغلهم ومطالبهم ونقلها إلى الحاكم، لدراستها من قبل أجهزة الديوان الملكي أو الأميري وأخذها بعين الاعتبار في مجال تحيين توزيع الثروة أو مراجعة الرواتب أو حل اشكاليات التنمية المحلية وفض النزاعات بين الأفراد والجماعات. ويطلق البعض من الدارسين للحالة الخليجية ب "الديمقراطية الصحراوية". وقد سمح هذا الأسلوب في إدارة الشان العام عبر الحكم المباشر وتوزيع الثروة والتنمية، في توصل هذه الممالك والإمارات القبلية في تحقيق انتقال أغلبها من "القبيلة الصغيرة" إلى "الدولة العصرية"، التي تعكس قيم الصحراء النبيلة كالكرم والتسامح والشهامة، ضمن كيان عصري لدولة متحدة أو فدرالية على غرار المملكة السعودية أو سلطنة عمان أو فدرالية دولة الإمارات العربية المتحدة. وتفادت تلك الدول بذلك هزات عرفتها أنظمة جمهورية بمؤسسات دستورية كلاسيكية في المنطقة وعصفت بشعوبها وقياداتها، خاصة خلال أحداث الربيع العربي لعام 2011.
وفي الكويت تتميز هذه الدولة الخليجية بنظام برلماني تعددي متطور منذ استقلالها عام 1963 ، يمارس فيه البرلمان، وهو مجلس الأمة بأعضائه الخمسين المنتخبين مباشرة صلاحياته في مراقبة عمل الحكومة وإسقاطها أو طرح الثقة عن أحد أعضائها من الوزراء. ويتكون البرلمان من غرفة واحدة وأعضاء مستقلين وقوميين وإسلاميين. وتتميز صحافة البلد بتعددية واستقلالية خطها التحريري وجرأة بعض العناوين مثل " القبس" و" السياسة" في نقد الحكومة ومساءلتها، بل وإسقاط العديد من أعضاء الحكومة وحتى النواب البرلمانيين.
وتبدو دول الخليج العربية لكل منها خصوصية في إدارة الشأن العام وممارسة الحكم بالأساليب التقليدية أو العصرية ، في إطار خصوصية الإنتقال أو التداول السلمي للسلطة بواسطة الانتخابات التقليدية بصندوق الاقتراع أو البيعة. وقد حققت تلك الدول ذلك الانتقال وقامت بعض ممالك وإمارات الخليج العربي بتحقيق انتقال سلس للحكم في بداية العشرية الأولي للقرن الحالي، وذلك ضمن آليات الوراثة والمبايعة السلمية للأمير، أو الملك الجديد سواء بتخلي الأمير المباشر طوعيا عن الحكم إلى خليفته المرتقب أو المعين، حسب آليات التوارث والتوريث المتعارفة في العائلة الحاكمة، مثلما جرى في دولة قطر التي ترك فيها الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عام 2013 الحكم إلى أحد أبناءه الأمير تميم بن حمد أل ثاني.
وفي السعودية تولى الأمير سلمان، وهو آخر أبناء مؤسس الدولة الملك عبد العزيز آل سعود عام 2017 الحكم، وعين أحد أبناءه وهو الشاب محمد بن سلمان وليا للعهد مباشرا للحكم بعد إزاحة باقي أبناء عمومته سلميا ودون إراقة دماء، ليفتح بذلك المجال أمام بدء حقبة حكم آل سلمان بن عبد العزيز آل سعود، في شكل من أشكال التناوب السلمي على السلطة ضمن إطار العائلة الملكية ولفائدة أحد فروعها بالتوافق والتخطيط، كما تعرفه كل الملكيات الدستورية أو التقليدية اليوم وفي الماضي.
وفي إيران المجاورة ذات المذهب الشيعي القائم على ولاية الفقيه أوجدت حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ نشوءها عام 1978 نموذجا للتداول السلمي على السلطة عبر الانتخابات الخصوصية التي تجري دوريا بين عدة تيارات وقوى سياسية وتتمحور حول توجهين أساسيين وهما المحافظون والليبراليون . ويحاول المحافظون، كما في البلدان الديمقراطية العريقة مثل بريطانيا وأمريكا الحفاظ على النمط المجتمعي القريب من القيم الدينية والدفاع بشراسة عن مصالح البلاد أمام الأعداء في الخارج، في حين يحاول الليبراليون إدخال إصلاحات على النظام السياسي والاجتماعي وإصلاحه نحو مزيد من الحريات وحقوق الإنسان والنقاش العام على المستوى الداخلي ونحو مزيد التعاون والانفتاح على الخارج حتى مع الدول المعادية للجمهورية الإسلامية. وفي إطار ذلك التناقض بين الجناحين، يبقي النظام السياسي قائما على ولاية الفقيه، ويبقى مرشد الثورة هو الضامن للمصالح العليا للجمهورية ولمقتضيات الدستور. وفي إطار قيم ذلك النظام السياسي الديني تجري المنافسة بين المحافظين المتشددين والليبراليين الانفتاحيين، ويتحقق التداول السلمي على السلطة، بين الصقور والحمائم كما جرى وتحقق في أكثر من أربع مناسبات تداول بين المحافظين والليبراليين.
وفي أندونيسيا الدولة الإسلامية الأكثر عدد سكان بـ265 مليون ساكن، حققت البلاد انتقالا ديمقراطيا عام 1998 بعد حكم سلطوي للجنرال العسكري سوهارتو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد من 1966 الي 1998. ولاتزال البلاد في حالة تجربة ديمقراطية حيث "توجد الديمقراطية بعد عشريتين من الانتقال في حالة حصار أمام النخب السياسية المرتبطة بأكبر الأحزاب ذات العلاقة ببارونات السياسة والاعلام. " (انظر صحيفة لوموند الفرنسية .28 اكتوبر 2019). ويبقي النظام الديمقراطي السائد فيها نظاما يجمع بين الشعبوية والقومية والتوجهات الإسلامية الأصولية. ويتمتع الجيش بسلطة مراقبة الأوضاع في هذا البلد الملقب بثالث ديمقراطية في العالم بعد الهند ب190 مليون ناخب وربع مليون مترشح لانتخابات البرلمان في الأرخبيل الذي يعد 17 ألف جزيرة بركانية.
وفي ماليزيا الدولة الإسلامية الأخرى الأكثر تقدما اقتصاديا في منطقة أسيا يجمع نظامها السياسي بين القبلية والإنتخاب في ملكية دستورية فدرالية تتكون من اتحاد فيدرالي بين تسع سلطنات، يتولي فيها رئيس الحكومة الحكم بالانتخاب. وقد حكمها مهاتير محمد من 1981 الي 2009 وحقق فيها معجزة اقتصادية، ثم عاد الي السلطة عام 2018 تحت شعار مقاومة الفساد المستشري . ولكنه أزيح عام 2020 من طرف الملك في إطار تسوية سياسية مع المعارضة والقوى السياسية والقبائل .ويجمع نظامها السياسي الفريد بين نظام برلماني علي الطريقة البريطانية ونظام سلطوي لرئيس الوزراء المنتخب ونظام انتخابي على الاشخاص بدورة واحدة، وهو نظام محاصصة قبلية وإثنية، حسب عدد سكان كل من الإثنيات والقبائل في كل سلطنة مكونة للفدرالية. ويلعب الملك في هذا النظام دور رمز وحدة الوطن . ويتدخل في السلطة إن لزم الأمر بالتشاور مع الأحزاب والقبائل والجيش .
وفي تركيا، البلد الإسلامي الذي كان يقود خلافة إسلامية، وامبراطورية غربت عنها الشمس بعد خمسة قرون من البأس والسطوة ، فهي تعيش منذ إنهاء الخلافة عام 1924 من طرف مصطفي كمال أتاتورك إثر هزائمها وافتكاك ممالكها من قبل القوى العالمية الاستعمارية، نظاما مدنيا لائكيا على شاكلة البلدان الأوروبية، مسقطا على واقع إسلامي متجذر في المجتمع التقليدي المحافظ، ولكن يسيطر فيه الجيش على السلطة. ومنذ انتخاب الحزب الإسلامي عام 2002 ، قدمت تركيا عبر حزب العدالة والتنمية الإسلامي نموذجا لديمقراطية إسلامية برلمانية عصرية تضاهي الديمقراطية المسيحية في العالم الغربي . ولكن الحزب الإسلامي ظل يحكم دون تداول سلمي على السلطة مع المعارضة المدنية اللائكية حتى عام 2018 ، تاريخ تغيير طبيعة النظام من برلماني إلى رئاسوي عبر استفتاء جاهز تولى فيه الرئيس رجب أوردوغان كل الصلاحيات بعد تحييد الجيش والحد من حرية التعبير وإجراء حملة تطهير في صفوف النخبة المعارضة بسجن الالاف من القضاة والصحافيين والموظفين. وقد شكل ذلك خيبة أمل في نموذج ديمقراطي إسلامي، كان سيؤدي إلى إعطاء المثال الحي لتكريس التداول السلمي على السلطة مع المعارضة المدنية. وعكس هذا التراجع فشل النموذج الذي كان يقدم على أنه النموذج الحي لديمقراطية إسلامية برلمانية عصرية تمارس التداول السلمي على السلطة في دار الإسلام.
(*) صحفي باحث في الإعلام والصحافة
بقلم د. الصحراوي قمعون(*)
بينت تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم أن الديمقراطية الغربية التقليدية التي لها خصوصيات داخلية، وتختلف من بلد إلى أخر داخل بلدان أوروبا الغربية والشرقية وأمريكا نفسها ، يمكن أن تتعايش مع نظم القيادة التقليدية الخصوصية المتجسدة في أحزاب وجمعيات ذات مرجعية وثقافة قبلية أو عشائرية أو مناطقية أو زعامات الطوائف الروحية، تحقق بفضلها اكتساحا في صناديق الاقتراع.
وعلى الساحة الدولية بينت ذلك تجارب تجارب ميدانية عديدة في أسيا حيث يتولى الحكم رئيس وزراء الهند نارينرا مودي منذ 2014 وخلف مانموهان سنغ، الذي حكم من 2004، وهو أول رئيس وزراء من طائفة السيخ في أكبر ديمقراطية في العالم.
كما يتحقق التناوب السلمي علي السلطة بالشكل الغربي الكلاسيكي في السينغال منذ عدة سنوات بدعم من الطريقة التيجانية المتصوفة مع الرئيس مكي سال . ونفس الأمر ينطبق على نيجيريا البلد الأكثر كثافة سكانية في إفريقيا والأكثر تنوعا عرقيا ودينيا والأقدم في مجال الإنتقال الديمقراطي دون انقلابات منذ بداية تسعينات القرن الماضي.
وفي بوليفيا بأمريكا اللاتينية، حكم الرئيس إيفو موراليس، المنحدر من أصول محلية بفضل صندوق الاقتراع على الطريقة الديمقراطية الغربية الكلاسيكية، ولكنه طعمها بأليات استشارية من الإرث المحلي للهنود الحمر في مجال الحوكمة المحلية والإستشارة الشعبية القبلية. وقد حقق استقرارا سياسيا ونموا اقتصاديا بفضل المزج بين أليات الديمقراطية الغربية السائدة والإرث المحلي للأجداد في مجال الحكم التشاركي والاحتكام للقيادات القبلية على المستوى المحلي وعلى مستوى حدود القبيلة الترابية الواسعة.
وفي بلدان الخليج العربي تتوفر الأنظمة هناك على آليات للحكم المحلي التشاوري بين القمة والقاعدة، عبر ممثلي القبائل الذين يلتقيهم الملك أو الأمير أو السلطان حسب التسميات في مناسبات قارة كل أسبوع، أو في مناسبات موسمية دورية، سواء دينية أو اجتماعية أو سياسية. وبالتوازي مع ذلك، يقوم أفراد العائلة المالكة بعقد لقاءات دورية مع المواطنين للاستماع إلى مشاغلهم ومطالبهم ونقلها إلى الحاكم، لدراستها من قبل أجهزة الديوان الملكي أو الأميري وأخذها بعين الاعتبار في مجال تحيين توزيع الثروة أو مراجعة الرواتب أو حل اشكاليات التنمية المحلية وفض النزاعات بين الأفراد والجماعات. ويطلق البعض من الدارسين للحالة الخليجية ب "الديمقراطية الصحراوية". وقد سمح هذا الأسلوب في إدارة الشان العام عبر الحكم المباشر وتوزيع الثروة والتنمية، في توصل هذه الممالك والإمارات القبلية في تحقيق انتقال أغلبها من "القبيلة الصغيرة" إلى "الدولة العصرية"، التي تعكس قيم الصحراء النبيلة كالكرم والتسامح والشهامة، ضمن كيان عصري لدولة متحدة أو فدرالية على غرار المملكة السعودية أو سلطنة عمان أو فدرالية دولة الإمارات العربية المتحدة. وتفادت تلك الدول بذلك هزات عرفتها أنظمة جمهورية بمؤسسات دستورية كلاسيكية في المنطقة وعصفت بشعوبها وقياداتها، خاصة خلال أحداث الربيع العربي لعام 2011.
وفي الكويت تتميز هذه الدولة الخليجية بنظام برلماني تعددي متطور منذ استقلالها عام 1963 ، يمارس فيه البرلمان، وهو مجلس الأمة بأعضائه الخمسين المنتخبين مباشرة صلاحياته في مراقبة عمل الحكومة وإسقاطها أو طرح الثقة عن أحد أعضائها من الوزراء. ويتكون البرلمان من غرفة واحدة وأعضاء مستقلين وقوميين وإسلاميين. وتتميز صحافة البلد بتعددية واستقلالية خطها التحريري وجرأة بعض العناوين مثل " القبس" و" السياسة" في نقد الحكومة ومساءلتها، بل وإسقاط العديد من أعضاء الحكومة وحتى النواب البرلمانيين.
وتبدو دول الخليج العربية لكل منها خصوصية في إدارة الشأن العام وممارسة الحكم بالأساليب التقليدية أو العصرية ، في إطار خصوصية الإنتقال أو التداول السلمي للسلطة بواسطة الانتخابات التقليدية بصندوق الاقتراع أو البيعة. وقد حققت تلك الدول ذلك الانتقال وقامت بعض ممالك وإمارات الخليج العربي بتحقيق انتقال سلس للحكم في بداية العشرية الأولي للقرن الحالي، وذلك ضمن آليات الوراثة والمبايعة السلمية للأمير، أو الملك الجديد سواء بتخلي الأمير المباشر طوعيا عن الحكم إلى خليفته المرتقب أو المعين، حسب آليات التوارث والتوريث المتعارفة في العائلة الحاكمة، مثلما جرى في دولة قطر التي ترك فيها الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عام 2013 الحكم إلى أحد أبناءه الأمير تميم بن حمد أل ثاني.
وفي السعودية تولى الأمير سلمان، وهو آخر أبناء مؤسس الدولة الملك عبد العزيز آل سعود عام 2017 الحكم، وعين أحد أبناءه وهو الشاب محمد بن سلمان وليا للعهد مباشرا للحكم بعد إزاحة باقي أبناء عمومته سلميا ودون إراقة دماء، ليفتح بذلك المجال أمام بدء حقبة حكم آل سلمان بن عبد العزيز آل سعود، في شكل من أشكال التناوب السلمي على السلطة ضمن إطار العائلة الملكية ولفائدة أحد فروعها بالتوافق والتخطيط، كما تعرفه كل الملكيات الدستورية أو التقليدية اليوم وفي الماضي.
وفي إيران المجاورة ذات المذهب الشيعي القائم على ولاية الفقيه أوجدت حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ نشوءها عام 1978 نموذجا للتداول السلمي على السلطة عبر الانتخابات الخصوصية التي تجري دوريا بين عدة تيارات وقوى سياسية وتتمحور حول توجهين أساسيين وهما المحافظون والليبراليون . ويحاول المحافظون، كما في البلدان الديمقراطية العريقة مثل بريطانيا وأمريكا الحفاظ على النمط المجتمعي القريب من القيم الدينية والدفاع بشراسة عن مصالح البلاد أمام الأعداء في الخارج، في حين يحاول الليبراليون إدخال إصلاحات على النظام السياسي والاجتماعي وإصلاحه نحو مزيد من الحريات وحقوق الإنسان والنقاش العام على المستوى الداخلي ونحو مزيد التعاون والانفتاح على الخارج حتى مع الدول المعادية للجمهورية الإسلامية. وفي إطار ذلك التناقض بين الجناحين، يبقي النظام السياسي قائما على ولاية الفقيه، ويبقى مرشد الثورة هو الضامن للمصالح العليا للجمهورية ولمقتضيات الدستور. وفي إطار قيم ذلك النظام السياسي الديني تجري المنافسة بين المحافظين المتشددين والليبراليين الانفتاحيين، ويتحقق التداول السلمي على السلطة، بين الصقور والحمائم كما جرى وتحقق في أكثر من أربع مناسبات تداول بين المحافظين والليبراليين.
وفي أندونيسيا الدولة الإسلامية الأكثر عدد سكان بـ265 مليون ساكن، حققت البلاد انتقالا ديمقراطيا عام 1998 بعد حكم سلطوي للجنرال العسكري سوهارتو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد من 1966 الي 1998. ولاتزال البلاد في حالة تجربة ديمقراطية حيث "توجد الديمقراطية بعد عشريتين من الانتقال في حالة حصار أمام النخب السياسية المرتبطة بأكبر الأحزاب ذات العلاقة ببارونات السياسة والاعلام. " (انظر صحيفة لوموند الفرنسية .28 اكتوبر 2019). ويبقي النظام الديمقراطي السائد فيها نظاما يجمع بين الشعبوية والقومية والتوجهات الإسلامية الأصولية. ويتمتع الجيش بسلطة مراقبة الأوضاع في هذا البلد الملقب بثالث ديمقراطية في العالم بعد الهند ب190 مليون ناخب وربع مليون مترشح لانتخابات البرلمان في الأرخبيل الذي يعد 17 ألف جزيرة بركانية.
وفي ماليزيا الدولة الإسلامية الأخرى الأكثر تقدما اقتصاديا في منطقة أسيا يجمع نظامها السياسي بين القبلية والإنتخاب في ملكية دستورية فدرالية تتكون من اتحاد فيدرالي بين تسع سلطنات، يتولي فيها رئيس الحكومة الحكم بالانتخاب. وقد حكمها مهاتير محمد من 1981 الي 2009 وحقق فيها معجزة اقتصادية، ثم عاد الي السلطة عام 2018 تحت شعار مقاومة الفساد المستشري . ولكنه أزيح عام 2020 من طرف الملك في إطار تسوية سياسية مع المعارضة والقوى السياسية والقبائل .ويجمع نظامها السياسي الفريد بين نظام برلماني علي الطريقة البريطانية ونظام سلطوي لرئيس الوزراء المنتخب ونظام انتخابي على الاشخاص بدورة واحدة، وهو نظام محاصصة قبلية وإثنية، حسب عدد سكان كل من الإثنيات والقبائل في كل سلطنة مكونة للفدرالية. ويلعب الملك في هذا النظام دور رمز وحدة الوطن . ويتدخل في السلطة إن لزم الأمر بالتشاور مع الأحزاب والقبائل والجيش .
وفي تركيا، البلد الإسلامي الذي كان يقود خلافة إسلامية، وامبراطورية غربت عنها الشمس بعد خمسة قرون من البأس والسطوة ، فهي تعيش منذ إنهاء الخلافة عام 1924 من طرف مصطفي كمال أتاتورك إثر هزائمها وافتكاك ممالكها من قبل القوى العالمية الاستعمارية، نظاما مدنيا لائكيا على شاكلة البلدان الأوروبية، مسقطا على واقع إسلامي متجذر في المجتمع التقليدي المحافظ، ولكن يسيطر فيه الجيش على السلطة. ومنذ انتخاب الحزب الإسلامي عام 2002 ، قدمت تركيا عبر حزب العدالة والتنمية الإسلامي نموذجا لديمقراطية إسلامية برلمانية عصرية تضاهي الديمقراطية المسيحية في العالم الغربي . ولكن الحزب الإسلامي ظل يحكم دون تداول سلمي على السلطة مع المعارضة المدنية اللائكية حتى عام 2018 ، تاريخ تغيير طبيعة النظام من برلماني إلى رئاسوي عبر استفتاء جاهز تولى فيه الرئيس رجب أوردوغان كل الصلاحيات بعد تحييد الجيش والحد من حرية التعبير وإجراء حملة تطهير في صفوف النخبة المعارضة بسجن الالاف من القضاة والصحافيين والموظفين. وقد شكل ذلك خيبة أمل في نموذج ديمقراطي إسلامي، كان سيؤدي إلى إعطاء المثال الحي لتكريس التداول السلمي على السلطة مع المعارضة المدنية. وعكس هذا التراجع فشل النموذج الذي كان يقدم على أنه النموذج الحي لديمقراطية إسلامية برلمانية عصرية تمارس التداول السلمي على السلطة في دار الإسلام.