"لا رجوع إلى الوراء". تلك هي الجملة التي يحلو لرئيس الجمهورية ترديدها على مسامعنا. ولنا أن نتساءل هل أن المقصود بها هو عدم العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021، أم أن الرئيس لا يعود إلى الوراء في كل خطوة يخطوها ولا يتراجع أبدا عن أي قرار يتّخذه؟
أما فيما يخص إجراء 25 جويلية، ورغم التحفظات التي أبداها بشأنه أغلب نساء ورجال القانون، فقد لاقى تجاوبا كبيرا من قبل التونسيين باعتباره مثّل نقطة نهاية فترة حالكة من تاريخنا المعاصر وغلق قوس سلطة الإسلام السياسي وأتباعه وما رافقها من فساد وإنهاك للدولة وللشعب.
وأما الإجراءات التي تبعت 25 جويلية، فإن نسبة الترحيب بها بدأت تتقلّص شيئا فشيئا إلى أن أتى المرسوم عدد 30 الذي لم يجد أي تأييد من مختلف الفاعلين السياسيين، بمن فيهم عدد من المقربين للرئيس، وذلك لما اشتمل عليه من قرارات غير منطقيّة وغير محسوبة.
هذا المرسوم جاء مُتأخّرا ومُتسرّعا في الآن ذاته.
فلقد جاء مُتأخّرا جدا لأنه كان بالإمكان، بل من الضروري الشروع مباشرة بعد 25 جويلية في الإعداد للحوار الوطني وفي صياغة الدستور الجديد. وهو ما كان يجعلنا نختصر الفترة الانتقالية في ستة أشهر على أقصى تقدير، بدل التردّد والتباطؤ الذي زاد في تأزّم الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لكنه جاء أيضا مُتسرّعا لأنه حصر فترة الحوار وصياغة الدستور في ثلاثة أسابيع فقط. وللتذكير فإن صياغة دستور 1959 من طرف المجلس التأسيسي الأول الذي كان يضمّ نخبة تونس، كما هو الشأن بالنسبة لدستور 2014، استغرقت في الحالتين زهاء الثلاث سنوات. وهو ما يجعلنا غير مرتاحين على مستقبل البلاد وعلى مستقبل أبنائنا، لأن الدستور يمكن أن يتواصل العمل به عشرات السنين، وصياغته بهذه السرعة ومن طرف أناس مُعيّنين حسب هوى شخص واحد هي مغامرة خطيرة.
هذا من حيث الشكل. أما فيما يتعلق بالمضمون، فإن اللجنة التي تكوّنت بمقتضى المرسوم عدد 30 هي لجنة استشارية غير مُلزمة وأن رئيس الجمهورية يُمكن له مبدئيّا أن يرفض مخرجات أعمالها، كليّا أو جزئيّا. والصبغة الاستشارية للجنة ترفع عنها خصوصيّة الحوار. لأن الحوار يُفترض أن يكون بين أطراف مُختلفة، وأحيانا مُتناقضة، ليُفضي إلى اتّفاق يقبله جميع المُتحاورين الذين يلتزمون بتطبيقه.
وأما عن تشكيلة اللجنة فنلاحظ فيها تعيينات غير مُوفّقة. من ذلك تعيين عمداء كليات الحقوق، دون إعلامهم مسبقا على ما يبدو. أضف إلى ذلك أن العمداء في هذه الفترة من السنة الجامعية يُفترض أن يكونوا مُنهمكين في امتحانات طلبتهم وفي مناظرات ترقية الأساتذة الخ... وكذلك تعيين أحد المحامين على رأس لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، علما بأن البلاد تمرّ بأزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تستوجب تشريك الكفاءات العالية في هذا المجال، كما تستوجب حيّزا زمنيّا كافيا للقيام بالتشخيص الدقيق لمختلف مظاهر الأزمة وأسبابها ولتقديم الحلول الضرورية لمعالجتها.
هذه التعيينات غير المدروسة، إضافة إلى الضغط الزمني، تدلّ على أن الروزنامة كانت هي الهاجس الأول بدل الجدوى. فها نحن سنُعدّ دستورا جديدا وبرنامجا اقتصاديا واجتماعيا في شكل "الفاست فود"، وكأننا نريد تدارك الوقت الثمين الذي أضعناه في التردد ونُريد إخماد الأصوات المنادية عاليا، في الداخل والخارج، بعودة المؤسسات في بلادنا، وكل ذلك على الحساب الكيف والجودة.
نأتي إلى الجانب الأهم في الحوار. وأعني طبيعة الأطراف المشاركة فيه. إذ أن هذا الحوار كما تمّ تنظيمه بالمرسوم 30، يُمكن القول بأنه يُقصي جميع المعنيين بوضع البلاد وبمستقبلها. فالأحزاب مُغيّبة تماما. والسبب لا يعود فحسب إلى أن بعضها ساهم بالكثير أو بالقليل في تسيير البلاد خلال العشرية الكارثية، وإنما يعود على ما يبدو إلى أن رئيس الجمهورية لا يُؤمن أصلا بدور الأحزاب، وهو ما يُعفيه من تحمّل عبء الأحزاب التي لم تشارك في السلطة والتي تُعارض سياسته. كما أن المنظمات والجمعيات مُغيّبة فعليّا. إذ أن الاتحاد العام التونسي للشغل رفض المشاركة في عمل "صوري واستشاري" وعبّر عن استيائه من تعيين أمينه العام بالاسم دون استشارته، وأن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهي الجمعية اليتيمة المُمثّلة للمجتمع المدني في الحوار، أصبحت تعيش أزمة داخلية عميقة بسبب قبولها المشاركة في أعمال الهيئة، وأن الهيئة الوطنية للمحامين دخلت هي أيضا في صراعات داخلية بسبب قبول عميدها للعب دور متقدم في الحوار.
يبدو إذن أن تعيينات الرئيس لأطراف الحوار أزاحت الأحزاب وأربكت المنظمات والجمعيات. كل ذلك من أجل الضغط المُسلّط داخليا وخارجيّا على الرئيس، بسبب التباطؤ غير المُبرّر والتمطيط في الفترة الاستثنائية. لكن التسرّع اليوم يُمكن أن يتسبب في إفشال عملية التغيير برمتهما، خاصّة إذا فشلت الاستشارة، سواء بالجواب بـ"لا" عن الدستور المُقترح، أو بالعزوف عن المشاركة فيها بنسبة تُفقد مصداقيتها ومشروعيّتها.
وحتى لا تزيد الحلول المُتسرّعة المقترحة من رئاسة الجمهورية في تعقيد الأزمة السياسية، قد يكون من الأجدر إعادة النظر في الروزنامة لإعطاء الوقت اللازم لحوار جدّي وعميق. وإضافة تأخّر جديد عن التأخّر القديم أفضل من الدخول في مأزق خطير لا تُحمد عقباه.
وفي هذا الظرف بالذات، وفي هذا الموضوع بالذات، فإن العودة إلى الوراء أكثر من ضروريّة. لا أعني طبعا العودة إلى ما قبل 25 جويلية، ولكن العودة إلى ما قبل المرسوم 30 يُمكن أن تُجنّبنا السير نحو المجهول. أما إذا أصرّ الرئيس على "المرور بقوّة"، بإبعاد المؤسسات والوسائط السياسية بكافة أنواعها، فإن كل شيء يُصبح واردا في تونسنا العزيزة.
(*) رئيس المرصد الوطني للدفاع عن الدولة المدنية
بقلم: منير الشرفي (*)
"لا رجوع إلى الوراء". تلك هي الجملة التي يحلو لرئيس الجمهورية ترديدها على مسامعنا. ولنا أن نتساءل هل أن المقصود بها هو عدم العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021، أم أن الرئيس لا يعود إلى الوراء في كل خطوة يخطوها ولا يتراجع أبدا عن أي قرار يتّخذه؟
أما فيما يخص إجراء 25 جويلية، ورغم التحفظات التي أبداها بشأنه أغلب نساء ورجال القانون، فقد لاقى تجاوبا كبيرا من قبل التونسيين باعتباره مثّل نقطة نهاية فترة حالكة من تاريخنا المعاصر وغلق قوس سلطة الإسلام السياسي وأتباعه وما رافقها من فساد وإنهاك للدولة وللشعب.
وأما الإجراءات التي تبعت 25 جويلية، فإن نسبة الترحيب بها بدأت تتقلّص شيئا فشيئا إلى أن أتى المرسوم عدد 30 الذي لم يجد أي تأييد من مختلف الفاعلين السياسيين، بمن فيهم عدد من المقربين للرئيس، وذلك لما اشتمل عليه من قرارات غير منطقيّة وغير محسوبة.
هذا المرسوم جاء مُتأخّرا ومُتسرّعا في الآن ذاته.
فلقد جاء مُتأخّرا جدا لأنه كان بالإمكان، بل من الضروري الشروع مباشرة بعد 25 جويلية في الإعداد للحوار الوطني وفي صياغة الدستور الجديد. وهو ما كان يجعلنا نختصر الفترة الانتقالية في ستة أشهر على أقصى تقدير، بدل التردّد والتباطؤ الذي زاد في تأزّم الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لكنه جاء أيضا مُتسرّعا لأنه حصر فترة الحوار وصياغة الدستور في ثلاثة أسابيع فقط. وللتذكير فإن صياغة دستور 1959 من طرف المجلس التأسيسي الأول الذي كان يضمّ نخبة تونس، كما هو الشأن بالنسبة لدستور 2014، استغرقت في الحالتين زهاء الثلاث سنوات. وهو ما يجعلنا غير مرتاحين على مستقبل البلاد وعلى مستقبل أبنائنا، لأن الدستور يمكن أن يتواصل العمل به عشرات السنين، وصياغته بهذه السرعة ومن طرف أناس مُعيّنين حسب هوى شخص واحد هي مغامرة خطيرة.
هذا من حيث الشكل. أما فيما يتعلق بالمضمون، فإن اللجنة التي تكوّنت بمقتضى المرسوم عدد 30 هي لجنة استشارية غير مُلزمة وأن رئيس الجمهورية يُمكن له مبدئيّا أن يرفض مخرجات أعمالها، كليّا أو جزئيّا. والصبغة الاستشارية للجنة ترفع عنها خصوصيّة الحوار. لأن الحوار يُفترض أن يكون بين أطراف مُختلفة، وأحيانا مُتناقضة، ليُفضي إلى اتّفاق يقبله جميع المُتحاورين الذين يلتزمون بتطبيقه.
وأما عن تشكيلة اللجنة فنلاحظ فيها تعيينات غير مُوفّقة. من ذلك تعيين عمداء كليات الحقوق، دون إعلامهم مسبقا على ما يبدو. أضف إلى ذلك أن العمداء في هذه الفترة من السنة الجامعية يُفترض أن يكونوا مُنهمكين في امتحانات طلبتهم وفي مناظرات ترقية الأساتذة الخ... وكذلك تعيين أحد المحامين على رأس لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، علما بأن البلاد تمرّ بأزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تستوجب تشريك الكفاءات العالية في هذا المجال، كما تستوجب حيّزا زمنيّا كافيا للقيام بالتشخيص الدقيق لمختلف مظاهر الأزمة وأسبابها ولتقديم الحلول الضرورية لمعالجتها.
هذه التعيينات غير المدروسة، إضافة إلى الضغط الزمني، تدلّ على أن الروزنامة كانت هي الهاجس الأول بدل الجدوى. فها نحن سنُعدّ دستورا جديدا وبرنامجا اقتصاديا واجتماعيا في شكل "الفاست فود"، وكأننا نريد تدارك الوقت الثمين الذي أضعناه في التردد ونُريد إخماد الأصوات المنادية عاليا، في الداخل والخارج، بعودة المؤسسات في بلادنا، وكل ذلك على الحساب الكيف والجودة.
نأتي إلى الجانب الأهم في الحوار. وأعني طبيعة الأطراف المشاركة فيه. إذ أن هذا الحوار كما تمّ تنظيمه بالمرسوم 30، يُمكن القول بأنه يُقصي جميع المعنيين بوضع البلاد وبمستقبلها. فالأحزاب مُغيّبة تماما. والسبب لا يعود فحسب إلى أن بعضها ساهم بالكثير أو بالقليل في تسيير البلاد خلال العشرية الكارثية، وإنما يعود على ما يبدو إلى أن رئيس الجمهورية لا يُؤمن أصلا بدور الأحزاب، وهو ما يُعفيه من تحمّل عبء الأحزاب التي لم تشارك في السلطة والتي تُعارض سياسته. كما أن المنظمات والجمعيات مُغيّبة فعليّا. إذ أن الاتحاد العام التونسي للشغل رفض المشاركة في عمل "صوري واستشاري" وعبّر عن استيائه من تعيين أمينه العام بالاسم دون استشارته، وأن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهي الجمعية اليتيمة المُمثّلة للمجتمع المدني في الحوار، أصبحت تعيش أزمة داخلية عميقة بسبب قبولها المشاركة في أعمال الهيئة، وأن الهيئة الوطنية للمحامين دخلت هي أيضا في صراعات داخلية بسبب قبول عميدها للعب دور متقدم في الحوار.
يبدو إذن أن تعيينات الرئيس لأطراف الحوار أزاحت الأحزاب وأربكت المنظمات والجمعيات. كل ذلك من أجل الضغط المُسلّط داخليا وخارجيّا على الرئيس، بسبب التباطؤ غير المُبرّر والتمطيط في الفترة الاستثنائية. لكن التسرّع اليوم يُمكن أن يتسبب في إفشال عملية التغيير برمتهما، خاصّة إذا فشلت الاستشارة، سواء بالجواب بـ"لا" عن الدستور المُقترح، أو بالعزوف عن المشاركة فيها بنسبة تُفقد مصداقيتها ومشروعيّتها.
وحتى لا تزيد الحلول المُتسرّعة المقترحة من رئاسة الجمهورية في تعقيد الأزمة السياسية، قد يكون من الأجدر إعادة النظر في الروزنامة لإعطاء الوقت اللازم لحوار جدّي وعميق. وإضافة تأخّر جديد عن التأخّر القديم أفضل من الدخول في مأزق خطير لا تُحمد عقباه.
وفي هذا الظرف بالذات، وفي هذا الموضوع بالذات، فإن العودة إلى الوراء أكثر من ضروريّة. لا أعني طبعا العودة إلى ما قبل 25 جويلية، ولكن العودة إلى ما قبل المرسوم 30 يُمكن أن تُجنّبنا السير نحو المجهول. أما إذا أصرّ الرئيس على "المرور بقوّة"، بإبعاد المؤسسات والوسائط السياسية بكافة أنواعها، فإن كل شيء يُصبح واردا في تونسنا العزيزة.