مواقف تعتبر أن تدريس المسعدي دون سواه يتم على حساب رؤى فكرية وثقافية تونسية متجددة.
مواقف مناصرة تقول: لا لمهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية.
مواقف أخرى مع استمرار تدريس أدب المسعدي وإضافة أسماء تونسية أخرى.
كان ذلك منذ سنوات عندما أثار الشاعر الراحل محمد الغزي جدلا واسعا بدعوته الصريحة إلى القطع النهائي مع أدب الكاتب الكبير محمود المسعدي في المناهج الدراسية «شهادة الباكالوريا» بدرجة أولى، مطالبا بضرورة فسح المجال لأسماء إبداعية أخرى، وبالتالي «لا لتأبيد هذا الأدب».
هذه الدعوة أصبحت تتجدد مع مفتتح كل سنة دراسية، حيث ترتفع الأصوات هنا وهناك منادية بضرورة تجاوز هذا الأدب لفائدة رؤى فكرية وثقافية أخرى. طبعا هناك شق آخر يرى أنّه لا مجال لمهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية، وبالتالي ترك الأمور كما هي. لكن هذا لا ينفي أنّ دائرة النقاش حول الموضوع توسعت وأصبح السؤال أكثر إلحاحا: هل حان الوقت لتجاوز أدب المسعدي في المناهج الدراسية؟
وبين مؤيد ورافض، التقت «الصباح» عددا من أهل الثقافة والأدب في تونس لاستقراء مواقفهم بين ما يعرف بـ «تأبيد أدب المسعدي في المناهج الدراسية» وهل أصبح من الضروري اليوم تجاوز هذا الأدب لفائدة آفاق ورؤى ثقافية أخرى؟ فكانت هذه الحصيلة:
الكاتب والشاعر محمد بوحوش.. نعم لاستبدال أدب المسعدي بأسماء أخرى
ليس الخطأ في أدب المسعدي، فهو أدب يمكن أن يدرّس، غير أن الخطأ يكمن في تأبيد المقررات المدرسية وإبقائها على حالها لعقود طويلة كشأن إصلاح التعليم في جميع مراحله، والذي بقي مجرد أمنية. هل حجب المسعدي وغيره من الأدباء أسماء أدباء تونسيين آخرين؟ لا شك في ذلك. فهناك تأبيد لأدب المسعدي على أهميته، لكنه أخذ حظه كما ينبغي، ووجب تبعا لذلك استبداله بأسماء أخرى في إطار سنّة التداول. ثم إن أدب المسعدي أضحى غير مستساغ من قبل تلاميذ الباكالوريا بسبب تناوله قضايا وجودية وذهنية ليست من اهتمامات التلميذ، ولا تتعلق بما يمكن أن نسميه «أدب الحياة» أو الأدب الواقعي الذي يجذب المتقبل، ويجعله في خضم الاهتمام بقضاياه الواقعية.
إن المقررات الدراسية باختياراتها – أيا كانت – تصنع التلميذ الإنسان وتشكل ذائقته ووعيه وتنحت وجدانه. لذلك فإن الحاجة باتت متأكدة إلى ترك أدب المسعدي وتعويضه بأدب تونسي مؤسس أو معاصر. فلم لا يكون البشير خريف، على سبيل المثال، ضمن مقررات تلاميذ الباكالوريا؟ أو محمد الباردي أو غيرهما من أدباء وأديبات تونس. إن تأبيد أدب المسعدي مرده تأبيد المؤبد في بلدنا، وترك الأمور على حالها دون تغيير، لاسيما في غياب مشروع تربوي وتعليمي وثقافي يبني إنسان المستقبل تماشيا مع سنن التطور والتغيير والتحديث، وما يشهده العالم من ثورات عاصفة تهدد القيم الكونية الحقة ووجود الإنسان، وتمحو الهويات الثقافية الفرعية بهدف خلق إنسان نمطي مقولب وفقا لتوجهات ومقاييس النظام العالمي الجائر.
الشاعر المنصف المزغني.. تأبيد دراسة (السد) لم يكن على حساب الأدباء في تونس
في عهد التربية التونسية وفي أعوام محمود المسعدي التي استمرت عشر سنوات، تحمّس الأساتذة المكلفون بتصميم برنامج الباكالوريا في الشعبة الأدبية لتكريم الأدب التونسي، وتم ذلك من خلال اختيار إدراج أدب الوزير محمود المسعدي وروايته المسرحية (السدّ) ضمن ما عرف بـ (الأدب الذهني)، وهو ذلك الأدب القريب من مادة الفلسفة المدرجة ضمن هذا المستوى التعليمي. وكان مع المسعدي من الأدباء القدامى أبو العلاء المعري، ومن المحدثين تمت برمجة مسرحية (أهل الكهف) ذات الطابع الذهني والفلسفي لصاحبها المصري توفيق الحكيم.
لا أتصور أن تأبيد دراسة (السد) كان على حساب الأدباء في تونس، لأننا إن فتحنا باب المقارنة فإننا لن نظفر إلا بصراعات لا تنتهي بين أسماء أدبية ونصوص أدبية، وقد تبدأ الحرب: «لماذا أدب هذا يدرّس وأدب ذاك لا يدرّس، والأدب ذاك أفضل من أدب هذا». وأنا أعتقد أن المبرمج التربوي قد تشبّث بأدب المسعدي في هذه المرحلة، لأنه الأديب التونسي الوحيد الذي يمكن إدراج أدبه في هذا الباب (الأدب الذهني). كما أنوّه بجهود واضعي البرامج في اختيار كثير من النصوص الأدبية التونسية الأخرى في سنوات ما قبل الباكالوريا، وهذا أراه لفتة انتصار لروح الأدب التونسي.
الكاتبة حبيبة المحرزي.. من حق النشء النهل من مؤلفات المسعدي
تعتبر تجربة محمود المسعدي الإبداعية رائدة في العالم العربي، تتميز بالثراء الفلسفي والإنساني. إذ نجد أعلى اهتماماته تتمحور حول أسئلة الوجود والإنسان مثل الحرية، الإرادة، المسؤولية والبحث عن المعنى الحقيقي للوجود الإنساني. وهو في ذلك يعتبر من المتأثرين بالفلسفة الوجودية لكن بإخراج إسلامي بعيد عن الإلحاد والكفر. مؤلفات المسعدي لا تخلو من بعد تربوي بنّاء، خاصة وأنه من أفضل مهندسي التعليم والتربية في تونس في زمن لاحق للاستعمار الذي كرّس الجهل والأمية. ولأن المسعدي يؤمن بأن الأدب والتربية أداتان لتفجير الطاقات الإنسانية وبناء الذات بإصرار ممنهج لكسب العلوم والمعارف والتفاعل بين الحضارات وتبادل المنافع على أسس البناء الصحيح للإنسان الذي خصه الله بالعقل. وأرى أن من حق النشء أن ينهل من مؤلفات محمود المسعدي التي تساعده على تحقيق المصالحة مع ذاته كمتعلم يتلمس طريقا للخلاص من المغريات السمعية البصرية التي قد تحيد به عن الصراط المستقيم من جهة، وعن محيطه داخل الأسرة وخارجها من جهة أخرى.
الشاعر سوف عبيد.. في تونس أدباء آخرون جديرون بالدراسة
نعتز بأدب محمود المسعدي لقيمته الأدبية والفكرية، والتشكيك فيه أمر عجيب. ولكن أن يظل لعقود ضمن دروس الباكالوريا فأرى أن هذا غير مفيد، لأن تكرار الدروس والمؤلفات حوله بما فيها من تواتر الرؤى والمناهج أفقده متعة القراءة والبحث، حتى أمست قوالب جاهزة أو كسرد المحفوظات في امتحان الباكالوريا. فمن المطلوب برمجة آثار أخرى لأدباء تونسيين جديرين هم أيضا بالدراسة.
الباحث أنس الشابي.. تأبيد المسعدي في الباكالوريا لا يخدم التعليم
إنّ تأبيد المسعدي في الباكالوريا لا يخدم التعليم، حيث تحجب شجرة المسعدي غابة الإبداع التونسي، وتمنع الأجيال الجديدة من التعرف على غيره من الأدباء والنقاد الذين أثبتوا كفاءة وجدارة. فالانفتاح على من ذكرت واجب وطني. فتونس أنجبت أقلاما عزّ نظيرها كأبي القاسم محمد كرو، ومحمد المرزوقي، وبوزيان السعدي، وأحمد اللغماني، وحسونة المصباحي وغيرهم رحمهم الله. ولم أذكر الأحياء منعا للإحراج، وكلهم غرباء عن برامج التعليم.
الكاتبة مسعودة بوبكر.. لا مجال لعصر يلغي تفاصيل عصور سبقته
المفكّر والأديب الأستاذ محمود المسعدي نتاج عصره. يمثّل أثره الفكري الأدبي – ولا شك – نبض ذاك العصر بكل مميّزاته. وهو في الوقت نفسه أثر إنساني حفر صاحبه اسمه في تاريخ الفكر والإبداع الإنساني. وهو تحديدا من أعلام الأدب التونسي ضمن من خلّدت الذاكرة الأدبية أسماءهم، ولقيت أعمالهم على امتداد سنوات طرحا وتناولا ونقدا على نطاق واسع.
الحقيقة أن وتيرة القراءة لجيل المسعدي ومتابعة كل جديد يصدر هي غير وتيرة الإقبال اليوم على القراءة ومواكبة ما تنشر المطابع من أعمال جيدة، مما جعل الكثير يجهل ما في رفوف الإبداع. غير أن المنطق لا يقبل أن يكون أيّ من أعلامنا طيّبي الذكر الشجرة التي تحجب الغابة، فنسيء إليهم من حيث نتصور الوفاء.
الأديب محمود المسعدي، وأبو القاسم الشابي، والدوعاجي وغيرهم من الرواد، أسماء لا يمكن تجاهلها أو تشويهها بلغط لا يرقى إلى منطق. لكن مع تعاقب الأجيال والمتغيرات المادية واللامادية، برزت أسماء تونسية (كتّاب وكاتبات) على امتداد عقود، قدمت في مجال الإبداع أعمالا لا ينكرها إلا جاهل أو متحامل، كثير منها لم تسعفها الظروف التي خدمت من سبق. أعمال بطروح وأساليب تستجيب لذائقة العصر ونبضه، وتمثل هواجس الفرد في زمانه ومكانه وذائقته، ومميزات مجتمعه وملابسات أحداثه المختلفة. إنتاج غزير يستدعي الوقوف عنده وإيلاءه نصيبه من الاطلاع والتعريف والتمحيص والتناول النقدي الأكاديمي، واختيار ما يمكنه أن يثري البرامج الدراسية بمختلف درجاتها، وفق منطق أن كل عصر من تاريخ الفكر يستدعي الاهتمام، وبالقدر الذي يفرضه العمل من جدية وحداثة ووفاء للمرحلة.
ما من عصر يلغي تفاصيل عصور سبقت، فذاك ديدن التاريخ، وهي دروس متعاقبة وإن اختلفت ألوانها، لكنّ الخطأ أن يضيق أفق النظر ولا يحيد عن نقطة واحدة.
الكاتب رياض خليف.. المحافظة على المسعدي هو الوفاء لأحد مؤسسي المدرسة التونسية
تكتسب نصوص المسعدي أهميتها الأدبية من لغتها ومظاهر إنشائيتها المختلفة، وما فيها من قطع مع النصوص السردية التقليدية. وهي تمثل هزة في ذهن التلميذ من نصوص سردية واقعية مألوفة إلى نصوص تنشد الغرابة وتحاول أن تتوغل في وجود الإنسان ولغته. لعل هذه الهزة ضرورية ليخرج التلميذ إلى تصورات جديدة للأدب التونسي. ومع اعتزازي الشديد بتجارب روائية تونسية كثيرة، أعتقد أنها لم تحقق تلك الهزة العنيفة التي يحتاجها التلميذ وتوفرها نصوص المسعدي التي مازالت قادرة على الإضافة، وتتشربها الأجيال جيلا بعد جيل. لهذا السبب لا أرى برنامج العربية بالنسبة للباكالوريا يخلو من مؤلفات المسعدي. يمكن أن نضيف الأدب التونسي إلى مواقع أخرى من البرنامج ولكن ليس لمثل هذا التغيير. ولعل المحافظة على المسعدي تبدو في النهاية نوعا من الوفاء لأحد مؤسسي المدرسة التونسية. ولكن ما أخشاه حقا أن تدخل الدعوة إلى تجاوز المسعدي في تلك الدعوات الشاملة لمحو دولة الاستقلال وتجاوز تاريخها وإنجازاتها وشخوصها ونظامها التعليمي. وبهذا التصور يظل المسعدي حارسا للمدرسة التونسية وحاميا لها من العنتريات الجديدة. فبمحوه ستطل علينا خيارات غريبة لا يمكن أن تستقر... وفي الأثناء لا بد من تطعيم البرنامج بنص أدبي تونسي آخر دعما للأدب التونسي في هذه البرامج، ويمكن أن يكون هذا النص بالتداول مع نصوص أخرى.
يوم فتح الشاعر محمد الغزي النقاش: «أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت»
أثار الشاعر الراحل محمد الغزي جدلا كبيرا في الأوساط الثقافية والفكرية والأدبية التونسية منذ سنوات من خلال تدوينتين تتعلقان بأدب الكاتب الكبير محمود المسعدي.
كتب محمد الغزي في تدوينته الأولى:
«بعض الأصدقاء قالوا: «كلما قرأنا أعمال المسعدي، اكتشفنا الجديد. طلبت منهم أن يفيدونا بهذا الجديد الذي اكتشفوه. ما زلت أنتظر.»
وجاء في تدوينته الثانية:
«ما هي علاقة المتقبل الجديد بالمسعدي وبلغته الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة؟ أزعم أن لا علاقة بينهما، أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت».
وسرعان ما ارتفعت الأصوات بين مؤيد لمضمون التدوينتين، وبين رافض ومنتقد بشدة للراحل محمد الغزي.
وأمام هذا الجدل الكبير، بادر الراحل محمد الغزي من خلال تدوينة ثالثة له بتوضيح مقصده من التدوينتين بخصوص الأديب محمود المسعدي بالقول:
«هل نريد تأبيده في الباكالوريا؟ لست وزيرا ولا مسؤولا لأحور وأغير، أدليت بمجرد رأي، قلت الرجل عظيم، لكن افسحوا المجال لغيره».
ومنذ ذلك الوقت لم تكف الأسئلة: إلى متى يظل الأدب التونسي في الباكالوريا حكرا على نصوص محمود المسعدي؟ الموضوع أصبح يطرح مع كل عودة مدرسية، وصار مع الوقت أكثر إلحاحا.
مواقف تعتبر أن تدريس المسعدي دون سواه يتم على حساب رؤى فكرية وثقافية تونسية متجددة.
مواقف مناصرة تقول: لا لمهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية.
مواقف أخرى مع استمرار تدريس أدب المسعدي وإضافة أسماء تونسية أخرى.
كان ذلك منذ سنوات عندما أثار الشاعر الراحل محمد الغزي جدلا واسعا بدعوته الصريحة إلى القطع النهائي مع أدب الكاتب الكبير محمود المسعدي في المناهج الدراسية «شهادة الباكالوريا» بدرجة أولى، مطالبا بضرورة فسح المجال لأسماء إبداعية أخرى، وبالتالي «لا لتأبيد هذا الأدب».
هذه الدعوة أصبحت تتجدد مع مفتتح كل سنة دراسية، حيث ترتفع الأصوات هنا وهناك منادية بضرورة تجاوز هذا الأدب لفائدة رؤى فكرية وثقافية أخرى. طبعا هناك شق آخر يرى أنّه لا مجال لمهاجمة أدب المسعدي وتجريده من قيمته الإبداعية والفكرية، وبالتالي ترك الأمور كما هي. لكن هذا لا ينفي أنّ دائرة النقاش حول الموضوع توسعت وأصبح السؤال أكثر إلحاحا: هل حان الوقت لتجاوز أدب المسعدي في المناهج الدراسية؟
وبين مؤيد ورافض، التقت «الصباح» عددا من أهل الثقافة والأدب في تونس لاستقراء مواقفهم بين ما يعرف بـ «تأبيد أدب المسعدي في المناهج الدراسية» وهل أصبح من الضروري اليوم تجاوز هذا الأدب لفائدة آفاق ورؤى ثقافية أخرى؟ فكانت هذه الحصيلة:
الكاتب والشاعر محمد بوحوش.. نعم لاستبدال أدب المسعدي بأسماء أخرى
ليس الخطأ في أدب المسعدي، فهو أدب يمكن أن يدرّس، غير أن الخطأ يكمن في تأبيد المقررات المدرسية وإبقائها على حالها لعقود طويلة كشأن إصلاح التعليم في جميع مراحله، والذي بقي مجرد أمنية. هل حجب المسعدي وغيره من الأدباء أسماء أدباء تونسيين آخرين؟ لا شك في ذلك. فهناك تأبيد لأدب المسعدي على أهميته، لكنه أخذ حظه كما ينبغي، ووجب تبعا لذلك استبداله بأسماء أخرى في إطار سنّة التداول. ثم إن أدب المسعدي أضحى غير مستساغ من قبل تلاميذ الباكالوريا بسبب تناوله قضايا وجودية وذهنية ليست من اهتمامات التلميذ، ولا تتعلق بما يمكن أن نسميه «أدب الحياة» أو الأدب الواقعي الذي يجذب المتقبل، ويجعله في خضم الاهتمام بقضاياه الواقعية.
إن المقررات الدراسية باختياراتها – أيا كانت – تصنع التلميذ الإنسان وتشكل ذائقته ووعيه وتنحت وجدانه. لذلك فإن الحاجة باتت متأكدة إلى ترك أدب المسعدي وتعويضه بأدب تونسي مؤسس أو معاصر. فلم لا يكون البشير خريف، على سبيل المثال، ضمن مقررات تلاميذ الباكالوريا؟ أو محمد الباردي أو غيرهما من أدباء وأديبات تونس. إن تأبيد أدب المسعدي مرده تأبيد المؤبد في بلدنا، وترك الأمور على حالها دون تغيير، لاسيما في غياب مشروع تربوي وتعليمي وثقافي يبني إنسان المستقبل تماشيا مع سنن التطور والتغيير والتحديث، وما يشهده العالم من ثورات عاصفة تهدد القيم الكونية الحقة ووجود الإنسان، وتمحو الهويات الثقافية الفرعية بهدف خلق إنسان نمطي مقولب وفقا لتوجهات ومقاييس النظام العالمي الجائر.
الشاعر المنصف المزغني.. تأبيد دراسة (السد) لم يكن على حساب الأدباء في تونس
في عهد التربية التونسية وفي أعوام محمود المسعدي التي استمرت عشر سنوات، تحمّس الأساتذة المكلفون بتصميم برنامج الباكالوريا في الشعبة الأدبية لتكريم الأدب التونسي، وتم ذلك من خلال اختيار إدراج أدب الوزير محمود المسعدي وروايته المسرحية (السدّ) ضمن ما عرف بـ (الأدب الذهني)، وهو ذلك الأدب القريب من مادة الفلسفة المدرجة ضمن هذا المستوى التعليمي. وكان مع المسعدي من الأدباء القدامى أبو العلاء المعري، ومن المحدثين تمت برمجة مسرحية (أهل الكهف) ذات الطابع الذهني والفلسفي لصاحبها المصري توفيق الحكيم.
لا أتصور أن تأبيد دراسة (السد) كان على حساب الأدباء في تونس، لأننا إن فتحنا باب المقارنة فإننا لن نظفر إلا بصراعات لا تنتهي بين أسماء أدبية ونصوص أدبية، وقد تبدأ الحرب: «لماذا أدب هذا يدرّس وأدب ذاك لا يدرّس، والأدب ذاك أفضل من أدب هذا». وأنا أعتقد أن المبرمج التربوي قد تشبّث بأدب المسعدي في هذه المرحلة، لأنه الأديب التونسي الوحيد الذي يمكن إدراج أدبه في هذا الباب (الأدب الذهني). كما أنوّه بجهود واضعي البرامج في اختيار كثير من النصوص الأدبية التونسية الأخرى في سنوات ما قبل الباكالوريا، وهذا أراه لفتة انتصار لروح الأدب التونسي.
الكاتبة حبيبة المحرزي.. من حق النشء النهل من مؤلفات المسعدي
تعتبر تجربة محمود المسعدي الإبداعية رائدة في العالم العربي، تتميز بالثراء الفلسفي والإنساني. إذ نجد أعلى اهتماماته تتمحور حول أسئلة الوجود والإنسان مثل الحرية، الإرادة، المسؤولية والبحث عن المعنى الحقيقي للوجود الإنساني. وهو في ذلك يعتبر من المتأثرين بالفلسفة الوجودية لكن بإخراج إسلامي بعيد عن الإلحاد والكفر. مؤلفات المسعدي لا تخلو من بعد تربوي بنّاء، خاصة وأنه من أفضل مهندسي التعليم والتربية في تونس في زمن لاحق للاستعمار الذي كرّس الجهل والأمية. ولأن المسعدي يؤمن بأن الأدب والتربية أداتان لتفجير الطاقات الإنسانية وبناء الذات بإصرار ممنهج لكسب العلوم والمعارف والتفاعل بين الحضارات وتبادل المنافع على أسس البناء الصحيح للإنسان الذي خصه الله بالعقل. وأرى أن من حق النشء أن ينهل من مؤلفات محمود المسعدي التي تساعده على تحقيق المصالحة مع ذاته كمتعلم يتلمس طريقا للخلاص من المغريات السمعية البصرية التي قد تحيد به عن الصراط المستقيم من جهة، وعن محيطه داخل الأسرة وخارجها من جهة أخرى.
الشاعر سوف عبيد.. في تونس أدباء آخرون جديرون بالدراسة
نعتز بأدب محمود المسعدي لقيمته الأدبية والفكرية، والتشكيك فيه أمر عجيب. ولكن أن يظل لعقود ضمن دروس الباكالوريا فأرى أن هذا غير مفيد، لأن تكرار الدروس والمؤلفات حوله بما فيها من تواتر الرؤى والمناهج أفقده متعة القراءة والبحث، حتى أمست قوالب جاهزة أو كسرد المحفوظات في امتحان الباكالوريا. فمن المطلوب برمجة آثار أخرى لأدباء تونسيين جديرين هم أيضا بالدراسة.
الباحث أنس الشابي.. تأبيد المسعدي في الباكالوريا لا يخدم التعليم
إنّ تأبيد المسعدي في الباكالوريا لا يخدم التعليم، حيث تحجب شجرة المسعدي غابة الإبداع التونسي، وتمنع الأجيال الجديدة من التعرف على غيره من الأدباء والنقاد الذين أثبتوا كفاءة وجدارة. فالانفتاح على من ذكرت واجب وطني. فتونس أنجبت أقلاما عزّ نظيرها كأبي القاسم محمد كرو، ومحمد المرزوقي، وبوزيان السعدي، وأحمد اللغماني، وحسونة المصباحي وغيرهم رحمهم الله. ولم أذكر الأحياء منعا للإحراج، وكلهم غرباء عن برامج التعليم.
الكاتبة مسعودة بوبكر.. لا مجال لعصر يلغي تفاصيل عصور سبقته
المفكّر والأديب الأستاذ محمود المسعدي نتاج عصره. يمثّل أثره الفكري الأدبي – ولا شك – نبض ذاك العصر بكل مميّزاته. وهو في الوقت نفسه أثر إنساني حفر صاحبه اسمه في تاريخ الفكر والإبداع الإنساني. وهو تحديدا من أعلام الأدب التونسي ضمن من خلّدت الذاكرة الأدبية أسماءهم، ولقيت أعمالهم على امتداد سنوات طرحا وتناولا ونقدا على نطاق واسع.
الحقيقة أن وتيرة القراءة لجيل المسعدي ومتابعة كل جديد يصدر هي غير وتيرة الإقبال اليوم على القراءة ومواكبة ما تنشر المطابع من أعمال جيدة، مما جعل الكثير يجهل ما في رفوف الإبداع. غير أن المنطق لا يقبل أن يكون أيّ من أعلامنا طيّبي الذكر الشجرة التي تحجب الغابة، فنسيء إليهم من حيث نتصور الوفاء.
الأديب محمود المسعدي، وأبو القاسم الشابي، والدوعاجي وغيرهم من الرواد، أسماء لا يمكن تجاهلها أو تشويهها بلغط لا يرقى إلى منطق. لكن مع تعاقب الأجيال والمتغيرات المادية واللامادية، برزت أسماء تونسية (كتّاب وكاتبات) على امتداد عقود، قدمت في مجال الإبداع أعمالا لا ينكرها إلا جاهل أو متحامل، كثير منها لم تسعفها الظروف التي خدمت من سبق. أعمال بطروح وأساليب تستجيب لذائقة العصر ونبضه، وتمثل هواجس الفرد في زمانه ومكانه وذائقته، ومميزات مجتمعه وملابسات أحداثه المختلفة. إنتاج غزير يستدعي الوقوف عنده وإيلاءه نصيبه من الاطلاع والتعريف والتمحيص والتناول النقدي الأكاديمي، واختيار ما يمكنه أن يثري البرامج الدراسية بمختلف درجاتها، وفق منطق أن كل عصر من تاريخ الفكر يستدعي الاهتمام، وبالقدر الذي يفرضه العمل من جدية وحداثة ووفاء للمرحلة.
ما من عصر يلغي تفاصيل عصور سبقت، فذاك ديدن التاريخ، وهي دروس متعاقبة وإن اختلفت ألوانها، لكنّ الخطأ أن يضيق أفق النظر ولا يحيد عن نقطة واحدة.
الكاتب رياض خليف.. المحافظة على المسعدي هو الوفاء لأحد مؤسسي المدرسة التونسية
تكتسب نصوص المسعدي أهميتها الأدبية من لغتها ومظاهر إنشائيتها المختلفة، وما فيها من قطع مع النصوص السردية التقليدية. وهي تمثل هزة في ذهن التلميذ من نصوص سردية واقعية مألوفة إلى نصوص تنشد الغرابة وتحاول أن تتوغل في وجود الإنسان ولغته. لعل هذه الهزة ضرورية ليخرج التلميذ إلى تصورات جديدة للأدب التونسي. ومع اعتزازي الشديد بتجارب روائية تونسية كثيرة، أعتقد أنها لم تحقق تلك الهزة العنيفة التي يحتاجها التلميذ وتوفرها نصوص المسعدي التي مازالت قادرة على الإضافة، وتتشربها الأجيال جيلا بعد جيل. لهذا السبب لا أرى برنامج العربية بالنسبة للباكالوريا يخلو من مؤلفات المسعدي. يمكن أن نضيف الأدب التونسي إلى مواقع أخرى من البرنامج ولكن ليس لمثل هذا التغيير. ولعل المحافظة على المسعدي تبدو في النهاية نوعا من الوفاء لأحد مؤسسي المدرسة التونسية. ولكن ما أخشاه حقا أن تدخل الدعوة إلى تجاوز المسعدي في تلك الدعوات الشاملة لمحو دولة الاستقلال وتجاوز تاريخها وإنجازاتها وشخوصها ونظامها التعليمي. وبهذا التصور يظل المسعدي حارسا للمدرسة التونسية وحاميا لها من العنتريات الجديدة. فبمحوه ستطل علينا خيارات غريبة لا يمكن أن تستقر... وفي الأثناء لا بد من تطعيم البرنامج بنص أدبي تونسي آخر دعما للأدب التونسي في هذه البرامج، ويمكن أن يكون هذا النص بالتداول مع نصوص أخرى.
يوم فتح الشاعر محمد الغزي النقاش: «أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت»
أثار الشاعر الراحل محمد الغزي جدلا كبيرا في الأوساط الثقافية والفكرية والأدبية التونسية منذ سنوات من خلال تدوينتين تتعلقان بأدب الكاتب الكبير محمود المسعدي.
كتب محمد الغزي في تدوينته الأولى:
«بعض الأصدقاء قالوا: «كلما قرأنا أعمال المسعدي، اكتشفنا الجديد. طلبت منهم أن يفيدونا بهذا الجديد الذي اكتشفوه. ما زلت أنتظر.»
وجاء في تدوينته الثانية:
«ما هي علاقة المتقبل الجديد بالمسعدي وبلغته الغريبة وأسئلته الوجودية القديمة؟ أزعم أن لا علاقة بينهما، أدب المسعدي كتب لأجيال مضت وانقضت».
وسرعان ما ارتفعت الأصوات بين مؤيد لمضمون التدوينتين، وبين رافض ومنتقد بشدة للراحل محمد الغزي.
وأمام هذا الجدل الكبير، بادر الراحل محمد الغزي من خلال تدوينة ثالثة له بتوضيح مقصده من التدوينتين بخصوص الأديب محمود المسعدي بالقول:
«هل نريد تأبيده في الباكالوريا؟ لست وزيرا ولا مسؤولا لأحور وأغير، أدليت بمجرد رأي، قلت الرجل عظيم، لكن افسحوا المجال لغيره».
ومنذ ذلك الوقت لم تكف الأسئلة: إلى متى يظل الأدب التونسي في الباكالوريا حكرا على نصوص محمود المسعدي؟ الموضوع أصبح يطرح مع كل عودة مدرسية، وصار مع الوقت أكثر إلحاحا.