إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

روبرتاجات «الصباح».. تقليد جديد «يغزو» المجتمع التونسي.. تعليب المأكولات المنزلية.. بين النكهة التقليدية والمخاطر الصحية

الدكتور المختص في التغذية الطاهر الغربي لـ «الصباح»: احترام شروط التعليب يجنّبنا المخاطر التي تهدّد صحة المستهلك

-المواد والمنتجات الغذائية المعلّبة أغلبها تفقد قيمتها الغذائية خاصة الفيتامينات

-اللحوم أكثر المواد محافظة في تعليبها على البروتينات

أصبحت عملية تعليب المأكولات المنزلية لدى التونسيين من أهم مستلزمات حقيبة السفر، مهما كانت الوجهة، للدراسة، العمل، أداء مناسك الحج والعمرة، وحتى للسياحة.

هذا التقليد الجديد، عميق الجذور، هو في الحقيقة أكثر من مجرد عادة، فهو يعبّر عن ثقافة وحنين وتوجّه، ساهم مؤخرا في انتشار واسع للمحلات والشركات المتخصصة بطهي وتعليب الأكلات التونسية التقليدية والعصرية بجميع أنواعها ونكهاتها.

فاليوم، تقريبا لا يكاد بيت تونسي يخلو من وجود فرد من أفراده مغتربا خارج حدود الوطن، إما للدراسة أو للعمل، وفي ظل غلاء تكاليف المعيشة في البلدان الخارجية، وخاصة على مستوى الأكل، أصبح جلّ التونسيين المقيمين بالخارج يوفّرون نصيبا كبيرا من المأكولات قبل سفرهم من تونس، زد على ذلك أهمية هذا التقليد في الحفاظ على الأصالة والحنين للموروث التونسي للأكلات التونسية الأصيلة.

حول هذا التقليد الجديد، الذي انتشر في السنوات الأخيرة في مجتمعنا، توقّفت «الصباح» بدراسة الظاهرة اجتماعيا وصحيا واقتصاديا، وكانت الانطلاقة بزيارة أحد محلات تعليب المأكولات في جهة «العوينة» من ولاية تونس.

هذا المحل، الذي يضج بالحرفاء نساء ورجالا من فئات عمرية مختلفة.. فنجد منهم من يحمل سلالا وقفافا معبّأة بمأكولات تم تجهيزها في بيوتهم، تنبعث منها روائح الأطعمة التقليدية «الزمنية»، على غرار «الملوخية» و»السلاطة المشوية»، وأخرى مأكولات عصرية مثل «البنادق» و»الصلصات» المشكّلة بغلال البحر وباللحوم البيضاء والحمراء على اختلافها وتنوعها.

حركية نشطة في قطاع التعليب

وفي الجهة الأخرى من المحل، الذي يمتد على أمتار شاسعة، نجد طابورا طويلا من الحرفاء الذين ينتظرون دورهم في اقتناء المأكولات المعلّبة والجاهزة، التي قام المحل بطهيها وإعدادها للبيع للعموم.

كُتب على كل علبة نوع الأكلة والكمية وتاريخ الطهي وصلاحية استغلالها، معطيات كان كل مستهلك يتمعّن النظر فيها طويلا.

وخلف الواجهة الأمامية للمحل، مكان خاص سمحت لنا صاحبة المحل بالدخول إليه، وهو عبارة عن معمل صغير يتكون من قسمين: الأول على اليمين عبارة عن مطبخ متكامل، والقسم الثاني مجهّز بآلات وتجهيزات عصرية مرقمنة وذات تكنولوجيا عالية، خُصصت للتبريد والتسخين والتعليب، وتحضير الملصقات، وآلات أخرى للوزن والتعبئة.

في هذا المكان «الخفِيّ»، كانت أعداد كبيرة من العمال، أغلبهم من النساء والشابات، يعملون بجدّ وبكل تفان وسط أجواء مرحة تملؤها روائح الأكلات التونسية الأصيلة، كل امرأة منهن تتفنّن في إعدادها، في حين تستكمل الفتيات والشابات منهن بقية العمل التقني للانتهاء من عملية التعليب.

وعند انتهائنا من زيارة أحد محلات التعليب هذا، لفت انتباهنا عند الخروج وجود سيارة مكيّفة يعمل أصحابها على ترصيف العشرات من العلب والقوارير فيها اختلفت أشكالها. ولدى استفسارنا عنها، تبيّن لنا أنها عبارة عن طلبيات من حرفاء مقيمين في بلدان خارج تونس، سيتم إرسالها إليهم عبر شركاء توصيل خاصين..

عمليات رقابية

وبالعودة إلى هذا النوع من المحلات الخاصة بتعليب المأكولات، فهي تخضع إلى رقابة من قبل سلط الإشراف على القطاع، من صحة وتجارة وصناعة، وتعمل هياكل الرقابة، خاصة الصحية منها، على مراقبتها فيما يتعلق بظروف وتقنيات التعليب وحفظ الصحة للمواد المعلّبة وسلامتها.

كما يخضع قطاع التعليب في تونس إلى قانون خاص به، يشمل المواد التي يتم استغلالها في التعليب ومدى ملاءمتها لشروط الحفظ والتخزين وغيرها من الإجراءات المصاحبة.

هذا القانون، الذي يعود إلى صناعة التعليب، يُعد من الصناعات الموجودة في النسيج الصناعي التونسي منذ سنوات طويلة، ولها تاريخها العريق، كما أن تونس لها سمعتها المشرفة في هذا المجال ونجحت في اكتساح العديد من الأسواق الخارجية.

والجديد في هذه الصناعة هو تعليب المأكولات المطبوخة والجاهزة للأكل والاستغلال على المدى القصير والمتوسط، وهذا التقليد الجديد هو الآخر «نجحت فيه بلادنا في السنوات الأخيرة ولم تُرصد إشكاليات غذائية خطيرة على صحة المستهلك»، حسب ما أكّده الدكتور والمختص في التغذية، الطاهر الغربي، في حديثه لـ«الصباح».

احترام شروط حفظ وسلامة المنتجات الغذائية

بالمقابل، أكّد الدكتور الغربي أن نجاح عملية تعليب المأكولات المطبوخة لا بد أن يحترم شروط حفظ وسلامة المنتجات الغذائية على اختلافها، حتى لا تُشكّل مخاطر على صحة المستهلك، مؤكّدا أن عملية تعليب المأكولات لها مزايا وشروط دقيقة، أهمها اختيار الأواني الحافظة للمأكولات.

وأشار الغربي، في هذا الصدد، إلى الرقابة المهمة التي تقوم بها مصالح الدولة على مستوى تجهيزات التعليب والأواني المرخّص باستعمالها دون غيرها من بقية المواد، خاصة تلك التي تُصنّف على أنها مضرة بصحة المستهلك، مبيّنا أن في تونس هناك قوانين تحمي المستهلك في هذا المجال.

وأضاف الدكتور والمختص في التغذية لـ«الصباح» أن هناك قانونا خاصا ينظّم قطاع التعليب، يشمل جميع الشروط المرخّص بها من قبل الهياكل الرسمية للدولة، من وزارة الصحة، ووزارة الصناعة، ووزارة التجارة، بدءا بالمواد والتجهيزات المستعملة، مرورا بالتدريب والتكوين السليم لمهنيّي القطاع، وصولا إلى تقنيات الحفظ والسلامة.

وتخضع عملية التعليب إلى مراحل وتقنيات دقيقة، مثل التعقيم الحراري، حيث تُعقّم العلب جيدا بغليها في الماء لفترات زمنية محدّدة حسب حجم العلبة، أو باستخدام آلات التعقيم الحراري الفُجئي. كذلك عبر آلية التبريد وتضمين مدة الصلاحية، فمباشرة بعد عملية التعقيم، تُبرّد العلب تبريدا مفاجئا في الماء البارد لضمان الصلاحية.

أما فيما يتعلق بتخزينها ونقلها، فيتم تخزين العلب بشكل متجانس في حقائب السفر، ويمكن تقسيمها في أكياس صغيرة.

قطاع واعد بنمو متواصل

وللإشارة، فإن قطاع التعليب والتغليف عموما في تونس، وليس فقط الخاص بالمأكولات المنزلية، يُعد من أهم القطاعات الصناعية التي تشهد سنويًا نموًّا بنسبة 10 بالمائة.

والمركز الفني للتعبئة والتغليف  «Pactek»، أحد أهم الهياكل الرسمية التي أُحدثت منذ 28 سنة تحت إشراف وزارة الصناعة، يُعد أول مركز في شمال إفريقيا، وهو عضو في المنظمة العالمية للتغليف منذ سنة 1998.

ويعمل المركز على مرافقة المؤسسات في مجال التعبئة والتغليف، ويُعتبر مركزًا تقنيًا بامتياز، حيث يحتوي على مخابر تقنية في مختلف المواد (بلاستيك وحديد وبلور)، ومخابر ذات علاقة بالمنتوجات الغذائية، فضلًا عن مخبر خاص بالمواد القابلة للتحلل، تم تدشينه في شهر سبتمبر 2023.

ويضم اليوم القطاع قرابة 400 شركة ناشطة في المجال، ويعمل «Pactek» على مرافقة ودعم هذه الشركات وتطويرها من خلال عدة آليات، وتقوم الدولة سنويا باستيراد المواد الأولية لصناعة التعبئة والتغليف..

التعليب بين المخاطر والقيمة الغذائية

وفي ما يتعلّق بالقيمة الغذائية للمأكولات المعلّبة، فقد أوضح المختص في التغذية أنها بالتأكيد لن تكون بنفس القيمة التي تكون عليها المواد والمنتجات الغذائية الطازجة والمجهّزة في وقتها، خاصة أنها تفقد أهم مكوّناتها الأساسية على غرار الفيتامينات، وأهمها فيتامين «س»، باعتبار أنه يتأثّر كثيرا بالحرارة وبالضوء، كما أن الغلال والمواد النباتية تفقد قيمتها بسرعة وتبقى فقط في مستويات السكر، حسب تعبيره.

وبيّن الغربي في ذات السياق أن أكثر المواد المعلّبة التي تحافظ أكثر من غيرها من المنتجات الغذائية الأخرى هي اللحوم، خاصة الحمراء منها، حيث تبقى محافظة على البروتينات، مشيرا إلى أن المذاق والنكهة – في الأغلب – والتي تتميّز بها المأكولات المطبوخة حال تحضيرها، تختلف بعد عملية التعليب.

وحول المخاطر المرصودة في عملية تعليب المأكولات، خاصة المطبوخة منها، اعتبر الدكتور أنه من الضروري إنجاح عملية التعليب تقنيًا حتى لا تتعرّض المنتجات إلى ما يُعرف علميا بمخاطر التسرب  «micro fuite»، وهي عبارة عن حدوث ثقب يسمح بتسرّب الأكسجين، مما يؤدي مباشرة إلى مخاطر كبيرة لا يمكن رصدها بالعين المجردة، وتخلق فضاء ملائما لتكاثر الميكروبات والجراثيم، مما يسبّب أمراضا فيما بعد.

مثل هذه المخاطر، أكّد بشأنها محدّثنا على ضرورة التقيّد بشروط التعليب والاختيار السليم للمواد التي يتم فيها حفظ المأكولات والمنتجات، مع أهمية تدريب وتكوين المهنيين الناشطين في هذا المجال، مشدّدا على ضرورة اختيار المنتجات الأولية من الصنف الممتاز عند توجيهها للتعليب..

ولم يُفوّت الدكتور، عبر حديثه لـ»الصباح»، تفنيد الفكرة السائدة لدى أغلب التونسيين حول مخاطر المواد المعلّبة على صحة المستهلكين، معتبرا أن التعليب لا يشكّل خطرا على الصحة في حال احترمنا شروط التعليب بكل مقاييسها العلمية والصناعية، حسب تعبيره.

بين أهمية التعليب اجتماعيا وثقافيا والقاسم المشترك اقتصاديا

تخطّى تقليد تعليب المأكولات المنزلية في تونس أهميته الاقتصادية ودوره في التقليص من تكاليف الأكل في البلدان الخارجية، وأصبح موروثا ثقافيا يتباهى من خلاله التونسيون بأكلاتهم الأصيلة والتقليدية لدى مجتمعات أخرى، فحتى اليوم أصبحت محلات تحضير وتعليب المأكولات تستقطب السياح الوافدين إلى بلادنا لتذوّق واكتشاف موروثنا من الأكلات التونسية.

كما ساهم هذا التقليد الجديد في إحياء الروابط الأسرية، خاصة أن تونس تُعتبر من أكثر البلدان التي لها جاليات كبيرة في الخارج، خاصة في القارة الأوروبية، وللمحافظة على العلاقات العائلية، ساهم هذا التقليد في تغذية هذه الروابط، فاليوم نجد العديد من الأمهات اللاتي يعددن لأبنائهن المغتربين مأكولات أصيلة مثل الكسكسي والملوخية والسلاطة المشوية، لإرسالها في وقت قصير، تمكّنهم من التخفيف عنهم من الشعور بالغربة، دون مشقّة وعناء السفر للاستمتاع بمذاقها..

ويبقى القاسم المشترك بين العديد من التونسيين المقيمين في الخارج، العامل الاقتصادي الأكثر حضورا وراء تقليد تعليب المأكولات المنزلية، حيث إن العديد من العائلات التونسية اليوم تفضّل توفير الأكل لأبنائها من طلبة وعمال في الخارج، بالنظر إلى تكاليف الأكل الباهظة.

كما لم يعُد تعليب المأكولات المنزلية اليوم يقتصر فقط على السفر بجميع أنواعه، بل أصبحت العائلات التونسية تعتمد تعليب المأكولات في نزهاتهم و»خرجاتهم»، بالنظر إلى ضيق الوقت وتغيّر نمط العيش لدى العديد منهم، بسبب العمل وكثرة الالتزامات التي تحول دون إعداد وطهي الأكلات المنزلية بصفة مستمرة.. والأهم أنه غير مكلف من الناحية الاقتصادية.

وبالرغم من أهمية هذا التقليد لدى التونسيين، خاصة على المستوى الاقتصادي، إلا أنه ما زال يواجه تحدّيات وصعوبات تتعلّق أساسا بشروط الحفظ والتخزين، في ظل اختلاف طبيعة الطقس والأجواء المناخية بين الدول، زد على ذلك ظروف التوصيل وإجراءات المصالح الديوانية والجمركية، فضلا عن قوانين البلدان التي تسمح بدخول المأكولات المطبوخة إليها ونوعيتها، إذ نجد عددا كبيرا من دول الخارج تمنع على الوافدين إليها جلب اللحوم وأنواع أخرى من المنتجات الغذائية في حقائب السفر.

وفاء بن محمد

روبرتاجات «الصباح»..                                              تقليد جديد «يغزو» المجتمع التونسي..             تعليب المأكولات المنزلية.. بين النكهة التقليدية والمخاطر الصحية

الدكتور المختص في التغذية الطاهر الغربي لـ «الصباح»: احترام شروط التعليب يجنّبنا المخاطر التي تهدّد صحة المستهلك

-المواد والمنتجات الغذائية المعلّبة أغلبها تفقد قيمتها الغذائية خاصة الفيتامينات

-اللحوم أكثر المواد محافظة في تعليبها على البروتينات

أصبحت عملية تعليب المأكولات المنزلية لدى التونسيين من أهم مستلزمات حقيبة السفر، مهما كانت الوجهة، للدراسة، العمل، أداء مناسك الحج والعمرة، وحتى للسياحة.

هذا التقليد الجديد، عميق الجذور، هو في الحقيقة أكثر من مجرد عادة، فهو يعبّر عن ثقافة وحنين وتوجّه، ساهم مؤخرا في انتشار واسع للمحلات والشركات المتخصصة بطهي وتعليب الأكلات التونسية التقليدية والعصرية بجميع أنواعها ونكهاتها.

فاليوم، تقريبا لا يكاد بيت تونسي يخلو من وجود فرد من أفراده مغتربا خارج حدود الوطن، إما للدراسة أو للعمل، وفي ظل غلاء تكاليف المعيشة في البلدان الخارجية، وخاصة على مستوى الأكل، أصبح جلّ التونسيين المقيمين بالخارج يوفّرون نصيبا كبيرا من المأكولات قبل سفرهم من تونس، زد على ذلك أهمية هذا التقليد في الحفاظ على الأصالة والحنين للموروث التونسي للأكلات التونسية الأصيلة.

حول هذا التقليد الجديد، الذي انتشر في السنوات الأخيرة في مجتمعنا، توقّفت «الصباح» بدراسة الظاهرة اجتماعيا وصحيا واقتصاديا، وكانت الانطلاقة بزيارة أحد محلات تعليب المأكولات في جهة «العوينة» من ولاية تونس.

هذا المحل، الذي يضج بالحرفاء نساء ورجالا من فئات عمرية مختلفة.. فنجد منهم من يحمل سلالا وقفافا معبّأة بمأكولات تم تجهيزها في بيوتهم، تنبعث منها روائح الأطعمة التقليدية «الزمنية»، على غرار «الملوخية» و»السلاطة المشوية»، وأخرى مأكولات عصرية مثل «البنادق» و»الصلصات» المشكّلة بغلال البحر وباللحوم البيضاء والحمراء على اختلافها وتنوعها.

حركية نشطة في قطاع التعليب

وفي الجهة الأخرى من المحل، الذي يمتد على أمتار شاسعة، نجد طابورا طويلا من الحرفاء الذين ينتظرون دورهم في اقتناء المأكولات المعلّبة والجاهزة، التي قام المحل بطهيها وإعدادها للبيع للعموم.

كُتب على كل علبة نوع الأكلة والكمية وتاريخ الطهي وصلاحية استغلالها، معطيات كان كل مستهلك يتمعّن النظر فيها طويلا.

وخلف الواجهة الأمامية للمحل، مكان خاص سمحت لنا صاحبة المحل بالدخول إليه، وهو عبارة عن معمل صغير يتكون من قسمين: الأول على اليمين عبارة عن مطبخ متكامل، والقسم الثاني مجهّز بآلات وتجهيزات عصرية مرقمنة وذات تكنولوجيا عالية، خُصصت للتبريد والتسخين والتعليب، وتحضير الملصقات، وآلات أخرى للوزن والتعبئة.

في هذا المكان «الخفِيّ»، كانت أعداد كبيرة من العمال، أغلبهم من النساء والشابات، يعملون بجدّ وبكل تفان وسط أجواء مرحة تملؤها روائح الأكلات التونسية الأصيلة، كل امرأة منهن تتفنّن في إعدادها، في حين تستكمل الفتيات والشابات منهن بقية العمل التقني للانتهاء من عملية التعليب.

وعند انتهائنا من زيارة أحد محلات التعليب هذا، لفت انتباهنا عند الخروج وجود سيارة مكيّفة يعمل أصحابها على ترصيف العشرات من العلب والقوارير فيها اختلفت أشكالها. ولدى استفسارنا عنها، تبيّن لنا أنها عبارة عن طلبيات من حرفاء مقيمين في بلدان خارج تونس، سيتم إرسالها إليهم عبر شركاء توصيل خاصين..

عمليات رقابية

وبالعودة إلى هذا النوع من المحلات الخاصة بتعليب المأكولات، فهي تخضع إلى رقابة من قبل سلط الإشراف على القطاع، من صحة وتجارة وصناعة، وتعمل هياكل الرقابة، خاصة الصحية منها، على مراقبتها فيما يتعلق بظروف وتقنيات التعليب وحفظ الصحة للمواد المعلّبة وسلامتها.

كما يخضع قطاع التعليب في تونس إلى قانون خاص به، يشمل المواد التي يتم استغلالها في التعليب ومدى ملاءمتها لشروط الحفظ والتخزين وغيرها من الإجراءات المصاحبة.

هذا القانون، الذي يعود إلى صناعة التعليب، يُعد من الصناعات الموجودة في النسيج الصناعي التونسي منذ سنوات طويلة، ولها تاريخها العريق، كما أن تونس لها سمعتها المشرفة في هذا المجال ونجحت في اكتساح العديد من الأسواق الخارجية.

والجديد في هذه الصناعة هو تعليب المأكولات المطبوخة والجاهزة للأكل والاستغلال على المدى القصير والمتوسط، وهذا التقليد الجديد هو الآخر «نجحت فيه بلادنا في السنوات الأخيرة ولم تُرصد إشكاليات غذائية خطيرة على صحة المستهلك»، حسب ما أكّده الدكتور والمختص في التغذية، الطاهر الغربي، في حديثه لـ«الصباح».

احترام شروط حفظ وسلامة المنتجات الغذائية

بالمقابل، أكّد الدكتور الغربي أن نجاح عملية تعليب المأكولات المطبوخة لا بد أن يحترم شروط حفظ وسلامة المنتجات الغذائية على اختلافها، حتى لا تُشكّل مخاطر على صحة المستهلك، مؤكّدا أن عملية تعليب المأكولات لها مزايا وشروط دقيقة، أهمها اختيار الأواني الحافظة للمأكولات.

وأشار الغربي، في هذا الصدد، إلى الرقابة المهمة التي تقوم بها مصالح الدولة على مستوى تجهيزات التعليب والأواني المرخّص باستعمالها دون غيرها من بقية المواد، خاصة تلك التي تُصنّف على أنها مضرة بصحة المستهلك، مبيّنا أن في تونس هناك قوانين تحمي المستهلك في هذا المجال.

وأضاف الدكتور والمختص في التغذية لـ«الصباح» أن هناك قانونا خاصا ينظّم قطاع التعليب، يشمل جميع الشروط المرخّص بها من قبل الهياكل الرسمية للدولة، من وزارة الصحة، ووزارة الصناعة، ووزارة التجارة، بدءا بالمواد والتجهيزات المستعملة، مرورا بالتدريب والتكوين السليم لمهنيّي القطاع، وصولا إلى تقنيات الحفظ والسلامة.

وتخضع عملية التعليب إلى مراحل وتقنيات دقيقة، مثل التعقيم الحراري، حيث تُعقّم العلب جيدا بغليها في الماء لفترات زمنية محدّدة حسب حجم العلبة، أو باستخدام آلات التعقيم الحراري الفُجئي. كذلك عبر آلية التبريد وتضمين مدة الصلاحية، فمباشرة بعد عملية التعقيم، تُبرّد العلب تبريدا مفاجئا في الماء البارد لضمان الصلاحية.

أما فيما يتعلق بتخزينها ونقلها، فيتم تخزين العلب بشكل متجانس في حقائب السفر، ويمكن تقسيمها في أكياس صغيرة.

قطاع واعد بنمو متواصل

وللإشارة، فإن قطاع التعليب والتغليف عموما في تونس، وليس فقط الخاص بالمأكولات المنزلية، يُعد من أهم القطاعات الصناعية التي تشهد سنويًا نموًّا بنسبة 10 بالمائة.

والمركز الفني للتعبئة والتغليف  «Pactek»، أحد أهم الهياكل الرسمية التي أُحدثت منذ 28 سنة تحت إشراف وزارة الصناعة، يُعد أول مركز في شمال إفريقيا، وهو عضو في المنظمة العالمية للتغليف منذ سنة 1998.

ويعمل المركز على مرافقة المؤسسات في مجال التعبئة والتغليف، ويُعتبر مركزًا تقنيًا بامتياز، حيث يحتوي على مخابر تقنية في مختلف المواد (بلاستيك وحديد وبلور)، ومخابر ذات علاقة بالمنتوجات الغذائية، فضلًا عن مخبر خاص بالمواد القابلة للتحلل، تم تدشينه في شهر سبتمبر 2023.

ويضم اليوم القطاع قرابة 400 شركة ناشطة في المجال، ويعمل «Pactek» على مرافقة ودعم هذه الشركات وتطويرها من خلال عدة آليات، وتقوم الدولة سنويا باستيراد المواد الأولية لصناعة التعبئة والتغليف..

التعليب بين المخاطر والقيمة الغذائية

وفي ما يتعلّق بالقيمة الغذائية للمأكولات المعلّبة، فقد أوضح المختص في التغذية أنها بالتأكيد لن تكون بنفس القيمة التي تكون عليها المواد والمنتجات الغذائية الطازجة والمجهّزة في وقتها، خاصة أنها تفقد أهم مكوّناتها الأساسية على غرار الفيتامينات، وأهمها فيتامين «س»، باعتبار أنه يتأثّر كثيرا بالحرارة وبالضوء، كما أن الغلال والمواد النباتية تفقد قيمتها بسرعة وتبقى فقط في مستويات السكر، حسب تعبيره.

وبيّن الغربي في ذات السياق أن أكثر المواد المعلّبة التي تحافظ أكثر من غيرها من المنتجات الغذائية الأخرى هي اللحوم، خاصة الحمراء منها، حيث تبقى محافظة على البروتينات، مشيرا إلى أن المذاق والنكهة – في الأغلب – والتي تتميّز بها المأكولات المطبوخة حال تحضيرها، تختلف بعد عملية التعليب.

وحول المخاطر المرصودة في عملية تعليب المأكولات، خاصة المطبوخة منها، اعتبر الدكتور أنه من الضروري إنجاح عملية التعليب تقنيًا حتى لا تتعرّض المنتجات إلى ما يُعرف علميا بمخاطر التسرب  «micro fuite»، وهي عبارة عن حدوث ثقب يسمح بتسرّب الأكسجين، مما يؤدي مباشرة إلى مخاطر كبيرة لا يمكن رصدها بالعين المجردة، وتخلق فضاء ملائما لتكاثر الميكروبات والجراثيم، مما يسبّب أمراضا فيما بعد.

مثل هذه المخاطر، أكّد بشأنها محدّثنا على ضرورة التقيّد بشروط التعليب والاختيار السليم للمواد التي يتم فيها حفظ المأكولات والمنتجات، مع أهمية تدريب وتكوين المهنيين الناشطين في هذا المجال، مشدّدا على ضرورة اختيار المنتجات الأولية من الصنف الممتاز عند توجيهها للتعليب..

ولم يُفوّت الدكتور، عبر حديثه لـ»الصباح»، تفنيد الفكرة السائدة لدى أغلب التونسيين حول مخاطر المواد المعلّبة على صحة المستهلكين، معتبرا أن التعليب لا يشكّل خطرا على الصحة في حال احترمنا شروط التعليب بكل مقاييسها العلمية والصناعية، حسب تعبيره.

بين أهمية التعليب اجتماعيا وثقافيا والقاسم المشترك اقتصاديا

تخطّى تقليد تعليب المأكولات المنزلية في تونس أهميته الاقتصادية ودوره في التقليص من تكاليف الأكل في البلدان الخارجية، وأصبح موروثا ثقافيا يتباهى من خلاله التونسيون بأكلاتهم الأصيلة والتقليدية لدى مجتمعات أخرى، فحتى اليوم أصبحت محلات تحضير وتعليب المأكولات تستقطب السياح الوافدين إلى بلادنا لتذوّق واكتشاف موروثنا من الأكلات التونسية.

كما ساهم هذا التقليد الجديد في إحياء الروابط الأسرية، خاصة أن تونس تُعتبر من أكثر البلدان التي لها جاليات كبيرة في الخارج، خاصة في القارة الأوروبية، وللمحافظة على العلاقات العائلية، ساهم هذا التقليد في تغذية هذه الروابط، فاليوم نجد العديد من الأمهات اللاتي يعددن لأبنائهن المغتربين مأكولات أصيلة مثل الكسكسي والملوخية والسلاطة المشوية، لإرسالها في وقت قصير، تمكّنهم من التخفيف عنهم من الشعور بالغربة، دون مشقّة وعناء السفر للاستمتاع بمذاقها..

ويبقى القاسم المشترك بين العديد من التونسيين المقيمين في الخارج، العامل الاقتصادي الأكثر حضورا وراء تقليد تعليب المأكولات المنزلية، حيث إن العديد من العائلات التونسية اليوم تفضّل توفير الأكل لأبنائها من طلبة وعمال في الخارج، بالنظر إلى تكاليف الأكل الباهظة.

كما لم يعُد تعليب المأكولات المنزلية اليوم يقتصر فقط على السفر بجميع أنواعه، بل أصبحت العائلات التونسية تعتمد تعليب المأكولات في نزهاتهم و»خرجاتهم»، بالنظر إلى ضيق الوقت وتغيّر نمط العيش لدى العديد منهم، بسبب العمل وكثرة الالتزامات التي تحول دون إعداد وطهي الأكلات المنزلية بصفة مستمرة.. والأهم أنه غير مكلف من الناحية الاقتصادية.

وبالرغم من أهمية هذا التقليد لدى التونسيين، خاصة على المستوى الاقتصادي، إلا أنه ما زال يواجه تحدّيات وصعوبات تتعلّق أساسا بشروط الحفظ والتخزين، في ظل اختلاف طبيعة الطقس والأجواء المناخية بين الدول، زد على ذلك ظروف التوصيل وإجراءات المصالح الديوانية والجمركية، فضلا عن قوانين البلدان التي تسمح بدخول المأكولات المطبوخة إليها ونوعيتها، إذ نجد عددا كبيرا من دول الخارج تمنع على الوافدين إليها جلب اللحوم وأنواع أخرى من المنتجات الغذائية في حقائب السفر.

وفاء بن محمد