إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ولدت من فكرة بسيطة: «إذا لم يتمكن الناس من الذهاب إلى السينما.. فلتذهب السينما إليهم».. تجربة «السينما دور» في تونس.. الشاشة الكبيرة في قلب الأحياء الشعبية وأثر تجاوز التوقعات

 

  • الجمهور استفاد من العروض السينمائية والورشات، والتدريبات وحتى السهرات الفنية

  • نحن أمام مشروع ثقافي متكامل يطرح أسئلة أعمق حول العدالة الثقافية وإعادة توزيع الفعل الثقافي خارج المركز

  • مديرة مشروع «السينما دور» غفران هراغي لـ «الصباح»: تحوّلنا إلى عشرين منطقة، واستقطب المشروع حوالي 35 ألف شخص

السينما ليست مجرد شاشة تعرض صورًا متحركة، إنها فعل ثقافي وجمالي يلامس الوجدان ويتيح للإنسان أن يرى نفسه والآخرين في مرآة الفن. لطالما كانت قاعات السينما فضاءً للحلم والاكتشاف، لكنها بقيت حكرًا على المراكز الحضرية الكبرى، فيما ظلّت الأحياء الشعبية والجهات الداخلية خارج هذه الدائرة.

مع مرور الوقت، ومع موجة الإغلاق التي طالت القاعات بسبب عوامل اقتصادية وتغيّر العادات الاستهلاكية، اتسعت الفجوة بين الجماهير والفن السابع. لم يعد ارتياد السينما خيارًا متاحًا للجميع، بل صار رفاهية لا يقدر عليها سوى القليلون. وفي هذا الفراغ وُلِدت مبادرة السينما المتجولة، فكرة بسيطة تقوم على مبدأ أساسي: إذا لم يتمكن الناس من الذهاب إلى السينما، فلتذهب السينما إليهم، من خلال شاحنة سينمائية متنقلة تتضمّن 100 مقعد، تقوم من حين إلى آخر بزيارة جهة من جهات الجمهورية بهدف نشر ثقافة السينما وجعلها قريبة من كافة التونسيين. وهي فكرة جاءت كنتيجة مباشرة لغياب قاعات السينما في المناطق الداخلية.

أحيانًا تتحوّل العروض السينمائية من «الكميونة» إلى فضاءات مفتوحة من خلال تخصيص شاشة بيضاء، جهاز عرض، ومقاعد في ساحة عامة أو فضاء شبابي مع برمجة ترفيهية وورشات تدريب، ومن ثَمّة تتحوّل الأزقة والميادين إلى قاعات تحت السماء المفتوحة.

في ظاهرها قد تبدو تجربة ترفيهية عابرة، لكنها في عمقها فعل ثقافي مقاوم، لأنها تطرح سؤال الحق في الثقافة بشكل مباشر، وتعيد طرح النقاش حول النخبوية التي لازمت الفعل الثقافي لعقود. فهل تنجح السينما المتجولة في التخفيف من حدّة هذه النخبوية والتقدّم خطوة نحو تحقيق ما يُسمّى بدمقرطة الثقافة؟

من يتابع الصفحة الرسمية لمبادرة «السينما دور» ، سيلاحظ أن الإجابة عن سؤال الحاجة إلى السينما في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية تتجسّد بوضوح في الصور والمقاطع المصوّرة التي توثّق الأجواء. تلك اللحظات التي يتقاسمها الأطفال واليافعون واليافعات مع عائلاتهم أمام الشاشة الكبيرة ليست مجرد مشهد ترفيهي عابر، بل تعبير عن عطش حقيقي إلى الترفيه والمعرفة والانفتاح على عوالم مختلفة.

وحين تظهر السينما في قلب «الحومة»، فإنها لا تقدّم فيلمًا وحسب، بل تقتحم مساحات أُقصيت لزمن طويل من الفعل الثقافي، وتعيد تشكيل علاقة الناس بالصورة وبالفضاء العام. هذه التجربة تتيح لأهالي الأحياء الذين اعتادوا على الشاشات الصغيرة في غرف مغلقة أن يعيشوا لحظة جماعية تشبه الطقس الثقافي الذي افتقدوه لعقود. وهذا البعد الاجتماعي لا يقتصر على المشاهدة فحسب، بل يخلق فضاءً للتفاعل وتبادل الأفكار، وهو ما يمنح السينما وظيفة اجتماعية تتجاوز حدود المتعة إلى إنتاج الوعي.

«الكميونة في ڤابس»، و«وين زعما؟»، و»السينما دور في قلب سوسة»، و»السينما في حي هلال»، و»السينما في المهدية»، و»السينما في الشابة»، و»السينما في نفطة»، و»السينما في حي التضامن»... ليست مجرد عناوين لأحداث عابرة، بل هي إشارات قوية إلى إمكانية إعادة الاعتبار لثقافة الصورة في فضاءات همّشتها السياسات الثقافية لعقود.

فهذه العروض لا تقتصر على بث الأفلام، بل تستضيف وجوهًا فنية وسينمائية، وتنظّم ورشات تكوينية، ما يحوّل المبادرة من نشاط ترفيهي محدود إلى مشروع ثقافي متكامل يطرح أسئلة أعمق حول العدالة الثقافية وإعادة توزيع الفعل الثقافي خارج المركز.

وفي تصريح لـ «الصباح»، قالت مديرة مشروع «السينما دور» غفران هراغي: «لقد انطلقت هذه التجربة منذ أكثر من سنة، سنة وثلاثة أشهر تحديدًا من الترحال والدهشة، حيث كان الحلم في بداياته بسيطًا: أن نأخذ السينما إلى الناس في أماكنهم. في كل محطة كنا نتخيّل ما الذي يمكن أن نعيشه، لكن الواقع كان دائمًا أكبر من خيالنا، وأغنى من كل توقّعاتنا».

وأضافت: «كنا نكتشف مواقف لم تخطر لنا على بال، ونلتقي بأناس يصنعون بكرمهم معنى المشاركة الحقيقية. من مساعدتنا في تنظيم المعدات وتركيبها إلى إعداد الطعام الذي تتكفّل به النساء، من التفاصيل الصغيرة إلى المواقف الكبيرة، شكّل تضامن الأهالي سلوكًا له أثر اجتماعي ونفسي عميق.»

وقالت: «إن الأمر لا يتعلّق بمجرّد مشروع ثقافي يتيح النفاذ إلى الثقافة أو يفتح نقاشات حول الأفلام، وإنما تحوّل إلى ما هو أبعد: فلقاء الناس ببعضهم البعض جعلهم يشعرون بأنهم فاعلون في مجتمعهم الصغير، بأن لهم قيمة وصوتًا».

وواصلت: «أصبح المشروع فضاءً متعدد الأبعاد: ثقافيًا، اجتماعيًا، نفسيًا وحتى اقتصاديًا، لأنه خلق حركية في العرض والطلب، وفتح آفاقًا جديدة لأحلام كثيرة. لقد كشف لنا وجهًا آخر لتونس، تونس الداخل، حيث ما يزال الناس يحلمون ويصرّون على الحياة رغم الصعاب.»

أما عن دعم الفنانين والممثلين للتجربة، قالت غفران هراغي: «لقد وجد الفنانون والممثلون المشاركون في التجربة فرصة استثنائية، فقد مكّنتهم من اكتشاف عوالم جديدة، من الاقتراب من الأطفال والعائلات، ومن الخروج من قوقعة المركز والعاصمة. لم تعد المدينة مركز الكون، بل أصبحت الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية منصّات فرح وحكايات واكتشافات للعمق والدواخل».

وعن تفاعل الناس والأطفال قالت محدّثتنا: «في نفطة مثلًا، قالت فتاة صغيرة باندهاش: لم نتصوّر أن السينما ستأتي إلينا يومًا. جملة واحدة تلخّص قيمة ما حدث. هذا ليس مجرد وصول لشاشة بيضاء، بل إعادة إحياء الحلم في عيون الأطفال، رغم كل القيود الاقتصادية والاجتماعية التي تثقّل يومياتهم.»

وعلى امتداد عام وثلاثة أشهر توقّفت شاحنة السينما المتنقلة (الكميون) في عشرين منطقة، وفق نفس المصدر، واستقطب المشروع حوالي 35 ألف شخص، استفادوا من العروض السينمائية، والورشات، والتدريبات، وحتى السهرات الفنية، التي كان آخرها حفل الفنانة روضة عبد الله في حي التضامن بالعاصمة.

ولم تتوقف المبادرة عند ذلك، إذ تمّ إنجاز مشروع جديد في حي هلال شمل تهيئة ملعب رياضي، ودعوة فنانين، والتحضير لتصوير فيلم قصير مع الأطفال، إلى جانب ورشات تدريبية، ثم الانطلاق في الاستعداد لتنظيم مهرجان بهذا الحي في ديسمبر المقبل.

تجربة «السينما دور» تُظهر كيف يمكن للشاشة الكبيرة أن تغيّر نبض الأحياء الشعبية والجهات الداخلية من خلال إعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي، حيث تتحوّل الساحات والفضاءات والأزقّة إلى أماكن ثقافية نابضة، تجمع الكلّ على اختلاف أعمارهم لتجربة مشاهدة مشتركة تليها نقاشات وتبادل انطباعات، مما يعزّز التواصل الاجتماعي والانتماء الجماعي.

وعلى الصعيد النفسي، تصبح الأفلام والفن مرآة لتجارب السكان اليومية أو نافذة على عوالم جديدة، فتمنح شعورًا بالاعتراف والتمكين، خصوصًا لدى الأطفال واليافعين واليافعات، وتفتح المجال أمام الكبار للتفكير والنقد، وهو ما ترجمته الشهادات المضمّنة بمقاطع الفيديو التي يتم نشرها على الصفحة الرسمية بعد كل جولة من الجولات السينمائية.

علاوة على ذلك، من شأن هذه التجربة أن تُعيد بناء الهوية الثقافية للأحياء الشعبية، وتعزّز شعور الفخر والانتماء، وتكسر الصور النمطية عنها، بينما توسّع مفهوم الديمقراطية الثقافية من خلال تمكين جميع الفئات من الوصول للفن والثقافة، وجمع الترفيه بالعمل الثقافي والتوعوي وبالفعل الاجتماعي.

غير أن الكثير من الأسئلة تظل مطروحة: هل يمكن لمثل هذه المبادرة أن تتحوّل من تجربة منفردة بذاتها إلى تجارب أخرى مماثلة؟ فالتحدّي الأكبر هو استدامة هذه المبادرات. فالحفاظ على نبض الأحياء الشعبية عبر الشاشة الكبيرة يتطلّب دعمًا مستمرًا، بنية تحتية مرنة، محتوى سينمائيًا متنوعًا، وتفاعلًا دائمًا مع المجتمع المحلي لضمان أن تتحوّل السينما من حدث عابر إلى عنصر ثابت في النسيج الاجتماعي للأحياء والمناطق الداخلية.

إيمان عبد اللطيف

ولدت من فكرة بسيطة: «إذا لم يتمكن الناس من الذهاب إلى السينما.. فلتذهب السينما إليهم»..   تجربة «السينما دور» في تونس.. الشاشة الكبيرة في قلب الأحياء الشعبية وأثر تجاوز التوقعات

 

  • الجمهور استفاد من العروض السينمائية والورشات، والتدريبات وحتى السهرات الفنية

  • نحن أمام مشروع ثقافي متكامل يطرح أسئلة أعمق حول العدالة الثقافية وإعادة توزيع الفعل الثقافي خارج المركز

  • مديرة مشروع «السينما دور» غفران هراغي لـ «الصباح»: تحوّلنا إلى عشرين منطقة، واستقطب المشروع حوالي 35 ألف شخص

السينما ليست مجرد شاشة تعرض صورًا متحركة، إنها فعل ثقافي وجمالي يلامس الوجدان ويتيح للإنسان أن يرى نفسه والآخرين في مرآة الفن. لطالما كانت قاعات السينما فضاءً للحلم والاكتشاف، لكنها بقيت حكرًا على المراكز الحضرية الكبرى، فيما ظلّت الأحياء الشعبية والجهات الداخلية خارج هذه الدائرة.

مع مرور الوقت، ومع موجة الإغلاق التي طالت القاعات بسبب عوامل اقتصادية وتغيّر العادات الاستهلاكية، اتسعت الفجوة بين الجماهير والفن السابع. لم يعد ارتياد السينما خيارًا متاحًا للجميع، بل صار رفاهية لا يقدر عليها سوى القليلون. وفي هذا الفراغ وُلِدت مبادرة السينما المتجولة، فكرة بسيطة تقوم على مبدأ أساسي: إذا لم يتمكن الناس من الذهاب إلى السينما، فلتذهب السينما إليهم، من خلال شاحنة سينمائية متنقلة تتضمّن 100 مقعد، تقوم من حين إلى آخر بزيارة جهة من جهات الجمهورية بهدف نشر ثقافة السينما وجعلها قريبة من كافة التونسيين. وهي فكرة جاءت كنتيجة مباشرة لغياب قاعات السينما في المناطق الداخلية.

أحيانًا تتحوّل العروض السينمائية من «الكميونة» إلى فضاءات مفتوحة من خلال تخصيص شاشة بيضاء، جهاز عرض، ومقاعد في ساحة عامة أو فضاء شبابي مع برمجة ترفيهية وورشات تدريب، ومن ثَمّة تتحوّل الأزقة والميادين إلى قاعات تحت السماء المفتوحة.

في ظاهرها قد تبدو تجربة ترفيهية عابرة، لكنها في عمقها فعل ثقافي مقاوم، لأنها تطرح سؤال الحق في الثقافة بشكل مباشر، وتعيد طرح النقاش حول النخبوية التي لازمت الفعل الثقافي لعقود. فهل تنجح السينما المتجولة في التخفيف من حدّة هذه النخبوية والتقدّم خطوة نحو تحقيق ما يُسمّى بدمقرطة الثقافة؟

من يتابع الصفحة الرسمية لمبادرة «السينما دور» ، سيلاحظ أن الإجابة عن سؤال الحاجة إلى السينما في الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية تتجسّد بوضوح في الصور والمقاطع المصوّرة التي توثّق الأجواء. تلك اللحظات التي يتقاسمها الأطفال واليافعون واليافعات مع عائلاتهم أمام الشاشة الكبيرة ليست مجرد مشهد ترفيهي عابر، بل تعبير عن عطش حقيقي إلى الترفيه والمعرفة والانفتاح على عوالم مختلفة.

وحين تظهر السينما في قلب «الحومة»، فإنها لا تقدّم فيلمًا وحسب، بل تقتحم مساحات أُقصيت لزمن طويل من الفعل الثقافي، وتعيد تشكيل علاقة الناس بالصورة وبالفضاء العام. هذه التجربة تتيح لأهالي الأحياء الذين اعتادوا على الشاشات الصغيرة في غرف مغلقة أن يعيشوا لحظة جماعية تشبه الطقس الثقافي الذي افتقدوه لعقود. وهذا البعد الاجتماعي لا يقتصر على المشاهدة فحسب، بل يخلق فضاءً للتفاعل وتبادل الأفكار، وهو ما يمنح السينما وظيفة اجتماعية تتجاوز حدود المتعة إلى إنتاج الوعي.

«الكميونة في ڤابس»، و«وين زعما؟»، و»السينما دور في قلب سوسة»، و»السينما في حي هلال»، و»السينما في المهدية»، و»السينما في الشابة»، و»السينما في نفطة»، و»السينما في حي التضامن»... ليست مجرد عناوين لأحداث عابرة، بل هي إشارات قوية إلى إمكانية إعادة الاعتبار لثقافة الصورة في فضاءات همّشتها السياسات الثقافية لعقود.

فهذه العروض لا تقتصر على بث الأفلام، بل تستضيف وجوهًا فنية وسينمائية، وتنظّم ورشات تكوينية، ما يحوّل المبادرة من نشاط ترفيهي محدود إلى مشروع ثقافي متكامل يطرح أسئلة أعمق حول العدالة الثقافية وإعادة توزيع الفعل الثقافي خارج المركز.

وفي تصريح لـ «الصباح»، قالت مديرة مشروع «السينما دور» غفران هراغي: «لقد انطلقت هذه التجربة منذ أكثر من سنة، سنة وثلاثة أشهر تحديدًا من الترحال والدهشة، حيث كان الحلم في بداياته بسيطًا: أن نأخذ السينما إلى الناس في أماكنهم. في كل محطة كنا نتخيّل ما الذي يمكن أن نعيشه، لكن الواقع كان دائمًا أكبر من خيالنا، وأغنى من كل توقّعاتنا».

وأضافت: «كنا نكتشف مواقف لم تخطر لنا على بال، ونلتقي بأناس يصنعون بكرمهم معنى المشاركة الحقيقية. من مساعدتنا في تنظيم المعدات وتركيبها إلى إعداد الطعام الذي تتكفّل به النساء، من التفاصيل الصغيرة إلى المواقف الكبيرة، شكّل تضامن الأهالي سلوكًا له أثر اجتماعي ونفسي عميق.»

وقالت: «إن الأمر لا يتعلّق بمجرّد مشروع ثقافي يتيح النفاذ إلى الثقافة أو يفتح نقاشات حول الأفلام، وإنما تحوّل إلى ما هو أبعد: فلقاء الناس ببعضهم البعض جعلهم يشعرون بأنهم فاعلون في مجتمعهم الصغير، بأن لهم قيمة وصوتًا».

وواصلت: «أصبح المشروع فضاءً متعدد الأبعاد: ثقافيًا، اجتماعيًا، نفسيًا وحتى اقتصاديًا، لأنه خلق حركية في العرض والطلب، وفتح آفاقًا جديدة لأحلام كثيرة. لقد كشف لنا وجهًا آخر لتونس، تونس الداخل، حيث ما يزال الناس يحلمون ويصرّون على الحياة رغم الصعاب.»

أما عن دعم الفنانين والممثلين للتجربة، قالت غفران هراغي: «لقد وجد الفنانون والممثلون المشاركون في التجربة فرصة استثنائية، فقد مكّنتهم من اكتشاف عوالم جديدة، من الاقتراب من الأطفال والعائلات، ومن الخروج من قوقعة المركز والعاصمة. لم تعد المدينة مركز الكون، بل أصبحت الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية منصّات فرح وحكايات واكتشافات للعمق والدواخل».

وعن تفاعل الناس والأطفال قالت محدّثتنا: «في نفطة مثلًا، قالت فتاة صغيرة باندهاش: لم نتصوّر أن السينما ستأتي إلينا يومًا. جملة واحدة تلخّص قيمة ما حدث. هذا ليس مجرد وصول لشاشة بيضاء، بل إعادة إحياء الحلم في عيون الأطفال، رغم كل القيود الاقتصادية والاجتماعية التي تثقّل يومياتهم.»

وعلى امتداد عام وثلاثة أشهر توقّفت شاحنة السينما المتنقلة (الكميون) في عشرين منطقة، وفق نفس المصدر، واستقطب المشروع حوالي 35 ألف شخص، استفادوا من العروض السينمائية، والورشات، والتدريبات، وحتى السهرات الفنية، التي كان آخرها حفل الفنانة روضة عبد الله في حي التضامن بالعاصمة.

ولم تتوقف المبادرة عند ذلك، إذ تمّ إنجاز مشروع جديد في حي هلال شمل تهيئة ملعب رياضي، ودعوة فنانين، والتحضير لتصوير فيلم قصير مع الأطفال، إلى جانب ورشات تدريبية، ثم الانطلاق في الاستعداد لتنظيم مهرجان بهذا الحي في ديسمبر المقبل.

تجربة «السينما دور» تُظهر كيف يمكن للشاشة الكبيرة أن تغيّر نبض الأحياء الشعبية والجهات الداخلية من خلال إعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي، حيث تتحوّل الساحات والفضاءات والأزقّة إلى أماكن ثقافية نابضة، تجمع الكلّ على اختلاف أعمارهم لتجربة مشاهدة مشتركة تليها نقاشات وتبادل انطباعات، مما يعزّز التواصل الاجتماعي والانتماء الجماعي.

وعلى الصعيد النفسي، تصبح الأفلام والفن مرآة لتجارب السكان اليومية أو نافذة على عوالم جديدة، فتمنح شعورًا بالاعتراف والتمكين، خصوصًا لدى الأطفال واليافعين واليافعات، وتفتح المجال أمام الكبار للتفكير والنقد، وهو ما ترجمته الشهادات المضمّنة بمقاطع الفيديو التي يتم نشرها على الصفحة الرسمية بعد كل جولة من الجولات السينمائية.

علاوة على ذلك، من شأن هذه التجربة أن تُعيد بناء الهوية الثقافية للأحياء الشعبية، وتعزّز شعور الفخر والانتماء، وتكسر الصور النمطية عنها، بينما توسّع مفهوم الديمقراطية الثقافية من خلال تمكين جميع الفئات من الوصول للفن والثقافة، وجمع الترفيه بالعمل الثقافي والتوعوي وبالفعل الاجتماعي.

غير أن الكثير من الأسئلة تظل مطروحة: هل يمكن لمثل هذه المبادرة أن تتحوّل من تجربة منفردة بذاتها إلى تجارب أخرى مماثلة؟ فالتحدّي الأكبر هو استدامة هذه المبادرات. فالحفاظ على نبض الأحياء الشعبية عبر الشاشة الكبيرة يتطلّب دعمًا مستمرًا، بنية تحتية مرنة، محتوى سينمائيًا متنوعًا، وتفاعلًا دائمًا مع المجتمع المحلي لضمان أن تتحوّل السينما من حدث عابر إلى عنصر ثابت في النسيج الاجتماعي للأحياء والمناطق الداخلية.

إيمان عبد اللطيف