سجّل الميزان التجاري الغذائي في تونس فائضا جديدا خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2025 بلغ 823,4 مليون دينار، مقابل 1729,2 مليون دينار خلال نفس الفترة من العام الماضي، وذلك وفق أحدث البيانات الصادرة عن المرصد الوطني للفلاحة، أمس، الإثنين. ورغم تراجع قيمة الفائض مقارنة بسنة 2024، فإن استمرار تحقيقه يُعدّ مؤشرا إيجابيا يعكس قدرة القطاع الفلاحي والغذائي على لعب دور استراتيجي في دعم التوازنات الاقتصادية الكبرى، والتخفيف من عجز الميزان التجاري العام الذي ارتفع بنسبة 23,6 % ليصل إلى -11.904,5 مليون دينار.
ويُعد تحقيق فائض بصفة متواصلة إنجازا، ولطالما كان زيت الزيتون قاطرة الصادرات الغذائية التونسية، حيث يمثل العمود الفقري للميزان الغذائي. لكن سنة 2025 شهدت ضغوطا كبيرة على هذا القطاع، إذ انخفضت الكميات المصدّرة والأسعار في الأسواق العالمية معًا. وبلغ معدل سعر التصدير 12,86 دينار/كغ مقابل حوالي ضعف ذلك السنة الماضية، أي بتراجع نسبته 52,3 %.
هذا الانخفاض المزدوج (في الكميات والأسعار) أثّر مباشرة على قيمة الصادرات الإجمالية، وهو ما يُفسّر جزءا كبيرا من تقلّص الفائض.
من ناحية أخرى، عرفت أسعار استيراد بعض الحبوب تراجعا نسبيا، حيث انخفضت أسعار القمح الصلب بنسبة 17,9 %، والقمح اللين بنسبة 1,4 %، في حين ارتفعت أسعار الشعير بنسبة 6,5% والذرة بنسبة 9,7 %.
هذه الأرقام تعكس استمرار تونس في اعتمادها الكبير على توريد الحبوب، بما يجعل الميزان الغذائي رهين تقلبات الأسواق العالمية. ورغم تراجع قيمة الواردات إجمالا، فإن فاتورة الحبوب تظل ثقيلة وتشكل عبئا دائما على المالية العمومية.
ولا تكمن فقط أهمية الفائض الغذائي في حجم الأرقام، بل في رمزيته الاقتصادية. ففي الوقت الذي يشهد فيه الميزان التجاري العام تفاقما في العجز، يُسهم الميزان الغذائي بفائضه في تخفيف حدّة هذا العجز بنسبة تقارب 6,9 %.
حسب ما كشف عنه بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، فإن هذا المعطى يعكس أن القطاع الفلاحي والغذائي قادر على لعب دور اقتصادي محوري، ليس فقط كرافد للاستهلاك المحلي، وإنما كأداة لتحقيق التوازنات المالية ودعم مخزون العملة الصعبة.
ويُشدد خبراء الاقتصاد، أنه لولا هذا الفائض الغذائي، لكانت وضعية الميزان التجاري العام أكثر سوءا، وهو ما يعزز قيمة هذا القطاع الاستراتيجي في المشهد الاقتصادي الوطني.
وكشفت الأرقام المتعلقة بالمبادلات التجارية لتونس إلى غاية نهاية جويلية 2025 أن الطاقة استحوذت على 7448,5 مليون دينار من الواردات، مقابل صادرات لا تتجاوز 1411,3 مليون دينار، أما المواد الأولية ونصف المصنعة فشكلت ما قيمته 16.905,7 مليون دينار واردات، مقابل 13.105,3 مليون دينار صادرات.
في المقابل، القطاع الغذائي وحده تمكن من تحقيق فائض قدره 823,4 مليون دينار.
هذا التباين يُوضح أن الغذاء يبقى القطاع الأكثر قدرة على موازنة العجز، في حين تظل الطاقة أكبر نزيف للتجارة الخارجية.
مؤشرات إيجابية وسط تحديات
وإن تسجيل فائض غذائي يعني أن تونس مازالت قادرة على تحقيق الاكتفاء الجزئي في بعض المنتجات الأساسية، والمنافسة في الأسواق العالمية، خاصة عبر زيت الزيتون والتمور، وجذب العملة الصعبة عبر الصادرات الغذائية.
لكن التحدي الأكبر يبقى في هشاشة هذا الفائض أمام تقلبات أسعار السوق العالمية وضعف تنويع المنتجات المصدّرة.
ولتحويل الفائض الغذائي من مجرد ظرفية مرتبطة بزيت الزيتون إلى سياسة اقتصادية مستدامة، يرى جزء واسع من خبراء الاقتصاد، أنه على تونس أن تعتمد جملة من الإصلاحات والإستراتيجيات، من بينها تنويع قاعدة الصادرات، حيث لا يمكن أن يبقى الفائض رهين صادرات زيت الزيتون فقط.
من الضروري تطوير سلاسل القيمة في التمور، الصناعات الغذائية، المنتجات البيولوجية والمصبرات.
هذا التنويع سيُحصّن الميزان الغذائي من تقلبات سوق واحدة أو منتج واحد. كما يرى آخرون أنه لا بد من الاستثمار في البحث الزراعي، تطوير البذور المحلية، التوسّع في تقنيات الري المقتصد للمياه، وتحسين مردودية الأراضي الزراعية، ورفع الإنتاجية، ما يدفع نحو التقليص من حجم الواردات، خاصة في قطاع الحبوب.
الحد من استيراد الحبوب
ورغم محدودية الأراضي الصالحة لزراعة القمح والشعير في تونس، إلا أن دعم الإنتاج المحلي عبر تشجيع الفلاحين وتوفير الحوافز يمكن أن يُقلل من فاتورة التوريد تدريجيا، إضافة إلى تثمين زيت الزيتون بدل تصديره خاما، حيث إن الاستثمار في تثمينه عبر الصناعات التحويلية (التعليب، التقطير، مستحضرات التجميل...) سيرفع من قيمته المضافة ويُضاعف العائدات.
كما من الضروري العمل على تطوير الموانئ، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق الجديدة، خاصة في آسيا وأمريكا اللاتينية، بما يُمكّن من توسيع قاعدة الطلب على المنتجات التونسية.
وإجمالا، فإن تحقيق فائض في الميزان التجاري الغذائي، رغم تقلّص حجمه مقارنة بالسنة الماضية، يُمثل مؤشرا إيجابيا، ورسالة طمأنة بأن الاقتصاد التونسي مازال قادرا على تحقيق نقاط قوة وسط أزمات متلاحقة.
وأثبت القطاع الفلاحي والغذائي مرة أخرى أنه ركيزة أساسية، ليس فقط للأمن الغذائي، وإنما أيضا للأمن الاقتصادي.
وتطوير هذا القطاع عبر تنويع الصادرات، تحسين الإنتاجية، وتثمين المنتوجات المحلية، سيجعل من الفائض الغذائي مكسبا دائما يُساهم في الانتعاشة الاقتصادية المنشودة.
يُظهر الفائض المسجّل في الميزان التجاري الغذائي، رغم تقلّصه، أن تونس تمتلك أوراق قوة حقيقية في قطاعها الفلاحي والغذائي، أوراق يمكن أن تتحوّل إلى محرّك رئيسي للنمو إذا ما تم تنفيذ جملة من إصلاحات استراتيجية.
فالزيتون، والتمور، والمنتجات الفلاحية المتنوعة، ليست مجرد سلع للتصدير، بل هي عنوان لهوية البلاد ومصدر لقدرتها على الصمود في وجه الأزمات.
إن الرهان اليوم لا يقتصر على تسجيل فائض ظرفي في مبادلات غذائية، بل على بناء اقتصاد غذائي مستدام، قادر على دعم الميزان التجاري، تعزيز السيادة الغذائية، وتوفير فرص عمل جديدة للشباب.
ولم تعد الفلاحة، اليوم، مجرد قطاع تقليدي يمكن الاكتفاء منه بالقليل، بل هي مستقبل واعد يمكن أن يُعيد لتونس توازنها الاقتصادي ومكانتها في الأسواق العالمية.
سفيان المهداوي
سجّل الميزان التجاري الغذائي في تونس فائضا جديدا خلال الأشهر السبعة الأولى من سنة 2025 بلغ 823,4 مليون دينار، مقابل 1729,2 مليون دينار خلال نفس الفترة من العام الماضي، وذلك وفق أحدث البيانات الصادرة عن المرصد الوطني للفلاحة، أمس، الإثنين. ورغم تراجع قيمة الفائض مقارنة بسنة 2024، فإن استمرار تحقيقه يُعدّ مؤشرا إيجابيا يعكس قدرة القطاع الفلاحي والغذائي على لعب دور استراتيجي في دعم التوازنات الاقتصادية الكبرى، والتخفيف من عجز الميزان التجاري العام الذي ارتفع بنسبة 23,6 % ليصل إلى -11.904,5 مليون دينار.
ويُعد تحقيق فائض بصفة متواصلة إنجازا، ولطالما كان زيت الزيتون قاطرة الصادرات الغذائية التونسية، حيث يمثل العمود الفقري للميزان الغذائي. لكن سنة 2025 شهدت ضغوطا كبيرة على هذا القطاع، إذ انخفضت الكميات المصدّرة والأسعار في الأسواق العالمية معًا. وبلغ معدل سعر التصدير 12,86 دينار/كغ مقابل حوالي ضعف ذلك السنة الماضية، أي بتراجع نسبته 52,3 %.
هذا الانخفاض المزدوج (في الكميات والأسعار) أثّر مباشرة على قيمة الصادرات الإجمالية، وهو ما يُفسّر جزءا كبيرا من تقلّص الفائض.
من ناحية أخرى، عرفت أسعار استيراد بعض الحبوب تراجعا نسبيا، حيث انخفضت أسعار القمح الصلب بنسبة 17,9 %، والقمح اللين بنسبة 1,4 %، في حين ارتفعت أسعار الشعير بنسبة 6,5% والذرة بنسبة 9,7 %.
هذه الأرقام تعكس استمرار تونس في اعتمادها الكبير على توريد الحبوب، بما يجعل الميزان الغذائي رهين تقلبات الأسواق العالمية. ورغم تراجع قيمة الواردات إجمالا، فإن فاتورة الحبوب تظل ثقيلة وتشكل عبئا دائما على المالية العمومية.
ولا تكمن فقط أهمية الفائض الغذائي في حجم الأرقام، بل في رمزيته الاقتصادية. ففي الوقت الذي يشهد فيه الميزان التجاري العام تفاقما في العجز، يُسهم الميزان الغذائي بفائضه في تخفيف حدّة هذا العجز بنسبة تقارب 6,9 %.
حسب ما كشف عنه بعض خبراء الاقتصاد لـ«الصباح»، فإن هذا المعطى يعكس أن القطاع الفلاحي والغذائي قادر على لعب دور اقتصادي محوري، ليس فقط كرافد للاستهلاك المحلي، وإنما كأداة لتحقيق التوازنات المالية ودعم مخزون العملة الصعبة.
ويُشدد خبراء الاقتصاد، أنه لولا هذا الفائض الغذائي، لكانت وضعية الميزان التجاري العام أكثر سوءا، وهو ما يعزز قيمة هذا القطاع الاستراتيجي في المشهد الاقتصادي الوطني.
وكشفت الأرقام المتعلقة بالمبادلات التجارية لتونس إلى غاية نهاية جويلية 2025 أن الطاقة استحوذت على 7448,5 مليون دينار من الواردات، مقابل صادرات لا تتجاوز 1411,3 مليون دينار، أما المواد الأولية ونصف المصنعة فشكلت ما قيمته 16.905,7 مليون دينار واردات، مقابل 13.105,3 مليون دينار صادرات.
في المقابل، القطاع الغذائي وحده تمكن من تحقيق فائض قدره 823,4 مليون دينار.
هذا التباين يُوضح أن الغذاء يبقى القطاع الأكثر قدرة على موازنة العجز، في حين تظل الطاقة أكبر نزيف للتجارة الخارجية.
مؤشرات إيجابية وسط تحديات
وإن تسجيل فائض غذائي يعني أن تونس مازالت قادرة على تحقيق الاكتفاء الجزئي في بعض المنتجات الأساسية، والمنافسة في الأسواق العالمية، خاصة عبر زيت الزيتون والتمور، وجذب العملة الصعبة عبر الصادرات الغذائية.
لكن التحدي الأكبر يبقى في هشاشة هذا الفائض أمام تقلبات أسعار السوق العالمية وضعف تنويع المنتجات المصدّرة.
ولتحويل الفائض الغذائي من مجرد ظرفية مرتبطة بزيت الزيتون إلى سياسة اقتصادية مستدامة، يرى جزء واسع من خبراء الاقتصاد، أنه على تونس أن تعتمد جملة من الإصلاحات والإستراتيجيات، من بينها تنويع قاعدة الصادرات، حيث لا يمكن أن يبقى الفائض رهين صادرات زيت الزيتون فقط.
من الضروري تطوير سلاسل القيمة في التمور، الصناعات الغذائية، المنتجات البيولوجية والمصبرات.
هذا التنويع سيُحصّن الميزان الغذائي من تقلبات سوق واحدة أو منتج واحد. كما يرى آخرون أنه لا بد من الاستثمار في البحث الزراعي، تطوير البذور المحلية، التوسّع في تقنيات الري المقتصد للمياه، وتحسين مردودية الأراضي الزراعية، ورفع الإنتاجية، ما يدفع نحو التقليص من حجم الواردات، خاصة في قطاع الحبوب.
الحد من استيراد الحبوب
ورغم محدودية الأراضي الصالحة لزراعة القمح والشعير في تونس، إلا أن دعم الإنتاج المحلي عبر تشجيع الفلاحين وتوفير الحوافز يمكن أن يُقلل من فاتورة التوريد تدريجيا، إضافة إلى تثمين زيت الزيتون بدل تصديره خاما، حيث إن الاستثمار في تثمينه عبر الصناعات التحويلية (التعليب، التقطير، مستحضرات التجميل...) سيرفع من قيمته المضافة ويُضاعف العائدات.
كما من الضروري العمل على تطوير الموانئ، وتبسيط الإجراءات الجمركية، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق الجديدة، خاصة في آسيا وأمريكا اللاتينية، بما يُمكّن من توسيع قاعدة الطلب على المنتجات التونسية.
وإجمالا، فإن تحقيق فائض في الميزان التجاري الغذائي، رغم تقلّص حجمه مقارنة بالسنة الماضية، يُمثل مؤشرا إيجابيا، ورسالة طمأنة بأن الاقتصاد التونسي مازال قادرا على تحقيق نقاط قوة وسط أزمات متلاحقة.
وأثبت القطاع الفلاحي والغذائي مرة أخرى أنه ركيزة أساسية، ليس فقط للأمن الغذائي، وإنما أيضا للأمن الاقتصادي.
وتطوير هذا القطاع عبر تنويع الصادرات، تحسين الإنتاجية، وتثمين المنتوجات المحلية، سيجعل من الفائض الغذائي مكسبا دائما يُساهم في الانتعاشة الاقتصادية المنشودة.
يُظهر الفائض المسجّل في الميزان التجاري الغذائي، رغم تقلّصه، أن تونس تمتلك أوراق قوة حقيقية في قطاعها الفلاحي والغذائي، أوراق يمكن أن تتحوّل إلى محرّك رئيسي للنمو إذا ما تم تنفيذ جملة من إصلاحات استراتيجية.
فالزيتون، والتمور، والمنتجات الفلاحية المتنوعة، ليست مجرد سلع للتصدير، بل هي عنوان لهوية البلاد ومصدر لقدرتها على الصمود في وجه الأزمات.
إن الرهان اليوم لا يقتصر على تسجيل فائض ظرفي في مبادلات غذائية، بل على بناء اقتصاد غذائي مستدام، قادر على دعم الميزان التجاري، تعزيز السيادة الغذائية، وتوفير فرص عمل جديدة للشباب.
ولم تعد الفلاحة، اليوم، مجرد قطاع تقليدي يمكن الاكتفاء منه بالقليل، بل هي مستقبل واعد يمكن أن يُعيد لتونس توازنها الاقتصادي ومكانتها في الأسواق العالمية.