- الفسفاط قادر على لعب دور القاطرة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني
تشهد تونس في الأشهر الأخيرة مؤشرات إيجابية في قطاع الفسفاط ومشتقاته، بعد سنوات من الركود والاضطرابات التي انعكست سلبًا على الإنتاج والتصدير.
وكشف المعهد الوطني للإحصاء في أحدث تقاريره عن ارتفاع صادرات الفسفاط ومشتقاته بنسبة 8.6 % خلال النصف الأول من سنة 2025، مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. هذه القفزة ليست مجرد رقم اقتصادي عابر، بل تمثل بداية مرحلة جديدة لإحياء أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وإعادة تموقع تونس ضمن قائمة كبار المصدّرين عالميًا لهذه المادة الإستراتيجية.
ثروة وطنية ذات أبعاد إستراتيجية
منذ اكتشافه في أواخر القرن التاسع عشر، ظل الفسفاط التونسي أحد أعمدة الاقتصاد ومصدرا رئيسيا للعملة الصعبة. وتحتل تونس المرتبة الخامسة عالميا من حيث احتياطي الفسفاط، حيث تتركز أغلب المناجم في منطقة الحوض المنجمي بولايات قفصة وقابس وتوزر. وتبرز أهمية هذه المادة في ارتباطها المباشر بصناعة الأسمدة الزراعية، ما يجعلها عنصرا أساسيا في ضمان الأمن الغذائي العالمي، وبالتالي سلعة ذات طلب مستقر حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية.
هذا الموقع الاستراتيجي جعل من الفسفاط موردا حيويا للدولة، إذ يساهم في تمويل الميزانية، وتقليص العجز التجاري، إلى جانب توفير آلاف فرص العمل في مختلف المراحل الإنتاجية واللوجستية.
العودة التدريجية لمستويات ما قبل 2011
عرف قطاع الفسفاط في تونس فترة ذهبية قبل سنة 2011، حيث كانت الكميات المصدّرة مستقرة على مستويات مرتفعة، تساهم بشكل مباشر في دعم المالية العمومية. غير أن العقد الأخير شهد هزات عنيفة نتيجة الاضطرابات الاجتماعية، وتعطل الإنتاج في مناطق الاستخراج، مما أدى إلى تراجع الصادرات في بعض السنوات بنسبة تجاوزت 60% مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الثورة.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بداية انتعاش تدريجي بفضل خطة حكومية متكاملة لإعادة هيكلة القطاع. هذه الخطة شملت إعادة تنظيم المؤسسات المشرفة على الإنتاج وفي مقدمتها شركة فسفاط قفصة، وتحسين البنية التحتية للنقل خاصة عبر تطوير الشبكة الحديدية، إضافة إلى تشجيع الاستثمار في تحويل الفسفاط إلى منتجات ذات قيمة مضافة، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص في مراحل الإنتاج والتسويق.
وقد انعكست هذه الجهود على أرقام الإنتاج، إذ ارتفع حجم الفسفاط المنتج سنة 2024 إلى نحو 3.3 مليون طن، مقابل 2.9 مليون طن سنة 2023، مع توقعات رسمية ببلوغ 5 ملايين طن بنهاية 2025 إذا تواصل النسق الحالي.
تنويع الأسواق وتوسيع الشراكات الدولية
أحد أبرز التحولات التي عرفتها السياسة التونسية في مجال تصدير الفسفاط هو الابتعاد التدريجي عن الاعتماد المفرط على الأسواق التقليدية، مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا، والبحث عن منافذ جديدة تسهم في استقرار المداخيل وتقليص المخاطر الناتجة عن تقلبات الأسعار أو الأزمات الجيوسياسية.
وفي هذا السياق، تمكنت تونس من توقيع اتفاقيات لتصدير الفسفاط ومشتقاته إلى أسواق واعدة مثل نيجيريا، التي تمتلك واحدا من أكبر الاقتصاديات الإفريقية وقطاعا زراعيا في نمو متسارع. كما شملت الوجهات الجديدة أوكرانيا وبولندا، في إطار مساعي هذه البلدان لتعويض النقص في الإمدادات بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ولم تغفل تونس أيضًا الأسواق الإقليمية القريبة، إذ كثفت تعاملاتها مع بلدان المغرب العربي وخاصة الجزائر، في سياق دعم التكامل الاقتصادي وتعزيز المبادلات البينية.
هذا التوجه نحو تنويع الأسواق لا يقتصر على زيادة عدد الوجهات، بل يشمل أيضا توقيع عقود طويلة الأمد مع شركاء استراتيجيين، بما يضمن استقرار الطلب ويحمي الصادرات التونسية من تقلبات السوق العالمية.
أثر الفسفاط على الاقتصاد الوطني
يعد قطاع الفسفاط رافدًا مهمًا للعملة الأجنبية، إذ تجاوزت قيمة صادراته ومشتقاته سنة 2024 نحو 1.4 مليار دينار تونسي، وهو رقم ساعد في تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات، الذي يعاني عجزا مزمنا منذ سنوات. كما يوفّر القطاع حوالي 25 ألف وظيفة مباشرة في مناطق الإنتاج، إلى جانب آلاف الوظائف غير المباشرة في مجالات النقل والخدمات والصناعات الكيميائية.
من الناحية المالية، يساهم الفسفاط في دعم الإيرادات الجبائية للدولة، ما يجعله أحد الموارد الحيوية لتمويل المشاريع العمومية والخدمات الأساسية، خاصة في ظل الأزمة المالية التي تمر بها البلاد وارتفاع حجم الديون العمومية.
رصد تمويلات ضخمة
على الرغم من المؤشرات الإيجابية، يظل الطريق نحو استعادة كامل عافية القطاع محفوفا بالتحديات. فالاستقرار الاجتماعي في مناطق الإنتاج ما زال هشًا، حيث تتكرر الاحتجاجات العمالية والمطلبية، مما قد يؤثر على نسق الإنتاج. كما أن جزءًا من المعدات، والمنشآت يعود إلى عقود مضت، ما فرض على الحكومة التونسية تخصيص استثمارات ضخمة لتجديدها وضمان تنافسية القطاع.
إلى جانب ذلك، تواجه تونس تحديا آخر يتمثل في ضرورة تطوير الصناعات التحويلية محليا، بدل الاقتصار على تصدير المادة الخام. حسب ما أكده عدد من خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، فإن القيمة المضافة الحقيقية تتحقق عندما تتحول هذه الثروة إلى منتجات كيميائية، وأسمدة جاهزة للتصدير، وهو ما يضاعف العائدات المالية. كما أن الالتزام بالمعايير البيئية العالمية، خاصة في الأسواق الأوروبية، أصبح أمرا حتميا لضمان استدامة الصادرات.
استجابة لهذه التحديات، أعلنت الحكومة التونسية منتصف 2025 عن إطلاق برنامج استثماري ضخم بقيمة تفوق 2.7 مليار دينار يمتد حتى سنة 2030، يهدف إلى بناء وحدات إنتاج جديدة، وتطوير الصناعات الكيميائية المرتبطة بالفسفاط، وتحسين شبكة النقل بين مناطق الإنتاج والموانئ، فضلاً عن إدماج الطاقات المتجددة في عمليات الاستخراج والمعالجة.
قطاع الفسفاط... قاطرة للتنمية
ويمثل النمو المسجّل في صادرات الفسفاط خلال النصف الأول من 2025 إشارة واضحة إلى أن هذا القطاع قادر على لعب دور القاطرة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، شريطة استمرار الإصلاحات وضمان الاستقرار. فهو ليس مجرد مادة خام يتم تصديرها، بل فرصة إستراتيجية لإعادة تموقع تونس في السوق العالمية، وتحقيق تنمية متوازنة تشمل مختلف الجهات وخاصة المناطق المنجمية التي عانت طويلاً من التهميش.
وفي ظل توفر الإرادة السياسية، ودعم الرأي العام، إلى جانب مواصلة إصلاح البنية التحتية والإدارية، يعتقد العديد من الخبراء أن الفسفاط التونسي قادر على استعادة مكانته التاريخية كمورد دائم للعملة الصعبة وركيزة أساسية للنمو الشامل. ويشكل هذا القطاع، اليوم، فرصة إستراتيجية لإعادة تموقع تونس في الاقتصاد العالمي، بما يفتح آفاقا أوسع للتنمية المستدامة، وتعزيز حضور البلاد في الأسواق الدولية.
سفيان المهداوي
- الفسفاط قادر على لعب دور القاطرة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني
تشهد تونس في الأشهر الأخيرة مؤشرات إيجابية في قطاع الفسفاط ومشتقاته، بعد سنوات من الركود والاضطرابات التي انعكست سلبًا على الإنتاج والتصدير.
وكشف المعهد الوطني للإحصاء في أحدث تقاريره عن ارتفاع صادرات الفسفاط ومشتقاته بنسبة 8.6 % خلال النصف الأول من سنة 2025، مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية. هذه القفزة ليست مجرد رقم اقتصادي عابر، بل تمثل بداية مرحلة جديدة لإحياء أحد أعمدة الاقتصاد الوطني، وإعادة تموقع تونس ضمن قائمة كبار المصدّرين عالميًا لهذه المادة الإستراتيجية.
ثروة وطنية ذات أبعاد إستراتيجية
منذ اكتشافه في أواخر القرن التاسع عشر، ظل الفسفاط التونسي أحد أعمدة الاقتصاد ومصدرا رئيسيا للعملة الصعبة. وتحتل تونس المرتبة الخامسة عالميا من حيث احتياطي الفسفاط، حيث تتركز أغلب المناجم في منطقة الحوض المنجمي بولايات قفصة وقابس وتوزر. وتبرز أهمية هذه المادة في ارتباطها المباشر بصناعة الأسمدة الزراعية، ما يجعلها عنصرا أساسيا في ضمان الأمن الغذائي العالمي، وبالتالي سلعة ذات طلب مستقر حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية.
هذا الموقع الاستراتيجي جعل من الفسفاط موردا حيويا للدولة، إذ يساهم في تمويل الميزانية، وتقليص العجز التجاري، إلى جانب توفير آلاف فرص العمل في مختلف المراحل الإنتاجية واللوجستية.
العودة التدريجية لمستويات ما قبل 2011
عرف قطاع الفسفاط في تونس فترة ذهبية قبل سنة 2011، حيث كانت الكميات المصدّرة مستقرة على مستويات مرتفعة، تساهم بشكل مباشر في دعم المالية العمومية. غير أن العقد الأخير شهد هزات عنيفة نتيجة الاضطرابات الاجتماعية، وتعطل الإنتاج في مناطق الاستخراج، مما أدى إلى تراجع الصادرات في بعض السنوات بنسبة تجاوزت 60% مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الثورة.
إلا أن السنوات الأخيرة شهدت بداية انتعاش تدريجي بفضل خطة حكومية متكاملة لإعادة هيكلة القطاع. هذه الخطة شملت إعادة تنظيم المؤسسات المشرفة على الإنتاج وفي مقدمتها شركة فسفاط قفصة، وتحسين البنية التحتية للنقل خاصة عبر تطوير الشبكة الحديدية، إضافة إلى تشجيع الاستثمار في تحويل الفسفاط إلى منتجات ذات قيمة مضافة، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص في مراحل الإنتاج والتسويق.
وقد انعكست هذه الجهود على أرقام الإنتاج، إذ ارتفع حجم الفسفاط المنتج سنة 2024 إلى نحو 3.3 مليون طن، مقابل 2.9 مليون طن سنة 2023، مع توقعات رسمية ببلوغ 5 ملايين طن بنهاية 2025 إذا تواصل النسق الحالي.
تنويع الأسواق وتوسيع الشراكات الدولية
أحد أبرز التحولات التي عرفتها السياسة التونسية في مجال تصدير الفسفاط هو الابتعاد التدريجي عن الاعتماد المفرط على الأسواق التقليدية، مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا، والبحث عن منافذ جديدة تسهم في استقرار المداخيل وتقليص المخاطر الناتجة عن تقلبات الأسعار أو الأزمات الجيوسياسية.
وفي هذا السياق، تمكنت تونس من توقيع اتفاقيات لتصدير الفسفاط ومشتقاته إلى أسواق واعدة مثل نيجيريا، التي تمتلك واحدا من أكبر الاقتصاديات الإفريقية وقطاعا زراعيا في نمو متسارع. كما شملت الوجهات الجديدة أوكرانيا وبولندا، في إطار مساعي هذه البلدان لتعويض النقص في الإمدادات بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ولم تغفل تونس أيضًا الأسواق الإقليمية القريبة، إذ كثفت تعاملاتها مع بلدان المغرب العربي وخاصة الجزائر، في سياق دعم التكامل الاقتصادي وتعزيز المبادلات البينية.
هذا التوجه نحو تنويع الأسواق لا يقتصر على زيادة عدد الوجهات، بل يشمل أيضا توقيع عقود طويلة الأمد مع شركاء استراتيجيين، بما يضمن استقرار الطلب ويحمي الصادرات التونسية من تقلبات السوق العالمية.
أثر الفسفاط على الاقتصاد الوطني
يعد قطاع الفسفاط رافدًا مهمًا للعملة الأجنبية، إذ تجاوزت قيمة صادراته ومشتقاته سنة 2024 نحو 1.4 مليار دينار تونسي، وهو رقم ساعد في تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات، الذي يعاني عجزا مزمنا منذ سنوات. كما يوفّر القطاع حوالي 25 ألف وظيفة مباشرة في مناطق الإنتاج، إلى جانب آلاف الوظائف غير المباشرة في مجالات النقل والخدمات والصناعات الكيميائية.
من الناحية المالية، يساهم الفسفاط في دعم الإيرادات الجبائية للدولة، ما يجعله أحد الموارد الحيوية لتمويل المشاريع العمومية والخدمات الأساسية، خاصة في ظل الأزمة المالية التي تمر بها البلاد وارتفاع حجم الديون العمومية.
رصد تمويلات ضخمة
على الرغم من المؤشرات الإيجابية، يظل الطريق نحو استعادة كامل عافية القطاع محفوفا بالتحديات. فالاستقرار الاجتماعي في مناطق الإنتاج ما زال هشًا، حيث تتكرر الاحتجاجات العمالية والمطلبية، مما قد يؤثر على نسق الإنتاج. كما أن جزءًا من المعدات، والمنشآت يعود إلى عقود مضت، ما فرض على الحكومة التونسية تخصيص استثمارات ضخمة لتجديدها وضمان تنافسية القطاع.
إلى جانب ذلك، تواجه تونس تحديا آخر يتمثل في ضرورة تطوير الصناعات التحويلية محليا، بدل الاقتصار على تصدير المادة الخام. حسب ما أكده عدد من خبراء الاقتصاد لـ»الصباح»، فإن القيمة المضافة الحقيقية تتحقق عندما تتحول هذه الثروة إلى منتجات كيميائية، وأسمدة جاهزة للتصدير، وهو ما يضاعف العائدات المالية. كما أن الالتزام بالمعايير البيئية العالمية، خاصة في الأسواق الأوروبية، أصبح أمرا حتميا لضمان استدامة الصادرات.
استجابة لهذه التحديات، أعلنت الحكومة التونسية منتصف 2025 عن إطلاق برنامج استثماري ضخم بقيمة تفوق 2.7 مليار دينار يمتد حتى سنة 2030، يهدف إلى بناء وحدات إنتاج جديدة، وتطوير الصناعات الكيميائية المرتبطة بالفسفاط، وتحسين شبكة النقل بين مناطق الإنتاج والموانئ، فضلاً عن إدماج الطاقات المتجددة في عمليات الاستخراج والمعالجة.
قطاع الفسفاط... قاطرة للتنمية
ويمثل النمو المسجّل في صادرات الفسفاط خلال النصف الأول من 2025 إشارة واضحة إلى أن هذا القطاع قادر على لعب دور القاطرة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، شريطة استمرار الإصلاحات وضمان الاستقرار. فهو ليس مجرد مادة خام يتم تصديرها، بل فرصة إستراتيجية لإعادة تموقع تونس في السوق العالمية، وتحقيق تنمية متوازنة تشمل مختلف الجهات وخاصة المناطق المنجمية التي عانت طويلاً من التهميش.
وفي ظل توفر الإرادة السياسية، ودعم الرأي العام، إلى جانب مواصلة إصلاح البنية التحتية والإدارية، يعتقد العديد من الخبراء أن الفسفاط التونسي قادر على استعادة مكانته التاريخية كمورد دائم للعملة الصعبة وركيزة أساسية للنمو الشامل. ويشكل هذا القطاع، اليوم، فرصة إستراتيجية لإعادة تموقع تونس في الاقتصاد العالمي، بما يفتح آفاقا أوسع للتنمية المستدامة، وتعزيز حضور البلاد في الأسواق الدولية.