تعيش الساحة المسرحية كل صيف على وقع جدل حول ما تعيشه وتتعرض له الإنتاجات المسرحية الجادة من تهميش وتجاهل من قبل أغلب المهرجانات الصيفية، إلا ما ندر منها، على اعتبار أنها لا تصلح لجمهور الصيف الذي يبحث عن الترفيه. كان من نتيجتها خارطة مسرحية مزدحمة بأعمال فيها الكثير من التهريج والسطحية تحت غطاء المرح والهزل... أعمال تهافتت عليها الكثير من المهرجانات التي تبحث عن الربح المادي على حساب الفكر الجاد. في هذه الورقة، اخترنا العودة إلى الماضي الجميل للمسرح في المهرجانات الصيفية، وفتح نافذة على ما يُعرض اليوم من أعمال لا ترتقي إلى الإبداع الذي يريده عاشق الفن الرابع، مع بعض الاستثناءات في ذلك، ليطفو على السطح سؤال حارق: أي مستقبل للمسرح صيفًا في قادم دورات المهرجانات الصيفية؟
مثّلت سبعينات وثمانينات القرن الماضي الفترة الذهبية للمسرح التونسي في المهرجانات الصيفية، بل إنّ هناك مهرجانات اختصت في المسرح، فجاءت برامجها ذات طابع مسرحي خالص، وتكفي الإشارة هنا إلى مهرجان المغرب العربي بالمنستير، ومهرجان البحر الأبيض المتوسط بحلق الوادي، الذي كانت تتزامن انطلاقة عروضه مع مهرجان قرطاج الدولي، ومهرجان دقة الدولي الذي كان الكوكب المشع على المسرح كل صيف من خلال استقباله للعديد من العروض العربية وحتى الأجنبية الكبرى على ركح «الكابيتول»، الفضاء المسرحي الخلاب في ربوع مدينة تبرسق الجميلة بخضرتها ومياهها العذبة.
هذا المهرجان كان قبلة أسماء عربية خالدة في المدونة المسرحية العربية، على غرار عبدالله غيث، وسميحة أيوب، وأمينة رزق، وكرم مطاوع، وسعد الدين وهبة، ونضال الأشقر، ودريد لحام، وغيرهم كثير، دون أن ننسى التونسي علي بن عياد، ونور الدين عزيزة خلال فترة السبعينات، وغيرهم.
هذا المهرجان حاد في السنوات الأخيرة عن مساره الطبيعي الذي كان عليه التمسك به، وهو الذي خطه الراحل المنصف الشنوفي بإضفاء مسحة جمالية خاصة على هذا المهرجان، والكل يستحضر دون شك الرحلات الخاصة التي كانت تُنظم من العاصمة في اتجاه دقة لحضور ومواكبة عروضه المسرحية العربية.
هذا المهرجان نجده اليوم قد انخرط في خارطة العروض الفرجوية المتنوعة، رغم بعض الاجتهادات بإضفاء عروض ذات طابع ثقافي جاد على برامجه، لكن ذلك لا يمنع من القول إنه فقد بوصلته التي كانت عنوان قوته وإشعاعه وطنيًا وعربيًا ودوليًا.
ولا مجال للتجاوز والنسيان، ونحن نتحدث عن توهّج المسرح التونسي في مهرجانات السبعينات والثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي بدرجة أولى،أنه كان نتيجة طبيعية لنهضة مسرحية تونسية رائدة، قوامها الأساسي الفرق المسرحية الجهوية المحترفة، التي كانت تتنافس وتقدّم في السنة ما يفوق الـ60 عملًا مسرحيًا بأشكال ورؤى ومضامين مختلفة، تحت إشراف وإعداد جهابذة ورواد في الفعل المسرحي التونسي، منهم على سبيل الذكر لا الحصر: المنصف السويسي، وكمال العلاوي، وعبد الغني بن طارة، وعبدالله رواشد، والمنجي بن إبراهيم، وحسين المحنوش، وعبد القادر مقداد، وصابر الحامي، وعبد الجليل بوراوي... والقائمة طويلة من الرواد الذين تداولوا على تسيير الفرق المسرحية الجهوية المحترفة قبل قرار حلّها في بداية تسعينات القرن الماضي، لتحلّ محلّها مراكز الفنون الدرامية والركحية.
ويحفظ التاريخ للمسرحي الكبير الأسعد بن عبدالله برمجته، خلال إشرافه على مهرجان الحمامات الدولي طيلة أكثر من دورة، لـ10 عروض مسرحية جديدة تُعرض لأول مرة. وهو نفس التمشي الذي حافظ عليه عندما تولى خطة مستشار فني لمهرجان قرطاج الدولي من خلال برمجة 10 عروض مسرحية ضمن برنامج المهرجان، وتم تخصيص فضاء «مدار» بقرطاج لهذه العروض، شأنه في ذلك شأن الممثل الكبير رؤوف بن عمر، الذي حافظ على حضور المسرح بشكل لافت خلال فترة إشرافه على مهرجان قرطاج الدولي.
واليوم، فإنّ المسرح أصبح الفن «المغضوب عليه» في قرطاج، فلا أثر له، لا من بعيد ولا من قريب، في عروضه التي أفقدت أغلبها هيبته ووقاره الإبداعي كفضاء عريق شامخ في السماء بكل نخوة. وترانا نستحضر هنا، على سبيل الذكر لا الحصر، أن ركح قرطاج العريق انطلقت منه في صيف 1979 لأول مرة الأغنية الوطنية الشهيرة «باكتب اسمك يا بلادي»، بصوت الممثل السوري الكبير دريد لحام في مسرحيته الشهيرة «على نخبك يا وطن»، التي كتبها المبدع الخالد محمد الماغوط وأخرجها المخرج الكبير خلدون المالح. ومن أبرز أبطال ذلك العمل كانت صباح الجزائري وسلمى المصري.
ولا نخفي سرًّا اليوم إن قلنا إن أهل المسرح يتفقون حول حقيقة مرة، قوامها أن الفن الرابع مظلوم في كل الفصول، وخاصة في المهرجانات الصيفية وبشكل لافت.
المسرح اليوم لا يجد حضوره الفاعل في بعض هذه المهرجانات، إلا في البعض منها، لاعتبارات تتعلق بالتفكير في الربح المادي السهل والإثارة. وحتى الأعمال المسرحية التي تتم برمجتها تركز على ما يعرف بعرض “الوان مان شو» الهزيل في مضامينه – في أغلبها – والتي لا ترقى إلى درجة الإبداع الفكري المسرحي، وهي إحدى رسائل المسرح الكونية.
وفي مقاربتنا لمهرجانات هذه الصائفة، يتجلى لنا بوضوح أن هناك قلّة من المهرجانات حرصت على انتقاء عروض مسرحية ذات قيمة جمالية وإبداعية فكرية، من بينها مثلًا مهرجان الحمامات الدولي، الذي اختار لهذه الصائفة عدة عروض مسرحية، من بينها «تونس أم البلدان»، و»كيما اليوم»، و»سيدة كركوان»، و»جرانتي العزيزة»، و»عربون».
وفي المقابل، التقت عديد المهرجانات في برمجة أعمال مسرحية ذات طابع خفيف أو من نوع «الوان مان شو»، من ذلك أن مسرحية «بيغ بوسا» لوجيهة الجندوبي نجدها في مهرجانات سوسة في «1 جويلية»، وحمام الأنف في «12 أوت»، والمنستير في «4 أوت»، وڤابس في «27 جويلية»، وبنزرت في «13 أوت».
ومسرحية «فيزا» لكريم الغربي في مهرجانات ڤابس في «31 جويلية»، والمنستير يوم «30 جويلية»، وحمام الأنف يوم «17 أوت»، وباجة يوم «26 جويلية». ويقدم عزيز الجبالي عرضه «بينومي» في مهرجان صفاقس يوم «12 أوت». وتُعرض مسرحية «تونسي ونص» في المنستير يوم «9 أوت»، وفي ڤابس يوم «11 أوت»، وحمام الأنف يوم «6 أوت». وقدم مهرجان سوسة عرض «رقصة سماء»، إنتاج المسرح الوطني التونسي، يوم «4 أوت»، وعُرضت في مهرجان «بيلاريجيا» بجندوبة في «29 جويلية». ويعرض مهرجان سوسة «صحين تونسي» يوم «12 أوت»، ويُعرض العمل في ڤابس في «11 أوت». وعُرضت مسرحية «للاهم» في بنزرت يوم «31 جويلية»، وعُرضت مسرحية «ليلة عجب» في «29 جويلية». ويقدم مهرجان ڤابس «10 سنين عرس» يوم «9 أوت».
أما مسرحية «المايسترو» لبسام الحمراوي فنجدها في مهرجانات سوسة اليوم «7 أوت»، وعُرضت في حمام الأنف يوم «2 أوت».
والخلاصة أنه إذا كان لنا أن لا نغبط حق المهرجانات في الجانب الترفيهي في برامجها، فإنه في ذات الوقت لابد من مراعاة التوازن بين الأشكال الفنية المسرحية، بالاهتمام بالأعمال الجادة بدرجة أولى، حتى لا تبقى رهينة الفضاءات المغلقة، وبالتالي تكريس صفة «النخبوية» عليها. وهذه واحدة من الهنات التي يتخبط فيها المسرح التونسي اليوم. فهل من مجيب؟
محسن بن أحمد
تعيش الساحة المسرحية كل صيف على وقع جدل حول ما تعيشه وتتعرض له الإنتاجات المسرحية الجادة من تهميش وتجاهل من قبل أغلب المهرجانات الصيفية، إلا ما ندر منها، على اعتبار أنها لا تصلح لجمهور الصيف الذي يبحث عن الترفيه. كان من نتيجتها خارطة مسرحية مزدحمة بأعمال فيها الكثير من التهريج والسطحية تحت غطاء المرح والهزل... أعمال تهافتت عليها الكثير من المهرجانات التي تبحث عن الربح المادي على حساب الفكر الجاد. في هذه الورقة، اخترنا العودة إلى الماضي الجميل للمسرح في المهرجانات الصيفية، وفتح نافذة على ما يُعرض اليوم من أعمال لا ترتقي إلى الإبداع الذي يريده عاشق الفن الرابع، مع بعض الاستثناءات في ذلك، ليطفو على السطح سؤال حارق: أي مستقبل للمسرح صيفًا في قادم دورات المهرجانات الصيفية؟
مثّلت سبعينات وثمانينات القرن الماضي الفترة الذهبية للمسرح التونسي في المهرجانات الصيفية، بل إنّ هناك مهرجانات اختصت في المسرح، فجاءت برامجها ذات طابع مسرحي خالص، وتكفي الإشارة هنا إلى مهرجان المغرب العربي بالمنستير، ومهرجان البحر الأبيض المتوسط بحلق الوادي، الذي كانت تتزامن انطلاقة عروضه مع مهرجان قرطاج الدولي، ومهرجان دقة الدولي الذي كان الكوكب المشع على المسرح كل صيف من خلال استقباله للعديد من العروض العربية وحتى الأجنبية الكبرى على ركح «الكابيتول»، الفضاء المسرحي الخلاب في ربوع مدينة تبرسق الجميلة بخضرتها ومياهها العذبة.
هذا المهرجان كان قبلة أسماء عربية خالدة في المدونة المسرحية العربية، على غرار عبدالله غيث، وسميحة أيوب، وأمينة رزق، وكرم مطاوع، وسعد الدين وهبة، ونضال الأشقر، ودريد لحام، وغيرهم كثير، دون أن ننسى التونسي علي بن عياد، ونور الدين عزيزة خلال فترة السبعينات، وغيرهم.
هذا المهرجان حاد في السنوات الأخيرة عن مساره الطبيعي الذي كان عليه التمسك به، وهو الذي خطه الراحل المنصف الشنوفي بإضفاء مسحة جمالية خاصة على هذا المهرجان، والكل يستحضر دون شك الرحلات الخاصة التي كانت تُنظم من العاصمة في اتجاه دقة لحضور ومواكبة عروضه المسرحية العربية.
هذا المهرجان نجده اليوم قد انخرط في خارطة العروض الفرجوية المتنوعة، رغم بعض الاجتهادات بإضفاء عروض ذات طابع ثقافي جاد على برامجه، لكن ذلك لا يمنع من القول إنه فقد بوصلته التي كانت عنوان قوته وإشعاعه وطنيًا وعربيًا ودوليًا.
ولا مجال للتجاوز والنسيان، ونحن نتحدث عن توهّج المسرح التونسي في مهرجانات السبعينات والثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي بدرجة أولى،أنه كان نتيجة طبيعية لنهضة مسرحية تونسية رائدة، قوامها الأساسي الفرق المسرحية الجهوية المحترفة، التي كانت تتنافس وتقدّم في السنة ما يفوق الـ60 عملًا مسرحيًا بأشكال ورؤى ومضامين مختلفة، تحت إشراف وإعداد جهابذة ورواد في الفعل المسرحي التونسي، منهم على سبيل الذكر لا الحصر: المنصف السويسي، وكمال العلاوي، وعبد الغني بن طارة، وعبدالله رواشد، والمنجي بن إبراهيم، وحسين المحنوش، وعبد القادر مقداد، وصابر الحامي، وعبد الجليل بوراوي... والقائمة طويلة من الرواد الذين تداولوا على تسيير الفرق المسرحية الجهوية المحترفة قبل قرار حلّها في بداية تسعينات القرن الماضي، لتحلّ محلّها مراكز الفنون الدرامية والركحية.
ويحفظ التاريخ للمسرحي الكبير الأسعد بن عبدالله برمجته، خلال إشرافه على مهرجان الحمامات الدولي طيلة أكثر من دورة، لـ10 عروض مسرحية جديدة تُعرض لأول مرة. وهو نفس التمشي الذي حافظ عليه عندما تولى خطة مستشار فني لمهرجان قرطاج الدولي من خلال برمجة 10 عروض مسرحية ضمن برنامج المهرجان، وتم تخصيص فضاء «مدار» بقرطاج لهذه العروض، شأنه في ذلك شأن الممثل الكبير رؤوف بن عمر، الذي حافظ على حضور المسرح بشكل لافت خلال فترة إشرافه على مهرجان قرطاج الدولي.
واليوم، فإنّ المسرح أصبح الفن «المغضوب عليه» في قرطاج، فلا أثر له، لا من بعيد ولا من قريب، في عروضه التي أفقدت أغلبها هيبته ووقاره الإبداعي كفضاء عريق شامخ في السماء بكل نخوة. وترانا نستحضر هنا، على سبيل الذكر لا الحصر، أن ركح قرطاج العريق انطلقت منه في صيف 1979 لأول مرة الأغنية الوطنية الشهيرة «باكتب اسمك يا بلادي»، بصوت الممثل السوري الكبير دريد لحام في مسرحيته الشهيرة «على نخبك يا وطن»، التي كتبها المبدع الخالد محمد الماغوط وأخرجها المخرج الكبير خلدون المالح. ومن أبرز أبطال ذلك العمل كانت صباح الجزائري وسلمى المصري.
ولا نخفي سرًّا اليوم إن قلنا إن أهل المسرح يتفقون حول حقيقة مرة، قوامها أن الفن الرابع مظلوم في كل الفصول، وخاصة في المهرجانات الصيفية وبشكل لافت.
المسرح اليوم لا يجد حضوره الفاعل في بعض هذه المهرجانات، إلا في البعض منها، لاعتبارات تتعلق بالتفكير في الربح المادي السهل والإثارة. وحتى الأعمال المسرحية التي تتم برمجتها تركز على ما يعرف بعرض “الوان مان شو» الهزيل في مضامينه – في أغلبها – والتي لا ترقى إلى درجة الإبداع الفكري المسرحي، وهي إحدى رسائل المسرح الكونية.
وفي مقاربتنا لمهرجانات هذه الصائفة، يتجلى لنا بوضوح أن هناك قلّة من المهرجانات حرصت على انتقاء عروض مسرحية ذات قيمة جمالية وإبداعية فكرية، من بينها مثلًا مهرجان الحمامات الدولي، الذي اختار لهذه الصائفة عدة عروض مسرحية، من بينها «تونس أم البلدان»، و»كيما اليوم»، و»سيدة كركوان»، و»جرانتي العزيزة»، و»عربون».
وفي المقابل، التقت عديد المهرجانات في برمجة أعمال مسرحية ذات طابع خفيف أو من نوع «الوان مان شو»، من ذلك أن مسرحية «بيغ بوسا» لوجيهة الجندوبي نجدها في مهرجانات سوسة في «1 جويلية»، وحمام الأنف في «12 أوت»، والمنستير في «4 أوت»، وڤابس في «27 جويلية»، وبنزرت في «13 أوت».
ومسرحية «فيزا» لكريم الغربي في مهرجانات ڤابس في «31 جويلية»، والمنستير يوم «30 جويلية»، وحمام الأنف يوم «17 أوت»، وباجة يوم «26 جويلية». ويقدم عزيز الجبالي عرضه «بينومي» في مهرجان صفاقس يوم «12 أوت». وتُعرض مسرحية «تونسي ونص» في المنستير يوم «9 أوت»، وفي ڤابس يوم «11 أوت»، وحمام الأنف يوم «6 أوت». وقدم مهرجان سوسة عرض «رقصة سماء»، إنتاج المسرح الوطني التونسي، يوم «4 أوت»، وعُرضت في مهرجان «بيلاريجيا» بجندوبة في «29 جويلية». ويعرض مهرجان سوسة «صحين تونسي» يوم «12 أوت»، ويُعرض العمل في ڤابس في «11 أوت». وعُرضت مسرحية «للاهم» في بنزرت يوم «31 جويلية»، وعُرضت مسرحية «ليلة عجب» في «29 جويلية». ويقدم مهرجان ڤابس «10 سنين عرس» يوم «9 أوت».
أما مسرحية «المايسترو» لبسام الحمراوي فنجدها في مهرجانات سوسة اليوم «7 أوت»، وعُرضت في حمام الأنف يوم «2 أوت».
والخلاصة أنه إذا كان لنا أن لا نغبط حق المهرجانات في الجانب الترفيهي في برامجها، فإنه في ذات الوقت لابد من مراعاة التوازن بين الأشكال الفنية المسرحية، بالاهتمام بالأعمال الجادة بدرجة أولى، حتى لا تبقى رهينة الفضاءات المغلقة، وبالتالي تكريس صفة «النخبوية» عليها. وهذه واحدة من الهنات التي يتخبط فيها المسرح التونسي اليوم. فهل من مجيب؟