إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ملامح ميزانية 2026 بمقاربة جديدة .. عدالة اجتماعية.. رؤية تنموية وإصلاحات هيكلية

 

من قصر قرطاج، انطلقت ملامح المرحلة القادمة لترسم قانون المالية الجديد، برؤية شاملة للتنمية في تونس. فاللقاء الذي جمع الأربعاء 30 جويلية الماضي رئيس الجمهورية قيس سعيّد برئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري ووزيري المالية مشكاة سلامة الخالدي والاقتصاد والتخطيط سمير عبد الحفيظ، بدت من خلاله معالم سنة 2026 أكثر وضوحا، سنة إصلاحات كبرى تشمل قطاعات حيوية، تندرج في إطار تجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية.

فقد أعاد اللقاء تأكيد توجّه الدولة نحو ترجمة اختيارات الشعب في السياسات العامة، وتكريس مقاربة جديدة للحوكمة تُراعي أولويات المواطنين، وتستند إلى نتائج اللقاءات الجهوية والمحلية التي سبقت صياغة المخططات التنموية.

لقاءٌ قرطاج لم يقتصر على الجوانب المالية، بل مثّل محطة سياسية لتحديد أولويات المرحلة القادمة في عدة مجالات حيوية، في مقدّمتها التنمية العادلة وتجسيم العدالة الاجتماعية في أكثر من مجال مفصلي.

وبالنظر إلى توقيته ومضمونه، فسياق الاستعداد لصياغة مشروع قانون المالية لسنة 2026، جاء ليؤسس لرؤية شاملة للمرحلة المقبلة، تقوم على مقاربات جديدة في التنمية والعدالة الاجتماعية وباقي المجالات الحيوية ترتكز على اختيارات الشعب وتطلعاته في مختلف الجهات.

ففي مستهلّ اللقاء، شدّد رئيس الجمهورية على أهمية أن يُبنى قانون المالية القادم على نتائج المشاورات الموسّعة مع المجالس المحلية والجهوية، مؤكدًا أن «الميزانية لا يمكن أن تكون مجرّد أرقام صمّاء، بل يجب أن تُترجم إرادة الشعب في الإصلاح والعدالة». هذا التوجه يكرّس مفهومًا جديدًا للميزانية كأداة سياسية واجتماعية تعكس خيارات المواطنين وتُترجم انتظاراتهم، لا كأداة تقنية أو ظرفية فقط..

كما أن هذا اللقاء لم يقتصر على الجانب المالي، بل شمل أيضا مناقشة منوال التنمية المستقبلي، حيث جدد رئيس الجمهورية تأكيده على أن «منوال التنمية الذي يُردّد أنه يتم البحث عنه، هو ماثل أمام الجميع، وقد خطّه الشعب التونسي بنفسه»، داعيًا المؤسسات إلى ترجمة هذه الرؤية الشعبية إلى برامج عملية تتجاوز منطق الشعارات، وترتكز على العمل الميداني، والإصغاء الحقيقي لاحتياجات الناس.

ويُمثّل هذا التوجّه في إعداد قانون المالية، انطلاقًا من مخرجات المجالس المحلية والجهوية، تحوّلًا نوعيًا في مسار الحوكمة في تونس، إذ لم يعد إعداد الميزانية مجرّد تمرين حسابي قائم على التوازنات، بل أصبح آلية لتجسيد إرادة الشعب ومطالبه في التنمية والعدالة الاجتماعية.

فرئيس الجمهورية قيس سعيد يؤسس لمرحلة جديدة من الحكم تقوم على الشفافية في رسم السياسات، وعلى الإنصاف في توزيع الموارد، وعلى إشراك فعلي للجهات والمواطنين في تحديد الأولويات بما يعكس توجها يكرس مبدأ العدالة الجهوية لا كشعار ظرفي، بل كمسار استراتيجي تُبنى عليه سياسات الدولة في السنوات القادمة، وتُترجم تدريجيًا عبر قوانين مالية وسياسات تنموية.

من جانب آخر شدّد رئيس الجمهورية خلال هذا اللقاء على ضرورة القطع مع الممارسات السابقة التي عطّلت الإصلاح، وقال بوضوح إن «تونس تعجّ بالخيرات والثروات ولن تكون لقمة سائغة للوبيات وأعوانهم»، مؤكدًا أن المعركة مستمرة من أجل تحرير البلاد من شبكات الفساد والاحتكار، وإعادة توجيه الموارد نحو ما ينفع الشعب ويضمن كرامته.

كما أكد أن المرحلة المقبلة تستدعي مسؤولين «يتحلّون بالتقشف ونظافة اليد، ويشعرون يوميًا بمعاناة المواطنين»، معبّرًا عن تمسكه بمحاسبة كل من أخلّ بمسؤولياته في الفترات السابقة، وفق ما يسمح به القانون، في كنف العدل والشفافية.

وتبدو إشارات رئيس الجمهورية المتكررة إلى أن «تونس تعج بالخيرات والثروات» تعد دعوة صريحة للتوجه نحو حسن إدارة الموارد بدل التعلل بندرتها. بما يعكس دعوة إلى القطع مع العقليات الريعية التي أهلكت البلاد لعقود، وترسيخ ثقافة جديدة في الحوكمة قوامها الاستقامة والكفاءة والإيمان بالدور الوطني للمسؤول، ليعكس اللقاء أيضا أن السيادة والتنمية من ثوابت المرحلة القادمة،  فحين قال رئيس الجمهورية إن «تونس تعجّ بالخيرات ولن تكون لقمة سائغة للوبيات»، كان بصدد تأكيد تمسّكه بمفهوم السيادة الاقتصادية كأرضية لا يمكن التنازل عنها.

فالسيادة هنا لا تعني فقط الاستقلال عن الخارج، بل أيضًا التحرّر من الداخل أي من شبكات الفساد ومن نُخب تسعى إلى السيطرة على القرار العمومي لحساب مصالحها الخاصة بما يؤشر إلى مرحلة قادمة لا تُبنى على تسويات ظرفية، بل على مشروع وطني قائم على التوزيع العادل للموارد، والتنمية المتوازنة، واستعادة الثقة في الدولة.

ليشكّل حديثه لاحقا عن أن «المسؤول لابد أن يكون مثالا في التعفف والتقشف، ويشعر بمعاناة المواطنين»، تحولا لافتا في تصور القيادة السياسية لوظيفة المسؤول العمومي حيث لم تعد المسؤولية  اليوم موقعا للامتيازات بل واجبا نضاليا وانخراطًا في معركة تحرير وطني قوامها الكرامة والعدالة، وهو طرح يبسٌط فلسفة جديدة للحكم تضع المواطن في دائرة الاهتمام وتسقط منطق الغنيمة والانتهازية لترسّخ تدريجيا نموذجا بديلا للمسؤول: وطني، ونزيه، وملتزم، ومنصت لمعاناة شعبه.

إعادة ترتيب الأولويات

يُستشفّ من لقاء قرطاج بأن ملامح المرحلة المقبلة بحلول سنة 2026 بصدد التشكّل، سواء على مستوى منوال التنمية، أو العدالة الاجتماعية، أو مفهوم الإدارة الجديدة أو تحديدا المسؤول الجديد بما من شأنه تحقيق الإقلاع المنشود في أكثر من مجال.

فلقاء رئيس الجمهورية برئيسة الحكومة ووزيري المالية والاقتصاد جاء ليجسّد إرادة سياسية واضحة في إعادة ترتيب أولويات الدولة وفق تصوّر جديد يضع الشعب في صدارة الفعل العمومي، ويؤسس لتحوّل عميق في فلسفة إدارة الشأن العام.

ففي خضمّ حديثه عن مشروع قانون المالية، لم يكتف رئيس الجمهورية بالإشارة إلى الجوانب التقنية أو العناوين الكبرى، بل شدّد على أن الميزانية القادمة يجب أن تُترجم الإرادة الشعبية في «الإصلاح والعدالة»،فهذه المقاربة تُعيد للعدالة الاجتماعية بعدها الملموس من دعم الفئات الهشة، إلى الاستثمار في الصحة العمومية والتعليم والخدمات الأساسية.

فالعدالة الاجتماعية لم تعد مجرّد شعار سياسي، بل أضحت محورا عمليا من محاور التخطيط العمومي، يفترض أن يُترجم إلى أرقام، وأهداف، ومؤشرات أداء ليندرج اللقاء ضمن مسار استشرافي يرسم ملامح الدولة الاجتماعية الجديدة التي تعكف تونس على بلورتها في أفق 2026، في ظل أولوية مركزية العدالة والتنمية المتوازنة.

وفي هذا السياق جدير بالذكر أن هذا المسار بدأ يعطي أكله في أكثر من مجال حيث بدأت منذ فترة عدة قطاعات تشهد إصلاحات وخطى ومساع حثيثة للنهوض بها بما يجعلها في تناغم تام مع طبيعة المرحلة، فالعدالة الاجتماعية لا تكتمل دون منظومة صحية عمومية قوية، وهو ما حرص رئيس الجمهورية على التأكيد عليه في أكثر من مناسبة.

فالمرحلة القادمة، وكما عكسها مضمون لقاء قرطاج ستشهد إصلاحات جوهرية تشمل أكثر من قطاع على غرار المجال الصحي الذي يشهد منذ مدة كبيرة مساع حثيثة للتحسين في البنية التحتية الصحية وهو ما تترجمه جملة الاقتناءات الجديدة من أجهزة  ومعدات طبية في عدد من المناطق الداخلية إلى جانب توفير الأدوية، ودعم المستشفيات، خصوصًا في الجهات المحرومة، في إطار مقاربة تعتبر الصحة حقًا دستوريًا.

وقد أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن لا إصلاح اجتماعي حقيقي دون إنقاذ المرفق العمومي الصحي، بما يعني إعادة هيكلة المنظومة على مستوى التسيير والتمويل، وضمان العدالة في التغطية والخدمات، وتمكين التونسيين من العلاج الكريم.

وفي خارطة الإصلاحات التي يرسمها رئيس الجمهورية لتحقيق العدالة الاجتماعية تحتل التربية موقعا مركزيًا، لا فقط باعتبارها رافعة للتنمية، بل كأداة سيادية لإعادة بناء المجتمع على أسس المواطنة والاستقلال الفكري.

وقد كان رئيس الجمهورية واضحا في أكثر من تصريح بأن إصلاح التعليم لا يمكن أن يكون ظرفيا أو جزئيا، بل يجب أن ينطلق من رؤية وطنية شاملة يُجسّدها المجلس الأعلى للتربية.

هذا المجلس، الذي أُنشئ ليكون إطارًا مستقلًا لصياغة سياسات التعليم، ليس هيكلا إداريا إضافيا بل فضاء استراتيجي لتخطيط مستقبل المدرسة التونسية، بعيدًا عن منطق التجاذبات والمصالح القطاعية حيث تقوم فلسفة المجلس على تحصين القرار التربوي من الضغوط الظرفية، وضمان اتساق السياسات التعليمية مع أهداف الدولة الوطنية في الإنصاف والجودة، وعلاوة على المجلس الأعلى للتربية فإن الجهود على قدم وساق من أجل تدعيم البنية التحتية للمدارس لاسيما في المناطق الداخلية.

ولا تنفصل العدالة الاجتماعية عن تحسين الخدمات الأساسية، وفي مقدّمتها النقل العمومي الذي يُعدّ شريانًا حيويًا لحياة ملايين التونسيين، وخاصة الفئات ذات الدخل المحدود. وقد بدأت الدولة فعليًا، وفق ما يتضح من توجهات في رسم معالم إصلاح حقيقي لهذا القطاع من خلال دعم أسطول الحافلات ووسائل النقل، وتوفير تجهيزات جديدة تحسّن جودة الخدمات وتستجيب لحاجيات المواطن اليومية.

وقد تم خلال الأشهر الأخيرة تعزيز أسطول النقل العمومي بعدد من الحافلات الجديدة ووسائل النقل الحديثة، ما يعكس توجّه الدولة نحو تحسين ظروف التنقل، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.

هذه الاقتناءات، التي تأتي في إطار رؤية متكاملة للنهوض بالبنية التحتية للنقل، تندرج ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى تحديث شبكات النقل وتطوير الخدمات، بما يلبّي تطلعات المواطنين ويخفف من معاناتهم اليومية.

وتشير هذه الخطوات إلى بداية مرحلة إصلاحية جدّية في هذا القطاع، تقوم على الاستثمار في المعدات، وتحسين جودة الخدمات، ورفع كفاءة المؤسسات المشغّلة.

صفحة جدية في إدارة الشأن العام

والواضح أن لقاء قرطاج، بكل ما حمله من مضامين ومواقف، يفتح صفحة جديدة في إدارة الشأن العام، ويؤسس لمرحلة 2026 كمرحلة البناء الفعلي لمؤسسات تضع مصلحة المواطن في قلب سياساتها، وفق رؤية تنموية شاملة، وعادلة، وسيادية، تُراكم ما تحقق وتصحح مسارات الاختلال التي عرفتها البلاد على مدى العقود الماضية.

ويتفق كثيرون على أن المرحلة الراهنة تشهد بلورة الإصلاحات في أكثر من قطاع على اعتبار مرحلة البناء والتشييد قد انطلقت، معتبرا أن التوجه الكبير للمرحلة يقوم على مبدأ العدالة الاجتماعية الذي انطلقت أولى مراحله أثناء تقسيم البلاد إلى أقاليم، باعتبار أن مرحلة البناء والتشييد تقوم أساسا على الإصلاح الذي يهم جوانب عديدة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي وهذه المرحلة تندرج في إطار المخطط التنموي والعدالة الاجتماعية لها خصوصيات وآليات تترجمها في أكثر من مجال من ذلك عدالة صحية وتربوية والتي انطلقت فيها عديد الإصلاحات.

منال حرزي

ملامح ميزانية 2026 بمقاربة جديدة ..   عدالة اجتماعية.. رؤية تنموية وإصلاحات هيكلية

 

من قصر قرطاج، انطلقت ملامح المرحلة القادمة لترسم قانون المالية الجديد، برؤية شاملة للتنمية في تونس. فاللقاء الذي جمع الأربعاء 30 جويلية الماضي رئيس الجمهورية قيس سعيّد برئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري ووزيري المالية مشكاة سلامة الخالدي والاقتصاد والتخطيط سمير عبد الحفيظ، بدت من خلاله معالم سنة 2026 أكثر وضوحا، سنة إصلاحات كبرى تشمل قطاعات حيوية، تندرج في إطار تجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية.

فقد أعاد اللقاء تأكيد توجّه الدولة نحو ترجمة اختيارات الشعب في السياسات العامة، وتكريس مقاربة جديدة للحوكمة تُراعي أولويات المواطنين، وتستند إلى نتائج اللقاءات الجهوية والمحلية التي سبقت صياغة المخططات التنموية.

لقاءٌ قرطاج لم يقتصر على الجوانب المالية، بل مثّل محطة سياسية لتحديد أولويات المرحلة القادمة في عدة مجالات حيوية، في مقدّمتها التنمية العادلة وتجسيم العدالة الاجتماعية في أكثر من مجال مفصلي.

وبالنظر إلى توقيته ومضمونه، فسياق الاستعداد لصياغة مشروع قانون المالية لسنة 2026، جاء ليؤسس لرؤية شاملة للمرحلة المقبلة، تقوم على مقاربات جديدة في التنمية والعدالة الاجتماعية وباقي المجالات الحيوية ترتكز على اختيارات الشعب وتطلعاته في مختلف الجهات.

ففي مستهلّ اللقاء، شدّد رئيس الجمهورية على أهمية أن يُبنى قانون المالية القادم على نتائج المشاورات الموسّعة مع المجالس المحلية والجهوية، مؤكدًا أن «الميزانية لا يمكن أن تكون مجرّد أرقام صمّاء، بل يجب أن تُترجم إرادة الشعب في الإصلاح والعدالة». هذا التوجه يكرّس مفهومًا جديدًا للميزانية كأداة سياسية واجتماعية تعكس خيارات المواطنين وتُترجم انتظاراتهم، لا كأداة تقنية أو ظرفية فقط..

كما أن هذا اللقاء لم يقتصر على الجانب المالي، بل شمل أيضا مناقشة منوال التنمية المستقبلي، حيث جدد رئيس الجمهورية تأكيده على أن «منوال التنمية الذي يُردّد أنه يتم البحث عنه، هو ماثل أمام الجميع، وقد خطّه الشعب التونسي بنفسه»، داعيًا المؤسسات إلى ترجمة هذه الرؤية الشعبية إلى برامج عملية تتجاوز منطق الشعارات، وترتكز على العمل الميداني، والإصغاء الحقيقي لاحتياجات الناس.

ويُمثّل هذا التوجّه في إعداد قانون المالية، انطلاقًا من مخرجات المجالس المحلية والجهوية، تحوّلًا نوعيًا في مسار الحوكمة في تونس، إذ لم يعد إعداد الميزانية مجرّد تمرين حسابي قائم على التوازنات، بل أصبح آلية لتجسيد إرادة الشعب ومطالبه في التنمية والعدالة الاجتماعية.

فرئيس الجمهورية قيس سعيد يؤسس لمرحلة جديدة من الحكم تقوم على الشفافية في رسم السياسات، وعلى الإنصاف في توزيع الموارد، وعلى إشراك فعلي للجهات والمواطنين في تحديد الأولويات بما يعكس توجها يكرس مبدأ العدالة الجهوية لا كشعار ظرفي، بل كمسار استراتيجي تُبنى عليه سياسات الدولة في السنوات القادمة، وتُترجم تدريجيًا عبر قوانين مالية وسياسات تنموية.

من جانب آخر شدّد رئيس الجمهورية خلال هذا اللقاء على ضرورة القطع مع الممارسات السابقة التي عطّلت الإصلاح، وقال بوضوح إن «تونس تعجّ بالخيرات والثروات ولن تكون لقمة سائغة للوبيات وأعوانهم»، مؤكدًا أن المعركة مستمرة من أجل تحرير البلاد من شبكات الفساد والاحتكار، وإعادة توجيه الموارد نحو ما ينفع الشعب ويضمن كرامته.

كما أكد أن المرحلة المقبلة تستدعي مسؤولين «يتحلّون بالتقشف ونظافة اليد، ويشعرون يوميًا بمعاناة المواطنين»، معبّرًا عن تمسكه بمحاسبة كل من أخلّ بمسؤولياته في الفترات السابقة، وفق ما يسمح به القانون، في كنف العدل والشفافية.

وتبدو إشارات رئيس الجمهورية المتكررة إلى أن «تونس تعج بالخيرات والثروات» تعد دعوة صريحة للتوجه نحو حسن إدارة الموارد بدل التعلل بندرتها. بما يعكس دعوة إلى القطع مع العقليات الريعية التي أهلكت البلاد لعقود، وترسيخ ثقافة جديدة في الحوكمة قوامها الاستقامة والكفاءة والإيمان بالدور الوطني للمسؤول، ليعكس اللقاء أيضا أن السيادة والتنمية من ثوابت المرحلة القادمة،  فحين قال رئيس الجمهورية إن «تونس تعجّ بالخيرات ولن تكون لقمة سائغة للوبيات»، كان بصدد تأكيد تمسّكه بمفهوم السيادة الاقتصادية كأرضية لا يمكن التنازل عنها.

فالسيادة هنا لا تعني فقط الاستقلال عن الخارج، بل أيضًا التحرّر من الداخل أي من شبكات الفساد ومن نُخب تسعى إلى السيطرة على القرار العمومي لحساب مصالحها الخاصة بما يؤشر إلى مرحلة قادمة لا تُبنى على تسويات ظرفية، بل على مشروع وطني قائم على التوزيع العادل للموارد، والتنمية المتوازنة، واستعادة الثقة في الدولة.

ليشكّل حديثه لاحقا عن أن «المسؤول لابد أن يكون مثالا في التعفف والتقشف، ويشعر بمعاناة المواطنين»، تحولا لافتا في تصور القيادة السياسية لوظيفة المسؤول العمومي حيث لم تعد المسؤولية  اليوم موقعا للامتيازات بل واجبا نضاليا وانخراطًا في معركة تحرير وطني قوامها الكرامة والعدالة، وهو طرح يبسٌط فلسفة جديدة للحكم تضع المواطن في دائرة الاهتمام وتسقط منطق الغنيمة والانتهازية لترسّخ تدريجيا نموذجا بديلا للمسؤول: وطني، ونزيه، وملتزم، ومنصت لمعاناة شعبه.

إعادة ترتيب الأولويات

يُستشفّ من لقاء قرطاج بأن ملامح المرحلة المقبلة بحلول سنة 2026 بصدد التشكّل، سواء على مستوى منوال التنمية، أو العدالة الاجتماعية، أو مفهوم الإدارة الجديدة أو تحديدا المسؤول الجديد بما من شأنه تحقيق الإقلاع المنشود في أكثر من مجال.

فلقاء رئيس الجمهورية برئيسة الحكومة ووزيري المالية والاقتصاد جاء ليجسّد إرادة سياسية واضحة في إعادة ترتيب أولويات الدولة وفق تصوّر جديد يضع الشعب في صدارة الفعل العمومي، ويؤسس لتحوّل عميق في فلسفة إدارة الشأن العام.

ففي خضمّ حديثه عن مشروع قانون المالية، لم يكتف رئيس الجمهورية بالإشارة إلى الجوانب التقنية أو العناوين الكبرى، بل شدّد على أن الميزانية القادمة يجب أن تُترجم الإرادة الشعبية في «الإصلاح والعدالة»،فهذه المقاربة تُعيد للعدالة الاجتماعية بعدها الملموس من دعم الفئات الهشة، إلى الاستثمار في الصحة العمومية والتعليم والخدمات الأساسية.

فالعدالة الاجتماعية لم تعد مجرّد شعار سياسي، بل أضحت محورا عمليا من محاور التخطيط العمومي، يفترض أن يُترجم إلى أرقام، وأهداف، ومؤشرات أداء ليندرج اللقاء ضمن مسار استشرافي يرسم ملامح الدولة الاجتماعية الجديدة التي تعكف تونس على بلورتها في أفق 2026، في ظل أولوية مركزية العدالة والتنمية المتوازنة.

وفي هذا السياق جدير بالذكر أن هذا المسار بدأ يعطي أكله في أكثر من مجال حيث بدأت منذ فترة عدة قطاعات تشهد إصلاحات وخطى ومساع حثيثة للنهوض بها بما يجعلها في تناغم تام مع طبيعة المرحلة، فالعدالة الاجتماعية لا تكتمل دون منظومة صحية عمومية قوية، وهو ما حرص رئيس الجمهورية على التأكيد عليه في أكثر من مناسبة.

فالمرحلة القادمة، وكما عكسها مضمون لقاء قرطاج ستشهد إصلاحات جوهرية تشمل أكثر من قطاع على غرار المجال الصحي الذي يشهد منذ مدة كبيرة مساع حثيثة للتحسين في البنية التحتية الصحية وهو ما تترجمه جملة الاقتناءات الجديدة من أجهزة  ومعدات طبية في عدد من المناطق الداخلية إلى جانب توفير الأدوية، ودعم المستشفيات، خصوصًا في الجهات المحرومة، في إطار مقاربة تعتبر الصحة حقًا دستوريًا.

وقد أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد في أكثر من مناسبة أن لا إصلاح اجتماعي حقيقي دون إنقاذ المرفق العمومي الصحي، بما يعني إعادة هيكلة المنظومة على مستوى التسيير والتمويل، وضمان العدالة في التغطية والخدمات، وتمكين التونسيين من العلاج الكريم.

وفي خارطة الإصلاحات التي يرسمها رئيس الجمهورية لتحقيق العدالة الاجتماعية تحتل التربية موقعا مركزيًا، لا فقط باعتبارها رافعة للتنمية، بل كأداة سيادية لإعادة بناء المجتمع على أسس المواطنة والاستقلال الفكري.

وقد كان رئيس الجمهورية واضحا في أكثر من تصريح بأن إصلاح التعليم لا يمكن أن يكون ظرفيا أو جزئيا، بل يجب أن ينطلق من رؤية وطنية شاملة يُجسّدها المجلس الأعلى للتربية.

هذا المجلس، الذي أُنشئ ليكون إطارًا مستقلًا لصياغة سياسات التعليم، ليس هيكلا إداريا إضافيا بل فضاء استراتيجي لتخطيط مستقبل المدرسة التونسية، بعيدًا عن منطق التجاذبات والمصالح القطاعية حيث تقوم فلسفة المجلس على تحصين القرار التربوي من الضغوط الظرفية، وضمان اتساق السياسات التعليمية مع أهداف الدولة الوطنية في الإنصاف والجودة، وعلاوة على المجلس الأعلى للتربية فإن الجهود على قدم وساق من أجل تدعيم البنية التحتية للمدارس لاسيما في المناطق الداخلية.

ولا تنفصل العدالة الاجتماعية عن تحسين الخدمات الأساسية، وفي مقدّمتها النقل العمومي الذي يُعدّ شريانًا حيويًا لحياة ملايين التونسيين، وخاصة الفئات ذات الدخل المحدود. وقد بدأت الدولة فعليًا، وفق ما يتضح من توجهات في رسم معالم إصلاح حقيقي لهذا القطاع من خلال دعم أسطول الحافلات ووسائل النقل، وتوفير تجهيزات جديدة تحسّن جودة الخدمات وتستجيب لحاجيات المواطن اليومية.

وقد تم خلال الأشهر الأخيرة تعزيز أسطول النقل العمومي بعدد من الحافلات الجديدة ووسائل النقل الحديثة، ما يعكس توجّه الدولة نحو تحسين ظروف التنقل، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.

هذه الاقتناءات، التي تأتي في إطار رؤية متكاملة للنهوض بالبنية التحتية للنقل، تندرج ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى تحديث شبكات النقل وتطوير الخدمات، بما يلبّي تطلعات المواطنين ويخفف من معاناتهم اليومية.

وتشير هذه الخطوات إلى بداية مرحلة إصلاحية جدّية في هذا القطاع، تقوم على الاستثمار في المعدات، وتحسين جودة الخدمات، ورفع كفاءة المؤسسات المشغّلة.

صفحة جدية في إدارة الشأن العام

والواضح أن لقاء قرطاج، بكل ما حمله من مضامين ومواقف، يفتح صفحة جديدة في إدارة الشأن العام، ويؤسس لمرحلة 2026 كمرحلة البناء الفعلي لمؤسسات تضع مصلحة المواطن في قلب سياساتها، وفق رؤية تنموية شاملة، وعادلة، وسيادية، تُراكم ما تحقق وتصحح مسارات الاختلال التي عرفتها البلاد على مدى العقود الماضية.

ويتفق كثيرون على أن المرحلة الراهنة تشهد بلورة الإصلاحات في أكثر من قطاع على اعتبار مرحلة البناء والتشييد قد انطلقت، معتبرا أن التوجه الكبير للمرحلة يقوم على مبدأ العدالة الاجتماعية الذي انطلقت أولى مراحله أثناء تقسيم البلاد إلى أقاليم، باعتبار أن مرحلة البناء والتشييد تقوم أساسا على الإصلاح الذي يهم جوانب عديدة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي والاجتماعي وهذه المرحلة تندرج في إطار المخطط التنموي والعدالة الاجتماعية لها خصوصيات وآليات تترجمها في أكثر من مجال من ذلك عدالة صحية وتربوية والتي انطلقت فيها عديد الإصلاحات.

منال حرزي