إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الرّوائي حسنين بن عمو لـ"الصباح": هكذا بدأت رحلتي مع الرواية التاريخية.. وشيوخ تونس العتيقة مصدر إلهامي الأول

 

  • الرواية التاريخية إشارة ضوء في مكان خالٍ لمن يريد أن يهتدي بشيء
  • أركض في ميدان الرواية التاريخية كما أنا.. لكن بطريقة تكاد تكون واقعية
  • الراحل نجيب عياد نصحني بتحويل فيلم «رياح التل العالي» إلى رواية، فكانت «عام الفزوع»
  • هذا سر اهتمامي بالفترة الحفصية ومصطفى بن إسماعيل
  • أعجبتني شخصية «ابن خلدون» الباحثة عن السلطة، فكانت روايتي «الغروب الخالد»

الحديث مع كاتب في حجم وقيمة حسنين بن عمّو له نكهة خاصة. فمعه ترحل في ثنايا مدينة تونس العتيقة وتفاصيلها وأسرارها، ومعه تستحضر أدق تفاصيل الأحداث التاريخية بكل صفاء وعمق، بعيدًا عن التهويمات والتاويلات. حسنين بن عمّو برز واختص بشكل لافت ومثير في رواياته الأولى، بموهبة في استبطان الأحداث التاريخية التونسية وإعادة سردها بأسلوب روائي شيّق، ممتع وغني بالأحداث والمواقف، وهذا بخيال إبداعي كبير دون تزييف أو تجاوز أو طمس للحقائق التاريخية الواقعية. كسب حسنين بن عمّو الرهان ليكون أحد رواد الرواية التاريخية في تونس والوطن العربي، وهو الذي بدأ مسيرته بالرسم ليغيّر الوجهة إلى التاريخ، فغاص فيه وأهدى المكتبة التونسية روائع إبداعية تاريخية امتزج فيها الواقع بالخيال بلغة سلسة، عميقة في مضامينها. في هذا اللقاء مع حسنين بن عمّو، الكثير من التفاصيل والعديد من الهواجس الإبداعية:

  • كيف كانت بداية العلاقة بالكتابة؟

- رحلتي مع الكتابة انطلقت منذ المرحلة الابتدائية، وتطورت في المرحلة الثانوية ضمن نشاط الشبيبة المدرسية، وقد كتبت في القصة والشعر ونلت عديد الجوائز. ولا أخفي سرًا إذا قلت إن لي علاقة حميمية بالمطالعة بشكل كبير.

  • لمن كنت تطالع؟

- لكل الأسماء في تلك الفترة. وأذكر في هذا المجال أن مدير المدرسة التي أنتمي إليها في تلك الحقبة كان له دور كبير، حيث مكنني من المكتبة المدرسية من خلال تكليفي بالإشراف على تسجيل أسماء التلاميذ الذين يستعيرون الكتب لمطالعتها، مقابل معلوم 5 مليمات تُخصّص لإثراء مخزونها من الكتب.

اغتنمت ذلك للاستغراق بشكل كبير في التهام الكتب، وقرأت لكامل الكيلاني ومؤلفات المكتبة الخضراء وسلسلة «أولادنا»، وفي المرحلة الثانوية طالعت مؤلفات جرجي زيدان. هذه القراءات كانت الحافز لي لكتابة أول قصة تم نشرها في مجلة الفكر تحت عنوان «افتككته من الله». وأذكر أنني عندما قدّمتها للراحل البشير بن سلامة، الذي كان رئيس تحرير المجلة، طلبت منه إرفاقها برسم، فأجابني أن ذلك يتعذر، فقلت له إن المجلة فيها رسم للراحل زبير التركي، فلماذا لا يُستجاب لطلبي؟

  • كنت مغرمًا بالرسم، فماذا كنت ترسم؟

- اتجهت إلى الرسم السريالي وكل ما له علاقة بالفن والمنمنمات. وكان لي أول معرض سنة 1972 بالمركز الثقافي الأمريكي، علمًا أنني من المتأثرين والمتيمين برسوم سلفادور دالي. ومثّل لي مهرجان محمد البشروش بدار شعبان الفهري أول مشاركة لي كرسام في تظاهرة وطنية، وأذكر أن الراحل محمود المسعدي كان من ضمن الحاضرين من خلال إشرافه على تدشين المعرض.

ولكن عدت إلى الرسم والمعارض سنة 2009، حيث أقمت برواق «بلال» بالعاصمة معرضًا تأليفيًا احتوى على 51 لوحة تلخّص تجربتي مع الفرشاة والألوان.

  • أي سر وراء هذا الشغف بالتاريخ والرواية التاريخية، وأنت الرسام؟

- في أواسط سبعينات القرن الماضي التقيت بالأستاذ أحمد القديدي، الذي كان قد تسلّم حديثًا مقاليد الإشراف على جريدة «العمل»، وعرض عليّ العودة إلى الكتابة من خلال تخصيص عمود يومي أتناول فيه القضايا الثقافية والإبداعية والاجتماعية وحتى السياسية. فكان «نافذة» اسم هذا العمود، وكان أول مقال لي بعنوان: «كيف تحوّلت الروايات العالمية إلى أفلام سينمائية؟».

وأذكر أنه في إطار مطالعاتي المكثفة شدّني مقال في مجلة فرنسية حول موسيقى الجاز وأصولها. وكان أول مقال لي في هذا الإطار بعنوان: «رقصة تأريخية»، تساءلت فيه عن سر غياب تاريخنا في رواياتنا وأفلامنا السينمائية.

اكتشفت بعد ذلك أن هناك وثائق عديدة وكبيرة لا بد من الغوص فيها، وتتمثل في شيوخ وعجائز مدينة تونس الذين يحملون تاريخ هذه البلاد. فقررت النزول إلى الميدان بحثًا عن وجوه تروي ذكرياتها وما تحتفظ به ذاكرتها من أحداث ومواقف. جُلت وتجولت بين أزقة المدينة العتيقة، وكانت لي أكثر من جلسة مع أكثر من شيخ وعجوز، وكنت أسجّل ملاحظاتي لتكون حصيلة تلك الجولات أول رواية لي «الكروسة»، التي تُوّجت بجائزة علي البلهوان سنة 1999 قبل اختفائها « أي الجائزة « ، ثم عادت بعد سنوات، وكنت على موعد معها من خلال روايتي «حجام سوق البلاط».

ولا أنسى في هذا المجال الراحل حمادي السنوسي، الصحفي بجريدة «العمل»، الذي نصحني بالتوجه إلى التاريخ والغوص في تفاصيله. فكان أن عدت إلى مؤلفات أحمد بن أبي الضياف، التي مكّنتني من الاطلاع على أحداث ومواقف يمكن تحويلها إلى روايات تاريخية غير جافة. كتبت عن «مراد بوبالة» و»يوسف صاحب الطابع»، واستوقفني باب العلوج  حين كنت أتجول في تونس، فتساءلت عن سر التسمية، وغصت في المراجع التي كانت شحيحة. عدت إلى الفترة الحفصية، التي كانت ثرية ومتنوعة في أحداثها وأسرارها، لتكون الحصيلة ثلاثية: «باب العلوج»، و»باب الفلة»، وقبلهما «رحمانة» باعتمادي على مكتبة «ابلا».

  • هناك شبه إجماع حول شغفك بالفترة الحفصية في كتاباتك الروائية التاريخية ، ما سرّ هذا الاهتمام؟

- صحيح، أنا أعشق الفترة الحفصية، وهي لا تزال مجهولة وغير معروفة بشكل كبير. والوحيد الذي تحدث عنها هو الروائي الراحل البشير خريف في روايته «برق الليل». قرأت واطلعت على وثائق أصلية تتعلق بتلك الفترة، زد على ذلك أن مدينة تونس، التي بُنيت في تلك الفترة، لا تزال معالمها واضحة، وكل نهج بها يروي قصة برمّتها.

  • من وجهة نظرك الى أي حد يمكن الوثوق بالرواية التاريخية كمرجع أساسي للمعلومة والحقيقة التاريخية؟

- الرواية التاريخية إشارة ضوء في مكان خالٍ لمن يريد أن يهتدي بشيء. هي تعتمد على المراجع والأحداث. أعمل في البداية على توثيق الأحداث، ثم أخلق شخصيات متخيلة تقدمها، ويبقى للكاتب  حرية خلق الشخصيات الثانوية وجعلها تدور في فلك تاريخي معين مع شخصيات تاريخية أخرى دون تعسف على التاريخ. أنا أردد دائمًا أن من سيقرأ لي هو الطالب والتلميذ والجامعي والمثقف والمؤرخ، ولذلك أبني من خلال رواياتي بيتًا من البلور، لا أريد أن يُرمى بالحجارة لأنني تعسّفت على التاريخ. أركض في ميدان الرواية كما أنا، لكن بطريقة تكاد تكون واقعية.

* كيف تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية روائية يُطوعها الروائي لخياله الإبداعي مع الالتزام بخطوط التاريخ العامة؟

- هذا الأمر أعتبره «صناعة». فعندما تضع شخصية في مكانها، فأنت تصنعها. لا تتعجب إذا قلت إنني أقرأ برج ميلاد الشخصية التاريخية لأمشي مع «ريحها». ولا أخفي سرا اذا قلت ان  في كل رواياتي التي اكتبها لا أدري ما سيحدث لاحقًا ، إلا على المستوى التاريخي .

  • هل لك شروط محددة تبحث عنها في شخصياتك التاريخية قبل كل عمل روائي تكتبه؟

- لا. أنا لا أضع شروطًا، فعندما كتبت رواية «حجام سوق البلاط» شدّتني شخصية مصطفى بن إسماعيل التي أعجبتني.

  • كيف ذلك وهو المعروف بفساده؟

- أعجبني مصطفى بن إسماعيل لأنه شخصية فريدة، مارقة. شخصية لا يمكن الاعتماد عليها حتى في كتابة مسلسل. وفي المقابل، لست من المعجبين بخير الدين باشا على اعتبار أنه شخص متعالٍ ومتغطرس، وكذلك ابن خلدون الذي لم أكن من المعجبين به، غير أني غيّرت موقفي منه وأصبحت من المعجبين به، وكان وراء تغيير هذا الموقف الأستاذ محمد العزيز بن عاشور، الذي دعاني عند تولّيه وزارة الثقافة إلى إعداد شيء ما عن ابن خلدون، فاستجبت، فكتبت عن المرأة في حياة ابن خلدون. وقد استهوتني شخصيته الباحثة عن السلطة، فكانت روايتي «الغروب الخالد».

  • هل هناك شخصيات تاريخية اليوم في حاجة إلى إعادة كتابة من منظور روائي؟

- عديدة هي هذه الشخصيات التي كانت كابوسًا في هلاك هذه البلاد، ومن أبرزها الفتنة الحسينية الباشية «علي باشا والحسين بن علي».

  • هذه الأحداث التي تسببت في انهيار الدولة الحفصية، هل ستكون مشروعًا روائيًا لك في المستقبل؟

- مشروع صعب، يتطلب جهدًا كبيرًا، وصحتي لم تعد تسمح لي بذلك.

  • يعاني المشهد البصري التونسي والعربي على حد سواء من ندرة الإنتاجات الدرامية التاريخية، أي سرّ وراء ذلك من وجهة نظرك ككاتب يحاور التاريخ من أوسع أبوابه؟

- كنت في فترة من الفترات بالوزارة الأولى ضمن اللجنة العليا لمراقبة الأفلام السينمائية، وكنت دومًا أتساءل: كيف لكاتب أن يُسلّم مشروعه الإبداعي إلى مخرج لتحويله إلى عمل سينمائي، مع الاحتفاظ بأدق تفاصيل هذا العمل، واحترام خصوصياته من حيث الكاستينغ والديكور، الذي يجب أن يكون صورة مصغّرة لروح الفترة التي يتحدث عنها العمل.

بصراحة، نحن لا نولي اهتمامًا بالكاستينغ والديكور والممثلين وكل التفاصيل. كتبت «رحمانة»، فهل يُعقل أن تُجسَّد أحداثها ممثلة مبتدئة؟

وأؤكد، وهذا أمر لا نقاش فيه، أنه لا بد من توفير مخرج على درجة عالية من الحرفية، ومنتج كبير، وممثلين أكفاء، لإنجاز عمل راقٍ واقعي، يكون نسخة مصغّرة للأحداث التي تضمنها العمل المكتوب. وأرى أن الأتراك، في إنتاجاتهم التلفزيونية، عملوا على تغطية عجزهم الفني بالتاريخ. وأنت عندما تشاهد فيلمًا أوروبيًا، تعيش كل تفاصيله وكأنك تعيش فيه ومعه.

  • اتجهت في فترة ما إلى كتابة مسيرة علي بن غذاهم في مسلسل للتلفزة التونسية، غير أنك غيّرت الوجهة وحوّلت هذا العمل إلى رواية «عام الفزوع». هل تكشف لنا حيثيات هذا التغيير في الوجهة؟

- كانت نية الراحل شوقي الماجري، وبالاتفاق معه، تحويل رواية «باب العلوج» إلى فيلم، غير أن الفكرة لم تنجح. فتجدّد اللقاء في 2012 معه، وبحضور المنتج الراحل نجيب عياد، لإنجاز فيلم «رياح التل العالي»، الذي يتناول مسيرة علي بن غذاهم. لكن عديد العراقيل كانت وراء الاستغناء عن هذا، منها أن شوقي الماجري لم يكن مستقرًا بشكل كبير في تونس، بحكم تنقّلاته الكثيرة بين القاهرة ودمشق وتونس، ثم النقص الكبير في التمويلات، لأنه ليس من السهل إنجاز عمل تاريخي ما لم تكن التمويلات ضخمة.

وكان أن نصحني الراحل نجيب عياد بتحويل هذا العمل إلى رواية، فكانت «عام الفزوع»، التي كتبتها في الفترة من 2012 إلى 2017، وهي آخر رواية لي.

  • هل ما زلت متحمّسًا اليوم للكتابة للتلفزة؟

- لا. هذا أمر لا يشغلني ولا أهتم به.

حاوره: محسن بن أحمد

الرّوائي حسنين بن عمو لـ"الصباح":  هكذا بدأت رحلتي مع الرواية التاريخية.. وشيوخ تونس العتيقة مصدر إلهامي الأول

 

  • الرواية التاريخية إشارة ضوء في مكان خالٍ لمن يريد أن يهتدي بشيء
  • أركض في ميدان الرواية التاريخية كما أنا.. لكن بطريقة تكاد تكون واقعية
  • الراحل نجيب عياد نصحني بتحويل فيلم «رياح التل العالي» إلى رواية، فكانت «عام الفزوع»
  • هذا سر اهتمامي بالفترة الحفصية ومصطفى بن إسماعيل
  • أعجبتني شخصية «ابن خلدون» الباحثة عن السلطة، فكانت روايتي «الغروب الخالد»

الحديث مع كاتب في حجم وقيمة حسنين بن عمّو له نكهة خاصة. فمعه ترحل في ثنايا مدينة تونس العتيقة وتفاصيلها وأسرارها، ومعه تستحضر أدق تفاصيل الأحداث التاريخية بكل صفاء وعمق، بعيدًا عن التهويمات والتاويلات. حسنين بن عمّو برز واختص بشكل لافت ومثير في رواياته الأولى، بموهبة في استبطان الأحداث التاريخية التونسية وإعادة سردها بأسلوب روائي شيّق، ممتع وغني بالأحداث والمواقف، وهذا بخيال إبداعي كبير دون تزييف أو تجاوز أو طمس للحقائق التاريخية الواقعية. كسب حسنين بن عمّو الرهان ليكون أحد رواد الرواية التاريخية في تونس والوطن العربي، وهو الذي بدأ مسيرته بالرسم ليغيّر الوجهة إلى التاريخ، فغاص فيه وأهدى المكتبة التونسية روائع إبداعية تاريخية امتزج فيها الواقع بالخيال بلغة سلسة، عميقة في مضامينها. في هذا اللقاء مع حسنين بن عمّو، الكثير من التفاصيل والعديد من الهواجس الإبداعية:

  • كيف كانت بداية العلاقة بالكتابة؟

- رحلتي مع الكتابة انطلقت منذ المرحلة الابتدائية، وتطورت في المرحلة الثانوية ضمن نشاط الشبيبة المدرسية، وقد كتبت في القصة والشعر ونلت عديد الجوائز. ولا أخفي سرًا إذا قلت إن لي علاقة حميمية بالمطالعة بشكل كبير.

  • لمن كنت تطالع؟

- لكل الأسماء في تلك الفترة. وأذكر في هذا المجال أن مدير المدرسة التي أنتمي إليها في تلك الحقبة كان له دور كبير، حيث مكنني من المكتبة المدرسية من خلال تكليفي بالإشراف على تسجيل أسماء التلاميذ الذين يستعيرون الكتب لمطالعتها، مقابل معلوم 5 مليمات تُخصّص لإثراء مخزونها من الكتب.

اغتنمت ذلك للاستغراق بشكل كبير في التهام الكتب، وقرأت لكامل الكيلاني ومؤلفات المكتبة الخضراء وسلسلة «أولادنا»، وفي المرحلة الثانوية طالعت مؤلفات جرجي زيدان. هذه القراءات كانت الحافز لي لكتابة أول قصة تم نشرها في مجلة الفكر تحت عنوان «افتككته من الله». وأذكر أنني عندما قدّمتها للراحل البشير بن سلامة، الذي كان رئيس تحرير المجلة، طلبت منه إرفاقها برسم، فأجابني أن ذلك يتعذر، فقلت له إن المجلة فيها رسم للراحل زبير التركي، فلماذا لا يُستجاب لطلبي؟

  • كنت مغرمًا بالرسم، فماذا كنت ترسم؟

- اتجهت إلى الرسم السريالي وكل ما له علاقة بالفن والمنمنمات. وكان لي أول معرض سنة 1972 بالمركز الثقافي الأمريكي، علمًا أنني من المتأثرين والمتيمين برسوم سلفادور دالي. ومثّل لي مهرجان محمد البشروش بدار شعبان الفهري أول مشاركة لي كرسام في تظاهرة وطنية، وأذكر أن الراحل محمود المسعدي كان من ضمن الحاضرين من خلال إشرافه على تدشين المعرض.

ولكن عدت إلى الرسم والمعارض سنة 2009، حيث أقمت برواق «بلال» بالعاصمة معرضًا تأليفيًا احتوى على 51 لوحة تلخّص تجربتي مع الفرشاة والألوان.

  • أي سر وراء هذا الشغف بالتاريخ والرواية التاريخية، وأنت الرسام؟

- في أواسط سبعينات القرن الماضي التقيت بالأستاذ أحمد القديدي، الذي كان قد تسلّم حديثًا مقاليد الإشراف على جريدة «العمل»، وعرض عليّ العودة إلى الكتابة من خلال تخصيص عمود يومي أتناول فيه القضايا الثقافية والإبداعية والاجتماعية وحتى السياسية. فكان «نافذة» اسم هذا العمود، وكان أول مقال لي بعنوان: «كيف تحوّلت الروايات العالمية إلى أفلام سينمائية؟».

وأذكر أنه في إطار مطالعاتي المكثفة شدّني مقال في مجلة فرنسية حول موسيقى الجاز وأصولها. وكان أول مقال لي في هذا الإطار بعنوان: «رقصة تأريخية»، تساءلت فيه عن سر غياب تاريخنا في رواياتنا وأفلامنا السينمائية.

اكتشفت بعد ذلك أن هناك وثائق عديدة وكبيرة لا بد من الغوص فيها، وتتمثل في شيوخ وعجائز مدينة تونس الذين يحملون تاريخ هذه البلاد. فقررت النزول إلى الميدان بحثًا عن وجوه تروي ذكرياتها وما تحتفظ به ذاكرتها من أحداث ومواقف. جُلت وتجولت بين أزقة المدينة العتيقة، وكانت لي أكثر من جلسة مع أكثر من شيخ وعجوز، وكنت أسجّل ملاحظاتي لتكون حصيلة تلك الجولات أول رواية لي «الكروسة»، التي تُوّجت بجائزة علي البلهوان سنة 1999 قبل اختفائها « أي الجائزة « ، ثم عادت بعد سنوات، وكنت على موعد معها من خلال روايتي «حجام سوق البلاط».

ولا أنسى في هذا المجال الراحل حمادي السنوسي، الصحفي بجريدة «العمل»، الذي نصحني بالتوجه إلى التاريخ والغوص في تفاصيله. فكان أن عدت إلى مؤلفات أحمد بن أبي الضياف، التي مكّنتني من الاطلاع على أحداث ومواقف يمكن تحويلها إلى روايات تاريخية غير جافة. كتبت عن «مراد بوبالة» و»يوسف صاحب الطابع»، واستوقفني باب العلوج  حين كنت أتجول في تونس، فتساءلت عن سر التسمية، وغصت في المراجع التي كانت شحيحة. عدت إلى الفترة الحفصية، التي كانت ثرية ومتنوعة في أحداثها وأسرارها، لتكون الحصيلة ثلاثية: «باب العلوج»، و»باب الفلة»، وقبلهما «رحمانة» باعتمادي على مكتبة «ابلا».

  • هناك شبه إجماع حول شغفك بالفترة الحفصية في كتاباتك الروائية التاريخية ، ما سرّ هذا الاهتمام؟

- صحيح، أنا أعشق الفترة الحفصية، وهي لا تزال مجهولة وغير معروفة بشكل كبير. والوحيد الذي تحدث عنها هو الروائي الراحل البشير خريف في روايته «برق الليل». قرأت واطلعت على وثائق أصلية تتعلق بتلك الفترة، زد على ذلك أن مدينة تونس، التي بُنيت في تلك الفترة، لا تزال معالمها واضحة، وكل نهج بها يروي قصة برمّتها.

  • من وجهة نظرك الى أي حد يمكن الوثوق بالرواية التاريخية كمرجع أساسي للمعلومة والحقيقة التاريخية؟

- الرواية التاريخية إشارة ضوء في مكان خالٍ لمن يريد أن يهتدي بشيء. هي تعتمد على المراجع والأحداث. أعمل في البداية على توثيق الأحداث، ثم أخلق شخصيات متخيلة تقدمها، ويبقى للكاتب  حرية خلق الشخصيات الثانوية وجعلها تدور في فلك تاريخي معين مع شخصيات تاريخية أخرى دون تعسف على التاريخ. أنا أردد دائمًا أن من سيقرأ لي هو الطالب والتلميذ والجامعي والمثقف والمؤرخ، ولذلك أبني من خلال رواياتي بيتًا من البلور، لا أريد أن يُرمى بالحجارة لأنني تعسّفت على التاريخ. أركض في ميدان الرواية كما أنا، لكن بطريقة تكاد تكون واقعية.

* كيف تتحول الشخصية التاريخية إلى شخصية روائية يُطوعها الروائي لخياله الإبداعي مع الالتزام بخطوط التاريخ العامة؟

- هذا الأمر أعتبره «صناعة». فعندما تضع شخصية في مكانها، فأنت تصنعها. لا تتعجب إذا قلت إنني أقرأ برج ميلاد الشخصية التاريخية لأمشي مع «ريحها». ولا أخفي سرا اذا قلت ان  في كل رواياتي التي اكتبها لا أدري ما سيحدث لاحقًا ، إلا على المستوى التاريخي .

  • هل لك شروط محددة تبحث عنها في شخصياتك التاريخية قبل كل عمل روائي تكتبه؟

- لا. أنا لا أضع شروطًا، فعندما كتبت رواية «حجام سوق البلاط» شدّتني شخصية مصطفى بن إسماعيل التي أعجبتني.

  • كيف ذلك وهو المعروف بفساده؟

- أعجبني مصطفى بن إسماعيل لأنه شخصية فريدة، مارقة. شخصية لا يمكن الاعتماد عليها حتى في كتابة مسلسل. وفي المقابل، لست من المعجبين بخير الدين باشا على اعتبار أنه شخص متعالٍ ومتغطرس، وكذلك ابن خلدون الذي لم أكن من المعجبين به، غير أني غيّرت موقفي منه وأصبحت من المعجبين به، وكان وراء تغيير هذا الموقف الأستاذ محمد العزيز بن عاشور، الذي دعاني عند تولّيه وزارة الثقافة إلى إعداد شيء ما عن ابن خلدون، فاستجبت، فكتبت عن المرأة في حياة ابن خلدون. وقد استهوتني شخصيته الباحثة عن السلطة، فكانت روايتي «الغروب الخالد».

  • هل هناك شخصيات تاريخية اليوم في حاجة إلى إعادة كتابة من منظور روائي؟

- عديدة هي هذه الشخصيات التي كانت كابوسًا في هلاك هذه البلاد، ومن أبرزها الفتنة الحسينية الباشية «علي باشا والحسين بن علي».

  • هذه الأحداث التي تسببت في انهيار الدولة الحفصية، هل ستكون مشروعًا روائيًا لك في المستقبل؟

- مشروع صعب، يتطلب جهدًا كبيرًا، وصحتي لم تعد تسمح لي بذلك.

  • يعاني المشهد البصري التونسي والعربي على حد سواء من ندرة الإنتاجات الدرامية التاريخية، أي سرّ وراء ذلك من وجهة نظرك ككاتب يحاور التاريخ من أوسع أبوابه؟

- كنت في فترة من الفترات بالوزارة الأولى ضمن اللجنة العليا لمراقبة الأفلام السينمائية، وكنت دومًا أتساءل: كيف لكاتب أن يُسلّم مشروعه الإبداعي إلى مخرج لتحويله إلى عمل سينمائي، مع الاحتفاظ بأدق تفاصيل هذا العمل، واحترام خصوصياته من حيث الكاستينغ والديكور، الذي يجب أن يكون صورة مصغّرة لروح الفترة التي يتحدث عنها العمل.

بصراحة، نحن لا نولي اهتمامًا بالكاستينغ والديكور والممثلين وكل التفاصيل. كتبت «رحمانة»، فهل يُعقل أن تُجسَّد أحداثها ممثلة مبتدئة؟

وأؤكد، وهذا أمر لا نقاش فيه، أنه لا بد من توفير مخرج على درجة عالية من الحرفية، ومنتج كبير، وممثلين أكفاء، لإنجاز عمل راقٍ واقعي، يكون نسخة مصغّرة للأحداث التي تضمنها العمل المكتوب. وأرى أن الأتراك، في إنتاجاتهم التلفزيونية، عملوا على تغطية عجزهم الفني بالتاريخ. وأنت عندما تشاهد فيلمًا أوروبيًا، تعيش كل تفاصيله وكأنك تعيش فيه ومعه.

  • اتجهت في فترة ما إلى كتابة مسيرة علي بن غذاهم في مسلسل للتلفزة التونسية، غير أنك غيّرت الوجهة وحوّلت هذا العمل إلى رواية «عام الفزوع». هل تكشف لنا حيثيات هذا التغيير في الوجهة؟

- كانت نية الراحل شوقي الماجري، وبالاتفاق معه، تحويل رواية «باب العلوج» إلى فيلم، غير أن الفكرة لم تنجح. فتجدّد اللقاء في 2012 معه، وبحضور المنتج الراحل نجيب عياد، لإنجاز فيلم «رياح التل العالي»، الذي يتناول مسيرة علي بن غذاهم. لكن عديد العراقيل كانت وراء الاستغناء عن هذا، منها أن شوقي الماجري لم يكن مستقرًا بشكل كبير في تونس، بحكم تنقّلاته الكثيرة بين القاهرة ودمشق وتونس، ثم النقص الكبير في التمويلات، لأنه ليس من السهل إنجاز عمل تاريخي ما لم تكن التمويلات ضخمة.

وكان أن نصحني الراحل نجيب عياد بتحويل هذا العمل إلى رواية، فكانت «عام الفزوع»، التي كتبتها في الفترة من 2012 إلى 2017، وهي آخر رواية لي.

  • هل ما زلت متحمّسًا اليوم للكتابة للتلفزة؟

- لا. هذا أمر لا يشغلني ولا أهتم به.

حاوره: محسن بن أحمد