الروائي علي الخميلي لـ"الصباح": الرواية التونسية فرضت حضورها المتوهج في المشهد الأدبي العربي
مقالات الصباح
جمع في مسيرته بين الصحافة المكتوبة والسرد الروائي، الذي اختاره متنفسًا للغوص في هواجس ومشاغل الواقع التونسي بكل إرهاصاته وتناقضاته وأحلامه وطموحاته وانكساراته. وجد علي الخميلي في موطنه «المتلوي»، قلعة الفسفاط الشامخة، القادح الأول لكتابة إبداعية سردية، سلسلة في لغتها، عميقة في أهدافها ومقاصدها الإنسانية... كتابة إبداعية جعلت من علي الخميلي أحد أساطين التأريخ للحوض المنجمي، وما عرفه وعاشه من أحداث ووقائع وتحديات، مستحضرًا في ذاته أكثر من ذكرى وموقف وحدث، ومعه كان هذا الحوار:
* أي جديد إبداعي يمكن أن تكشفه في بداية هذا اللقاء؟
- جديدي الإبداعي، وبعد إصدار رواية «ألم على شفاه تبتسم»، أنتظر خلال هذه الصائفة أو ما قبلها بقليل صدور رواية «سوق الطرابلسية» عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع، كما أنتظر صدور رواية «جنون الأقنعة» عن دار الثقافية للنشر.
ومن جهة أخرى، فإن رفوف مكتبتي مثقلة بعديد الروايات التي تنتظر النشر، على غرار: «صراع الصمت»، و»الثلج الأسود»، و»هذيان في البرلمان»، و«مملكة الشتائم والغنائم»، و»أرى الفخاخ تبتسم»، و»وجع الزمن»، و»قصور الأفاعي» وغيرها.
فضلًا عن المجموعات القصصية مثل: «من ثقب ورقة التوت»، و»للبؤساء والكادحين»، و»عبر مقاهي المدينة»، والتي سينشر بعضها في دور نشر عربية.
* ماذا عن أولوياتك في أي عمل إبداعي تصوغه؟
- ككل كاتب تأرجح لسنوات بين أكثر من نمط إبداعي، شعرًا وقصة ورواية، قبل أن يختار النمط الذي يعتقد أنه يناسبه ويتناغم مع مبادئه وأفكاره ومخزونه الفكري، بما يتماشى وخلفياته الثقافية والسياسية والاجتماعية، اخترت نمط الرواية التي أعتبرها من أولوياتي، وذلك لما للرواية - كفن أدبي نثري طويل يعتمد في أساسه على الواقع المتوهج بالخيال - من وصف لأحداث وتجارب إنسانية فردية وجماعية متسمة بالتشويق والإثارة، تعكسه مجموعة من الشخصيات المعتمدة في الرواية.
وربما لهذا، ولغيره، اخترت الرواية وتمسكت بها، دون أن أنكر أن المسيرة الصحفية ساعدتني كثيرًا على الاقتراب من المجتمع والواقع المعيش بشكل أعمق، لأكون روائيًا منتهجًا للمنحى الواقعي.
* ماذا قدمت لك «المتلوي» ككاتب؟
- موطني «المتلوي» هو، فضلًا عن أنه منجم فسفاط يجمع الآلاف من الكادحين من مختلف جهات البلاد وخارجها، علاوة على اختلاف الشرائح الاجتماعية والفكرية، ما أهله ليكون قلعة عمالية كبرى متوهجة بالنضال السياسي والنقابي، فهو موطن الفكر والأدب والإبداع بشكل عام.
ومنه تدفق الأدباء المبدعون: أحمد المختار الهادي، محمد عمار شعابنية، محمد الطاهر سودة (طيب الله ثراهم)، الدكتور محمد الخالدي، سالم الشعباني، الدكتور عبد المجيد الجوادي، الدكتور سمير السحيمي، الدكتور صالح بن رمضان، الدكتور محمد المنصوري، الدكتور محمد الحبيب مبروكي، شكري مسعي، المولدي الشعباني، يسير السحيمي، سميرة السحيمي، محمد الصغير القاسمي، محمد العائش القوتي، جمال الخليفي، وغيرهم كثيرون ممن أكدوا جدارتهم في الحقل الأدبي الوطني والعربي.
ولو ذكرتهم كلهم لتطلب الأمر صفحات عديدة. وبالمناسبة، فإنهم كلهم طيبون، ومثل الزهور وأنواع العطور، مهما اختلفت روائحها.
وبالتالي، فإن «المتلوي»، التي تعج بالمبدعين بفضل واقعها المنجمي المتنوع عبر التاريخ، والمتسم بالخضخضات والانتفاضات والنضالات والعلاقات الإنسانية والثقافات والتقاليد والعادات، المحلية منها والوافدة، لا شك أن لها تأثيراتها الكبيرة والعميقة على العقل والوجدان لكل من تنفس هواءها، وخاصة لمرهفي المشاعر من الذين اكتووا بنار الوهج الإبداعي وتورطوا بحبها وتفاعلوا مع محيطها.
وعشقوا الوطن وتناغموا مع الإنسان أينما كان، وذلك بداية من العائلة وفسيفساء التنوع، وأيضًا من المؤسسة الفريدة العملاقة وهي شركة الفسفاط، التي لها انعكاساتها على كل الواجهات، الإيجابية منها والسلبية، والتي كان قد اشتغل فيها والدي عاملاً منجميًا، حوالي أربعين عامًا.
كل هذا أفرز ما يجذر التأثر العميق بالموطن، الذي منحني الثبات في المواقف، والالتزام بقضايا البؤساء والكادحين، والشموخ، والوقوف عند الشدائد، والعمق في التجربة، وحسن التناغم مع الآخر، وتقبل مختلف الآراء، وعشق الوطن.
وبالتالي فإن «المتلوي» قدمت لي الحياة بمعناها الحقيقي.
* كيف تقرأ المشهد الروائي التونسي اليوم؟
- رغم أن الجواب عن هذا السؤال يتطلب المجلدات لإبراز كل الحقائق، فإنني أختزل القول مشيرًا إلى أن المشهد الروائي التونسي عرف تطورًا لافتًا على مستوى الكم والنوعية، وفرض فيه بعض الروائيين التونسيين، وعن جدارة وبكل تألق، حضوره العربي، وذلك لما يتميز به هذا البعض من خصوصيات سردية وفنية وجمالية ومضامين إنسانية عميقة وجدية أدركت العالمية ونالت الجوائز الكبرى، وخاصة بعد تجاوزهم للأشكال السائدة ونبذ أكثرهم للقواعد والسنن التي كانت تتحكم في الرواية العربية.
* لو نغير السؤال وأقول لك: كيف ترى دور الرواية التونسية في المشهد الأدبي العربي؟
- الرواية التونسية التي تعتبر حديثة العهد قياسًا مع عراقتها في المشرق العربي وأوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرها، حيث لم يمرّ على ظهورها أكثر من قرن وعشرين سنة تقريبًا فقط، باعتبار أن أول رواية تونسية القلب والقالب، وذلك دون ترجمة ولا اقتباس، هي رواية «الهيفاء وسراج الليل» لصاحبها الأديب صالح السويسي القيرواني، والتي رأت النور في الأعوام الأولى لبداية القرن العشرين، وتحديدًا في سنة (1906). يمكن التأكيد على أنها تلعب دورًا مهمًا في المشهد الأدبي العربي الحديث، في النوعية والكمية، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث شهدت الرواية التونسية - منذ تسعينيات القرن الماضي - تطورًا لافتًا، قبل بعث بيت الرواية في تونس الذي يلعب دورًا كبيرًا في تعميق التجربة وصب الدماء الجديدة في الواقع الأدبي، وهو بالمناسبة أول بيت للرواية يرى النور في العالم العربي. ومن هنا يلاحظ المتابع للمشهد الثقافي العربي انتعاشة وطفرة في العدد والكيف في الرواية وارتفاعًا في عدد الجوائز العربية، خاصة أن الساحة الثقافية في تونس تعيش زمن الاتجاه نحو السرد، ولذلك استطاعت الرواية التونسية، كفن يعبر عن واقع الذات والمجتمع والكون وكجنس متفرد بذاته وكمدونة للحياة المعاصرة، أن تفرض نسقها خلال السّنوات الأخيرة في المشهد الأدبي والثقافي العربي، ما أفرز بروز الروائي إبراهيم الدرغوثي الذي مارس الكتابة الروائية التحديثية ونال الجوائز العربية وترجمت أعماله إلى لغات عدة، فضلاً عن إجماع النقاد حول نجاح تجربته، ومثله شكري المبخوت ومحمد الحبيب السالمي وحسونة المصباحي ومحمد عيسى المؤدب وماهر عبد الرحمان ومسعودة بوبكر وكذلك عباس سليمان الذي تتسم أعماله الروائية بالميل إلى معالجة قضايا العولمة وانعكاسها على الواقع العربي، وكذلك مصطفى الكيلاني وحافظ محفوظ وعبد الجبار العش وفضيلة الشابي ومحمد علي اليوسفي وعروسية النالوتي وجلول عزونة ومحمد آيت ميهوب وفاطمة الشريف وكمال الزعباني وكمال الرياحي والشاذلي القرواشي والأسعد بن حسين وغيرهم من الذين آمنوا بأن الرواية طبيعة فنية تفسح المجال للطّرح بآليات تنهل من كلّ الفنون، وأدركوا أن الإنتاج الروائي وبقدر ما يشهد طفرة، فإن الظاهرة تعتبر صحية وتتيح عملية الغربلة بين الغثّ والسّمين، وذلك بعد أن برزت تونس في سنوات سابقة بروايات محمود المسعدي وبشير خريف ومحمد العروسي المطوي ومحمد الصالح الجابري ومحمد رشاد الحمزاوي ومصطفى الفارسي وعبد القادر بلحاج نصر ويحيى محمد ومحمد المختار جنات وعمر بن سالم وعز الدين المدني وسمير العيادي ومحمود التونسي ورضوان الكوني وأحمد ممّو وغيرهم.
*أصدرت سلسلة من الروايات مثل «قنديل الثنايا» و«عفراء تغسل السماء» و»ألم على شفاه تبتسم»، فما هي القضايا المحورية التي تسعى لمعالجتها من خلال هذه الأعمال؟
- ككل كاتب، أو ممارس لأي نمط آخر من الإبداع وملتصق بواقعه، ففي كتاباتي أؤمن بأن الكتابة الصادقة في نظري هي انحياز للقيم الإنسانية، وبالتالي فهي نوع من الاشتباك مع الواقع والتمرد عليه، فضلاً عن التفاعل مع التاريخ والجغرافيا بما يحملانه من مظالم وصراعات وحروب ومآس، والإدراك أيضًا مقابل ذلك بأن الكاتب يقترف فعل الكتابة ليكون محرضًا بقلبه وعقله وقلمه على التمسك بهذا الانحياز للمنحى الواقعي. وبالتالي فإن القضايا المحورية التي أسعى لمعالجتها من خلال تلك الأعمال وغيرها، تتعلق بالقيم الإنسانية.
* ماذا أضافت لك مسيرتك الإعلامية كروائي؟
- أعتقد أن الصحافة بمفهومها العميق هي أدب يومي ينخرط فيه الكاتب بواقعه أشد ارتباطًا، ويلتصق فيه بالقضايا الإنسانية المتنوعة والمختلفة، كما يتأثر بإرهاصات مظالم الواقع وتأثيراتها على المجتمع، وبالتالي فإن المسيرة الإعلامية الطويلة التي توزعت بين المراسل الجهوي والمحرر وفي أكثر من قسم واختصاص، ورئيس التحرير، تقدم الكثير للكاتب، وتدفعه إلى تحويل ما كان يمكن أن يكون مقالًا إلى ما هو أكبر وأعمق، وهو النص الروائي وما يتضمنه من سرد، وما يعطره من موروث إنساني وحضاري، يجعل الرواية جزءًا مهمًا من التأريخ للواقع المعيش وذلك بأسلوب آخر يختلف عن الأسلوب الصحفي. ولنا في تجارب كبار الصحافيين العرب وفي العالم الإبداع الروائي الذي ما زال على جبين الدهر وعالق بالأذهان ومؤثر في الأوساط الأدبية جمعاء، ما يؤكد ذلك. كما أعتقد أن علاقة الصحافة بالأدب هي علاقة تفاعل إيجابي، أخذ وعطاء، وكلنا ندرك أن كثيرًا من الكتاب والروائيين كانت لهم علاقة بالسلطة الرابعة، ومن أشهرهم في تونس مثلًا جماعة «تحت السور»، من علي الدوعاجي والبشير خريف ومحمود المسعدي والهادي العبيدي إلى غيرهم، ومن العرب أيضًا نجد عميد الأدب العربي طه حسين وإحسان عبد القدوس وجرجي زيدان وأمين معلوف وأحمد حسن الزيات وإبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد وعبد الكريم الغلاب ويوسف السباعي وغسان كنفاني ومحمد حسنين هيكل وغيرهم أيضًا، كما نجد في العالم صاحب رواية «مائة عام من الهجرة» الشهير غارسيا ماركيز الذي يقول «علمتني الصحافة إضفاء الأصالة والصحة على قصصي»، وهو ما يعني أن الصحافة تضيف للمبدع الكثير في متابعته الدقيقة والقريبة للشأن العام وارتباطه بالشعب وتعامل مع القضايا المجتمعية، وبالتالي فإنه من الطبيعي جدًا أن تنعكس التجربة الصحفية على الإنتاج الأدبي وتؤثر فيه إيجابًا، وهو تكامل أعتقد أنه مجد وفاعل.
* كيف هي علاقتك اليوم باتحاد الكتاب التونسيين؟
- في كل مرة أتأهب فيها للانخراط في اتحاد الكتاب، أتراجع بسبب موقف ما يتخذه هذا الاتحاد، وأرى أنه لا يتماشى مع مبادئي. كما أن هذه المنظمة لم تسلم من التكتلات التي تشتت الكتاب ولا تجمعهم، فضلاً عن أنني أراها لم تتخلص بعد من عقد الأيديولوجيات الضيقة والصراعات المجانية بين الأكاديميين وغيرهم والمحاصصات والمحاباة، دون الاهتمام بالإبداع ولا بالمبدعين. وهذا لا يشجع على الانخراط ولا يضيف للمبدع، كاتبًا كان أو شاعرًا أو باحثًا، أي شيء. في الوقت الذي من المفروض فيه أن يكون اتحاد الكتاب في الصفوف الأمامية لتطوير العمل الإبداعي والعناية بالمبدعين الذين تتعثر أوضاعهم الصحية والاجتماعية كما نجد الأمر في المنظمات الأخرى، فضلاً عن مسألة فتور مواقفه كلما تعلق الأمر بعلاقاته مع السلطات ومنها وزارة الثقافة التي تتخذ الإجراء تلو الآخر دون استشارته، وغيابه شبه الكلي في المشهد الإقليمي والدولي. ويوم نجد من يمثل الكتاب أحسن تمثيل، لا نتردد في الانخراط والمساهمة بدفعه نحو ما يليق به وباتحاد الكتاب التونسيين نفسه كمنظمة عريقة ومن المفروض أن تكون اسمًا على مسمى.
* رغم عدم انخراطك، أيّ انتظارات لك من المؤتمر القادم لاتحاد الكتّاب التونسيين؟
- أعتقد أن كل شيء مرتبط بالشرعية وبشفافية الانتخابات، وإرادة المكتب التنفيذي الحالي ورغبته في التغيير الجذري والعميق لتجاوز التصدعات وجمع شتات الكتّاب. كما أن الأمر مرتبط أيضًا بإرادة الكتّاب المنخرطين أنفسهم، دون محاباة ولا مجاملات، ولا لهث وراء المشاركات من أجل المشاركات لدعم السير الذاتية أو السفريات المجانية. وبالتالي، فإنه وبقدر ما يمكن انتظار التغيير الإيجابي، فإنه يمكن توقّع المكوث في ذات النقطة التي لا تتقدّم بعمل الاتحاد.
حوار: محسن بن أحمد
جمع في مسيرته بين الصحافة المكتوبة والسرد الروائي، الذي اختاره متنفسًا للغوص في هواجس ومشاغل الواقع التونسي بكل إرهاصاته وتناقضاته وأحلامه وطموحاته وانكساراته. وجد علي الخميلي في موطنه «المتلوي»، قلعة الفسفاط الشامخة، القادح الأول لكتابة إبداعية سردية، سلسلة في لغتها، عميقة في أهدافها ومقاصدها الإنسانية... كتابة إبداعية جعلت من علي الخميلي أحد أساطين التأريخ للحوض المنجمي، وما عرفه وعاشه من أحداث ووقائع وتحديات، مستحضرًا في ذاته أكثر من ذكرى وموقف وحدث، ومعه كان هذا الحوار:
* أي جديد إبداعي يمكن أن تكشفه في بداية هذا اللقاء؟
- جديدي الإبداعي، وبعد إصدار رواية «ألم على شفاه تبتسم»، أنتظر خلال هذه الصائفة أو ما قبلها بقليل صدور رواية «سوق الطرابلسية» عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع، كما أنتظر صدور رواية «جنون الأقنعة» عن دار الثقافية للنشر.
ومن جهة أخرى، فإن رفوف مكتبتي مثقلة بعديد الروايات التي تنتظر النشر، على غرار: «صراع الصمت»، و»الثلج الأسود»، و»هذيان في البرلمان»، و«مملكة الشتائم والغنائم»، و»أرى الفخاخ تبتسم»، و»وجع الزمن»، و»قصور الأفاعي» وغيرها.
فضلًا عن المجموعات القصصية مثل: «من ثقب ورقة التوت»، و»للبؤساء والكادحين»، و»عبر مقاهي المدينة»، والتي سينشر بعضها في دور نشر عربية.
* ماذا عن أولوياتك في أي عمل إبداعي تصوغه؟
- ككل كاتب تأرجح لسنوات بين أكثر من نمط إبداعي، شعرًا وقصة ورواية، قبل أن يختار النمط الذي يعتقد أنه يناسبه ويتناغم مع مبادئه وأفكاره ومخزونه الفكري، بما يتماشى وخلفياته الثقافية والسياسية والاجتماعية، اخترت نمط الرواية التي أعتبرها من أولوياتي، وذلك لما للرواية - كفن أدبي نثري طويل يعتمد في أساسه على الواقع المتوهج بالخيال - من وصف لأحداث وتجارب إنسانية فردية وجماعية متسمة بالتشويق والإثارة، تعكسه مجموعة من الشخصيات المعتمدة في الرواية.
وربما لهذا، ولغيره، اخترت الرواية وتمسكت بها، دون أن أنكر أن المسيرة الصحفية ساعدتني كثيرًا على الاقتراب من المجتمع والواقع المعيش بشكل أعمق، لأكون روائيًا منتهجًا للمنحى الواقعي.
* ماذا قدمت لك «المتلوي» ككاتب؟
- موطني «المتلوي» هو، فضلًا عن أنه منجم فسفاط يجمع الآلاف من الكادحين من مختلف جهات البلاد وخارجها، علاوة على اختلاف الشرائح الاجتماعية والفكرية، ما أهله ليكون قلعة عمالية كبرى متوهجة بالنضال السياسي والنقابي، فهو موطن الفكر والأدب والإبداع بشكل عام.
ومنه تدفق الأدباء المبدعون: أحمد المختار الهادي، محمد عمار شعابنية، محمد الطاهر سودة (طيب الله ثراهم)، الدكتور محمد الخالدي، سالم الشعباني، الدكتور عبد المجيد الجوادي، الدكتور سمير السحيمي، الدكتور صالح بن رمضان، الدكتور محمد المنصوري، الدكتور محمد الحبيب مبروكي، شكري مسعي، المولدي الشعباني، يسير السحيمي، سميرة السحيمي، محمد الصغير القاسمي، محمد العائش القوتي، جمال الخليفي، وغيرهم كثيرون ممن أكدوا جدارتهم في الحقل الأدبي الوطني والعربي.
ولو ذكرتهم كلهم لتطلب الأمر صفحات عديدة. وبالمناسبة، فإنهم كلهم طيبون، ومثل الزهور وأنواع العطور، مهما اختلفت روائحها.
وبالتالي، فإن «المتلوي»، التي تعج بالمبدعين بفضل واقعها المنجمي المتنوع عبر التاريخ، والمتسم بالخضخضات والانتفاضات والنضالات والعلاقات الإنسانية والثقافات والتقاليد والعادات، المحلية منها والوافدة، لا شك أن لها تأثيراتها الكبيرة والعميقة على العقل والوجدان لكل من تنفس هواءها، وخاصة لمرهفي المشاعر من الذين اكتووا بنار الوهج الإبداعي وتورطوا بحبها وتفاعلوا مع محيطها.
وعشقوا الوطن وتناغموا مع الإنسان أينما كان، وذلك بداية من العائلة وفسيفساء التنوع، وأيضًا من المؤسسة الفريدة العملاقة وهي شركة الفسفاط، التي لها انعكاساتها على كل الواجهات، الإيجابية منها والسلبية، والتي كان قد اشتغل فيها والدي عاملاً منجميًا، حوالي أربعين عامًا.
كل هذا أفرز ما يجذر التأثر العميق بالموطن، الذي منحني الثبات في المواقف، والالتزام بقضايا البؤساء والكادحين، والشموخ، والوقوف عند الشدائد، والعمق في التجربة، وحسن التناغم مع الآخر، وتقبل مختلف الآراء، وعشق الوطن.
وبالتالي فإن «المتلوي» قدمت لي الحياة بمعناها الحقيقي.
* كيف تقرأ المشهد الروائي التونسي اليوم؟
- رغم أن الجواب عن هذا السؤال يتطلب المجلدات لإبراز كل الحقائق، فإنني أختزل القول مشيرًا إلى أن المشهد الروائي التونسي عرف تطورًا لافتًا على مستوى الكم والنوعية، وفرض فيه بعض الروائيين التونسيين، وعن جدارة وبكل تألق، حضوره العربي، وذلك لما يتميز به هذا البعض من خصوصيات سردية وفنية وجمالية ومضامين إنسانية عميقة وجدية أدركت العالمية ونالت الجوائز الكبرى، وخاصة بعد تجاوزهم للأشكال السائدة ونبذ أكثرهم للقواعد والسنن التي كانت تتحكم في الرواية العربية.
* لو نغير السؤال وأقول لك: كيف ترى دور الرواية التونسية في المشهد الأدبي العربي؟
- الرواية التونسية التي تعتبر حديثة العهد قياسًا مع عراقتها في المشرق العربي وأوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرها، حيث لم يمرّ على ظهورها أكثر من قرن وعشرين سنة تقريبًا فقط، باعتبار أن أول رواية تونسية القلب والقالب، وذلك دون ترجمة ولا اقتباس، هي رواية «الهيفاء وسراج الليل» لصاحبها الأديب صالح السويسي القيرواني، والتي رأت النور في الأعوام الأولى لبداية القرن العشرين، وتحديدًا في سنة (1906). يمكن التأكيد على أنها تلعب دورًا مهمًا في المشهد الأدبي العربي الحديث، في النوعية والكمية، وخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث شهدت الرواية التونسية - منذ تسعينيات القرن الماضي - تطورًا لافتًا، قبل بعث بيت الرواية في تونس الذي يلعب دورًا كبيرًا في تعميق التجربة وصب الدماء الجديدة في الواقع الأدبي، وهو بالمناسبة أول بيت للرواية يرى النور في العالم العربي. ومن هنا يلاحظ المتابع للمشهد الثقافي العربي انتعاشة وطفرة في العدد والكيف في الرواية وارتفاعًا في عدد الجوائز العربية، خاصة أن الساحة الثقافية في تونس تعيش زمن الاتجاه نحو السرد، ولذلك استطاعت الرواية التونسية، كفن يعبر عن واقع الذات والمجتمع والكون وكجنس متفرد بذاته وكمدونة للحياة المعاصرة، أن تفرض نسقها خلال السّنوات الأخيرة في المشهد الأدبي والثقافي العربي، ما أفرز بروز الروائي إبراهيم الدرغوثي الذي مارس الكتابة الروائية التحديثية ونال الجوائز العربية وترجمت أعماله إلى لغات عدة، فضلاً عن إجماع النقاد حول نجاح تجربته، ومثله شكري المبخوت ومحمد الحبيب السالمي وحسونة المصباحي ومحمد عيسى المؤدب وماهر عبد الرحمان ومسعودة بوبكر وكذلك عباس سليمان الذي تتسم أعماله الروائية بالميل إلى معالجة قضايا العولمة وانعكاسها على الواقع العربي، وكذلك مصطفى الكيلاني وحافظ محفوظ وعبد الجبار العش وفضيلة الشابي ومحمد علي اليوسفي وعروسية النالوتي وجلول عزونة ومحمد آيت ميهوب وفاطمة الشريف وكمال الزعباني وكمال الرياحي والشاذلي القرواشي والأسعد بن حسين وغيرهم من الذين آمنوا بأن الرواية طبيعة فنية تفسح المجال للطّرح بآليات تنهل من كلّ الفنون، وأدركوا أن الإنتاج الروائي وبقدر ما يشهد طفرة، فإن الظاهرة تعتبر صحية وتتيح عملية الغربلة بين الغثّ والسّمين، وذلك بعد أن برزت تونس في سنوات سابقة بروايات محمود المسعدي وبشير خريف ومحمد العروسي المطوي ومحمد الصالح الجابري ومحمد رشاد الحمزاوي ومصطفى الفارسي وعبد القادر بلحاج نصر ويحيى محمد ومحمد المختار جنات وعمر بن سالم وعز الدين المدني وسمير العيادي ومحمود التونسي ورضوان الكوني وأحمد ممّو وغيرهم.
*أصدرت سلسلة من الروايات مثل «قنديل الثنايا» و«عفراء تغسل السماء» و»ألم على شفاه تبتسم»، فما هي القضايا المحورية التي تسعى لمعالجتها من خلال هذه الأعمال؟
- ككل كاتب، أو ممارس لأي نمط آخر من الإبداع وملتصق بواقعه، ففي كتاباتي أؤمن بأن الكتابة الصادقة في نظري هي انحياز للقيم الإنسانية، وبالتالي فهي نوع من الاشتباك مع الواقع والتمرد عليه، فضلاً عن التفاعل مع التاريخ والجغرافيا بما يحملانه من مظالم وصراعات وحروب ومآس، والإدراك أيضًا مقابل ذلك بأن الكاتب يقترف فعل الكتابة ليكون محرضًا بقلبه وعقله وقلمه على التمسك بهذا الانحياز للمنحى الواقعي. وبالتالي فإن القضايا المحورية التي أسعى لمعالجتها من خلال تلك الأعمال وغيرها، تتعلق بالقيم الإنسانية.
* ماذا أضافت لك مسيرتك الإعلامية كروائي؟
- أعتقد أن الصحافة بمفهومها العميق هي أدب يومي ينخرط فيه الكاتب بواقعه أشد ارتباطًا، ويلتصق فيه بالقضايا الإنسانية المتنوعة والمختلفة، كما يتأثر بإرهاصات مظالم الواقع وتأثيراتها على المجتمع، وبالتالي فإن المسيرة الإعلامية الطويلة التي توزعت بين المراسل الجهوي والمحرر وفي أكثر من قسم واختصاص، ورئيس التحرير، تقدم الكثير للكاتب، وتدفعه إلى تحويل ما كان يمكن أن يكون مقالًا إلى ما هو أكبر وأعمق، وهو النص الروائي وما يتضمنه من سرد، وما يعطره من موروث إنساني وحضاري، يجعل الرواية جزءًا مهمًا من التأريخ للواقع المعيش وذلك بأسلوب آخر يختلف عن الأسلوب الصحفي. ولنا في تجارب كبار الصحافيين العرب وفي العالم الإبداع الروائي الذي ما زال على جبين الدهر وعالق بالأذهان ومؤثر في الأوساط الأدبية جمعاء، ما يؤكد ذلك. كما أعتقد أن علاقة الصحافة بالأدب هي علاقة تفاعل إيجابي، أخذ وعطاء، وكلنا ندرك أن كثيرًا من الكتاب والروائيين كانت لهم علاقة بالسلطة الرابعة، ومن أشهرهم في تونس مثلًا جماعة «تحت السور»، من علي الدوعاجي والبشير خريف ومحمود المسعدي والهادي العبيدي إلى غيرهم، ومن العرب أيضًا نجد عميد الأدب العربي طه حسين وإحسان عبد القدوس وجرجي زيدان وأمين معلوف وأحمد حسن الزيات وإبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد وعبد الكريم الغلاب ويوسف السباعي وغسان كنفاني ومحمد حسنين هيكل وغيرهم أيضًا، كما نجد في العالم صاحب رواية «مائة عام من الهجرة» الشهير غارسيا ماركيز الذي يقول «علمتني الصحافة إضفاء الأصالة والصحة على قصصي»، وهو ما يعني أن الصحافة تضيف للمبدع الكثير في متابعته الدقيقة والقريبة للشأن العام وارتباطه بالشعب وتعامل مع القضايا المجتمعية، وبالتالي فإنه من الطبيعي جدًا أن تنعكس التجربة الصحفية على الإنتاج الأدبي وتؤثر فيه إيجابًا، وهو تكامل أعتقد أنه مجد وفاعل.
* كيف هي علاقتك اليوم باتحاد الكتاب التونسيين؟
- في كل مرة أتأهب فيها للانخراط في اتحاد الكتاب، أتراجع بسبب موقف ما يتخذه هذا الاتحاد، وأرى أنه لا يتماشى مع مبادئي. كما أن هذه المنظمة لم تسلم من التكتلات التي تشتت الكتاب ولا تجمعهم، فضلاً عن أنني أراها لم تتخلص بعد من عقد الأيديولوجيات الضيقة والصراعات المجانية بين الأكاديميين وغيرهم والمحاصصات والمحاباة، دون الاهتمام بالإبداع ولا بالمبدعين. وهذا لا يشجع على الانخراط ولا يضيف للمبدع، كاتبًا كان أو شاعرًا أو باحثًا، أي شيء. في الوقت الذي من المفروض فيه أن يكون اتحاد الكتاب في الصفوف الأمامية لتطوير العمل الإبداعي والعناية بالمبدعين الذين تتعثر أوضاعهم الصحية والاجتماعية كما نجد الأمر في المنظمات الأخرى، فضلاً عن مسألة فتور مواقفه كلما تعلق الأمر بعلاقاته مع السلطات ومنها وزارة الثقافة التي تتخذ الإجراء تلو الآخر دون استشارته، وغيابه شبه الكلي في المشهد الإقليمي والدولي. ويوم نجد من يمثل الكتاب أحسن تمثيل، لا نتردد في الانخراط والمساهمة بدفعه نحو ما يليق به وباتحاد الكتاب التونسيين نفسه كمنظمة عريقة ومن المفروض أن تكون اسمًا على مسمى.
* رغم عدم انخراطك، أيّ انتظارات لك من المؤتمر القادم لاتحاد الكتّاب التونسيين؟
- أعتقد أن كل شيء مرتبط بالشرعية وبشفافية الانتخابات، وإرادة المكتب التنفيذي الحالي ورغبته في التغيير الجذري والعميق لتجاوز التصدعات وجمع شتات الكتّاب. كما أن الأمر مرتبط أيضًا بإرادة الكتّاب المنخرطين أنفسهم، دون محاباة ولا مجاملات، ولا لهث وراء المشاركات من أجل المشاركات لدعم السير الذاتية أو السفريات المجانية. وبالتالي، فإنه وبقدر ما يمكن انتظار التغيير الإيجابي، فإنه يمكن توقّع المكوث في ذات النقطة التي لا تتقدّم بعمل الاتحاد.
حوار: محسن بن أحمد