إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مسرحية " اصطياد " وخطورة الإشاعة والتضليل في صناعة وعي مزيف وحقيقة خادعة

بقلم: نوفل سلامة (*)

من الأعمال المسرحية التي شدت إليها أنظار النقاد ولقيت اهتماما واستحسانا لدى الجمهور المتابع لفعاليات أيام قرطاج المسرحية في دورتها لهذه السنة مسرحية " اصطياد " للمخرج الإماراتي مهند كريم ومن إنتاج جمعية " دبا الحصن " للثقافة والفنون وهو عمل رغم أنه تم تقديمه على هامش الدورة ولم يدخل المسابقة الرسمية إلا أنه فرض الاهتمام وفتح حوارا ونقاشا حول قضية راهنية أظهرت خطورتها أينما حلت في كل المجتمعات.

"اصطياد" هي مسرحية تعالج ظاهرة الإشاعة في الحياة العامة وتبرز خطورتها وبشاعتها في تفكيك العلائق والروابط ومدى قدرتها على تدمير الاستقرار والتعايش العادي وقدرتها على التمكن من العقول والاذهان لتشكيل الوعي وتحويل القناعات وتشويه الحقيقة أو قل تضليل الحقائق بعد أن تكون الإشاعات قد صنعت وعيا مزيفا خادعا، ولكنه قد تحول إلى قناعة راسخة لا يمكن باي حال إصلاحها مهما فعلنا.

هي مسرحية مقتبسة من الشريط السينمائي " الصياد " للمخرج الدانماركي "توماس فنتربرغ"الذي ظهر في القاعات السينمائية سنة 2012 عن قصة حقيقية تدور أحداثها في قرية صغيرة تابعة للريف الدانماركي المحافظ. سكانها عددهم قليل والكل يعرف الكل والجميع يعيشون على التضامن وعلى السكينة والثقة المتبادلة.

في هذه القرية الريفية كان هناك مدرس يدعى " لوكاس "هو بطل الفيلم عرفت حياته الزوجية فشلا انتهت بطلاق واثمرت طفلا يعيش مع أمه يعرفه الجميع ويحظى باحترام وثقة الكل وله سمعة جيدة وهو محبوب في مدرسته. تحمله الاقدار إلى أن يصبح معلما في روضة للأطفال الصغار وهناك تعرف على طفلة صغيرة ذات السبع سنوات تدعى " كلارا " هي ابنة صديقه المقرب التي لم تكن سعيدة مع والديها وتشعر بحرمان عاطفي وعدم اعتناء أبويها بها. تتسارع الأحداث وتتعلق الطفلة الصغيرة بهذا المدرس الذي اخبرته أنه أفضل من والدها وكم كانت تتمنى لو كان هو والدها من دون تفكير كثير صارح المعلم الطفلة الصغيرة بأنه لا يمكن أن يكون والدها وأن أباها الحقيقي هو صديقه وأمام الخيبة التي منيت بها كلارا وردة فعل معلمها أمام مشاعرها ولأسباب يبدو من الوهلة الأولى مجهولة اخترعت الطفلة كذبة صدقها كل من في القرية بعد أن أبلغت مديرة الروضة أن مدرسها وصديق والدها قد تحرش بها في قبو منزله الذي لم يكن به قبو وأنه حدثها عن عضوه التناسلي. لم تترد المديرة في استدعاء المدرس وأخبرته بما قالته الطفلة الصغيرة عنه وبخصوص سلوكه المشين وعبثا حاول تبرئة نفسه وتفنيد ما اتهمته به هذه الطفلة الصغيرة التي هي إبنة صديقه المقرب.

تتطور الأحداث أكثر وتتعقد بالنسبة للمدرس لوكاسا بعد أن استدعت المديرة كافة الأولياء في القرية وأعلمتهم بالحدث الجلل وبما رددته الطفلة الصغيرة عن تحرش معلمها بها.. حاول بطل الفيلم التحدث لسكان القرية واقناعهم بأن ما قالته الطفلة الصغيرة إشاعة مغرضة وحديث غير صحيح وخبر لا أساس له من الصحة وأن سلوكه وعلاقته بصديقه لا يمكن بحال من الأحوال أن يجعله يقع في مثل هذا الإثم وهذا السلوك المشين.. لم يصدقه أحد فالأطفال لا يكذبون،بل اتهمه كل من في القرية بأنه قد تحرش بأطفالهم ونصبت له محكمة شعبية وعاش أياما عصيبة تغيرت فيها حياته رأسا على عقب وتغيرت كذلك نظرة الأهالي له وتنكر له الجميع ورفض الجميع التعامل معه بل تعرض إلى الاعتداء والضرب من طرف البعض.

وبعد التحقيق فيما نسب إليه برأته المحكمة بعد أن تبين أن كل ما قالته الطفلة الصغيرة هراء واتهام ليس له أي دليل على صحته وأن الطفلة قد اختلقت فعل التحرش لكن القرار القضائي زاد الطين بلة، حيث اعتبر الأهالي أن الحكومة تحمي المعتدين جنسيًا على الأطفال وتتسامح معهم ورغم اقتناع صديقه ببراءته واعتراف الطفلة الصغيرة كلارا بأن معلمها لم يتحرش بها وإنما هي من افتعلت هذا الكلام لما غضبت منه فإن التهمة ظلت تلاحقه ولم يستطع اقناع الجميع ببراءته.

المسرحية حاولت أن تبرز بشاعة الإشاعة عندما تصدر من جهة يصعب تكذيبها ويصعب تقويم تزييفها للحقيقة المتولدة عنها وظلم المجتمع حينما يصدق الاشاعة رغم اقتناعه بزيفها وعدم صحتها وبشاعة الحياة حينما تضع الفرد في موضع اتهام باطل يعلم به الجميع ومع ذلك يتواصل الكذب والخداع والتضليل ومعه تتواصل معاناة المتهم بالإشاعة وهو يبذل جهدا كبيرا لتفنيدها ولكن دون جدوى فالإشاعة كلما تلبست بصاحبها وانتشرت وراجت على نطاق واسع فإنه يصعب مواجهتها وإظهار زيفها والصعوبة تكمن في إعادة الصورة إلى ما كانت عليه وإصلاح الكسر الذي حصل في الشخصية التي تشوهت وتلوثت ظلما وبهتانا.

المسرحية حاولت ونجحت في أن تظهر بشاعة ما يحصل للمجموعة الواحدة من تشتت وانقسام وما يحصل من انشطار الصداقات والعلائق والتعايش الهادئ بفعل افتعال الإشاعات واختلاق الكذب والأخبار المزيفة المضللة ليضع المتفرج أمام مساحات مظلمة من الشر الكائن في أعماق كل واحد منا وإخراج ما في المجتمعات من مشاعر وحشية تجاه الآخرين وما يمكن للحقد والكره أن يفعل بصاحبه وبالآخرين إلى الحد الذي يصبح معه الأمر قابلا للقيام بكل الأفعال المباحة وغير المباحة حتى وإن لزم الأمر باتهام الغير ظلما وبهتانا فكل الطرق مسموح بها ومواتية من أجل تحطيم وهزم وتشويه الخصم وكل من نكرهه وقد عرفت تونس في السنوات الأخيرة صورا كثيرة من الكذب والخداع والتضليل وحالات لا حصر لها من الاشاعات المغرضة وضح اليوم أنها كانت مجردأخبار مضللة ومزيفة ومفتعلة.

حاولت المسرحية بحرفية كبيرة وتقنية مسرحية عالية تصوير خطورة الإشاعة في تحويل الأفراد من كائنات بشرية تقبل بالتعايش والاختلاف إلى كائنات وحشية تعيش على فكرة التقاتل والتصارع وخوض الحروب الكاذبة التي لا تقدر على خوضها بالأسلحة السلمية المتاحة ليقع تثبيت مقولة الفيلسوف هوبز " الانسان ذئب لأخيه الانسان " وأن المدنية والتحضر لم تقدرا أن تنسيا الإنسان أنه كان في يوم من الأيام حيوانا في البرية.

 

 

 

مسرحية " اصطياد " وخطورة الإشاعة والتضليل في صناعة وعي مزيف وحقيقة خادعة

بقلم: نوفل سلامة (*)

من الأعمال المسرحية التي شدت إليها أنظار النقاد ولقيت اهتماما واستحسانا لدى الجمهور المتابع لفعاليات أيام قرطاج المسرحية في دورتها لهذه السنة مسرحية " اصطياد " للمخرج الإماراتي مهند كريم ومن إنتاج جمعية " دبا الحصن " للثقافة والفنون وهو عمل رغم أنه تم تقديمه على هامش الدورة ولم يدخل المسابقة الرسمية إلا أنه فرض الاهتمام وفتح حوارا ونقاشا حول قضية راهنية أظهرت خطورتها أينما حلت في كل المجتمعات.

"اصطياد" هي مسرحية تعالج ظاهرة الإشاعة في الحياة العامة وتبرز خطورتها وبشاعتها في تفكيك العلائق والروابط ومدى قدرتها على تدمير الاستقرار والتعايش العادي وقدرتها على التمكن من العقول والاذهان لتشكيل الوعي وتحويل القناعات وتشويه الحقيقة أو قل تضليل الحقائق بعد أن تكون الإشاعات قد صنعت وعيا مزيفا خادعا، ولكنه قد تحول إلى قناعة راسخة لا يمكن باي حال إصلاحها مهما فعلنا.

هي مسرحية مقتبسة من الشريط السينمائي " الصياد " للمخرج الدانماركي "توماس فنتربرغ"الذي ظهر في القاعات السينمائية سنة 2012 عن قصة حقيقية تدور أحداثها في قرية صغيرة تابعة للريف الدانماركي المحافظ. سكانها عددهم قليل والكل يعرف الكل والجميع يعيشون على التضامن وعلى السكينة والثقة المتبادلة.

في هذه القرية الريفية كان هناك مدرس يدعى " لوكاس "هو بطل الفيلم عرفت حياته الزوجية فشلا انتهت بطلاق واثمرت طفلا يعيش مع أمه يعرفه الجميع ويحظى باحترام وثقة الكل وله سمعة جيدة وهو محبوب في مدرسته. تحمله الاقدار إلى أن يصبح معلما في روضة للأطفال الصغار وهناك تعرف على طفلة صغيرة ذات السبع سنوات تدعى " كلارا " هي ابنة صديقه المقرب التي لم تكن سعيدة مع والديها وتشعر بحرمان عاطفي وعدم اعتناء أبويها بها. تتسارع الأحداث وتتعلق الطفلة الصغيرة بهذا المدرس الذي اخبرته أنه أفضل من والدها وكم كانت تتمنى لو كان هو والدها من دون تفكير كثير صارح المعلم الطفلة الصغيرة بأنه لا يمكن أن يكون والدها وأن أباها الحقيقي هو صديقه وأمام الخيبة التي منيت بها كلارا وردة فعل معلمها أمام مشاعرها ولأسباب يبدو من الوهلة الأولى مجهولة اخترعت الطفلة كذبة صدقها كل من في القرية بعد أن أبلغت مديرة الروضة أن مدرسها وصديق والدها قد تحرش بها في قبو منزله الذي لم يكن به قبو وأنه حدثها عن عضوه التناسلي. لم تترد المديرة في استدعاء المدرس وأخبرته بما قالته الطفلة الصغيرة عنه وبخصوص سلوكه المشين وعبثا حاول تبرئة نفسه وتفنيد ما اتهمته به هذه الطفلة الصغيرة التي هي إبنة صديقه المقرب.

تتطور الأحداث أكثر وتتعقد بالنسبة للمدرس لوكاسا بعد أن استدعت المديرة كافة الأولياء في القرية وأعلمتهم بالحدث الجلل وبما رددته الطفلة الصغيرة عن تحرش معلمها بها.. حاول بطل الفيلم التحدث لسكان القرية واقناعهم بأن ما قالته الطفلة الصغيرة إشاعة مغرضة وحديث غير صحيح وخبر لا أساس له من الصحة وأن سلوكه وعلاقته بصديقه لا يمكن بحال من الأحوال أن يجعله يقع في مثل هذا الإثم وهذا السلوك المشين.. لم يصدقه أحد فالأطفال لا يكذبون،بل اتهمه كل من في القرية بأنه قد تحرش بأطفالهم ونصبت له محكمة شعبية وعاش أياما عصيبة تغيرت فيها حياته رأسا على عقب وتغيرت كذلك نظرة الأهالي له وتنكر له الجميع ورفض الجميع التعامل معه بل تعرض إلى الاعتداء والضرب من طرف البعض.

وبعد التحقيق فيما نسب إليه برأته المحكمة بعد أن تبين أن كل ما قالته الطفلة الصغيرة هراء واتهام ليس له أي دليل على صحته وأن الطفلة قد اختلقت فعل التحرش لكن القرار القضائي زاد الطين بلة، حيث اعتبر الأهالي أن الحكومة تحمي المعتدين جنسيًا على الأطفال وتتسامح معهم ورغم اقتناع صديقه ببراءته واعتراف الطفلة الصغيرة كلارا بأن معلمها لم يتحرش بها وإنما هي من افتعلت هذا الكلام لما غضبت منه فإن التهمة ظلت تلاحقه ولم يستطع اقناع الجميع ببراءته.

المسرحية حاولت أن تبرز بشاعة الإشاعة عندما تصدر من جهة يصعب تكذيبها ويصعب تقويم تزييفها للحقيقة المتولدة عنها وظلم المجتمع حينما يصدق الاشاعة رغم اقتناعه بزيفها وعدم صحتها وبشاعة الحياة حينما تضع الفرد في موضع اتهام باطل يعلم به الجميع ومع ذلك يتواصل الكذب والخداع والتضليل ومعه تتواصل معاناة المتهم بالإشاعة وهو يبذل جهدا كبيرا لتفنيدها ولكن دون جدوى فالإشاعة كلما تلبست بصاحبها وانتشرت وراجت على نطاق واسع فإنه يصعب مواجهتها وإظهار زيفها والصعوبة تكمن في إعادة الصورة إلى ما كانت عليه وإصلاح الكسر الذي حصل في الشخصية التي تشوهت وتلوثت ظلما وبهتانا.

المسرحية حاولت ونجحت في أن تظهر بشاعة ما يحصل للمجموعة الواحدة من تشتت وانقسام وما يحصل من انشطار الصداقات والعلائق والتعايش الهادئ بفعل افتعال الإشاعات واختلاق الكذب والأخبار المزيفة المضللة ليضع المتفرج أمام مساحات مظلمة من الشر الكائن في أعماق كل واحد منا وإخراج ما في المجتمعات من مشاعر وحشية تجاه الآخرين وما يمكن للحقد والكره أن يفعل بصاحبه وبالآخرين إلى الحد الذي يصبح معه الأمر قابلا للقيام بكل الأفعال المباحة وغير المباحة حتى وإن لزم الأمر باتهام الغير ظلما وبهتانا فكل الطرق مسموح بها ومواتية من أجل تحطيم وهزم وتشويه الخصم وكل من نكرهه وقد عرفت تونس في السنوات الأخيرة صورا كثيرة من الكذب والخداع والتضليل وحالات لا حصر لها من الاشاعات المغرضة وضح اليوم أنها كانت مجردأخبار مضللة ومزيفة ومفتعلة.

حاولت المسرحية بحرفية كبيرة وتقنية مسرحية عالية تصوير خطورة الإشاعة في تحويل الأفراد من كائنات بشرية تقبل بالتعايش والاختلاف إلى كائنات وحشية تعيش على فكرة التقاتل والتصارع وخوض الحروب الكاذبة التي لا تقدر على خوضها بالأسلحة السلمية المتاحة ليقع تثبيت مقولة الفيلسوف هوبز " الانسان ذئب لأخيه الانسان " وأن المدنية والتحضر لم تقدرا أن تنسيا الإنسان أنه كان في يوم من الأيام حيوانا في البرية.