في ظرف أربعين سنة منذ انطلاق الإصلاحات الاقتصادية الواقعية للصين الشيوعية التي دشنها الرجل القوي والإصلاحي دِينْغْكْسِيّاوْ بِينْغْ،عام 1978، تمكنت الصين الشعبية من ان تحقق معجزة اقتصادية خارقة وتتحول من دولة فقيرة ومعزولة إلى ثاني اقتصاد في العالم، وتتهيّأ بكل اقتدار لاحتلال المركز الأول بعد إزاحة أمريكا ذات الاقتصاد والبنية التحتية المتقادمة وذات المصاريف العسكرية الباهظة المدمرة للحضارات البائدة.
ومنذ استلامه السلطة عام 1978 ،عمل دِينْغْ، بشجاعة وحكمة على توجيه دفة الحكم بكل واقعية سياسية بهدف إدخال إصلاحات اقتصادية تفتح الباب أمام المبادرة الخاصة للصينيين وتساهم في دفع الإنتاج . وقد دخل في مواجهة مع أنصار الرئيس هْوَا كْوَافِينْغْ، المعين من طرف الزعيم مَاوْ تْسِي تُونْغْ لخلافته، والذي كان يسعى إلى الاستمرار، دون أي إصلاح أو تصحيح لخط الزعيم التاريخي القائم علي تطبيق النظام الشيوعي وملكية الدولة الكاملة لكل وسائل الإنتاج الفلاحي والصناعي، وهي السياسة الدوغمائية التي تسببت في تدني الإنتاج الفلاحي خاصة ووقوع مجاعات كانت السلطة فيها عاجزة عن توفير الغذاء لمليار من السكان.
من المجاعة إلى الرخاء
وأدت تلك السياسة إلى معاناة الصين على مدى ثلاث سنوات من 1959 إلى 1961 من مجاعة هلك فيها أكثر من أربعين مليون شخص جوعا، حسب التقديرات الأممية . وجاء ذلك بسبب التأميم وتطبيق نظام الوحدات التعاضدية للإنتاج الذي تسيطر عليه الدولة بالكامل وأدى إلى تراجع القدرات الإنتاجية بسبب البيروقراطية والتشدّد الأيديولوجي للحقبة الماوية.
وقد أصدر دِينْغْ، في إطار برنامجه الإصلاحي العديد من القرارات المنطلقة من نظرته للنشاط الاقتصادي التي سماها "التعصير الرباعي" الذي يشمل القطاعات الأربعة الحيوية وهي الصناعة والتجارة والتربية والتنظيم العسكري . وقد شرع في تطبيق تلك التوجهات مع حكومة تلميذه ومنظر الاقتصاد زْهَاوْ زْيَانْغْ، بداية من عام 1980.
وفي غضون ذلك لم يكن دينغ، راغبا في جمع كل السلطات في يده، كما كان يفعل ماوتسي تونغ وخلفه هوا كوافينغ، بل ترأّس فقط لجنة الأمن العسكري التي يسيطر من خلالها على السلطة ويصوب الانحرافات التي عرفتها البلاد خلال فترة "الثورة الثقافية" والصراع الذي اندلع على السلطة بعد وفاة الزعيم ماو.
الواقعية السياسية والاقتصادية
في الواقع لم تكن النظرية الإصلاحية التي جاء بها دينْغْ، مناهضة للفكر الشيوعي للماوية القائمة على الماركسية اللينينية، بل كانت تتسم بالواقعية وتحيين الإيديولوجيا مع الظروف الخاصة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الصين داخليا وخارجيا. وهي تقوم على تطبيق شعار " دولة واحدة ونظامان" الى جانب المقولة التي كان يرددها دينْغْ، وهي "إبحث عن الحقيقة في المعطيات الملموسة"، وهو ما يعني اعتماد الواقعية السياسية على الميدان وتطبيق الاشتراكية على الطريقة الصينية التي توفق بين الاشتراكية والرأسمالية.
ومن مظاهر الواقعية التي اعتمدها بدء الإصلاحات في المناطق الريفية حيث سمح للفلاحين بممارسة الأعمال الفلاحية وبيع منتوجهم في الأسواق، وتم حل التعاضديات الاشتراكية المطبقة بصرامة زمن حكم ماوتسي تونغ .
سياسة المرونة والمرحلية السياسية
لقد انطلقت السياسة الإصلاحية في كنف المرحلية والتدرج . فمنذ عام 1980 تم تخصيص ولاية شينزان، لتكون أول منطقة اقتصادية حرة في الصين، لتتوسع العملية إلى ولايات أخرى أصبحت تستقبل الاستثمارات الأجنبية لدفع التشغيل وحفز مزيد الاستثمارات وتنويع المنتوجات التنافسية مع دول الغرب.
وبعد ذلك بعشر سنوات، تم عام 1992 توسيع تلك التجربة بعد أن تم " هضم الإصلاحات من المنظومة الجديدة للاقتصاد الوطني" كما قال دينْغْ، في تصريحات عدة وهو فخور بإنجازاته.
وفي عام 2001 انضمت الصين الى منظمة التجارة العالمية وهي المنظمة الليبرالية للتجارة الحرة بعد ثلاثة عشر عاما من المفاوضات المضنية، مما سمح للمنتوجات الصينية أن تغزو الأسواق الخارجية.
وفي عام 2013 أطلقت الصين مشروعها التاريخي " طريق الحرير" الذي يؤكد عزمها احتلال المكانة المتقدمة لها في مجال النقل والطاقة والاتصالات وزيادة تأثيرها على مناطق أخرى في العالم بعيدا عن مجالها الحيوي في أسيا.
الانفتاح على الخارج والنهم الصيني المدروس
وفي نظر كثير من المحللين، كان الهدف المبرمج من الإصلاحات الصينية "الدِّينْغِيّة" الليبرالية التي عوضت "الماويّة" الشيوعية، هو تحقيق انتقال الاقتصاد الصيني إلى اقتصاد السوق والانفتاح على الخارج. وكان من أبرز الخطوات لذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي شجعت تدفق الاستثمارات الخاصة الأمريكية والأوروبية إلى الصين، معتبرة ذلك انتصارا للرأسمالية على الشيوعية. ولكن سياسة الانفتاح الليبرالي الصيني انقلبت على أمريكا وحليفتها أوروبا، حيث تحولت الصين إلى مارد اقتصادي وأكبر منافس لهما، وافتكت منهم كل الأسواق العالمية، بنهم مدروس من خلفاء دينغ سياو بينغ. بل إن الصين الشيوعية هي التي تطالب اليوم بفتح الحدود بكل حرية رأسمالية تجارية تنافسية، في حين تغلق أمريكا وأوروبا الرأسمالية حدودهما التجارية بكل شيوعية حمائية. ويشهد اليوم الاقتصاد العالمي حربا مفتوحة بين المتنافسين في القطاعات الواعدة مثل الالكترونيك والذكاء الصناعي والسيارات الكهربائية التي يبدو أن النصر فيها سيكون للقوة الصينية الصاعدة التي لها في نظر كل من زارها هذه الأيام بنية تحتية عصرية، في حين تشكو البنية التحتية لكل من أمريكا وأوروبا من الإهتراء تصبح معها غير تنافسية.
لقد تزامن انتقال الصين عام 1978 من اقتصاد مركزي مفلس ومحدود الإمكانيات الي اقتصاد حر تنافسي مع عدة حالات انتقال اقتصادي مشابهة في عدة مناطق من العالم في كل من إفريقيا وآسيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية. ولكن النتائج لم تكن في دول تلك المناطق مثلما سجل من نجاح باهر، حدّ المعجزة الكبرى في الصين التي بوأتها اليوم المكانة الاولى أو الثانية في العالم .
ومما يجدر التذكير به أنه في بداية ومنتصف السبعينات من القرن الماضي 1970 انتقلت كثير من البلدان، منها تونس ومصر والمغرب، من النظام الاشتراكي التعاضدي في الستينات إلى نظام الحرية الاقتصادية الكاملة في ظرف وجيز، مما أدى إلى خلق أزمات انتقالية انتهت بتراجع المبادرة الخاصة وعودة الاشتراكية من بوابة البيروقراطية الإدارية المتمكنة في الدولة العميقة ، كما جرى في تلك البلدان العربية المذكورة التي لم تراع خصوصياتها المجتمعية وقدراتها الإنتاجية فتحولت من جديد إلى تابع للقوى الرأسمالية الكبرى ومتعددة الجنسيات التي كانت نفسها الدول الاستعمارية السابقة،التي خرجت من الباب فعادت من الشباك وحصل الفشل الذريع فيها.
وبالمقارنة فقد انتهجت الصين مبدأ الواقعية والمرحلية الحذرة بعيدا عن الشعارات الفضفاضة، حيث تم استيعاب الإصلاحات دون هرولة أو قعود، مما جعل الصين تحقق المرحلة الانتقالية الطويلة بأوفر عوامل النجاح والديمومة وتتفادى بذلك الصدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف عادة بالمجتمعات الانتقالية .
وكان من مظاهر النجاح متعدد الأوجه أن الإصلاحات لم تؤد فقط إلى بناء اقتصاد تنافسي مدروس، بل سمحت بتحسين مستوى عيش السكان في المدن والأرياف الصينية حيث خرج من دائرة الفقر أكثر من ثمانمائة مليون شخص بفضل النمو الاقتصادي الذي وزعت عائداته على سكان الريف والحضر كما جاء في بيانات البنك الدولي.
إصلاحات الهدم والبناء
ويقول الرئيس الصيني الحالي شِي جِيبِنْغْ، الذي يبدو أنه ركز أركان حكمه لسنوات عديدة قادمة داخل منظومة الحزب الشيوعي الحاكم وقوى الاقتصاد النافذة،"أن الصين ستواصل تعميق الإصلاحات لمواجهة العوائق الإدارية والمؤسسية وأن إصلاحات الصين تعتمد الهدم والبناء في نفس الوقت، وهذا يعني دعم القيادة الشاملة للحزب الشيوعي الصيني مع تحسين وتطوير النظام الاشتراكي ذي الخصائص الصينية وتحديث نظام وقدرة الحوكمة في الصين"، كما أوردت ذلك وكالة أنباء الصين الجديدة.
ويقول الكاتب الصيني وأستاذ الاقتصاد في الجامعات الأمريكية دَيْفِيدْ دَاوْ كْوِي لِي، في كتابه الأخير الصادر بالإنجليزية "رؤية الصين، إزالة الغموض عن الصين لمنع الصراع العالمي " :" ان قادة الصين يستلهمون التاريخ عند اتخاذهم قرارات مصيرية، كما يضعون في اعتبارهم كيف سيحكم عليهم التاريخ مما يؤثر في قراراتهم".
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
في ظرف أربعين سنة منذ انطلاق الإصلاحات الاقتصادية الواقعية للصين الشيوعية التي دشنها الرجل القوي والإصلاحي دِينْغْكْسِيّاوْ بِينْغْ،عام 1978، تمكنت الصين الشعبية من ان تحقق معجزة اقتصادية خارقة وتتحول من دولة فقيرة ومعزولة إلى ثاني اقتصاد في العالم، وتتهيّأ بكل اقتدار لاحتلال المركز الأول بعد إزاحة أمريكا ذات الاقتصاد والبنية التحتية المتقادمة وذات المصاريف العسكرية الباهظة المدمرة للحضارات البائدة.
ومنذ استلامه السلطة عام 1978 ،عمل دِينْغْ، بشجاعة وحكمة على توجيه دفة الحكم بكل واقعية سياسية بهدف إدخال إصلاحات اقتصادية تفتح الباب أمام المبادرة الخاصة للصينيين وتساهم في دفع الإنتاج . وقد دخل في مواجهة مع أنصار الرئيس هْوَا كْوَافِينْغْ، المعين من طرف الزعيم مَاوْ تْسِي تُونْغْ لخلافته، والذي كان يسعى إلى الاستمرار، دون أي إصلاح أو تصحيح لخط الزعيم التاريخي القائم علي تطبيق النظام الشيوعي وملكية الدولة الكاملة لكل وسائل الإنتاج الفلاحي والصناعي، وهي السياسة الدوغمائية التي تسببت في تدني الإنتاج الفلاحي خاصة ووقوع مجاعات كانت السلطة فيها عاجزة عن توفير الغذاء لمليار من السكان.
من المجاعة إلى الرخاء
وأدت تلك السياسة إلى معاناة الصين على مدى ثلاث سنوات من 1959 إلى 1961 من مجاعة هلك فيها أكثر من أربعين مليون شخص جوعا، حسب التقديرات الأممية . وجاء ذلك بسبب التأميم وتطبيق نظام الوحدات التعاضدية للإنتاج الذي تسيطر عليه الدولة بالكامل وأدى إلى تراجع القدرات الإنتاجية بسبب البيروقراطية والتشدّد الأيديولوجي للحقبة الماوية.
وقد أصدر دِينْغْ، في إطار برنامجه الإصلاحي العديد من القرارات المنطلقة من نظرته للنشاط الاقتصادي التي سماها "التعصير الرباعي" الذي يشمل القطاعات الأربعة الحيوية وهي الصناعة والتجارة والتربية والتنظيم العسكري . وقد شرع في تطبيق تلك التوجهات مع حكومة تلميذه ومنظر الاقتصاد زْهَاوْ زْيَانْغْ، بداية من عام 1980.
وفي غضون ذلك لم يكن دينغ، راغبا في جمع كل السلطات في يده، كما كان يفعل ماوتسي تونغ وخلفه هوا كوافينغ، بل ترأّس فقط لجنة الأمن العسكري التي يسيطر من خلالها على السلطة ويصوب الانحرافات التي عرفتها البلاد خلال فترة "الثورة الثقافية" والصراع الذي اندلع على السلطة بعد وفاة الزعيم ماو.
الواقعية السياسية والاقتصادية
في الواقع لم تكن النظرية الإصلاحية التي جاء بها دينْغْ، مناهضة للفكر الشيوعي للماوية القائمة على الماركسية اللينينية، بل كانت تتسم بالواقعية وتحيين الإيديولوجيا مع الظروف الخاصة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الصين داخليا وخارجيا. وهي تقوم على تطبيق شعار " دولة واحدة ونظامان" الى جانب المقولة التي كان يرددها دينْغْ، وهي "إبحث عن الحقيقة في المعطيات الملموسة"، وهو ما يعني اعتماد الواقعية السياسية على الميدان وتطبيق الاشتراكية على الطريقة الصينية التي توفق بين الاشتراكية والرأسمالية.
ومن مظاهر الواقعية التي اعتمدها بدء الإصلاحات في المناطق الريفية حيث سمح للفلاحين بممارسة الأعمال الفلاحية وبيع منتوجهم في الأسواق، وتم حل التعاضديات الاشتراكية المطبقة بصرامة زمن حكم ماوتسي تونغ .
سياسة المرونة والمرحلية السياسية
لقد انطلقت السياسة الإصلاحية في كنف المرحلية والتدرج . فمنذ عام 1980 تم تخصيص ولاية شينزان، لتكون أول منطقة اقتصادية حرة في الصين، لتتوسع العملية إلى ولايات أخرى أصبحت تستقبل الاستثمارات الأجنبية لدفع التشغيل وحفز مزيد الاستثمارات وتنويع المنتوجات التنافسية مع دول الغرب.
وبعد ذلك بعشر سنوات، تم عام 1992 توسيع تلك التجربة بعد أن تم " هضم الإصلاحات من المنظومة الجديدة للاقتصاد الوطني" كما قال دينْغْ، في تصريحات عدة وهو فخور بإنجازاته.
وفي عام 2001 انضمت الصين الى منظمة التجارة العالمية وهي المنظمة الليبرالية للتجارة الحرة بعد ثلاثة عشر عاما من المفاوضات المضنية، مما سمح للمنتوجات الصينية أن تغزو الأسواق الخارجية.
وفي عام 2013 أطلقت الصين مشروعها التاريخي " طريق الحرير" الذي يؤكد عزمها احتلال المكانة المتقدمة لها في مجال النقل والطاقة والاتصالات وزيادة تأثيرها على مناطق أخرى في العالم بعيدا عن مجالها الحيوي في أسيا.
الانفتاح على الخارج والنهم الصيني المدروس
وفي نظر كثير من المحللين، كان الهدف المبرمج من الإصلاحات الصينية "الدِّينْغِيّة" الليبرالية التي عوضت "الماويّة" الشيوعية، هو تحقيق انتقال الاقتصاد الصيني إلى اقتصاد السوق والانفتاح على الخارج. وكان من أبرز الخطوات لذلك إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي شجعت تدفق الاستثمارات الخاصة الأمريكية والأوروبية إلى الصين، معتبرة ذلك انتصارا للرأسمالية على الشيوعية. ولكن سياسة الانفتاح الليبرالي الصيني انقلبت على أمريكا وحليفتها أوروبا، حيث تحولت الصين إلى مارد اقتصادي وأكبر منافس لهما، وافتكت منهم كل الأسواق العالمية، بنهم مدروس من خلفاء دينغ سياو بينغ. بل إن الصين الشيوعية هي التي تطالب اليوم بفتح الحدود بكل حرية رأسمالية تجارية تنافسية، في حين تغلق أمريكا وأوروبا الرأسمالية حدودهما التجارية بكل شيوعية حمائية. ويشهد اليوم الاقتصاد العالمي حربا مفتوحة بين المتنافسين في القطاعات الواعدة مثل الالكترونيك والذكاء الصناعي والسيارات الكهربائية التي يبدو أن النصر فيها سيكون للقوة الصينية الصاعدة التي لها في نظر كل من زارها هذه الأيام بنية تحتية عصرية، في حين تشكو البنية التحتية لكل من أمريكا وأوروبا من الإهتراء تصبح معها غير تنافسية.
لقد تزامن انتقال الصين عام 1978 من اقتصاد مركزي مفلس ومحدود الإمكانيات الي اقتصاد حر تنافسي مع عدة حالات انتقال اقتصادي مشابهة في عدة مناطق من العالم في كل من إفريقيا وآسيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية. ولكن النتائج لم تكن في دول تلك المناطق مثلما سجل من نجاح باهر، حدّ المعجزة الكبرى في الصين التي بوأتها اليوم المكانة الاولى أو الثانية في العالم .
ومما يجدر التذكير به أنه في بداية ومنتصف السبعينات من القرن الماضي 1970 انتقلت كثير من البلدان، منها تونس ومصر والمغرب، من النظام الاشتراكي التعاضدي في الستينات إلى نظام الحرية الاقتصادية الكاملة في ظرف وجيز، مما أدى إلى خلق أزمات انتقالية انتهت بتراجع المبادرة الخاصة وعودة الاشتراكية من بوابة البيروقراطية الإدارية المتمكنة في الدولة العميقة ، كما جرى في تلك البلدان العربية المذكورة التي لم تراع خصوصياتها المجتمعية وقدراتها الإنتاجية فتحولت من جديد إلى تابع للقوى الرأسمالية الكبرى ومتعددة الجنسيات التي كانت نفسها الدول الاستعمارية السابقة،التي خرجت من الباب فعادت من الشباك وحصل الفشل الذريع فيها.
وبالمقارنة فقد انتهجت الصين مبدأ الواقعية والمرحلية الحذرة بعيدا عن الشعارات الفضفاضة، حيث تم استيعاب الإصلاحات دون هرولة أو قعود، مما جعل الصين تحقق المرحلة الانتقالية الطويلة بأوفر عوامل النجاح والديمومة وتتفادى بذلك الصدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف عادة بالمجتمعات الانتقالية .
وكان من مظاهر النجاح متعدد الأوجه أن الإصلاحات لم تؤد فقط إلى بناء اقتصاد تنافسي مدروس، بل سمحت بتحسين مستوى عيش السكان في المدن والأرياف الصينية حيث خرج من دائرة الفقر أكثر من ثمانمائة مليون شخص بفضل النمو الاقتصادي الذي وزعت عائداته على سكان الريف والحضر كما جاء في بيانات البنك الدولي.
إصلاحات الهدم والبناء
ويقول الرئيس الصيني الحالي شِي جِيبِنْغْ، الذي يبدو أنه ركز أركان حكمه لسنوات عديدة قادمة داخل منظومة الحزب الشيوعي الحاكم وقوى الاقتصاد النافذة،"أن الصين ستواصل تعميق الإصلاحات لمواجهة العوائق الإدارية والمؤسسية وأن إصلاحات الصين تعتمد الهدم والبناء في نفس الوقت، وهذا يعني دعم القيادة الشاملة للحزب الشيوعي الصيني مع تحسين وتطوير النظام الاشتراكي ذي الخصائص الصينية وتحديث نظام وقدرة الحوكمة في الصين"، كما أوردت ذلك وكالة أنباء الصين الجديدة.
ويقول الكاتب الصيني وأستاذ الاقتصاد في الجامعات الأمريكية دَيْفِيدْ دَاوْ كْوِي لِي، في كتابه الأخير الصادر بالإنجليزية "رؤية الصين، إزالة الغموض عن الصين لمنع الصراع العالمي " :" ان قادة الصين يستلهمون التاريخ عند اتخاذهم قرارات مصيرية، كما يضعون في اعتبارهم كيف سيحكم عليهم التاريخ مما يؤثر في قراراتهم".