ماذا بعد اجتماع وزيرة الشؤون الثقافية مع شعراء الأغنية؟
محسن بن أحمد
شهد أواخر الأسبوع الماضي لقاء قد يكون هو الأول من نوعه في تونس، جمع وزيرة الشؤون الثقافية، أمينة الصرارفي، بشعراء الأغنية، في خطوة رأى فيها المتابعون للشأن الفني والغنائي في تونس مؤشراً للعديد من الإصلاحات الهيكلية القادمة من أجل استعادة الأغنية التونسية بريقها الذي عرف أفولاً أمام "تغوّل" بعض الأنماط الموسيقية وسيطرتها شبه المطلقة على الذائقة التونسية – إلا ما ندر – التي يهزها الحنين إلى الطبوع والمقامات والصور الشعرية النابضة بالخصوصية التونسية.
ولا غرابة أن تصبح العديد من الصروح الفنية الغنائية التونسية مهددة اليوم، وبشكل لافت، بالاندثار. وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى فرقة الرشيدية التي تمر هذه الأيام الذكرى التسعين لتأسيسها في صمت. وقبلها، غابت الفرقة الموسيقية للإذاعة التونسية، قبل أن يُصدر قرار بتعيين رئيس لمصلحة الموسيقى من أجل إنقاذها من الذوبان.
والشاعر هو أحد الأركان والمرتكزات الأساسية والرئيسة للأغنية إلى جانب الملحن والمؤدي، فهو المهندس لها من خلال ما تصوغه قريحته من صور وتوثقه مهجته من أحاسيس. لذا فإن المسؤولية جسيمة اليوم أمام الشاعر حتى تستعيد الأغنية التونسية توهجها في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، سمته البارزة الفوضى والابتذال.
رواد خالدون
على امتداد مسيرتها، عرفت الأغنية التونسية منذ أواخر القرن التاسع عشر العديد من المحطات. ويبقى تأسيس الرشيدية في سنة 1934 أبرز محطة في مسيرة الإنتاج الموسيقي التونسي الأصيل، على أنقاض ما عرفته الأغنية التونسية في تلك الفترة من ضحالة ورداءة وإثارة رخيصة تأليفاً وإنتاجاً.
لقد عملت الرشيدية طيلة سنوات التأسيس الأولى على بعث تقليد إبداعي جديد من خلال التوجه إلى رواد التأليف الأدبي البارزين في ثلاثينات القرن الماضي لاحتضان أشعارهم الطافحة بالحب والأمل والتفاؤل وجمال الوجود، حيث كان لجماعة "تحت السور" الحضور الفاعل في هذه الإنتاجات من خلال عبد الرزاق كرباكة، والهادي العبيدي، وعلي الدوعاجي، دون أن ننسى المساهمات المتوهجة لشعراء في حجم وقيمة مصطفى آغا، ومحمد المرزوقي، وبلحسن بن شعبان، والطاهر القصار، ومحمود بورقيبة، وأحمد خير الدين، والمختار كمون، وعثمان الغربي، ومحمد سعيد الخلصي، والمختار فخري، والهادي ذهب، ومصطفى خريف، وأحمد سالم بلغيث، ومحمد المرزوقي، والقائمة طويلة في هذا المجال.
جيل ثانٍ واصل المسيرة
وتواصلت رحلة الأغنية التونسية غداة سنوات الاستقلال الأولى مع جيل من الشعراء الذين تشبعوا بمبادئ الوطنية، عشقوا جمال الوجود، وسعوا إلى ضمان الإضافة للإنتاج الغنائي في تونس. فكان عبد المجيد بنجدو ورائعته الوطنية "بني وطني"، وجلال الدين النقاش الذي كتب النشيد الرسمي التونسي لدولة الاستقلال بقيادة الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة "إلا خلدي"، وحمادي الباجي، ورضا الخويني، وأحمد الزاوية، والمختار حشيشة، وعامر التونسي، وبلحسن العبدلي، وحمادي النيفر، وعبد العزيز الحاج طيب، ورضا القلعي الذي كتب جل الأغاني التي لحنها بنفسه، ويحفظ له التاريخ أغنيته "ظلموني حبايبي" التي كتبها ولحنها وقدمتها لأول مرة المطربة علية، وهي الأغنية التي عبَّدت طريق التألق لها. ومنور صمادح، ومصطفى الحبيب البحري، وعمارة المرسني، وسحنون مختار، وجعفر ماجد، ومحمد بوذينة، ومحمد النوري، وعبد الرحمن النيفر الملقب بـ"شهاب"، وهو وإن كان قليل التأليف الغنائي، فإن أشعاره العاطفية رغم ندرتها يتفق أهل الشأن الموسيقي أنها استثنائية في صورها التونسية الأصيلة، حيث يجنح فيها صاحبها في الأفق الرحب. من ذلك أغنيته الشهيرة "بين الوتر والراح في عينيها" التي تحصلت بها الراحلة نعمة على الجائزة الكبرى في مهرجان صليحة سنة 1965.
الثمانينات... جيل التميز
برز في فترة الثمانينات جيل من شعراء الأغنية رافعاً لواء التجديد في الصورة الشعرية، جيل كسب الرهان في الارتقاء بالأغنية التونسية إلى أعلى درجات التميز والتفرد معنى ومبنى.
لقد وجد هذا الجيل الطريق أمامه معبداً من خلال بروز العديد من الأصوات التي كانت من الركائز الأساسية للفرقة القومية للموسيقى التي تأسست في تلك الفترة. فكان الحبيب المحنوش الذي مثل ثنائياً متفرداً مع المطرب عدنان الشواشي، والراحل عبد الحميد الربيعي الذي احتضن أشعاره عبد الكريم صحابو، والراحل حسونة قسومة الذي مثل مع عبد الرحمان العيادي والراحلة ذكرى ثلاثياً فنياً متفرداً. وتكفي الإشارة في هذا المجال أنه من مجموع الـ30 أغنية للراحلة ذكرى في تونس، 28 منها حملت توقيع الشاعر حسونة قسومة وألحان العيادي. والجليدي العويني الذي كان له أكثر من عمل ناجح مع الملحن سمير العقربي بدرجة أولى، وحسن شلبي الذي اقترن اسمه بشكل لافت مع المطرب لطفي بوشناق، قبل أن يلتحق بهما الشاعر آدم فتحي، وحاتم القيزاني الذي كتب أكثر من قصيدة للملحن محمد الماجري وعبد الصمد كورشيد والحبيب الأسود وأحمد الشايب والبشير اللقاني ومحمود بن صابر والمنصف البلدي وحسن المحنوش الذي غير بأشعاره التوجه الفني للمطربة نبيهة كراولي من خلال أغنيات مستلهمة من الموروث الفني التونسي في ألحان لسليم دمق والصحبي شعير الذي أضفى على الأغنية التونسية نكهة بدوية استثنائية، وعلي الورتاني الذي كان وراء بروز أكثر من صوت فني وغيرهم كثير.
أي مستقبل للأغنية اليوم؟
بعد هذه اللمحة التاريخية المختصرة حول مسيرة الأغنية التونسية من خلال شعرائها، يحق لنا أن نسأل عن مستقبلها في ظل ما تعيشه اليوم من غموض على مستوى الترويج والتوزيع والبث في الوسائل السمعية والبصرية؟ من تراه المسؤول عن هذا الوضع "الكارثي" للأغنية في تونس اليوم؟ هل هو الشاعر أم الملحن أم المطرب؟ إلى أي حد يمكن القول إن تخلي الدولة عن الإشراف المباشر على الإنجاز والتنفيذ والترويج للأغنية التونسية سبب رئيسي في ترديها؟
كل المؤشرات تشير إلى أن الأغنية التونسية اليوم على طريق المراجعة تنظيماً وهيكلة وإنتاجاً وتوزيعاً، ولعل في اجتماع وزيرة الشؤون الثقافية مع شعرائها محطة أولى على الإنقاذ. فهل يكون ذلك كذلك؟
ماذا بعد اجتماع وزيرة الشؤون الثقافية مع شعراء الأغنية؟
محسن بن أحمد
شهد أواخر الأسبوع الماضي لقاء قد يكون هو الأول من نوعه في تونس، جمع وزيرة الشؤون الثقافية، أمينة الصرارفي، بشعراء الأغنية، في خطوة رأى فيها المتابعون للشأن الفني والغنائي في تونس مؤشراً للعديد من الإصلاحات الهيكلية القادمة من أجل استعادة الأغنية التونسية بريقها الذي عرف أفولاً أمام "تغوّل" بعض الأنماط الموسيقية وسيطرتها شبه المطلقة على الذائقة التونسية – إلا ما ندر – التي يهزها الحنين إلى الطبوع والمقامات والصور الشعرية النابضة بالخصوصية التونسية.
ولا غرابة أن تصبح العديد من الصروح الفنية الغنائية التونسية مهددة اليوم، وبشكل لافت، بالاندثار. وتكفي الإشارة في هذا المجال إلى فرقة الرشيدية التي تمر هذه الأيام الذكرى التسعين لتأسيسها في صمت. وقبلها، غابت الفرقة الموسيقية للإذاعة التونسية، قبل أن يُصدر قرار بتعيين رئيس لمصلحة الموسيقى من أجل إنقاذها من الذوبان.
والشاعر هو أحد الأركان والمرتكزات الأساسية والرئيسة للأغنية إلى جانب الملحن والمؤدي، فهو المهندس لها من خلال ما تصوغه قريحته من صور وتوثقه مهجته من أحاسيس. لذا فإن المسؤولية جسيمة اليوم أمام الشاعر حتى تستعيد الأغنية التونسية توهجها في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، سمته البارزة الفوضى والابتذال.
رواد خالدون
على امتداد مسيرتها، عرفت الأغنية التونسية منذ أواخر القرن التاسع عشر العديد من المحطات. ويبقى تأسيس الرشيدية في سنة 1934 أبرز محطة في مسيرة الإنتاج الموسيقي التونسي الأصيل، على أنقاض ما عرفته الأغنية التونسية في تلك الفترة من ضحالة ورداءة وإثارة رخيصة تأليفاً وإنتاجاً.
لقد عملت الرشيدية طيلة سنوات التأسيس الأولى على بعث تقليد إبداعي جديد من خلال التوجه إلى رواد التأليف الأدبي البارزين في ثلاثينات القرن الماضي لاحتضان أشعارهم الطافحة بالحب والأمل والتفاؤل وجمال الوجود، حيث كان لجماعة "تحت السور" الحضور الفاعل في هذه الإنتاجات من خلال عبد الرزاق كرباكة، والهادي العبيدي، وعلي الدوعاجي، دون أن ننسى المساهمات المتوهجة لشعراء في حجم وقيمة مصطفى آغا، ومحمد المرزوقي، وبلحسن بن شعبان، والطاهر القصار، ومحمود بورقيبة، وأحمد خير الدين، والمختار كمون، وعثمان الغربي، ومحمد سعيد الخلصي، والمختار فخري، والهادي ذهب، ومصطفى خريف، وأحمد سالم بلغيث، ومحمد المرزوقي، والقائمة طويلة في هذا المجال.
جيل ثانٍ واصل المسيرة
وتواصلت رحلة الأغنية التونسية غداة سنوات الاستقلال الأولى مع جيل من الشعراء الذين تشبعوا بمبادئ الوطنية، عشقوا جمال الوجود، وسعوا إلى ضمان الإضافة للإنتاج الغنائي في تونس. فكان عبد المجيد بنجدو ورائعته الوطنية "بني وطني"، وجلال الدين النقاش الذي كتب النشيد الرسمي التونسي لدولة الاستقلال بقيادة الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة "إلا خلدي"، وحمادي الباجي، ورضا الخويني، وأحمد الزاوية، والمختار حشيشة، وعامر التونسي، وبلحسن العبدلي، وحمادي النيفر، وعبد العزيز الحاج طيب، ورضا القلعي الذي كتب جل الأغاني التي لحنها بنفسه، ويحفظ له التاريخ أغنيته "ظلموني حبايبي" التي كتبها ولحنها وقدمتها لأول مرة المطربة علية، وهي الأغنية التي عبَّدت طريق التألق لها. ومنور صمادح، ومصطفى الحبيب البحري، وعمارة المرسني، وسحنون مختار، وجعفر ماجد، ومحمد بوذينة، ومحمد النوري، وعبد الرحمن النيفر الملقب بـ"شهاب"، وهو وإن كان قليل التأليف الغنائي، فإن أشعاره العاطفية رغم ندرتها يتفق أهل الشأن الموسيقي أنها استثنائية في صورها التونسية الأصيلة، حيث يجنح فيها صاحبها في الأفق الرحب. من ذلك أغنيته الشهيرة "بين الوتر والراح في عينيها" التي تحصلت بها الراحلة نعمة على الجائزة الكبرى في مهرجان صليحة سنة 1965.
الثمانينات... جيل التميز
برز في فترة الثمانينات جيل من شعراء الأغنية رافعاً لواء التجديد في الصورة الشعرية، جيل كسب الرهان في الارتقاء بالأغنية التونسية إلى أعلى درجات التميز والتفرد معنى ومبنى.
لقد وجد هذا الجيل الطريق أمامه معبداً من خلال بروز العديد من الأصوات التي كانت من الركائز الأساسية للفرقة القومية للموسيقى التي تأسست في تلك الفترة. فكان الحبيب المحنوش الذي مثل ثنائياً متفرداً مع المطرب عدنان الشواشي، والراحل عبد الحميد الربيعي الذي احتضن أشعاره عبد الكريم صحابو، والراحل حسونة قسومة الذي مثل مع عبد الرحمان العيادي والراحلة ذكرى ثلاثياً فنياً متفرداً. وتكفي الإشارة في هذا المجال أنه من مجموع الـ30 أغنية للراحلة ذكرى في تونس، 28 منها حملت توقيع الشاعر حسونة قسومة وألحان العيادي. والجليدي العويني الذي كان له أكثر من عمل ناجح مع الملحن سمير العقربي بدرجة أولى، وحسن شلبي الذي اقترن اسمه بشكل لافت مع المطرب لطفي بوشناق، قبل أن يلتحق بهما الشاعر آدم فتحي، وحاتم القيزاني الذي كتب أكثر من قصيدة للملحن محمد الماجري وعبد الصمد كورشيد والحبيب الأسود وأحمد الشايب والبشير اللقاني ومحمود بن صابر والمنصف البلدي وحسن المحنوش الذي غير بأشعاره التوجه الفني للمطربة نبيهة كراولي من خلال أغنيات مستلهمة من الموروث الفني التونسي في ألحان لسليم دمق والصحبي شعير الذي أضفى على الأغنية التونسية نكهة بدوية استثنائية، وعلي الورتاني الذي كان وراء بروز أكثر من صوت فني وغيرهم كثير.
أي مستقبل للأغنية اليوم؟
بعد هذه اللمحة التاريخية المختصرة حول مسيرة الأغنية التونسية من خلال شعرائها، يحق لنا أن نسأل عن مستقبلها في ظل ما تعيشه اليوم من غموض على مستوى الترويج والتوزيع والبث في الوسائل السمعية والبصرية؟ من تراه المسؤول عن هذا الوضع "الكارثي" للأغنية في تونس اليوم؟ هل هو الشاعر أم الملحن أم المطرب؟ إلى أي حد يمكن القول إن تخلي الدولة عن الإشراف المباشر على الإنجاز والتنفيذ والترويج للأغنية التونسية سبب رئيسي في ترديها؟
كل المؤشرات تشير إلى أن الأغنية التونسية اليوم على طريق المراجعة تنظيماً وهيكلة وإنتاجاً وتوزيعاً، ولعل في اجتماع وزيرة الشؤون الثقافية مع شعرائها محطة أولى على الإنقاذ. فهل يكون ذلك كذلك؟