إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

انخراط المدارس التونسية في العصر الرقمي: ضرورة تربوية ومشروع مجتمعي

 

 

الدكتور منذر عافي باحث في علم الاجتماع

حتى وقت قريب، احتكر المربون نشر المعرفة. كان هذا قبل الثورة الرقمية وقبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي (وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات). لكن اليوم بات عالمنا يتغير بشكل أسرع وأعمق من أي وقت مضى. وفي خضم هذه التحولات الرقمية، لا يمكننا ان نكف عن البحث عن مسالك توصلنا الى الإمساك بمكونات الثورة الرقمية،. ورد في الخطة التنفيذية لتطوير المدرسة التونسية لسنة 2002 والتي لم تطبق بالشكل المرجو ان البرمجيات الرقمية تمثل أحد اهم أوجه تطور تكنولوجيا المعلومات في الحقل التربوي. ذلك ان توفير التجهيزات الإعلامية يفرض توفر الوسائل المتعددة الوسائط التي تستجيب لحاجيات المربين والتلاميذ وللأهداف النوعية للمدرسة التونسية.. فهل تحققت هذه الغايات بالفعل؟. الثابت ان للمؤسسات التربوية والتعليمية ارتباطا وثيقا بالتقانية، بوجه عام وبالمعلوماتية، بوجه خاص. اذ ان الحاسوب ليس من مستلزمات تيسير العمل الإداري فقط، يتوسل به في تخزين المعطيات وضبط القاعات وإعداد الجداول وانما هو قاعدة النشاط التربوي. وسيؤدي الفيض، المتزايد من المعلومات التربوية الرقمية الى مزيد تطوير الشبكات الحاسوبية وتنويع البرمجيات والأقراص الضوئية حتى يتسنى لها تخزين المعطيات. لقد بدأت الإعلامية تتحول الى مادة علمية تدرس وأجهزة بيداغوجية مساعدة في الآن ذاته، الأجهزة لا يتاح تعريفها وتفكيك مكوناتها وتحديد وظائفها بصفة أدق الا في المؤسسات التربوية وان بشكل محتشم أحيانا. فالمؤسسات التربوية فضاءات مساعدة على إعادة إنتاج أنماط جديدة من المعرفة وبناء انساق علمية في ضوء المستجدات التقنية التي تعتمد شبكات عريضة النطاق قادرة على إرسال بيانات بسرعة قياسية عبر الألياف الضوئية.

وقد شكلت هذه التحولات، التقانية، مجالا لنشوء علاقات اجتماعية وتربوية جديدة. وهي غير منفصلة عن التمأسس والتنظيم الى جانب كونها تخضع لسيرورة سياسية واقتصادية وثقافية مترابطة. ولقد رافق تطور المدارس والمعاهد تطور الوسائل التقانية. ولذلك تعتبر التربية، بحكم دورها وطبيعتها أكثر مؤسسات المجتمع عرضة للتغيير. ولا يمكن لنا اليوم ان نتجاهل اتساع الفضاء التربوي والآفاق المفتوحة في هذا المجال، حتى أن الإشراف على العملية التربوية أضحى من اختصاص هيئات ومنظمات متعددة حكومية وخاصة. إن ملاحظة طرائق التدريس تسمح بإدراك الأهداف التي تعرضها الجماعات التربوية، لتنشرها بين المتقبلين كما تسمح لنا بفهم الغائيات الكبرى التي ترمي إليها الدولة عبر تنويع مناهج الإبلاغ وإيصال المعلومات وتكثيف الفروع المعرفية المهتمة بالتربية وقطاعاتها المختلفة.

لكي ندرك تماما هذا الترابط بين النظام التربوي والحياة الاجتماعية، يجب أن نتتبع الحركة التعليمية الواسعة وتطورها باعتماد مباحث علوم التربية وعلم الاجتماع التربوي وفلسفة التربية. هذه المعارف تمكننا من التوصل الى وصف تقريبي لعمليات التجديد والتحديث في المجتمع. بما أن التربية أضحت تستوجب اليوم التخصص بعد أن تنامى التقسيم الاجتماعي للعمل، ولم تعد العائلة أو مجموعات القرابة أو الأفراد المعزولون قادرين على تقديم المعلومة العلمية والموضوعية الى الطفل وأضحت ممارسة مهيكلة، تتمايز فيها النشاطات والأدوار الاجتماعية وفق نظرة إجمالية تحكمها شروط واضحة ومفهومة.

لقد حلت اليوم المدرسة والمؤسسات التربوية بصورة واسعة محل الجماعات الاجتماعية الضيقة للقيام بمهام التنشئة بشكل شمولي. ويمكن القول ان المؤسسة التربوية أصبحت مدعوة بناء على أدوارها الجديدة الى مواكبة التحولات التقانية والاهتمام بالنظم المعلوماتية والاستفادة من المعلومات في ضبط القضايا وتحليلها.

وتلبية لهذه الحاجات، ازداد الاهتمام بدور التقانة في الارتقاء بالعملية التربوية وإيجاد معايير مرنة ومنطقية لغاية تمييز البرامج وتدقيقها. ولذلك دار جدل بين المهتمين بأمر التعليم حول أهمية المعلوماتية وأنواعها ومدى الاستعانة بها. وهو جدل شمل خاصة الدول الأكثر تقدما وتصنيعا. كما طرحت مسألة اختيار أفضل الأساليب للاستفادة من المعلومات في تطوير التعليم ومعالجة مشكلاته ورفع مستوى أداء المتقبلين.

وتتميز معظم هذه الأجهزة بسهولة استعمالها وسرعتها الفائقة في بث المعطيات المطلوبة، وبذلك تسهم المعلوماتية في تكوين الأفراد وفق تصورات مجتمعية مضبوطة ومبرمجة آليا وهي تفعل أيضا في إنماء الشخصية في إطار سياق حضاري، تثبت وفقه مجموعة من الرموز الرقمية، ونستطيع أن نقيم تمييزا مهما بين استعمال الإعلامية وسيلة تدريس وتلقين ومساعدة على الفهم واستعمالها مادة علمية تدرس.

ما هو دور الرقميات في المدرسة؟

في الوقت الحاضر، عندما نتحدث عن وصول التقنيات إلى المدرسة ، نفكر تلقائيًا في ما يسمى بالتعلم "الافتراضي" أو التعلم عبر الإنترنات ، ولا سيما على مستوى التعليم الإعدادي والثانوي- يتحدث البعض عن "المدرسة الافتراضية". كان ظهور الدورات التدريبية المفتوحة عبر الإنترنت تساعد الحواسيب الالكترونية على تنويع مجالات الإبلاغ وإثراء الدروس وإعادة تنظيم الفصول. وتستوجب مثل هذه الأهداف، مجهودات فكرية ومعرفية مخططة ومراقبة منهجيا. وإنه من السهل البرهنة على ان النتائج في النهاية لن تكون غامضة أو سلبية بل تحتوي في ذاتها على نسق تطوري، باعتبار أن التطبيقات البيداغوجية المبرمجة ضمن منظومات الاتصالات عبر الشبكات المحلية او الدولية، التي تستخدم المضخمات الليفية والأمواج الضوئية ستكون ذات مردود جيد إذا خضعت الى استراتيجيات مجتمعية واضحة المعالم.

وتختلف الإعلامية التربوية في برامجها، عن الإعلامية بصفة عامة اذ هي عبارة عن منتجات ومواد تعليمية تخضع الى مجموعة من العمليات وأساليب التفكير الى جانب ارتباطها بمشاكل المجتمع السوسيوثقافية والسياسية. ولا يمكن أن تنشأ علاقة متطورة بين التنمية والعلم اذا لم تستند الى مجهود تربوي طويل النفس يتصدى لمجابهة المشاكل المطروحة.

ولقد خلق تطور المعلوماتية، إمكانات متعددة أمام الأفراد ودعم تجاربهم في المجال التربوي. كما منحهم فرصا للارتقاء الذهني والمعرفي. وأصبحت المعلومات متاحة أمام الجميع كما تنوعت مصادرها وبات المربي والتلميذ يجدان خيارات كثيرة بعد أن نمت الحاجة الى الحاسوب والأجهزة الإعلامية المختلفة، سيما وأنه لا يمكن إحداث الثورة التربوية تحت وطأة البيروقراطية التي عششت في كيان إدارات التعليم وتسببت في تراجع وظيفتها التسييرية والتأطيرية.

ان كل مشاريع التجديد في المجتمع تحتاج الى مرونة كبيرة لضمان أقصى استغلال للموارد الطبيعية والبشرية. إضافة الى خلق الحوافز غير المادية لدى القائمين بعمليات التدريس وجميعها مهام تحتاج مهارات عالية لابد من توافرها لدى الفاعلين على مختلف المستويات. ومن حسن الطالع أن تقانة المعلومات توفر فرصا عديدة لتدريب أطقم الإدارة التعليمية والمدرسية. كما تمكن من مساعدة متقبلي المادة التربوية على إجراء عمليات متعددة باستخدام أجهزة فائقة وتوليد صور تربوية وتصميمات بيداغوجية عالية الجودة. وتهدف عمليات دمج السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الى إعداد برامج التنمية العلمية إعدادا يساير استراتجيات الدولة الشاملة ويقدم صورة واضحة عن المجتمع يمكن النظر اليه من خلال البرامج التربوية بواسطة الحاسوب. وهو ما يجعل التنظيمات التربوية أنظمة مفتوحة لا يرتبط عملها بشروط داخلية وحسب وانما كذلك بمبادلات المؤسسة التربوية مع البيئة الخارجية. ويمكننا ان نقيم الصلة بين المدرسة ومؤسسات التقنية المعلوماتية انطلاقا من أهداف الفاعلين وطموحاتهم.

كيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية على التعلم؟

- لقد أنجزت خلال العقدين الماضيين، العديد من التجارب حول استخدام الحاسوب في التربية بشكل عام والتعليم بشكل خاص. واتخذت هذه التجارب، أساليب وطرقا مختلفة، وان كانت في غالبيتها العظمى تجارب رائدة هدفت الى رسم خطوط المستقبل، وفهم خصوصيات استخدام الحاسوب في التعليم ووضع القواعد المثلى لذلك ليعود بالفائدة على العملية التربوية التي هي مؤشر يسمح بتمييز المجتمعات بطريقة بليغة ودقيقة. ولقد أثبتت التجارب ان التلاميذ الذين اعتادوا على استخدام التكنولوجيا الرقمية في القسم يحققون بشكل ملحوظ تعلمًا أفضل ، بغض النظر عن نوع الوسيلة. و يفهمون بشكل أسرع وأفضل ما قرأوه.

يمكننا ان نستخلص، من هذه المرحلة ان المجتمع حينما يقوم فيه التعليم على ترابط النشاط المعلوماتي والنشاط البشري فإنه يساهم بذلك في خلق الشروط المؤسساتية للتواصل بين الفاعلين ومختلف التشكيلات الاجتماعية وفق أساليب متميزة للعمل والتفكير تكون ملزمة للجميع.

فالعملية التربوية المتبلورة عن هذا النمط المثالي للمجتمع المعلوماتي ستساعد بكل تأكيد على بروز ثقافة اجتماعية ديمقراطية. وهو أمر يدل على ان المعلوماتية قد تبدل بشكل كبير العلاقة القائمة بين الفرد والفضاء المدرسي وتؤدي الى نشوء بيئة معلومات أكثر ثراء بما يساعد على التنوع والتعدد النافع والى تكوين الأفراد انطلاقا من قيم وغائيات كونية بعيدا عن التسلط والانغلاق والتطرف.

ان الفاعلين الاجتماعيين والنخب السياسية في الدول ذات الكثافة الالكترونية ساعون الى مواجهة التحديات والمعلوماتية داخل المؤسسات التربوية والاستجابة بأساليب مختلفة للتغييرات.

وربما تكمن المساهمة الأساسية، للفكر الياباني في تطويع الحاسوب والمنظومات الشبكية وقنوات الإرسال الالكترونية لخدمة التعليم وتطوير أمثلة مبتكرة وخصبة في مجال البيداغوجيا وعلوم التربية. فقد توصل الذهن الياباني الى تقديم معطيات كافية حول تأسيس تربية علمية انطلاقا من نظرة شمولية تحيط بكل جوانب الفاعلية الإنسانية ووظف التقانة لخدمة تطلعات الإنسان الياباني وهي تطلعات تكمن في ضرورة الاستفادة من المناهج والنظريات في اللغة اليابانية. لكن المجمع الياباني استطاع في زمن وجيز أن يتجاوز كل تلك العراقيل واعتبر ربط الحاسوب والأجهزة الضوئية المتنوعة بالمؤسسات التربوية مسألة سياسية مهمة وحيوية تستوجب تضافر جهود كل الفاعلين في المجتمع من أجل إنجاحها عبر آليات التحكم وهي آليات متنوعة ومكثفة تساهم أساسا في بلورة منظومة تربوية تواكب التحولات العالمية.

نحن نعلم ان المسألة ليست مسألة اختيار الشبكات المعلوماتية ،والانخراط في تقنيات المعلومات فحسب وانما هي أعمق من ذلك بكثير. انها تستوجب نسفا تنظيميا من أجل ضمان النجاعة والمردودية الجيدة وفقا لمتطلبات العقلانية الاجتماعية.

وسوف تثبت دراسة أشكال التقدم في العصر الالكتروني التوافق الأساسي بين التقانة والتربية بما يؤدي الى نشوء ظروف مواتية لإحداث تغييرات هامة في البنية الاجتماعية. لهذا ينبغي ان تكون دراسة التحول الاجتماعي في المجتمعات الإنسانية كلية ومتجانسة، من أجل إعادة إنتاج نظام مدرسي وتربوي جديد يتولّد عنه مجال مناسب لتحقيق استفادة متكافئة، من المعلومات التربوية التي تبثّ عبر الشبكات المعلوماتية.

وفي الحقيقة انها ليست أحلاما، بقدر ما هي، مشاريع حقيقية، ستكون وسيلتنا للحوار والتحليل السوسيولوجي الذي يمسّ أدق الخصوصيات في السياق الاجتماعي. ان الأشكال المختلفة التي يظهر عليها التحدي المعلوماتي تعتبر مؤشرات تعزّز المغزى الايجابي للأجهزة المعلوماتية والشبكية في خدمة التربية والتعليم.

يبقى ان ضعف الوعي الاجتماعي بخصوصيات المعلوماتية وخطورتها على بعض الشعوب والتجمعات الإنسانية عوامل من شأنها ان تؤدي الى تأخير الاستفادة من المضامين الفكرية والمعرفية التي تختزنها الحاسوبات وبالتالي ادارك أهمية المشاركة في صياغة مسائل تربوية كونية جديدة. وتعد الإمكانيات الهامة التي تمنحها الأجهزة المكرواعلامية والحواسيب دافعا لتطوير أساليب التدريس والارتقاء بعمليات الاستيعاب لدى التلاميذ والطلبة، ارتكازا على مرونة نظم الخزن والاسترجاع.

هل ستكون التكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزأ من التدريس

نحن الآن بصدد نسق ذهني كليّ يطرح مسائل التطور وإعادة بناء نموذج ثقافي، يقطع مع التصوّرات السائدة عن أزمة الثقافة في العالم. ولذلك تمتد الاختراقات الالكترونية في المجال الرمزي في التربية والذي هو الثقافة بما يساهم في تأسيس الملامح الاجتماعية والنفسية للفرد في شكلها الجديد. ان تصورنا للمسألة، في عموميتها لا يجب ان يحجب عنا كون التنظيم التربوي الراهن والموجود في شتّى أنحاء العالم هو عبارة عن تنظيم حصري جامد كما ان البرامج والمعايير هي نفسها. بمعنى انها برامج لا تحتوي جانب التنويع، رغم انها قد توحي بوجود توافق في التوجهات والاهتمامات ومشاركة في الصياغة بين مختلف أفراد المجتمع وذلك اعتبارا الى ان البرامج التعليمية تم وضعها من قبل أجهزة رسمية لها توجهات إيديولوجية معينة. ولاشك في أن الثورة المعلوماتية يمكن، ان تضيف كثيرا الى القطاع التربوي، مع المحافظة على الافضليات الفردية وإضافة الصفة الاجتماعية على البرامج. ومن وجهة نظر علمية ميدانية شاملة فإن المعلوماتية يمكن ان تتولد عنها نتائج ايجابية تقود في الغالب الأعم الى نوع من التفكير السوسيولوجي يعتمد اجتهاد الباحثين. كما يوظّف قدرة النخب على فهم الموضوع التربوي عبر مسالك ثقافية، مختلفة وأكثر اتساعا بعيدا عن الضغوطات السياسية، والتحيّزات المنهجية والانزلاقات النظرية.

وبتعابير أخرى لا يمكن ان ننتظر ظهور معلوماتية تربوية قائمة الذات. وأن نقيم تبادلات إلكترونية للأفكار والآراء، ما لم نسع الى تنظيم الدينامية الاجتماعية وإعادة توزيع الأدوار على ضوء معطيات جديدة.

(*) باحث في علم الاجتماع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

انخراط المدارس التونسية في العصر الرقمي: ضرورة تربوية ومشروع مجتمعي

 

 

الدكتور منذر عافي باحث في علم الاجتماع

حتى وقت قريب، احتكر المربون نشر المعرفة. كان هذا قبل الثورة الرقمية وقبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي (وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات). لكن اليوم بات عالمنا يتغير بشكل أسرع وأعمق من أي وقت مضى. وفي خضم هذه التحولات الرقمية، لا يمكننا ان نكف عن البحث عن مسالك توصلنا الى الإمساك بمكونات الثورة الرقمية،. ورد في الخطة التنفيذية لتطوير المدرسة التونسية لسنة 2002 والتي لم تطبق بالشكل المرجو ان البرمجيات الرقمية تمثل أحد اهم أوجه تطور تكنولوجيا المعلومات في الحقل التربوي. ذلك ان توفير التجهيزات الإعلامية يفرض توفر الوسائل المتعددة الوسائط التي تستجيب لحاجيات المربين والتلاميذ وللأهداف النوعية للمدرسة التونسية.. فهل تحققت هذه الغايات بالفعل؟. الثابت ان للمؤسسات التربوية والتعليمية ارتباطا وثيقا بالتقانية، بوجه عام وبالمعلوماتية، بوجه خاص. اذ ان الحاسوب ليس من مستلزمات تيسير العمل الإداري فقط، يتوسل به في تخزين المعطيات وضبط القاعات وإعداد الجداول وانما هو قاعدة النشاط التربوي. وسيؤدي الفيض، المتزايد من المعلومات التربوية الرقمية الى مزيد تطوير الشبكات الحاسوبية وتنويع البرمجيات والأقراص الضوئية حتى يتسنى لها تخزين المعطيات. لقد بدأت الإعلامية تتحول الى مادة علمية تدرس وأجهزة بيداغوجية مساعدة في الآن ذاته، الأجهزة لا يتاح تعريفها وتفكيك مكوناتها وتحديد وظائفها بصفة أدق الا في المؤسسات التربوية وان بشكل محتشم أحيانا. فالمؤسسات التربوية فضاءات مساعدة على إعادة إنتاج أنماط جديدة من المعرفة وبناء انساق علمية في ضوء المستجدات التقنية التي تعتمد شبكات عريضة النطاق قادرة على إرسال بيانات بسرعة قياسية عبر الألياف الضوئية.

وقد شكلت هذه التحولات، التقانية، مجالا لنشوء علاقات اجتماعية وتربوية جديدة. وهي غير منفصلة عن التمأسس والتنظيم الى جانب كونها تخضع لسيرورة سياسية واقتصادية وثقافية مترابطة. ولقد رافق تطور المدارس والمعاهد تطور الوسائل التقانية. ولذلك تعتبر التربية، بحكم دورها وطبيعتها أكثر مؤسسات المجتمع عرضة للتغيير. ولا يمكن لنا اليوم ان نتجاهل اتساع الفضاء التربوي والآفاق المفتوحة في هذا المجال، حتى أن الإشراف على العملية التربوية أضحى من اختصاص هيئات ومنظمات متعددة حكومية وخاصة. إن ملاحظة طرائق التدريس تسمح بإدراك الأهداف التي تعرضها الجماعات التربوية، لتنشرها بين المتقبلين كما تسمح لنا بفهم الغائيات الكبرى التي ترمي إليها الدولة عبر تنويع مناهج الإبلاغ وإيصال المعلومات وتكثيف الفروع المعرفية المهتمة بالتربية وقطاعاتها المختلفة.

لكي ندرك تماما هذا الترابط بين النظام التربوي والحياة الاجتماعية، يجب أن نتتبع الحركة التعليمية الواسعة وتطورها باعتماد مباحث علوم التربية وعلم الاجتماع التربوي وفلسفة التربية. هذه المعارف تمكننا من التوصل الى وصف تقريبي لعمليات التجديد والتحديث في المجتمع. بما أن التربية أضحت تستوجب اليوم التخصص بعد أن تنامى التقسيم الاجتماعي للعمل، ولم تعد العائلة أو مجموعات القرابة أو الأفراد المعزولون قادرين على تقديم المعلومة العلمية والموضوعية الى الطفل وأضحت ممارسة مهيكلة، تتمايز فيها النشاطات والأدوار الاجتماعية وفق نظرة إجمالية تحكمها شروط واضحة ومفهومة.

لقد حلت اليوم المدرسة والمؤسسات التربوية بصورة واسعة محل الجماعات الاجتماعية الضيقة للقيام بمهام التنشئة بشكل شمولي. ويمكن القول ان المؤسسة التربوية أصبحت مدعوة بناء على أدوارها الجديدة الى مواكبة التحولات التقانية والاهتمام بالنظم المعلوماتية والاستفادة من المعلومات في ضبط القضايا وتحليلها.

وتلبية لهذه الحاجات، ازداد الاهتمام بدور التقانة في الارتقاء بالعملية التربوية وإيجاد معايير مرنة ومنطقية لغاية تمييز البرامج وتدقيقها. ولذلك دار جدل بين المهتمين بأمر التعليم حول أهمية المعلوماتية وأنواعها ومدى الاستعانة بها. وهو جدل شمل خاصة الدول الأكثر تقدما وتصنيعا. كما طرحت مسألة اختيار أفضل الأساليب للاستفادة من المعلومات في تطوير التعليم ومعالجة مشكلاته ورفع مستوى أداء المتقبلين.

وتتميز معظم هذه الأجهزة بسهولة استعمالها وسرعتها الفائقة في بث المعطيات المطلوبة، وبذلك تسهم المعلوماتية في تكوين الأفراد وفق تصورات مجتمعية مضبوطة ومبرمجة آليا وهي تفعل أيضا في إنماء الشخصية في إطار سياق حضاري، تثبت وفقه مجموعة من الرموز الرقمية، ونستطيع أن نقيم تمييزا مهما بين استعمال الإعلامية وسيلة تدريس وتلقين ومساعدة على الفهم واستعمالها مادة علمية تدرس.

ما هو دور الرقميات في المدرسة؟

في الوقت الحاضر، عندما نتحدث عن وصول التقنيات إلى المدرسة ، نفكر تلقائيًا في ما يسمى بالتعلم "الافتراضي" أو التعلم عبر الإنترنات ، ولا سيما على مستوى التعليم الإعدادي والثانوي- يتحدث البعض عن "المدرسة الافتراضية". كان ظهور الدورات التدريبية المفتوحة عبر الإنترنت تساعد الحواسيب الالكترونية على تنويع مجالات الإبلاغ وإثراء الدروس وإعادة تنظيم الفصول. وتستوجب مثل هذه الأهداف، مجهودات فكرية ومعرفية مخططة ومراقبة منهجيا. وإنه من السهل البرهنة على ان النتائج في النهاية لن تكون غامضة أو سلبية بل تحتوي في ذاتها على نسق تطوري، باعتبار أن التطبيقات البيداغوجية المبرمجة ضمن منظومات الاتصالات عبر الشبكات المحلية او الدولية، التي تستخدم المضخمات الليفية والأمواج الضوئية ستكون ذات مردود جيد إذا خضعت الى استراتيجيات مجتمعية واضحة المعالم.

وتختلف الإعلامية التربوية في برامجها، عن الإعلامية بصفة عامة اذ هي عبارة عن منتجات ومواد تعليمية تخضع الى مجموعة من العمليات وأساليب التفكير الى جانب ارتباطها بمشاكل المجتمع السوسيوثقافية والسياسية. ولا يمكن أن تنشأ علاقة متطورة بين التنمية والعلم اذا لم تستند الى مجهود تربوي طويل النفس يتصدى لمجابهة المشاكل المطروحة.

ولقد خلق تطور المعلوماتية، إمكانات متعددة أمام الأفراد ودعم تجاربهم في المجال التربوي. كما منحهم فرصا للارتقاء الذهني والمعرفي. وأصبحت المعلومات متاحة أمام الجميع كما تنوعت مصادرها وبات المربي والتلميذ يجدان خيارات كثيرة بعد أن نمت الحاجة الى الحاسوب والأجهزة الإعلامية المختلفة، سيما وأنه لا يمكن إحداث الثورة التربوية تحت وطأة البيروقراطية التي عششت في كيان إدارات التعليم وتسببت في تراجع وظيفتها التسييرية والتأطيرية.

ان كل مشاريع التجديد في المجتمع تحتاج الى مرونة كبيرة لضمان أقصى استغلال للموارد الطبيعية والبشرية. إضافة الى خلق الحوافز غير المادية لدى القائمين بعمليات التدريس وجميعها مهام تحتاج مهارات عالية لابد من توافرها لدى الفاعلين على مختلف المستويات. ومن حسن الطالع أن تقانة المعلومات توفر فرصا عديدة لتدريب أطقم الإدارة التعليمية والمدرسية. كما تمكن من مساعدة متقبلي المادة التربوية على إجراء عمليات متعددة باستخدام أجهزة فائقة وتوليد صور تربوية وتصميمات بيداغوجية عالية الجودة. وتهدف عمليات دمج السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الى إعداد برامج التنمية العلمية إعدادا يساير استراتجيات الدولة الشاملة ويقدم صورة واضحة عن المجتمع يمكن النظر اليه من خلال البرامج التربوية بواسطة الحاسوب. وهو ما يجعل التنظيمات التربوية أنظمة مفتوحة لا يرتبط عملها بشروط داخلية وحسب وانما كذلك بمبادلات المؤسسة التربوية مع البيئة الخارجية. ويمكننا ان نقيم الصلة بين المدرسة ومؤسسات التقنية المعلوماتية انطلاقا من أهداف الفاعلين وطموحاتهم.

كيف تؤثر التكنولوجيا الرقمية على التعلم؟

- لقد أنجزت خلال العقدين الماضيين، العديد من التجارب حول استخدام الحاسوب في التربية بشكل عام والتعليم بشكل خاص. واتخذت هذه التجارب، أساليب وطرقا مختلفة، وان كانت في غالبيتها العظمى تجارب رائدة هدفت الى رسم خطوط المستقبل، وفهم خصوصيات استخدام الحاسوب في التعليم ووضع القواعد المثلى لذلك ليعود بالفائدة على العملية التربوية التي هي مؤشر يسمح بتمييز المجتمعات بطريقة بليغة ودقيقة. ولقد أثبتت التجارب ان التلاميذ الذين اعتادوا على استخدام التكنولوجيا الرقمية في القسم يحققون بشكل ملحوظ تعلمًا أفضل ، بغض النظر عن نوع الوسيلة. و يفهمون بشكل أسرع وأفضل ما قرأوه.

يمكننا ان نستخلص، من هذه المرحلة ان المجتمع حينما يقوم فيه التعليم على ترابط النشاط المعلوماتي والنشاط البشري فإنه يساهم بذلك في خلق الشروط المؤسساتية للتواصل بين الفاعلين ومختلف التشكيلات الاجتماعية وفق أساليب متميزة للعمل والتفكير تكون ملزمة للجميع.

فالعملية التربوية المتبلورة عن هذا النمط المثالي للمجتمع المعلوماتي ستساعد بكل تأكيد على بروز ثقافة اجتماعية ديمقراطية. وهو أمر يدل على ان المعلوماتية قد تبدل بشكل كبير العلاقة القائمة بين الفرد والفضاء المدرسي وتؤدي الى نشوء بيئة معلومات أكثر ثراء بما يساعد على التنوع والتعدد النافع والى تكوين الأفراد انطلاقا من قيم وغائيات كونية بعيدا عن التسلط والانغلاق والتطرف.

ان الفاعلين الاجتماعيين والنخب السياسية في الدول ذات الكثافة الالكترونية ساعون الى مواجهة التحديات والمعلوماتية داخل المؤسسات التربوية والاستجابة بأساليب مختلفة للتغييرات.

وربما تكمن المساهمة الأساسية، للفكر الياباني في تطويع الحاسوب والمنظومات الشبكية وقنوات الإرسال الالكترونية لخدمة التعليم وتطوير أمثلة مبتكرة وخصبة في مجال البيداغوجيا وعلوم التربية. فقد توصل الذهن الياباني الى تقديم معطيات كافية حول تأسيس تربية علمية انطلاقا من نظرة شمولية تحيط بكل جوانب الفاعلية الإنسانية ووظف التقانة لخدمة تطلعات الإنسان الياباني وهي تطلعات تكمن في ضرورة الاستفادة من المناهج والنظريات في اللغة اليابانية. لكن المجمع الياباني استطاع في زمن وجيز أن يتجاوز كل تلك العراقيل واعتبر ربط الحاسوب والأجهزة الضوئية المتنوعة بالمؤسسات التربوية مسألة سياسية مهمة وحيوية تستوجب تضافر جهود كل الفاعلين في المجتمع من أجل إنجاحها عبر آليات التحكم وهي آليات متنوعة ومكثفة تساهم أساسا في بلورة منظومة تربوية تواكب التحولات العالمية.

نحن نعلم ان المسألة ليست مسألة اختيار الشبكات المعلوماتية ،والانخراط في تقنيات المعلومات فحسب وانما هي أعمق من ذلك بكثير. انها تستوجب نسفا تنظيميا من أجل ضمان النجاعة والمردودية الجيدة وفقا لمتطلبات العقلانية الاجتماعية.

وسوف تثبت دراسة أشكال التقدم في العصر الالكتروني التوافق الأساسي بين التقانة والتربية بما يؤدي الى نشوء ظروف مواتية لإحداث تغييرات هامة في البنية الاجتماعية. لهذا ينبغي ان تكون دراسة التحول الاجتماعي في المجتمعات الإنسانية كلية ومتجانسة، من أجل إعادة إنتاج نظام مدرسي وتربوي جديد يتولّد عنه مجال مناسب لتحقيق استفادة متكافئة، من المعلومات التربوية التي تبثّ عبر الشبكات المعلوماتية.

وفي الحقيقة انها ليست أحلاما، بقدر ما هي، مشاريع حقيقية، ستكون وسيلتنا للحوار والتحليل السوسيولوجي الذي يمسّ أدق الخصوصيات في السياق الاجتماعي. ان الأشكال المختلفة التي يظهر عليها التحدي المعلوماتي تعتبر مؤشرات تعزّز المغزى الايجابي للأجهزة المعلوماتية والشبكية في خدمة التربية والتعليم.

يبقى ان ضعف الوعي الاجتماعي بخصوصيات المعلوماتية وخطورتها على بعض الشعوب والتجمعات الإنسانية عوامل من شأنها ان تؤدي الى تأخير الاستفادة من المضامين الفكرية والمعرفية التي تختزنها الحاسوبات وبالتالي ادارك أهمية المشاركة في صياغة مسائل تربوية كونية جديدة. وتعد الإمكانيات الهامة التي تمنحها الأجهزة المكرواعلامية والحواسيب دافعا لتطوير أساليب التدريس والارتقاء بعمليات الاستيعاب لدى التلاميذ والطلبة، ارتكازا على مرونة نظم الخزن والاسترجاع.

هل ستكون التكنولوجيا الرقمية جزءًا لا يتجزأ من التدريس

نحن الآن بصدد نسق ذهني كليّ يطرح مسائل التطور وإعادة بناء نموذج ثقافي، يقطع مع التصوّرات السائدة عن أزمة الثقافة في العالم. ولذلك تمتد الاختراقات الالكترونية في المجال الرمزي في التربية والذي هو الثقافة بما يساهم في تأسيس الملامح الاجتماعية والنفسية للفرد في شكلها الجديد. ان تصورنا للمسألة، في عموميتها لا يجب ان يحجب عنا كون التنظيم التربوي الراهن والموجود في شتّى أنحاء العالم هو عبارة عن تنظيم حصري جامد كما ان البرامج والمعايير هي نفسها. بمعنى انها برامج لا تحتوي جانب التنويع، رغم انها قد توحي بوجود توافق في التوجهات والاهتمامات ومشاركة في الصياغة بين مختلف أفراد المجتمع وذلك اعتبارا الى ان البرامج التعليمية تم وضعها من قبل أجهزة رسمية لها توجهات إيديولوجية معينة. ولاشك في أن الثورة المعلوماتية يمكن، ان تضيف كثيرا الى القطاع التربوي، مع المحافظة على الافضليات الفردية وإضافة الصفة الاجتماعية على البرامج. ومن وجهة نظر علمية ميدانية شاملة فإن المعلوماتية يمكن ان تتولد عنها نتائج ايجابية تقود في الغالب الأعم الى نوع من التفكير السوسيولوجي يعتمد اجتهاد الباحثين. كما يوظّف قدرة النخب على فهم الموضوع التربوي عبر مسالك ثقافية، مختلفة وأكثر اتساعا بعيدا عن الضغوطات السياسية، والتحيّزات المنهجية والانزلاقات النظرية.

وبتعابير أخرى لا يمكن ان ننتظر ظهور معلوماتية تربوية قائمة الذات. وأن نقيم تبادلات إلكترونية للأفكار والآراء، ما لم نسع الى تنظيم الدينامية الاجتماعية وإعادة توزيع الأدوار على ضوء معطيات جديدة.

(*) باحث في علم الاجتماع