إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تنطلق بعد غد.. العائلات في "حالة استنفار" بسبب الامتحانات !!

 

رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ"الصباح": الامتحانات في تونس بين "دكتاتوريّة العدد" وطموح الإصلاح الشامل

تونس-الصباح

حالة استنفار كبرى تعيش على وقعها جل العائلات التونسية، ذلك أن "غول" امتحانات الثلاثي الأول على الأبواب. هذه المحطة التقييمية الهامة التي حافظت على قٌدسيتها في المخيال الشّعبي التونسي رغم إقرار كثير من أهل الاختصاص بأن هذه المنظومة التقييمية بشكلها الحالي تحتاج الى مراجعات عديدة.. على اعتبار أن "التميّز" الحاصل لا يعكس مطلقا المستوى الفعلي للتلميذ..

الاثنين المقبل سيكون موعد انطلاق تلاميذ مختلف المراحل الابتدائية والإعداديات الثانوية في ماراطون امتحانات الثلاثي الأول التي ستلتئم على مدار الأسبوعين القادمين.. وما يتبعٌ ذلك من استعدادات حثيثة سواء على مستوى تكثيف الدروس الخصوصية أو توفير أجواء خاصّة في البيوت من أجل الظفر لاحقا "بالتميز المنشود".. لتحافظ هذه المحطة التقييمية على قدسيتها رغم أن أهل الاختصاص طالبوا مرارا وتكرارا بضرورة مراجعتها حتى يتجنب التلميذ الضغط النفسي الذي يسلط عليه في فترة الامتحانات..

في تفاعله مع المسالة يٌشير رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، سليم قاسم، في تصريح لـ"الصباح" أن

الامتحانات في تونس ترزح بين "دكتاتوريّة العدد" وطموح الإصلاح الشامل، فمع اقتراب امتحانات نهاية الثلاثي الأول تعيش الأسرة التربويّة بأكملها، من إدارات تربويّة ومدرّسين وتلاميذ وأولياء، حالة من الاستنفار الجماعيّ تعكس أهميّة الامتحانات، لكنها في الآن ذاته تسلّط الضوء على منظومة التقييم وما تعانيه من إشكاليّات عميقة: فمنذ عقود ارتكزت منظومة التقييم في تونس على قياس معارف التلميذ ومدى قدرته على استحضارها في الامتحانات، عوض التركيز على ما اكتسبه من مهارات فعليّة، سواء كانت معرفيّة أو حياتيّة.

وهذه المقاربة التقليديّة كرّست ما يمكن تسميته بـ"دكتاتوريّة العدد"، حيث أصبحت الأعداد المحصّلة هي الهدف الأسمى، ليس فقط للتلاميذ وأوليائهم، بل وللمدرسين وللمؤسسة التعليميّة ككل، فعلى أساسها وحدها يتمّ تقدير نجاح التلميذ أو فشله، وهي التي تحدّد مصيره التعليميّ سواء تعلّق الأمر بالارتقاء من مستوى تعليميّ إلى آخر أو بالتوجيه نحو هذه الشعبة الدراسيّة أو تلك، وهكذا أصبحت المنظومة التّربويّة بأكملها رهينة هذا النظام التقييميّ، مما طغى على الجوانب التربويّة وحتى التعلّميّة الأخرى..

وأضاف محدثنا أن هذا الهوس الحقيقيّ بالأعداد والمعدّلات قد أدى إلى بروز العديد من الظواهر السلبيّة التي تؤثّر بشكل مباشر على جودة التعليم وعلى الصحّة النفسيّة للمتعلّمين، ومن هذه الظّواهر ذكر محدثنا الضغوط النفسيّة التي يعاني منها التلاميذ، وخاصة المتفوقين منهم، والمرتبطة بالخوف من الفشل أو عدم تحقيق النتائج المرجوّة، وهي ضغوط تتحوّل عند بعضهم إلى قلق مرضيّ مزمن أو إلى "رهاب الامتحانات"، بما يُضعف أداءهم ويؤثّر على تحصيلهم. أضف إلى ذلك استفحال ظاهرة الدروس الخصوصيّة، حيث باتت الأسر التونسيّة تُنفق مبالغ طائلة على هذه الدروس لتحسين أعداد أبنائها، مع ما يؤدّي إليه هذا الوضع من تكريس للفوارق الاجتماعيّة وضرب لمبدأ تكافؤ الفرص، دون أن ننسى كذلك ظاهرة الغش في الامتحانات التي ما فتئت تتفشّى بشكل مقلق نظرا لحرص أعداد متزايدة من المتعلّمين وحتّى الأولياء على الحصول على الأعداد المطلوبة بأيّ ثمن.

 واعتبر محدثنا في الإطار نفسه أنّ إصلاح منظومة التقييم بات اليوم ضرورة ملحّة، وهو إصلاح يتطلب مقاربة شاملة تُعنى كذلك بتحديث المناهج وطرائق التدريس، باعتبار أنّ التقييم هو في النهاية امتداد لأساليب التّعليم، ومن بين التوجّهات التي يمكن أن تسهم في هذا الإصلاح نذكر بيداغوجيا المشروع، حيث يمكّن التركيز على إنجاز المشاريع العمليّة المتعلّم من اكتساب المهارات "الصلبة" المتعلّقة بالموادّ الدّراسيّة، فضلا عن المهارات "اللّيّنة" أو المهارات الحياتيّة ذات الطبيعة الأفقيّة العابرة للموادّ، ويعني ذلك بالضّرورة الانتقال من تقييم المعارف إلى تقييم المهارات.

وأضاف في السياق ذاته أن التغيير المنشود في منظومة التقييم لا يمكن أن يتحقّق عبر إجراءات جزئيّة أو متسرّعة: فالمطلوب هو إصلاح جذريّ وشامل، ينبع من رؤية منظوميّة تجمع بين كافّة أطراف العملية التربويّة. ولا شكّ في أنّ إصلاحا كهذا يحتاج إلى مقاربة تشاركيّة حقيقيّة تستقطب الكفاءات الوطنيّة القادرة على حمل مشروع الإصلاح، مع إقصاء كلّ من ثبت فشله في محاولات الإصلاح السابقة، وكلّ من حاول استغلالها لتحقيق مآرب شخصيّة أو لخدمة أجندات لا وطنيّة.

وليخلص محدثنا الى القول بأنه يبرز دور المجلس الأعلى للتربية كأحد أهمّ الآليات الوطنيّة القادرة على دفع عجلة الإصلاح، والآمال معقودة على هذا المجلس ليباشر مهمّته بكفاءة ودقّة، حتّى يضع المنظومة التربويّة التونسيّة على مسار يليق بطموحات البلاد ومستقبل أجيالها: فإصلاح منظومة التقييم، على صعوبته، ليس إلاّ جزءًا من مشروع أكبر لإصلاح المنظومة التربويّة برمّتها، ونجاح هذا الإصلاح يعني بالضرورة تمكين التلميذ التونسيّ من اكتساب المهارات والمعارف التي تؤهّله لمواجهة تحدّيات القرن الحادي والعشرين، بعيدًا عن سطوة الأعداد، وقريبًا من جوهر التعليم الحقيقيّ.

منال حرزي

 

 

 

 

 

 

 

 

تنطلق بعد غد..  العائلات في "حالة استنفار" بسبب الامتحانات !!

 

رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ"الصباح": الامتحانات في تونس بين "دكتاتوريّة العدد" وطموح الإصلاح الشامل

تونس-الصباح

حالة استنفار كبرى تعيش على وقعها جل العائلات التونسية، ذلك أن "غول" امتحانات الثلاثي الأول على الأبواب. هذه المحطة التقييمية الهامة التي حافظت على قٌدسيتها في المخيال الشّعبي التونسي رغم إقرار كثير من أهل الاختصاص بأن هذه المنظومة التقييمية بشكلها الحالي تحتاج الى مراجعات عديدة.. على اعتبار أن "التميّز" الحاصل لا يعكس مطلقا المستوى الفعلي للتلميذ..

الاثنين المقبل سيكون موعد انطلاق تلاميذ مختلف المراحل الابتدائية والإعداديات الثانوية في ماراطون امتحانات الثلاثي الأول التي ستلتئم على مدار الأسبوعين القادمين.. وما يتبعٌ ذلك من استعدادات حثيثة سواء على مستوى تكثيف الدروس الخصوصية أو توفير أجواء خاصّة في البيوت من أجل الظفر لاحقا "بالتميز المنشود".. لتحافظ هذه المحطة التقييمية على قدسيتها رغم أن أهل الاختصاص طالبوا مرارا وتكرارا بضرورة مراجعتها حتى يتجنب التلميذ الضغط النفسي الذي يسلط عليه في فترة الامتحانات..

في تفاعله مع المسالة يٌشير رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم، سليم قاسم، في تصريح لـ"الصباح" أن

الامتحانات في تونس ترزح بين "دكتاتوريّة العدد" وطموح الإصلاح الشامل، فمع اقتراب امتحانات نهاية الثلاثي الأول تعيش الأسرة التربويّة بأكملها، من إدارات تربويّة ومدرّسين وتلاميذ وأولياء، حالة من الاستنفار الجماعيّ تعكس أهميّة الامتحانات، لكنها في الآن ذاته تسلّط الضوء على منظومة التقييم وما تعانيه من إشكاليّات عميقة: فمنذ عقود ارتكزت منظومة التقييم في تونس على قياس معارف التلميذ ومدى قدرته على استحضارها في الامتحانات، عوض التركيز على ما اكتسبه من مهارات فعليّة، سواء كانت معرفيّة أو حياتيّة.

وهذه المقاربة التقليديّة كرّست ما يمكن تسميته بـ"دكتاتوريّة العدد"، حيث أصبحت الأعداد المحصّلة هي الهدف الأسمى، ليس فقط للتلاميذ وأوليائهم، بل وللمدرسين وللمؤسسة التعليميّة ككل، فعلى أساسها وحدها يتمّ تقدير نجاح التلميذ أو فشله، وهي التي تحدّد مصيره التعليميّ سواء تعلّق الأمر بالارتقاء من مستوى تعليميّ إلى آخر أو بالتوجيه نحو هذه الشعبة الدراسيّة أو تلك، وهكذا أصبحت المنظومة التّربويّة بأكملها رهينة هذا النظام التقييميّ، مما طغى على الجوانب التربويّة وحتى التعلّميّة الأخرى..

وأضاف محدثنا أن هذا الهوس الحقيقيّ بالأعداد والمعدّلات قد أدى إلى بروز العديد من الظواهر السلبيّة التي تؤثّر بشكل مباشر على جودة التعليم وعلى الصحّة النفسيّة للمتعلّمين، ومن هذه الظّواهر ذكر محدثنا الضغوط النفسيّة التي يعاني منها التلاميذ، وخاصة المتفوقين منهم، والمرتبطة بالخوف من الفشل أو عدم تحقيق النتائج المرجوّة، وهي ضغوط تتحوّل عند بعضهم إلى قلق مرضيّ مزمن أو إلى "رهاب الامتحانات"، بما يُضعف أداءهم ويؤثّر على تحصيلهم. أضف إلى ذلك استفحال ظاهرة الدروس الخصوصيّة، حيث باتت الأسر التونسيّة تُنفق مبالغ طائلة على هذه الدروس لتحسين أعداد أبنائها، مع ما يؤدّي إليه هذا الوضع من تكريس للفوارق الاجتماعيّة وضرب لمبدأ تكافؤ الفرص، دون أن ننسى كذلك ظاهرة الغش في الامتحانات التي ما فتئت تتفشّى بشكل مقلق نظرا لحرص أعداد متزايدة من المتعلّمين وحتّى الأولياء على الحصول على الأعداد المطلوبة بأيّ ثمن.

 واعتبر محدثنا في الإطار نفسه أنّ إصلاح منظومة التقييم بات اليوم ضرورة ملحّة، وهو إصلاح يتطلب مقاربة شاملة تُعنى كذلك بتحديث المناهج وطرائق التدريس، باعتبار أنّ التقييم هو في النهاية امتداد لأساليب التّعليم، ومن بين التوجّهات التي يمكن أن تسهم في هذا الإصلاح نذكر بيداغوجيا المشروع، حيث يمكّن التركيز على إنجاز المشاريع العمليّة المتعلّم من اكتساب المهارات "الصلبة" المتعلّقة بالموادّ الدّراسيّة، فضلا عن المهارات "اللّيّنة" أو المهارات الحياتيّة ذات الطبيعة الأفقيّة العابرة للموادّ، ويعني ذلك بالضّرورة الانتقال من تقييم المعارف إلى تقييم المهارات.

وأضاف في السياق ذاته أن التغيير المنشود في منظومة التقييم لا يمكن أن يتحقّق عبر إجراءات جزئيّة أو متسرّعة: فالمطلوب هو إصلاح جذريّ وشامل، ينبع من رؤية منظوميّة تجمع بين كافّة أطراف العملية التربويّة. ولا شكّ في أنّ إصلاحا كهذا يحتاج إلى مقاربة تشاركيّة حقيقيّة تستقطب الكفاءات الوطنيّة القادرة على حمل مشروع الإصلاح، مع إقصاء كلّ من ثبت فشله في محاولات الإصلاح السابقة، وكلّ من حاول استغلالها لتحقيق مآرب شخصيّة أو لخدمة أجندات لا وطنيّة.

وليخلص محدثنا الى القول بأنه يبرز دور المجلس الأعلى للتربية كأحد أهمّ الآليات الوطنيّة القادرة على دفع عجلة الإصلاح، والآمال معقودة على هذا المجلس ليباشر مهمّته بكفاءة ودقّة، حتّى يضع المنظومة التربويّة التونسيّة على مسار يليق بطموحات البلاد ومستقبل أجيالها: فإصلاح منظومة التقييم، على صعوبته، ليس إلاّ جزءًا من مشروع أكبر لإصلاح المنظومة التربويّة برمّتها، ونجاح هذا الإصلاح يعني بالضرورة تمكين التلميذ التونسيّ من اكتساب المهارات والمعارف التي تؤهّله لمواجهة تحدّيات القرن الحادي والعشرين، بعيدًا عن سطوة الأعداد، وقريبًا من جوهر التعليم الحقيقيّ.

منال حرزي