إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"الصباح" رصدتها في كاراكاس.. تجربة الكومونات الاشتراكية تحوّل "حزام الصدأ" إلى "شريط أمل"

مبعوث "دار الصباح": نزار مقني

لم تكن تجربة الحكم المحلي الفنزويلية بالسهلة، بل كانت حسب عديد الملاحظين والفاعلين فيها، الذين تحدثت معهم "الصباح" صعبة جدا، وانطلقت وفق مقاربة البحث على القضاء على الفقر وترتيب "فوضى العشوائيات" المنتشرة في محيط العاصمة الفنزويلية كاراكاس وغيرها من المدن التي لم تعرف أبدا معنى للتنمية المحلية طوال عقود من اكتشاف النفط، ومن ثم من "الثورة النفطية" في الخمسينات التي أتت بتجربة "ديمقراطية مشوهة"، خدمت مصالح نخبة حكمت بمقتضى اتفاق يقضي بتقاسم السلطة مهما كانت نتائج الانتخابات.

حول العاصمة كاراكس، المدينة التي حفرت في الجبال، والتي تعانق السحاب، فتخالها وأنت تتجول بجواك، طوال النهار، ولتنهي تشكلها آخر النهار وتسقط ما حملته كل يوم مدة تتراوح بين الساعة والساعتين قبل غروب الشمس، يوجد "حزام كبير من الصدأ" تمثله الأكواخ التي بنيت على سفوح وفي أعالي هذه الجبال، والمسقفة بالقصدير، وهو قاسم مشترك في غالب مدن أمريكا اللاتينية.

تلك اﻷحزمة التي كانت طيلة سنوات تحمل "حلم الثورة" في معناها البوليفاري بالنسبة لفنزويلا، ومعانيه اليسارية التي تختزل في كلمة واحدة عبر عنها كل من تعاقبوا على قيادة الثورات في أمريكا الجنوبية والبحر الكريبي طول عقود، وهو "التغلب على الفقر" و"إرجاع السلطة للشعب".

وحتى وإن كانت هذه المعاني تحمل محورين مختلفين من حيث التصنيف، فاﻷول مطمح اجتماعي اقتصادي، ظل لصيقا بتاريخ أمريكا اللاتينية منذ استكشافات كريستوف كولومبوس، وحتى حروب الاستقلال الطويلة ضد الاحتلال الاسباني، فبات التغلب على الفقر مرادفا للاستقلال ومرادفا كذلك للتغلب على العبودية التي عانت منها شعوب أمريكا اللاتينية منذ أن استقبلت الشعوب الأصلية للأمريكيتين جحافل المحتلين الجدد، وأبادتهم للاستفادة من قواهم العاملة، والاستيلاء على ثرواتهم، وهذا ما يمثل المحور الثاني وهو المحور السياسي الذي من خلاله اعتمد على مبدأ دعم الحكم المحلي من خلال الكومونات وتمكين المتساكنين من حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بمناطقهم من حيث تنظيمها واتخاذ قرارات تنميتها خصوصا مع اختلاف كل منطقة عن الأخرى منن حيث الخصائص الديمغرافية والطبيعية والاجتماعية، وهو عين ما جاءت به تجارب الكومونات منذ بروزها كمعيار حكم اشتراكي في ما بات يعرف بـ"كومونة باريس" سنة 1870، في غضون الحرب الفرنسية-البروسية آنذاك.

ترامب وكومونات فنزويلا

اﻷمر لم يختلف، حتى اليوم، في نظر الفنزويليين، فهم يرون أن أمريكا، تريد اليوم تحطيم "تجربتهم في الحكم والتنمية المحليين"، ذلك على اﻷقل ما قاله خوزيه أحد المسؤولين لشركة محلية حولت "سانتا روزا" المنطقة العشوائية إلى "كومونة متطورة" وحققت شعارا رفع منذ السنوات اﻷولى من حكم الرئيس السابق هوغو تشافيز "كومونة من لا شيء".

خوزيه يقول "هذه الشركة تقوم اليوم بتشغيل قرابة 50 شخصا من هذه الكومونة التي أطلق عليها كومونة ألبانال 2021"، وهذه الكومونة هي تجربة متقدمة لتشغيل أهالي هذه المنطقة التي كانت عشوائية وتمكنت ببعض من التنظيم وانتخاب المشرفين عليها من إعادة التموضع".

وتشتغل هذه الشركة المحلية في مجال النسيج، تقوم على إنتاج الفنلات والتبابين، وغيرها من الملابس".

وبالرغم من صغر حجم هذه الشركة إلا أنها تقوم بتوفير مواطن شغل لمتساكني هذه المنطقة، التي كانت منذ سنوات منطقة عشوائية يكثر فيها العنف وتجارة الدعارة والمخدرات.

تقوم هذه الشركة ببيع منتوجاتها، وتحصيل ثمن التكلفة والربح يقومون بتوجيهه لفائدة إصلاح البنية التحتية والمساهمة في تكاليف بناء وحدات سكنية اجتماعية لفائدة من يشتغلون فيها وذلك بمساعدة الدولة.

وحسب خوزيه فإنه توجد شركات محلية أخرى في المنطقة، تشغل متساكنيها.

وحول مصادر المواد الخام التي تعمل بها الشركة، مع وجود حصار اقتصادي أمريكي عليها، يقول خوزيه: "نحن نأتي بها من بوليفيا ومن الصين".

ويضيف أن التجربة كانت ناجحة في توفير مواطن شغل والتخلص من الفقر المدقع الذي كانت بعض مناطق كاراكاس تعاني منه.

وبالرغم من أن هذه المشاريع تعتبر صغيرة الحجم إلا أن تجربة الإدارة التشاركية التي تعمل من خلالها، تعتبر ناجحة، خصوصا وأن نتائجها واضحة للعيان.

الكومونة في معيار الاقتصاد الفنزويلي

فالعمارات الملونة التي تنتشر في المنطقة، هي من ثمار ونتاج هذه الشركات، التي توفر علاوة على مصادر رزق العاملين فيها، ملابس مجانية لفائدة التلاميذ وأطفال المنطقة، كما سمحت ببناء وتعبيد الطرقات الضيقة لهذه الكومونة".

يشير خوزيه "هذه التجربة الاشتراكية انطلقت منذ انتخاب هوغو تشافيز وبداية الثورة البوليفارية وذهاب تشافيز إلى تعميم الحكم المحلي واللامركزي وتمكين المجالس المحلية والبلدية من حرية العمل والتدبير، في إطار مجالس منتخبة".

وتبدو هذه النقطة من كلام خوزيه على أنها رسالة موجهة لكل منتقدي التجربة التي مرت بها فنزويلا، وخصوصا الاتهامات الامريكية والغربية المتتالية للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، حول ضرب التجربة الديمقراطية وخصوصا في الدورات المتتالية للانتخابات الرئاسية التي عقبت وفاة الرئيس السابق هوغو تشافيز سنة 2013، والتي على أساسها فرضت واشنطن عقوبات تسببت في خنق الاقتصاد الفنزويلي، والدخول في نفق من التضخم المفرط بلغ قرابة المليون بالمائة، وتسجيل الاقتصاد انكماشاً لمدة 7 سنوات متتالية في الفترة بين عامي 2014 و2020، ليفقد أكثر من نصف حجمه مقارنة بمستويات 2013.

كما انخفض الدخل من تصدير النفط، بفعل ضعف إنتاج الخام في فنزويلا بشكل حاد، نتيجة تدهور البنية التحتية ونقص الاستثمار، والالتجاء إلى طبع النقود من قبل الحكومة لتسديد الإنفاق العام والإنفاق على المشاريع الاجتماعية.

ويبدو أن اتفاق حكومة مادورو مع المعارضة خلال أكتوبر من سنة 2023، وتخفيف بعض العقوبات الأمريكية على الاستثمارات النفطية سمح بانتعاشة في دخول العملة الأجنبية للسوق الداخلية الفنزويلية.

يقول خوزيه "اليوم ومع وصول ماركو روبيو إلى حقيبة الخارجية في الولايات المتحدة مع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب فسيعمل على الإطاحة بمثل هذه التجربة الرائعة التي قمنا بها لتنمية المناطق الفقيرة".

ويعتبر روبيو، مرشح الرئيس الأمريكي ترامب لحقيبة الخارجية، صقرا من الصقور الحزب الجمهوري الأمريكي، حيث بنى روبيو حياته المهنية على زيادة العقوبات على بلده الأصلي كوبا وخنقه اقتصاديا، وتجويعه حتى الاستسلام.

روبيو وسياسة خنق "الثورة"

ويبدو أن حصار روبيو لوطنه الأصلي في كوبا جعله في مقدمة أقصى اليمين الجمهوري، وقفز بذلك من التركيز على خنق كوبا إلى محاولة احتواء كل التجارب اليسارية في أمريكا الجنوبية، فانحاز إلى جانب السياسيين اليمينيين المتطرفين مثل غابير بولسونارو في البرازيل وخافيير ميلي في الأرجنتين، وهاجم الرؤساء اليساريين مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا والرئيس المكسيكي الأسبق لوبيز أوبرادور، ووصف الأخير بـ"المدافع عن الطغيان" لدعمه الحكومات اليسارية.

وفي فنزويلا، روّج روبيو للعقوبات القاسية ومؤامرات تغيير النظام للإطاحة بحكومة نيكولاس مادورو. وفي سنة 2019، كان أحد مهندسي سياسة ترامب للاعتراف بالشخصية المعارضة خوان غوايدو رئيسًا للبلاد.

لذلك يرى خوزيه أن روبيو سيعمل على خنق فنزويلا، بزيادة العقوبات الاقتصادية عليها، بحجة "الدفاع عن الديمقراطية ومنع قمع المعارضة"، وهو ما قال خوزيه إنه غير صحيح، مؤكدا أن "فنزويلا عرفت 29 عملية انتخابية خلال سنة فقط، شملت كل المجالس الموجودة في الدستور الفنزويلي".

ولا يختلف كلام خوزيه عن غيره من المشرفين على المشاريع المحلية، والتنمية في الكومونات المختلفة، حتى أن إحدى المشرفات على مشروع "كومونة بانال 2021" تحدثت على أن بقاء مثل هذه المشاريع مرتبط أساسا بمدى تحسن الوضع الاقتصادي العام في فنزويلا.

ويبدو أن هذا ما عملت عليه الحكومة منذ سنة 2019، حيث اتخذت إجراءات متعددة للتغلب على الأزمة الاقتصادية، ومنها خفض الإنفاق الحكومي وطباعة النقود، وتخفيف القيود على العملة، وما يعنيه ذلك من تقليص التدابير المقيدة للواردات وتشجيع التحول غير الرسمي لـ"الدولرة" للسيطرة على التضخم، حيث لاحظت "الصباح" أن الدولار أصبح العملة المفضلة في فنزويلا، وهي تعتبر جزءا كبيرا من المعاملات اليومية في البلاد، من خلال ضخ العملة الأجنبية في الاقتصاد لدعم عملة الرسمية البوليفار.

كما توجهت لخفض طباعة النقود مع تقليص الإنفاق الحكومي، ما أدى إلى هبوط العجز المالي لأقل من 10 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 من 30 % في نهاية 2017 عندما بدأت أزمة التضخم الجامح، حسب الأرقام الرسمية.

وساهمت كل هذه السياسات الجديدة إلى حد بعيد في التسبب في انخفاض التضخم المفرط، والتي كانت بمثابة واحدة من أطول أزمات التضخم في العالم.

ولا يختلف ذلك عن الانطباع السائد في الحركة الاقتصادية في العاصمة كاراكاس، حيث أن كل الطرقات تعج بالسيارات والشاحنات، ووجدت مشاريع بناء جديد، لم تكن موجودة قبلها بـ4 سنوات، حسب ما صرح به جيلبار وهو شاب فنزويلي تحدثت معه "الصباح".

ويبدو أن المستوى السياسي في فنزويلا بدأ يتحسس مرحلة جديدة من التصادم مع يمنيي الحزب الجمهوري الذين سيحكمون المرحلة القادمة، وخصوصا مع وجود شخص مثل ماركو روبيو في هذه الإدارة، وذلك ما عجل بمحاولة احتواء هذه الأزمة قبل حصولها، بالعمل على تنويع مصادر دخلها من العملات الأجنبية، من خلال دعم شبكات علاقاتها بدول بعيدة عن الفلك الأمريكي وقريبة سياسيا من الفكر الاشتراكي الحاكم في فنزويلا، وخصوصا على تبني "الديمقراطية التشاركية والمباشرة" التي تختلف شكلا ومضمونا عن "الديمقراطية الليبرالية" الأمريكية، وهو ما لا تستسيغه الإدارة الأمريكية وخصوصا من بلدان تعتبرها موجودة في حديقتها الخلفية، خصوصا مع توجه بعضها لمد اليد لقوى اقتصادية صاعدة في العالم مثل الصين، والتي لن يكون سهلا على ترامب قبولها بسهولة، خصوصا مع إعلانه لإستراتيجية هجومية واقتصادية ضد بكين.

هذه اﻷخيرة التي لن تضيع الفرص للتموقع في "الخاصرة الأمريكية" في أمريكا الوسطى والجنوبية، لدعم طريقها وحزامها للحرير ليشمل جبال اﻷنديز، وهو أمر قد يغير كثيرا من قواعد اللعبة في أمريكا الجنوبية.

وتنسحب نفس هذه الحالة على روسيا، التي تبحث عن التموقع في "حديقة أمريكا الخلفية"، خصوصا بعد منح الرئيس الأمريكي المتخلي جو بايدن الضوء الأخضر لأوكرانيا باستهداف الأراضي الروسية بالصواريخ الأمريكية، وهو ما ردت عليه روسيا بتغيير عقيدتها الأمنية، وقد تختار الرد بإعادة التموضع عسكريا في منطقة البحر الكريبي وأمريكا اللاتينية، وهذا ما يطرح مباشرة أزمة جديدة تذكرنا بأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في سنة 1962، وقتها حبس العالم أنفاسه، وكان على شفير حرب صواريخ نووية بين واشنطن وموسكو.

2021

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

"الصباح" رصدتها في كاراكاس..  تجربة الكومونات الاشتراكية تحوّل "حزام الصدأ" إلى "شريط أمل"

مبعوث "دار الصباح": نزار مقني

لم تكن تجربة الحكم المحلي الفنزويلية بالسهلة، بل كانت حسب عديد الملاحظين والفاعلين فيها، الذين تحدثت معهم "الصباح" صعبة جدا، وانطلقت وفق مقاربة البحث على القضاء على الفقر وترتيب "فوضى العشوائيات" المنتشرة في محيط العاصمة الفنزويلية كاراكاس وغيرها من المدن التي لم تعرف أبدا معنى للتنمية المحلية طوال عقود من اكتشاف النفط، ومن ثم من "الثورة النفطية" في الخمسينات التي أتت بتجربة "ديمقراطية مشوهة"، خدمت مصالح نخبة حكمت بمقتضى اتفاق يقضي بتقاسم السلطة مهما كانت نتائج الانتخابات.

حول العاصمة كاراكس، المدينة التي حفرت في الجبال، والتي تعانق السحاب، فتخالها وأنت تتجول بجواك، طوال النهار، ولتنهي تشكلها آخر النهار وتسقط ما حملته كل يوم مدة تتراوح بين الساعة والساعتين قبل غروب الشمس، يوجد "حزام كبير من الصدأ" تمثله الأكواخ التي بنيت على سفوح وفي أعالي هذه الجبال، والمسقفة بالقصدير، وهو قاسم مشترك في غالب مدن أمريكا اللاتينية.

تلك اﻷحزمة التي كانت طيلة سنوات تحمل "حلم الثورة" في معناها البوليفاري بالنسبة لفنزويلا، ومعانيه اليسارية التي تختزل في كلمة واحدة عبر عنها كل من تعاقبوا على قيادة الثورات في أمريكا الجنوبية والبحر الكريبي طول عقود، وهو "التغلب على الفقر" و"إرجاع السلطة للشعب".

وحتى وإن كانت هذه المعاني تحمل محورين مختلفين من حيث التصنيف، فاﻷول مطمح اجتماعي اقتصادي، ظل لصيقا بتاريخ أمريكا اللاتينية منذ استكشافات كريستوف كولومبوس، وحتى حروب الاستقلال الطويلة ضد الاحتلال الاسباني، فبات التغلب على الفقر مرادفا للاستقلال ومرادفا كذلك للتغلب على العبودية التي عانت منها شعوب أمريكا اللاتينية منذ أن استقبلت الشعوب الأصلية للأمريكيتين جحافل المحتلين الجدد، وأبادتهم للاستفادة من قواهم العاملة، والاستيلاء على ثرواتهم، وهذا ما يمثل المحور الثاني وهو المحور السياسي الذي من خلاله اعتمد على مبدأ دعم الحكم المحلي من خلال الكومونات وتمكين المتساكنين من حرية اتخاذ القرارات المتعلقة بمناطقهم من حيث تنظيمها واتخاذ قرارات تنميتها خصوصا مع اختلاف كل منطقة عن الأخرى منن حيث الخصائص الديمغرافية والطبيعية والاجتماعية، وهو عين ما جاءت به تجارب الكومونات منذ بروزها كمعيار حكم اشتراكي في ما بات يعرف بـ"كومونة باريس" سنة 1870، في غضون الحرب الفرنسية-البروسية آنذاك.

ترامب وكومونات فنزويلا

اﻷمر لم يختلف، حتى اليوم، في نظر الفنزويليين، فهم يرون أن أمريكا، تريد اليوم تحطيم "تجربتهم في الحكم والتنمية المحليين"، ذلك على اﻷقل ما قاله خوزيه أحد المسؤولين لشركة محلية حولت "سانتا روزا" المنطقة العشوائية إلى "كومونة متطورة" وحققت شعارا رفع منذ السنوات اﻷولى من حكم الرئيس السابق هوغو تشافيز "كومونة من لا شيء".

خوزيه يقول "هذه الشركة تقوم اليوم بتشغيل قرابة 50 شخصا من هذه الكومونة التي أطلق عليها كومونة ألبانال 2021"، وهذه الكومونة هي تجربة متقدمة لتشغيل أهالي هذه المنطقة التي كانت عشوائية وتمكنت ببعض من التنظيم وانتخاب المشرفين عليها من إعادة التموضع".

وتشتغل هذه الشركة المحلية في مجال النسيج، تقوم على إنتاج الفنلات والتبابين، وغيرها من الملابس".

وبالرغم من صغر حجم هذه الشركة إلا أنها تقوم بتوفير مواطن شغل لمتساكني هذه المنطقة، التي كانت منذ سنوات منطقة عشوائية يكثر فيها العنف وتجارة الدعارة والمخدرات.

تقوم هذه الشركة ببيع منتوجاتها، وتحصيل ثمن التكلفة والربح يقومون بتوجيهه لفائدة إصلاح البنية التحتية والمساهمة في تكاليف بناء وحدات سكنية اجتماعية لفائدة من يشتغلون فيها وذلك بمساعدة الدولة.

وحسب خوزيه فإنه توجد شركات محلية أخرى في المنطقة، تشغل متساكنيها.

وحول مصادر المواد الخام التي تعمل بها الشركة، مع وجود حصار اقتصادي أمريكي عليها، يقول خوزيه: "نحن نأتي بها من بوليفيا ومن الصين".

ويضيف أن التجربة كانت ناجحة في توفير مواطن شغل والتخلص من الفقر المدقع الذي كانت بعض مناطق كاراكاس تعاني منه.

وبالرغم من أن هذه المشاريع تعتبر صغيرة الحجم إلا أن تجربة الإدارة التشاركية التي تعمل من خلالها، تعتبر ناجحة، خصوصا وأن نتائجها واضحة للعيان.

الكومونة في معيار الاقتصاد الفنزويلي

فالعمارات الملونة التي تنتشر في المنطقة، هي من ثمار ونتاج هذه الشركات، التي توفر علاوة على مصادر رزق العاملين فيها، ملابس مجانية لفائدة التلاميذ وأطفال المنطقة، كما سمحت ببناء وتعبيد الطرقات الضيقة لهذه الكومونة".

يشير خوزيه "هذه التجربة الاشتراكية انطلقت منذ انتخاب هوغو تشافيز وبداية الثورة البوليفارية وذهاب تشافيز إلى تعميم الحكم المحلي واللامركزي وتمكين المجالس المحلية والبلدية من حرية العمل والتدبير، في إطار مجالس منتخبة".

وتبدو هذه النقطة من كلام خوزيه على أنها رسالة موجهة لكل منتقدي التجربة التي مرت بها فنزويلا، وخصوصا الاتهامات الامريكية والغربية المتتالية للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، حول ضرب التجربة الديمقراطية وخصوصا في الدورات المتتالية للانتخابات الرئاسية التي عقبت وفاة الرئيس السابق هوغو تشافيز سنة 2013، والتي على أساسها فرضت واشنطن عقوبات تسببت في خنق الاقتصاد الفنزويلي، والدخول في نفق من التضخم المفرط بلغ قرابة المليون بالمائة، وتسجيل الاقتصاد انكماشاً لمدة 7 سنوات متتالية في الفترة بين عامي 2014 و2020، ليفقد أكثر من نصف حجمه مقارنة بمستويات 2013.

كما انخفض الدخل من تصدير النفط، بفعل ضعف إنتاج الخام في فنزويلا بشكل حاد، نتيجة تدهور البنية التحتية ونقص الاستثمار، والالتجاء إلى طبع النقود من قبل الحكومة لتسديد الإنفاق العام والإنفاق على المشاريع الاجتماعية.

ويبدو أن اتفاق حكومة مادورو مع المعارضة خلال أكتوبر من سنة 2023، وتخفيف بعض العقوبات الأمريكية على الاستثمارات النفطية سمح بانتعاشة في دخول العملة الأجنبية للسوق الداخلية الفنزويلية.

يقول خوزيه "اليوم ومع وصول ماركو روبيو إلى حقيبة الخارجية في الولايات المتحدة مع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب فسيعمل على الإطاحة بمثل هذه التجربة الرائعة التي قمنا بها لتنمية المناطق الفقيرة".

ويعتبر روبيو، مرشح الرئيس الأمريكي ترامب لحقيبة الخارجية، صقرا من الصقور الحزب الجمهوري الأمريكي، حيث بنى روبيو حياته المهنية على زيادة العقوبات على بلده الأصلي كوبا وخنقه اقتصاديا، وتجويعه حتى الاستسلام.

روبيو وسياسة خنق "الثورة"

ويبدو أن حصار روبيو لوطنه الأصلي في كوبا جعله في مقدمة أقصى اليمين الجمهوري، وقفز بذلك من التركيز على خنق كوبا إلى محاولة احتواء كل التجارب اليسارية في أمريكا الجنوبية، فانحاز إلى جانب السياسيين اليمينيين المتطرفين مثل غابير بولسونارو في البرازيل وخافيير ميلي في الأرجنتين، وهاجم الرؤساء اليساريين مثل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا والرئيس المكسيكي الأسبق لوبيز أوبرادور، ووصف الأخير بـ"المدافع عن الطغيان" لدعمه الحكومات اليسارية.

وفي فنزويلا، روّج روبيو للعقوبات القاسية ومؤامرات تغيير النظام للإطاحة بحكومة نيكولاس مادورو. وفي سنة 2019، كان أحد مهندسي سياسة ترامب للاعتراف بالشخصية المعارضة خوان غوايدو رئيسًا للبلاد.

لذلك يرى خوزيه أن روبيو سيعمل على خنق فنزويلا، بزيادة العقوبات الاقتصادية عليها، بحجة "الدفاع عن الديمقراطية ومنع قمع المعارضة"، وهو ما قال خوزيه إنه غير صحيح، مؤكدا أن "فنزويلا عرفت 29 عملية انتخابية خلال سنة فقط، شملت كل المجالس الموجودة في الدستور الفنزويلي".

ولا يختلف كلام خوزيه عن غيره من المشرفين على المشاريع المحلية، والتنمية في الكومونات المختلفة، حتى أن إحدى المشرفات على مشروع "كومونة بانال 2021" تحدثت على أن بقاء مثل هذه المشاريع مرتبط أساسا بمدى تحسن الوضع الاقتصادي العام في فنزويلا.

ويبدو أن هذا ما عملت عليه الحكومة منذ سنة 2019، حيث اتخذت إجراءات متعددة للتغلب على الأزمة الاقتصادية، ومنها خفض الإنفاق الحكومي وطباعة النقود، وتخفيف القيود على العملة، وما يعنيه ذلك من تقليص التدابير المقيدة للواردات وتشجيع التحول غير الرسمي لـ"الدولرة" للسيطرة على التضخم، حيث لاحظت "الصباح" أن الدولار أصبح العملة المفضلة في فنزويلا، وهي تعتبر جزءا كبيرا من المعاملات اليومية في البلاد، من خلال ضخ العملة الأجنبية في الاقتصاد لدعم عملة الرسمية البوليفار.

كما توجهت لخفض طباعة النقود مع تقليص الإنفاق الحكومي، ما أدى إلى هبوط العجز المالي لأقل من 10 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2021 من 30 % في نهاية 2017 عندما بدأت أزمة التضخم الجامح، حسب الأرقام الرسمية.

وساهمت كل هذه السياسات الجديدة إلى حد بعيد في التسبب في انخفاض التضخم المفرط، والتي كانت بمثابة واحدة من أطول أزمات التضخم في العالم.

ولا يختلف ذلك عن الانطباع السائد في الحركة الاقتصادية في العاصمة كاراكاس، حيث أن كل الطرقات تعج بالسيارات والشاحنات، ووجدت مشاريع بناء جديد، لم تكن موجودة قبلها بـ4 سنوات، حسب ما صرح به جيلبار وهو شاب فنزويلي تحدثت معه "الصباح".

ويبدو أن المستوى السياسي في فنزويلا بدأ يتحسس مرحلة جديدة من التصادم مع يمنيي الحزب الجمهوري الذين سيحكمون المرحلة القادمة، وخصوصا مع وجود شخص مثل ماركو روبيو في هذه الإدارة، وذلك ما عجل بمحاولة احتواء هذه الأزمة قبل حصولها، بالعمل على تنويع مصادر دخلها من العملات الأجنبية، من خلال دعم شبكات علاقاتها بدول بعيدة عن الفلك الأمريكي وقريبة سياسيا من الفكر الاشتراكي الحاكم في فنزويلا، وخصوصا على تبني "الديمقراطية التشاركية والمباشرة" التي تختلف شكلا ومضمونا عن "الديمقراطية الليبرالية" الأمريكية، وهو ما لا تستسيغه الإدارة الأمريكية وخصوصا من بلدان تعتبرها موجودة في حديقتها الخلفية، خصوصا مع توجه بعضها لمد اليد لقوى اقتصادية صاعدة في العالم مثل الصين، والتي لن يكون سهلا على ترامب قبولها بسهولة، خصوصا مع إعلانه لإستراتيجية هجومية واقتصادية ضد بكين.

هذه اﻷخيرة التي لن تضيع الفرص للتموقع في "الخاصرة الأمريكية" في أمريكا الوسطى والجنوبية، لدعم طريقها وحزامها للحرير ليشمل جبال اﻷنديز، وهو أمر قد يغير كثيرا من قواعد اللعبة في أمريكا الجنوبية.

وتنسحب نفس هذه الحالة على روسيا، التي تبحث عن التموقع في "حديقة أمريكا الخلفية"، خصوصا بعد منح الرئيس الأمريكي المتخلي جو بايدن الضوء الأخضر لأوكرانيا باستهداف الأراضي الروسية بالصواريخ الأمريكية، وهو ما ردت عليه روسيا بتغيير عقيدتها الأمنية، وقد تختار الرد بإعادة التموضع عسكريا في منطقة البحر الكريبي وأمريكا اللاتينية، وهذا ما يطرح مباشرة أزمة جديدة تذكرنا بأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في سنة 1962، وقتها حبس العالم أنفاسه، وكان على شفير حرب صواريخ نووية بين واشنطن وموسكو.

2021