يطرح مفهوم الثقافة اليوم طرحا جديدا، يواكب في عمقه انتقال المجتمع الإنساني المعاصر من مجتمع الإنتاج المادي الى مجتمع المعرفة وللذكاء. وتفتح هذه الوقائع آفاقا جديدة وأبعادا متنوعة تحمل في طياتها نماذج إرشادية ترتكز أساسا على الجوانب اللامادية في منظومة الإنتاج. وفي خضم ذلك يتجدد الإطار النظري الذي تعالج فيه الثقافة. الثقافة، في جوهرها، هي تجسيد لتراكم المعرفة والابتكارات التي نشأت بفضل تطور اللغة. إن قدرتنا على فهم الماضي تعزز قدرتنا على تفسير الحاضر واستشراف المستقبل. كلمة "ثقافة" تحمل معانٍ متعددة، لكننا نستخدم هنا معناها الأوسع والأكثر شمولاً، أي أنها تشير إلى التراكم العالمي للمعرفة والابتكارات التي تنتج عن المساهمات الفردية المنتشرة عبر الأجيال. هذا التراكم لا يظل ثابتاً بل يتطور باستمرار، مؤثراً في حياتنا ومعدلًا إياها.
تطور الثقافة كان ممكنًا بفضل تطور اللغة، التي سمحت بالتواصل بين الأفراد. هذه القدرة على التواصل، والتي تميز جميع الشعوب على سطح الأرض اليوم، ساهمت بشكل كبير في ازدهار المجتمع البشري وتوسعه من الناحيتين الديموغرافية والجغرافية. ورغم ذلك، كان الفهم المتبادل محدوداً في بعض المناطق بسبب تنوع اللغات على المستوى المحلي.
تشكيل السلوك الاجتماعي
إن التطور الثقافي الذي أسهم في تشكيل سلوكنا الاجتماعي اليوم شهد ذروته خلال المائة ألف عام الماضية. في تلك الفترة تقريباً، بلغ عدد السكان حدّاً كافياً لدعم القدرة الاتصالية التي نتمتع بها الآن. هذا التطور لم يقتصر على الجوانب الثقافية فقط، بل كان مرتبطاً أيضاً بالتطور الجيني والعلمي، مما أثر في كيفية تفاعل البشر مع بيئتهم وتكيفهم معها. من خلال هذا التطور، أصبح البشر قادرين على نقل وتطوير معارفهم ومهاراتهم بطرق أدت إلى نشوء المجتمعات المعقدة التي نعرفها اليوم.
لم تعد الثقافة في الواقع مجرد إنتاج عفوي تحركه مشاعر وجدانية راسخة في الذاكرة الجمعية ،بل أضحت مجالا معرفيا معقدا تتداخل فيه الأبعاد الرمزية للمجتمع وتتنوع المداخل الموصلة الى فهمها. وهي عوامل تجيز العودة المتكررة الى الثقافة بما تتضمنه من أبعاد معرفية وسوسيولوجية وسيميولوجية.
واذا كان أمر الثقافة متنوعا شديد الثراء ،فان الاستثمار في المجال الثقافي بات يستدعي تخطيطا استراتيجيا منتظما اعتبارا الى الإستراتيجية التي تعني التخطيط وتحديد كيفية الوصول الى الأهداف التي تم ضبطها. ولعل هذه الضوابط هي مصدر ذلك الاهتمام المتنامي بالثقافة لدى النخب الفكرية والسياسية. فليس الوعي برهانات المعرفة سوى مؤشر لبداية التفكير في بناء البدائل الثقافية وبناء نسيج من المؤسسات النوعية وفق قواعد ..تكون أشبه بالبديهيات في حقول المعرفة الإنسانية وبالتالي لا يمكن تصور قيام مشروع فكري بمعزل عن إرادة مستقلة وقدرة على النظري العقلاني والمنطقي.
مجالات الفعل الثقافي
ان اتساع نطاق الفعل الثقافي وارتباط الثقافة بأنماط الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الحديث يمكن ان يقود الى توترات وأزمات مختلفة خاصة في الأنظمة المنغلقة .وينتج عن ذلك اغتراب النخب الثقافية وانسداد الآفاق أمامها . وبالطبع اذا تمسك المسؤول السياسي بهاجس جعل الثقافة تطويع الثقافة وجعلها شأنا من شؤون الحكم وعنصرا من عناصر إيديولوجيته..
ولاشك أن كل عناصر الدولة ومكوناتها لا يمكن ان تنتظم الا من خلال منظومة ثقافية تحول دون الفوضى والاضطراب وتؤدي الى نوع من التوازن الجماعي. ويمكن للثقافة ان تتحول الى قوة داعمة للتقدم السياسي والتطور الاقتصادي .
لا يمكن ان نتعامل مع المفاهيم ذات الصلة بالثقافة دون أن ندرك خصوصيات التحولات التي يشهدها المجتمع ، وهي تحولات ذات تأثير اقتصادي غير محدود من شأنها ان تساعد بدورها على الانفتاح على مسالك الثورة الاتصالية وتقنيات الإعلام والتراسل. ولا يمكن للأفراد والمؤسسات ومختلف هياكل الدولة بالتالي العمل بمعزل عن هذه المنظومة الثقافية المرنة. اذا توفرت الفرصة أمام المثقفين للمشاركة في صنع القرار.
ان التحولات الثقافية الكبرى التي عرفها العالم وما رافقها من ثورة رقمية ،أتاحت مساحة مهمة من المشاركة السياسية أمام المثقفين، في عصر المعرفة. وهذا الرهان الكبير الذي نتحدث عنه، أساسه العمل الثقافي غير المنفصل بطبيعة الحال عن جملة المسائل الهامة الأخرى ، وأهمها الديمقراطية والمساواة وتحرير المبادرة. وهذا الأمر يتطلب التخلي عن التعامل باستخفاف مع الثقافة والمثقفين وعدم اعتبار المؤسسات الثقافية مجرد فضاءات للاستقطاب .
وإذا كان اختيار التطور الديمقراطي وتعزيز أركان المجتمع المدني يخضع الى أسس وضوابط منهجية واضحة المعالم، فان استدامة عمل هذه الهياكل يستدعي توفر خصوصيات ثقافية والسير في طريق الفعل الثقافي .
لعل هدا الطرح من بين الأسباب التي أدّت الى البحث عن صيغ أكثر انفتاحا للثقافة على المجتمع، واختيار العوامل التي قد تؤدي الى الوحدة البنائية الوظيفية بينهما، ، يمكن للديمقراطية، في هذا الوضعية، أن تكون محورا هاما من محاور هذا التكامل وفق نظرة جديدة تهدف إلى الحدّ من التناقضات، والكشف عن العوامل التي يمكن أن تساعد على انتشار الثقافة بالشكل المطلوب. ، وهو ما أنشأ نوعا من التدفق الإعلامي الحرّ بما يعني عدم وضع أيّة قيود على المادة الإعلامية. لا يعني هذا التدفق بالضرورة الديمقراطية في نشر الثقافة أو التعليم بشكل متوازن وعادل.
ان تحقيق هذه التطلعات يستوجب تناغما للثقافة مع الوسائط الاتصالية ومع الرهانات التي تطرحها صناعة المعرفة بصفة عامة. فكلما زاد نفوذ وسائط الاتصال زادت المطالب المادية لصناعة المادة الإعلامية. وبتعبير آخر لا يمكن للمؤسسات الثقافية أن تتطور وتحافظ على مقومات بقائها دون الاستناد إلى فضاءات إعلامية متماسكة ومتينة.
يفترض هذا التمشي الثقافي خلق مجالات أوسع من أجل تأصيلها في واقعها الاجتماعي والعمل على إخراج العبقريات من الحالة المختبرية نحو آفاق أرحب من الممارسة العملية والإجرائية. ان فاعلية الثقافة في مواجهة الكثافة الاتصالية تكمن أساسا في إقامة حوار في إشكاله العلمية والعقلانية والإنسانية... انه حوار ثقافي منفتح على آفاق وجودية أرحب لا قطيعة فيها بين الخاص والعام. دوافعه عديدة أهمها الرغبة في انتصار العقل وسيادة المنطق العلمي.
بقلم: الدكتور منذر عافي
يطرح مفهوم الثقافة اليوم طرحا جديدا، يواكب في عمقه انتقال المجتمع الإنساني المعاصر من مجتمع الإنتاج المادي الى مجتمع المعرفة وللذكاء. وتفتح هذه الوقائع آفاقا جديدة وأبعادا متنوعة تحمل في طياتها نماذج إرشادية ترتكز أساسا على الجوانب اللامادية في منظومة الإنتاج. وفي خضم ذلك يتجدد الإطار النظري الذي تعالج فيه الثقافة. الثقافة، في جوهرها، هي تجسيد لتراكم المعرفة والابتكارات التي نشأت بفضل تطور اللغة. إن قدرتنا على فهم الماضي تعزز قدرتنا على تفسير الحاضر واستشراف المستقبل. كلمة "ثقافة" تحمل معانٍ متعددة، لكننا نستخدم هنا معناها الأوسع والأكثر شمولاً، أي أنها تشير إلى التراكم العالمي للمعرفة والابتكارات التي تنتج عن المساهمات الفردية المنتشرة عبر الأجيال. هذا التراكم لا يظل ثابتاً بل يتطور باستمرار، مؤثراً في حياتنا ومعدلًا إياها.
تطور الثقافة كان ممكنًا بفضل تطور اللغة، التي سمحت بالتواصل بين الأفراد. هذه القدرة على التواصل، والتي تميز جميع الشعوب على سطح الأرض اليوم، ساهمت بشكل كبير في ازدهار المجتمع البشري وتوسعه من الناحيتين الديموغرافية والجغرافية. ورغم ذلك، كان الفهم المتبادل محدوداً في بعض المناطق بسبب تنوع اللغات على المستوى المحلي.
تشكيل السلوك الاجتماعي
إن التطور الثقافي الذي أسهم في تشكيل سلوكنا الاجتماعي اليوم شهد ذروته خلال المائة ألف عام الماضية. في تلك الفترة تقريباً، بلغ عدد السكان حدّاً كافياً لدعم القدرة الاتصالية التي نتمتع بها الآن. هذا التطور لم يقتصر على الجوانب الثقافية فقط، بل كان مرتبطاً أيضاً بالتطور الجيني والعلمي، مما أثر في كيفية تفاعل البشر مع بيئتهم وتكيفهم معها. من خلال هذا التطور، أصبح البشر قادرين على نقل وتطوير معارفهم ومهاراتهم بطرق أدت إلى نشوء المجتمعات المعقدة التي نعرفها اليوم.
لم تعد الثقافة في الواقع مجرد إنتاج عفوي تحركه مشاعر وجدانية راسخة في الذاكرة الجمعية ،بل أضحت مجالا معرفيا معقدا تتداخل فيه الأبعاد الرمزية للمجتمع وتتنوع المداخل الموصلة الى فهمها. وهي عوامل تجيز العودة المتكررة الى الثقافة بما تتضمنه من أبعاد معرفية وسوسيولوجية وسيميولوجية.
واذا كان أمر الثقافة متنوعا شديد الثراء ،فان الاستثمار في المجال الثقافي بات يستدعي تخطيطا استراتيجيا منتظما اعتبارا الى الإستراتيجية التي تعني التخطيط وتحديد كيفية الوصول الى الأهداف التي تم ضبطها. ولعل هذه الضوابط هي مصدر ذلك الاهتمام المتنامي بالثقافة لدى النخب الفكرية والسياسية. فليس الوعي برهانات المعرفة سوى مؤشر لبداية التفكير في بناء البدائل الثقافية وبناء نسيج من المؤسسات النوعية وفق قواعد ..تكون أشبه بالبديهيات في حقول المعرفة الإنسانية وبالتالي لا يمكن تصور قيام مشروع فكري بمعزل عن إرادة مستقلة وقدرة على النظري العقلاني والمنطقي.
مجالات الفعل الثقافي
ان اتساع نطاق الفعل الثقافي وارتباط الثقافة بأنماط الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الحديث يمكن ان يقود الى توترات وأزمات مختلفة خاصة في الأنظمة المنغلقة .وينتج عن ذلك اغتراب النخب الثقافية وانسداد الآفاق أمامها . وبالطبع اذا تمسك المسؤول السياسي بهاجس جعل الثقافة تطويع الثقافة وجعلها شأنا من شؤون الحكم وعنصرا من عناصر إيديولوجيته..
ولاشك أن كل عناصر الدولة ومكوناتها لا يمكن ان تنتظم الا من خلال منظومة ثقافية تحول دون الفوضى والاضطراب وتؤدي الى نوع من التوازن الجماعي. ويمكن للثقافة ان تتحول الى قوة داعمة للتقدم السياسي والتطور الاقتصادي .
لا يمكن ان نتعامل مع المفاهيم ذات الصلة بالثقافة دون أن ندرك خصوصيات التحولات التي يشهدها المجتمع ، وهي تحولات ذات تأثير اقتصادي غير محدود من شأنها ان تساعد بدورها على الانفتاح على مسالك الثورة الاتصالية وتقنيات الإعلام والتراسل. ولا يمكن للأفراد والمؤسسات ومختلف هياكل الدولة بالتالي العمل بمعزل عن هذه المنظومة الثقافية المرنة. اذا توفرت الفرصة أمام المثقفين للمشاركة في صنع القرار.
ان التحولات الثقافية الكبرى التي عرفها العالم وما رافقها من ثورة رقمية ،أتاحت مساحة مهمة من المشاركة السياسية أمام المثقفين، في عصر المعرفة. وهذا الرهان الكبير الذي نتحدث عنه، أساسه العمل الثقافي غير المنفصل بطبيعة الحال عن جملة المسائل الهامة الأخرى ، وأهمها الديمقراطية والمساواة وتحرير المبادرة. وهذا الأمر يتطلب التخلي عن التعامل باستخفاف مع الثقافة والمثقفين وعدم اعتبار المؤسسات الثقافية مجرد فضاءات للاستقطاب .
وإذا كان اختيار التطور الديمقراطي وتعزيز أركان المجتمع المدني يخضع الى أسس وضوابط منهجية واضحة المعالم، فان استدامة عمل هذه الهياكل يستدعي توفر خصوصيات ثقافية والسير في طريق الفعل الثقافي .
لعل هدا الطرح من بين الأسباب التي أدّت الى البحث عن صيغ أكثر انفتاحا للثقافة على المجتمع، واختيار العوامل التي قد تؤدي الى الوحدة البنائية الوظيفية بينهما، ، يمكن للديمقراطية، في هذا الوضعية، أن تكون محورا هاما من محاور هذا التكامل وفق نظرة جديدة تهدف إلى الحدّ من التناقضات، والكشف عن العوامل التي يمكن أن تساعد على انتشار الثقافة بالشكل المطلوب. ، وهو ما أنشأ نوعا من التدفق الإعلامي الحرّ بما يعني عدم وضع أيّة قيود على المادة الإعلامية. لا يعني هذا التدفق بالضرورة الديمقراطية في نشر الثقافة أو التعليم بشكل متوازن وعادل.
ان تحقيق هذه التطلعات يستوجب تناغما للثقافة مع الوسائط الاتصالية ومع الرهانات التي تطرحها صناعة المعرفة بصفة عامة. فكلما زاد نفوذ وسائط الاتصال زادت المطالب المادية لصناعة المادة الإعلامية. وبتعبير آخر لا يمكن للمؤسسات الثقافية أن تتطور وتحافظ على مقومات بقائها دون الاستناد إلى فضاءات إعلامية متماسكة ومتينة.
يفترض هذا التمشي الثقافي خلق مجالات أوسع من أجل تأصيلها في واقعها الاجتماعي والعمل على إخراج العبقريات من الحالة المختبرية نحو آفاق أرحب من الممارسة العملية والإجرائية. ان فاعلية الثقافة في مواجهة الكثافة الاتصالية تكمن أساسا في إقامة حوار في إشكاله العلمية والعقلانية والإنسانية... انه حوار ثقافي منفتح على آفاق وجودية أرحب لا قطيعة فيها بين الخاص والعام. دوافعه عديدة أهمها الرغبة في انتصار العقل وسيادة المنطق العلمي.