إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في الإصلاح الاجتماعي.. هل نبدأ بتغيير العقليات والثقافة أم بسن التشريعات وإنفاذ القانون؟

إرساء القوانين الملائمة وإنفاذها بكل جدية وتطبيقها بصرامة هو وحده الضامن لتحقيق تغيير اجتماعي

بقلم نوفل سلامة 

يرجع الكثير من المفكرين والمثقفين مسألة التغيير الاجتماعي وإصلاح واقع الشعوب وتحقيق حلم التنمية والتقدم الهاجس الكبير لكل مجتمعات العالم الثالث والشعوب التي تنتمي إلى عالم الجنوب المتخلف والفقير إلى العوز المالي وفقدان الموارد المالية المطلوبة التي تمكن الحكومات من تلبية حاجيات شعوبها الأساسية وإلى ضعف الميزانيات التي لا تقدر على تحقيق الرفاه الاجتماعي وإلى ضعف مواردها المالية التي تتركز في هذه البلدان وتنحصر بالأساس في الموارد الضريبية وإثقال كاهل المواطن بها فتغيير واقع الناس حسب هذه المقاربة هو رهين توفير المال اللازم لتوفير الخدمات الأساسية وتحقيق التنمية وبلوغ مستوى مقبول من التنمية والرفاه وما يترتب عنها من توفير قدر من الحريات العامة والفردية التي تكفلها القوانين الوطنية والدولية.

هذه المقاربة تتبناها وتدافع عنها الكاتبة ووزيرة المرأة والطفولة وكبار السن السيدة أمال موسى في مقال لها نشر بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 15 جويلية الجاري حيث تعتبر أنه لا يمكن إحداث تغيير اجتماعي في واقع الناس كما لا يمكن تحقيق تنمية صلبة وحقيقية ولا إصلاح جدي يقود إلى التطور من دون قوانين وتشريعات تحدث ثورة في حياة الناس وتدفع الإدارة إلي التغيير والتطور ومواكبة التحديات والاستجابة إلى الاكراهات المكبلة فمن دون قوانين متطورة ونافذة لا يمكن تغيير الواقع ولا إعطاء الحقوق وتنفيذ المواطنة الفعلية وهذا يعني وفق هذه النظرة للتغيير وهذا التصور للإصلاح هناك رابط متين أو شرط أساسي بين تغيير الواقع المريض والمعيق للتغيير والمانع من تحسينه نحو إعادة صياغته ووضع قوانين مواكبة للواقع وتنقيح وإصدار التشريعات الجديدة فلا يمكن البتة إحداث تغيير اجتماعي  من دون ثورة على مستوى التشريعات.

تستند هذه الرؤية الإصلاحية وهذا التمشي نحو التغيير الاجتماعي إلى ما حصل في أوروبا في زمن ثورتها على الكنيسة وعلى الحكم الملكي والحكم الفردي التسلطي ومن مراهنة على إصدار القوانين لتغيير الثقافة والقيم وما حصل إبان الثورة الفرنسية التي بدأت ثورة في القوانين وتبديل التشريعات قبل تغيير العقليات والثقافة السائدة بما يعني أن تغيير القوانين يسبق تغيير العقليات في المجتمع وهذا يعني أن تغيير المجتمع يكون من خلال قوانين متطورة ونافذة قبل المراهنة على تغيير العقليات والثقافة التي تعتمد آليات قد تأخذ وقتا طويلا كالمراهنة على التعليم مثلا.

في الحالة الأوروبية كان التغيير الاجتماعي الذي عرفته الشعوب الأوروبية حتى وصلت إلى ما نراه اليوم من تقدم ومدنية مقاربة قانونية جديدة غيرت العلاقات الاجتماعية وأسست رؤية جديدة لفكرة المساواة ووضعت نظاما جديدا للملكية وتشريعات جديدة لحقوق العمال وحريات الأفراد تقول أمال موسى " إن الذهاب المبكر إلى الديمقراطية تتطلب محو تشريعات واستبدالها بأخرى ومن ثم فإن القوانين كانت في حقبات تاريخية كثيرة بمثابة العامل الأساسي للانتقال من زمن إلى زمن  وعادة ما يرجع هذا النهج إلى توخي إرادة سياسية وهو التعبير الصريح على انعكاسها الحقيقي.

وهذا يعني أن أكثر من أي معطى آخر بما في ذلك القيم والثقافة فالثورة التشريعية هي التي تسرع التغيير أكثر من التعويل على القيم والثقافة وهذا ما أثبتته التجارب الإنسانية التي سعت إلى وضع نسق مختلف للعلاقات بين الجنسين وفكر المساواة " أي عوّلت على القوانين لتغيير الواقع أكثر ما بقيت تنتظر تغيير العقليات حتى يحصل التغيير وهذا يفرض القيام بتطوير وتحيين مستمر للتشريعات حتى تبقى دوما ملائمة ومتماهية مع الواقع ومواكبة له وعاكسة  حتى لا نقع في إشكالية الفجوة وانفصال القانون على واقع الأفراد."

هذه المقاربة التشريعية للتغيير تعتبر أن كل مشروع اجتماعي وكل تنمية للإنسان لا بد أن تسبقها وتعاضدها تشريعات جديدة التي من دونها لا يمكن بلوغ التقدم وتحسين المؤشرات لذلك فإن المطلوب في هذه المرحلة حسب أمال موسى هو معرفة وتحديد القوانين التي يحتاجها المجتمع حتى نتفادى وضعية القوانين التي توضع من خارج تطلعات الناس وخارج حاجياتهم فبالتوازي مع توفير الاعتمادات المالية وتوفير الأموال اللازمة للخزينة العامة للدولة ووضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات لا بد من وضع القوانين اللازمة بكل دقة ووضوح القادرة على تحقيق هذا التغيير الاجتماعي الذي نصبو إليه مع الأخذ في الاعتبار أن القوانين التي نضعها اليوم ليست ثابتة على الدوام وإنما هي متغيرة وتحتاج إلى مراجعة كلما تغير واقع الناس وتغيرت حاجياتهم.

في مقابل هذه الرؤية للتغيير الاجتماعي القائمة على فكرة أسبقية إصدار القوانين النافعة للناس والتشريعات الملائمة وتطبيقها بجدية وإنفاذها بصرامة، قدم أستاذ التاريخ الثقافي بالجامعة التونسية  والمشرف على سلسلة "عيون معاصرة" التي تصدرها دار الجنوب  لطفي عيسى رؤية للتغيير الاجتماعي وإصلاح الإنسان والمجموعة في تدوينة له نشرها على صفحته الخاصة على الفايس بوك تقوم على أولوية القيم والثقافة على إصدار القوانين وسن التشريعات وأهمية أن يقوم المجتمع بثورة فكرية وثقافية تكون سابقة على الثورة التشريعية حتى يكون التطور والتقدم مبني على أساس من الوعي والإيمان أكثر من قيامه على الخوف والإكراه وبذلك نضمن دوام الإصلاح وبقاء التطور. يقول لطفي عيسى " لنعترف أننا لم نوفق في انجاز تحول مجتمعي وفكري في العمق وسبب ذلك يعود إلى نوعية الثقافة والتربية التي تشبع بها المجتمع وترسخت في تصرفاته وحتى تفكيره وهي الثقافة والوعي الذي شكل طريقة تصريفنا لحياتنا وتدبيرنا لليومي من أبسط تصرفاتنا إلى أعقدها وهي سلوكيات تقوم على التحيّل وعلى المداورة وجولان اليد - والتعبير له - فيما لا يحق لنا المساس به وهذا السلوك هو الطاغي في كيفية تعامل المجتمع فيما بينه من دون استثناء بين الخاصة والعامة فالكل منخرط في تصرفات التحيل والتحايل حتى أصبح المجتمع برمته منخرطا في مشروع تراجع أخلاقي وأضحت كل تصرفاتنا متحايلة .

هذا الواقع الاجتماعي المريض يحتاج منا جهدا كبيرا وجب بذله لتطوير ما يعبر عنه لطفي عيسى بسجل المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية  المانعة والحائلة دون تحكم السلوكيات والتصرفات المتخلفة بما يعني أن عملية الإصلاح الاجتماعي ومسألة محاربة الفساد وفكرة تطوير الإنسان نحو الأفضل تسبقها عملية تأهيل أخلاقي وقيمي وعملية صناعة وعي للخروج من حالة الوهن ووضع الضعف وتحقيق التطور والتغيير.

ويضيف القول: " إن مدلول الفضيلة لا يقتصر على احترام النواهي بمعناها الديني بل يتمثل بالأساس في استلهام تلك النواهي عبر ربطها بالحاجيات التي تفرضها الحياة المدنية ويتطلبها العيش بذكاء. وهذا من تمام شروط تحقيق الحداثات الذاتية لا تلك المستنبتة في غير تربتها."

يستعمل لطفي عيسى مفهوما جديدا للحديث على أهمية القيم والثقافة والتربية يعبر عنه " بالحداثة الذاتية " أي التعويل على وعي الفرد في كل عملية إصلاح وتغيير والتعويل على ترسيخ القيم والمبادئ والمرجعيات لإنجاح كل مشروع تغيير اجتماعي فقوله إن الفضيلة لا تقتصر على احترام النواهي بمعناها الديني يحيلنا إلى فكرة الالتزام بالحلال والحرام الصرفة من دون ربطهما بالواقع والتمثلات الاجتماعية وارتباطهما بصفة المواطنة المدنية والاقتناع والإيمان الباطني و يعتبرها غير كافية لتطوير المجتمع أي أن تطبيق القوانين والالتزام بالتشريعات من منطلق الخوف والإكراه وبداعي تطبيق النظام لا تحقق لوحدها التطور والتغير وإنما هذه النواهي وهذه القوانين وجب أن تكون إيمانا لدى الفرد وتتحول إلى ثقافة مجتمع وقيم ومبادئ تتشكل وتتجسد في وعي وحركة الإنسان يلتزم بها لذاتها لا خوفا من السلطة أو من العقاب فالحداثة الذاتية التي يتحدث عنها لطفي عيسى تفرض أن التغيير الاجتماعي والإصلاح لا يقوم على القوانين والتشريعات وفرضها من دون حاضنة ثقافية ولا قيم ترعاها ويؤمن بها وهنا يتفق لطفي عيسى مع الفيلسوف الألماني نيتشه وفكرته حول أخلاق الضعفاء والعبيد وفي وجود بعض الأفراد الذين يتبعون القوانين بدافع من الخوف والإكراه أو الخضوع والتبعية في حالة القوانين الأخلاقية حيث يأتي هذا النوع من التصرف  من وراء رغبة في الطاعة والانصياع للأوامر دون تفكير نقدي أو برغبة  في تحسين صورتهم أمام الآخرين أو بدافع الأنانية لتحقيق مكاسب شخصية وفي هذه الحالة يكون الدافع وراء التصرف الأخلاقي حسب نيتشه هو المصلحة الذاتية وليس الالتزام الحقيقي بالقيم الأخلاقية لذلك رفض هذا الفيلسوف التصرف الناجم عن الاستسلام للضغوط الخارجية وليس عن قناعة داخلية عند الفرد لذلك نراه يدعو أن يكون الالتزام بالقوانين والتشريعات نابعا من أخلاق حقيقية أصيلة  لا من وراء الخوف ومن وراء  التزام حقيقي بالقيم الأخلاقية التي يكون مصدرها القوة الداخلية والإرادة الذاتية وليس من الانصياع الأعمى للقوانين أو الأعراف المجتمعية " .. وهذا يحتاج كله إلى ثقافة وتعليم وتربية واقتناع وإيمان سابق يبنى قبل إصدار القوانين وسن التشريعات.

في الإصلاح الاجتماعي.. هل نبدأ بتغيير العقليات والثقافة أم بسن التشريعات وإنفاذ القانون؟

إرساء القوانين الملائمة وإنفاذها بكل جدية وتطبيقها بصرامة هو وحده الضامن لتحقيق تغيير اجتماعي

بقلم نوفل سلامة 

يرجع الكثير من المفكرين والمثقفين مسألة التغيير الاجتماعي وإصلاح واقع الشعوب وتحقيق حلم التنمية والتقدم الهاجس الكبير لكل مجتمعات العالم الثالث والشعوب التي تنتمي إلى عالم الجنوب المتخلف والفقير إلى العوز المالي وفقدان الموارد المالية المطلوبة التي تمكن الحكومات من تلبية حاجيات شعوبها الأساسية وإلى ضعف الميزانيات التي لا تقدر على تحقيق الرفاه الاجتماعي وإلى ضعف مواردها المالية التي تتركز في هذه البلدان وتنحصر بالأساس في الموارد الضريبية وإثقال كاهل المواطن بها فتغيير واقع الناس حسب هذه المقاربة هو رهين توفير المال اللازم لتوفير الخدمات الأساسية وتحقيق التنمية وبلوغ مستوى مقبول من التنمية والرفاه وما يترتب عنها من توفير قدر من الحريات العامة والفردية التي تكفلها القوانين الوطنية والدولية.

هذه المقاربة تتبناها وتدافع عنها الكاتبة ووزيرة المرأة والطفولة وكبار السن السيدة أمال موسى في مقال لها نشر بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 15 جويلية الجاري حيث تعتبر أنه لا يمكن إحداث تغيير اجتماعي في واقع الناس كما لا يمكن تحقيق تنمية صلبة وحقيقية ولا إصلاح جدي يقود إلى التطور من دون قوانين وتشريعات تحدث ثورة في حياة الناس وتدفع الإدارة إلي التغيير والتطور ومواكبة التحديات والاستجابة إلى الاكراهات المكبلة فمن دون قوانين متطورة ونافذة لا يمكن تغيير الواقع ولا إعطاء الحقوق وتنفيذ المواطنة الفعلية وهذا يعني وفق هذه النظرة للتغيير وهذا التصور للإصلاح هناك رابط متين أو شرط أساسي بين تغيير الواقع المريض والمعيق للتغيير والمانع من تحسينه نحو إعادة صياغته ووضع قوانين مواكبة للواقع وتنقيح وإصدار التشريعات الجديدة فلا يمكن البتة إحداث تغيير اجتماعي  من دون ثورة على مستوى التشريعات.

تستند هذه الرؤية الإصلاحية وهذا التمشي نحو التغيير الاجتماعي إلى ما حصل في أوروبا في زمن ثورتها على الكنيسة وعلى الحكم الملكي والحكم الفردي التسلطي ومن مراهنة على إصدار القوانين لتغيير الثقافة والقيم وما حصل إبان الثورة الفرنسية التي بدأت ثورة في القوانين وتبديل التشريعات قبل تغيير العقليات والثقافة السائدة بما يعني أن تغيير القوانين يسبق تغيير العقليات في المجتمع وهذا يعني أن تغيير المجتمع يكون من خلال قوانين متطورة ونافذة قبل المراهنة على تغيير العقليات والثقافة التي تعتمد آليات قد تأخذ وقتا طويلا كالمراهنة على التعليم مثلا.

في الحالة الأوروبية كان التغيير الاجتماعي الذي عرفته الشعوب الأوروبية حتى وصلت إلى ما نراه اليوم من تقدم ومدنية مقاربة قانونية جديدة غيرت العلاقات الاجتماعية وأسست رؤية جديدة لفكرة المساواة ووضعت نظاما جديدا للملكية وتشريعات جديدة لحقوق العمال وحريات الأفراد تقول أمال موسى " إن الذهاب المبكر إلى الديمقراطية تتطلب محو تشريعات واستبدالها بأخرى ومن ثم فإن القوانين كانت في حقبات تاريخية كثيرة بمثابة العامل الأساسي للانتقال من زمن إلى زمن  وعادة ما يرجع هذا النهج إلى توخي إرادة سياسية وهو التعبير الصريح على انعكاسها الحقيقي.

وهذا يعني أن أكثر من أي معطى آخر بما في ذلك القيم والثقافة فالثورة التشريعية هي التي تسرع التغيير أكثر من التعويل على القيم والثقافة وهذا ما أثبتته التجارب الإنسانية التي سعت إلى وضع نسق مختلف للعلاقات بين الجنسين وفكر المساواة " أي عوّلت على القوانين لتغيير الواقع أكثر ما بقيت تنتظر تغيير العقليات حتى يحصل التغيير وهذا يفرض القيام بتطوير وتحيين مستمر للتشريعات حتى تبقى دوما ملائمة ومتماهية مع الواقع ومواكبة له وعاكسة  حتى لا نقع في إشكالية الفجوة وانفصال القانون على واقع الأفراد."

هذه المقاربة التشريعية للتغيير تعتبر أن كل مشروع اجتماعي وكل تنمية للإنسان لا بد أن تسبقها وتعاضدها تشريعات جديدة التي من دونها لا يمكن بلوغ التقدم وتحسين المؤشرات لذلك فإن المطلوب في هذه المرحلة حسب أمال موسى هو معرفة وتحديد القوانين التي يحتاجها المجتمع حتى نتفادى وضعية القوانين التي توضع من خارج تطلعات الناس وخارج حاجياتهم فبالتوازي مع توفير الاعتمادات المالية وتوفير الأموال اللازمة للخزينة العامة للدولة ووضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات لا بد من وضع القوانين اللازمة بكل دقة ووضوح القادرة على تحقيق هذا التغيير الاجتماعي الذي نصبو إليه مع الأخذ في الاعتبار أن القوانين التي نضعها اليوم ليست ثابتة على الدوام وإنما هي متغيرة وتحتاج إلى مراجعة كلما تغير واقع الناس وتغيرت حاجياتهم.

في مقابل هذه الرؤية للتغيير الاجتماعي القائمة على فكرة أسبقية إصدار القوانين النافعة للناس والتشريعات الملائمة وتطبيقها بجدية وإنفاذها بصرامة، قدم أستاذ التاريخ الثقافي بالجامعة التونسية  والمشرف على سلسلة "عيون معاصرة" التي تصدرها دار الجنوب  لطفي عيسى رؤية للتغيير الاجتماعي وإصلاح الإنسان والمجموعة في تدوينة له نشرها على صفحته الخاصة على الفايس بوك تقوم على أولوية القيم والثقافة على إصدار القوانين وسن التشريعات وأهمية أن يقوم المجتمع بثورة فكرية وثقافية تكون سابقة على الثورة التشريعية حتى يكون التطور والتقدم مبني على أساس من الوعي والإيمان أكثر من قيامه على الخوف والإكراه وبذلك نضمن دوام الإصلاح وبقاء التطور. يقول لطفي عيسى " لنعترف أننا لم نوفق في انجاز تحول مجتمعي وفكري في العمق وسبب ذلك يعود إلى نوعية الثقافة والتربية التي تشبع بها المجتمع وترسخت في تصرفاته وحتى تفكيره وهي الثقافة والوعي الذي شكل طريقة تصريفنا لحياتنا وتدبيرنا لليومي من أبسط تصرفاتنا إلى أعقدها وهي سلوكيات تقوم على التحيّل وعلى المداورة وجولان اليد - والتعبير له - فيما لا يحق لنا المساس به وهذا السلوك هو الطاغي في كيفية تعامل المجتمع فيما بينه من دون استثناء بين الخاصة والعامة فالكل منخرط في تصرفات التحيل والتحايل حتى أصبح المجتمع برمته منخرطا في مشروع تراجع أخلاقي وأضحت كل تصرفاتنا متحايلة .

هذا الواقع الاجتماعي المريض يحتاج منا جهدا كبيرا وجب بذله لتطوير ما يعبر عنه لطفي عيسى بسجل المعايير الاجتماعية والقيم الأخلاقية  المانعة والحائلة دون تحكم السلوكيات والتصرفات المتخلفة بما يعني أن عملية الإصلاح الاجتماعي ومسألة محاربة الفساد وفكرة تطوير الإنسان نحو الأفضل تسبقها عملية تأهيل أخلاقي وقيمي وعملية صناعة وعي للخروج من حالة الوهن ووضع الضعف وتحقيق التطور والتغيير.

ويضيف القول: " إن مدلول الفضيلة لا يقتصر على احترام النواهي بمعناها الديني بل يتمثل بالأساس في استلهام تلك النواهي عبر ربطها بالحاجيات التي تفرضها الحياة المدنية ويتطلبها العيش بذكاء. وهذا من تمام شروط تحقيق الحداثات الذاتية لا تلك المستنبتة في غير تربتها."

يستعمل لطفي عيسى مفهوما جديدا للحديث على أهمية القيم والثقافة والتربية يعبر عنه " بالحداثة الذاتية " أي التعويل على وعي الفرد في كل عملية إصلاح وتغيير والتعويل على ترسيخ القيم والمبادئ والمرجعيات لإنجاح كل مشروع تغيير اجتماعي فقوله إن الفضيلة لا تقتصر على احترام النواهي بمعناها الديني يحيلنا إلى فكرة الالتزام بالحلال والحرام الصرفة من دون ربطهما بالواقع والتمثلات الاجتماعية وارتباطهما بصفة المواطنة المدنية والاقتناع والإيمان الباطني و يعتبرها غير كافية لتطوير المجتمع أي أن تطبيق القوانين والالتزام بالتشريعات من منطلق الخوف والإكراه وبداعي تطبيق النظام لا تحقق لوحدها التطور والتغير وإنما هذه النواهي وهذه القوانين وجب أن تكون إيمانا لدى الفرد وتتحول إلى ثقافة مجتمع وقيم ومبادئ تتشكل وتتجسد في وعي وحركة الإنسان يلتزم بها لذاتها لا خوفا من السلطة أو من العقاب فالحداثة الذاتية التي يتحدث عنها لطفي عيسى تفرض أن التغيير الاجتماعي والإصلاح لا يقوم على القوانين والتشريعات وفرضها من دون حاضنة ثقافية ولا قيم ترعاها ويؤمن بها وهنا يتفق لطفي عيسى مع الفيلسوف الألماني نيتشه وفكرته حول أخلاق الضعفاء والعبيد وفي وجود بعض الأفراد الذين يتبعون القوانين بدافع من الخوف والإكراه أو الخضوع والتبعية في حالة القوانين الأخلاقية حيث يأتي هذا النوع من التصرف  من وراء رغبة في الطاعة والانصياع للأوامر دون تفكير نقدي أو برغبة  في تحسين صورتهم أمام الآخرين أو بدافع الأنانية لتحقيق مكاسب شخصية وفي هذه الحالة يكون الدافع وراء التصرف الأخلاقي حسب نيتشه هو المصلحة الذاتية وليس الالتزام الحقيقي بالقيم الأخلاقية لذلك رفض هذا الفيلسوف التصرف الناجم عن الاستسلام للضغوط الخارجية وليس عن قناعة داخلية عند الفرد لذلك نراه يدعو أن يكون الالتزام بالقوانين والتشريعات نابعا من أخلاق حقيقية أصيلة  لا من وراء الخوف ومن وراء  التزام حقيقي بالقيم الأخلاقية التي يكون مصدرها القوة الداخلية والإرادة الذاتية وليس من الانصياع الأعمى للقوانين أو الأعراف المجتمعية " .. وهذا يحتاج كله إلى ثقافة وتعليم وتربية واقتناع وإيمان سابق يبنى قبل إصدار القوانين وسن التشريعات.