إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أيُّة رمزية لتاريخ اليوم الدولي للعمل البرلماني؟

مؤسسة البرلمان واقع صنعته الأحداثُ التاريخية على مرّ أزمنة

بقلم: نجـــوى عوايــــطي(*)

في سياق حديثنا عن"اليوم الدولي للعمل البرلماني " الموافق لــــ30 جـــوان من كلّ سنة لا يسعنا إلاّ أن نستعرض ولو بشكل برقي تاريخية البرلمان باعتباره بيت القصيد في هذه الاحتفالية.

فمؤسسة البرلمان لم تنشأ كضرب من ضروب الفلسفة ولم تكن ابتكارا فكريا ولم تُمثّل إبداعا جادت به قريحة شاعر أو فنّان ولكنّها واقع صنعته الأحداثُ التاريخية على مرّ أزمنة ونحتت ملامحه دروب من صعاب عاشها ومراحل من تحدّيات خاضها وتركت أثرا في شكله ومضمونه.

قد نستطيع القول أنّ البرلمان يعدُّ نقطة الضوء الأولى التي اخترقت نظام الممالك والتوريث في حكم الشعوب على اختلافها، وبات منهجاً تتخذه كافة الدول المتحضّرة في العالم والمؤمنة بدور الشعب في اختيار ممثليه ليتمكّن من انتزاع سلطاته من ملكيات مطلقة أحيانا ومن نظم الحكم الاستبدادية في أحيان أخرى.

ولا يفوتنا أيضا القول بأنّ وظائف البرلمان لم تكن لتتبلور هي الأخرى دفعة واحدة ناهيك أنّ تاريخ البرلمانات الأولى يعود إلى العصور الوُسطى، ففي سنة 930 انعقد تجمّعُ أوّل برلمان "البرلمان الوطني في آيسلندا(Iceland)" ليرسم النسخة المبكّرة من النظام البرلماني الرّسمي.

وفي سنة 1188،جمع ألفنسو التّاسع ملك ليون وغاليسيا(Galicia)أوّل برلمان في غرب أوروبا والذي مثّل أوّل أنموذج للبرلمان الحديث في أوروبا.

وتعود جذور أوّل ظهور لمعنى "البرلمان" في المملكة المتحدة إلى عام 1225زمن حكم الملك هنري الثالث آنذاك وتحت تسمية "المجلس العظيم"، على أنّ الاستخدام الأوّل لكلمة "برلمان" بصفة رسمية كانت عام 1236 لوصف الاجتماع الاستشاري للملك، وهو لفظ مشتقّ من الكلمة الفرنسية "Parlement".

واستوجب الأمر انتظار حلول سنة 1258لتحصل نقلة في مفهوم البرلمان في إنجلترا حين تصــــادم الملــــك هنري الثالـــث مــــع النبلاء، وأقـــــــرّ البرلمــــــان المنعقـــد ساعتهــــا في أكسفــــورد اتفاقيـــة تتضمّن مقترحات بانعقاد هيكــــل منتظم ثلاث مرات في السنة إضافة إلى إدخال 12 ممثلاً للمقاطعات من غير النبلاء.

وأثناء الثورة الهولندية ،تحديدا خلال سنة1581، التي يُطلق عليها أيضا حرب الثمانين عاما، تطوّر مثال مبكَّر للحكومة البرلمانية في هولندا وبلجيكا الحاليتين ، باستيلاء برلمان هولندا على السلطات السيادية والتشريعية والتنفيذية من ملك إسبانيا آنذاك "فيليب الثاني".

إذن تتعدّدُ الشواهد التاريخية وتتضافر الأمثلة لتُؤكّد على صبغة التّدرُّج والمرحليّة في انتشار ظاهرة البرلمان وفي تنوّع وتوسّع الوظائف التي أسندت له. وهو لأمر طبيعي إذ يُعدُّ مبدأ التطوّر سنّة الحياة للدول وللمؤسسات كما للنّاس وهو حقيقة لا هروب منها كما قال العلاّمة ابن خلدون في المقدمة الباحثة عن فضل علم التاريخ «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدُّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدُّل الأعصار ومرور الأيام". وهذا فعلا ما انطبق على بعض البرلمانات في العالم والتي بلغت فيها درجة تطور وظائفها إلى مستوى ليــــــس له مثيل بل إلى حدّ أن تضرب بها أمثال على غـــــــرار البرلمان الإيطالي الذي قيل عــــن صلاحياته وسلطته ووزنــــــه السياسي "أنّه يستطيع أن يفعل كلّ شيء عَدا تحويل الرّجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل".

ومن منطلق إيماننا بأنّ "التاريخ ذاكرة الأمم" فإنّنا مدعوون إلى الخــوض في جانب آخر مــــــــن غماره لنتبيّن تاريخية ورمزية الاحتفال باليوم الدولي للعمل البرلماني أو كما يحبُّ البعض تسميته "اليوم الدولي للبرلمان"الموافق ليوم 30 جوان من كلّ سنة. فماذا لو علمنا أنّ هذا التاريخ مرتبط بنشأة أعرق منظمة برلمانية دولية؟

ولعلّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ إقرار هذه المناسبة السنوية يعود إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عـــــــــ278/72ـــدد الذي اعتمدته بتاريخ 22 ماي 2018 والذي تظهر فيه رمزية تاريخ الاحتفالية المذكورة الموافق لتاريخ نشأة الاتحاد البرلماني الدولي (Union Interparlementaire).

وتعود نشأة الاتحاد البرلماني الدوليإلى 30 جوان 1889 كمبادرة لمجموعة من البرلمانيين الذين كرّسوا أنفسهم لتعزيز السلام والأمن والتواصل مع نظرائهم من الشعوب الأخرى للتشاور والحوار وتبادل وجهات النظر وتقاسم التجارب، وهو بذلك مثّل أوّل بذور الديبلوماسية البرلمانية وظاهرة فريدة من نوعها كأوّل منظمة للتفاوض التعدّدي،لتلحق به فيما بعد عدة مؤتمرات دولية شكلت إرهاصات للحدث الأبرز في تاريخ الدبلوماسية الدولية ألا وهو مؤتمر فرساي وولادة النظام الدولي الذي تبلور في نشأة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى.

وأصبح الاتحاد البرلماني الدولي أو كما يطلق عليه "دار البرلمانات"والذي يضمُّ حاليا 180 برلمانا عضوا و15 هيئة منتسبة على غرار الاتحاد البرلماني العربي والاتحاد البرلماني الافريقي والجمعية البرلمانية للمتوسط والبرلمان الأوروبي...يعملُ بشكل مُطّرد على تطوير الحوكمة ودعم العمل البرلماني وتعزيز قيم الديمقراطية والشفافية في ظلّ برلمانات قوية تعبر عن حاجيات الشعوب وترمي إلى تحقيق تطلعاتها من خلال الإسهام في تعزيز الديمقراطية التمثيلية ودعم مكانة المرأة والشباب في الحياة السياسية إضافة إلى السعي إلى إحلال السلم والأمن وتكريس حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وتحقيق التنمية المستديمة...

ومثّل بذلك الاتحاد البرلماني الدولي منصّة حيوية للحوار بين البرلمانيين والتفاعل بينهم في إطار الدبلوماسية البرلمانية التي تنوّعت وتطوّرت وتأقلمت مع تشابك مصالح الشعوب وتداخلها وتعاظم التحديات العالمية لتصبح كنهج من المفاوضات السياسية التي توسّع حضورها في مجال العلاقات الدولية مُكتسحة بذلك دوائر التعاون الدولي ومسجّلة حضورها ومساندتها للدبلوماسية التقليدية ليذيع صيتها وتملأ الدنيا على غرار ما ورد على لسان رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي سابقا السيد Christian Poncelet، حين قال "شِـئـنا أمْ أبَـيْـنا، رحّـبنا أم استـنكرنا، الدبلوماسية البرلمانية موجودة، وقد الْـتقـيتُها، وهي تُمارس في جميع البلدان بكثافة وبأساليب متغيرة دون شكّ، كما أصبحت تكتسي أهمية متزايدة على الصعيد الدولي".

فهل تقف رمزية تاريخ الاحتفال باليوم الدولي للعمل البرلماني عند هذا الحدِّ؟ طبعا الإجابة ستكون بالنّفي لأنّ هذه الاحتفالية تحمل أيضا في باطنها ما هو أعمق إذ أنّها تترجم أهمية التفاعل بين منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة التابعة لها (منظمة التجارة العالمية، منظمة الصحة العالمية، منظمة الأغذية والزراعة، اليونسكو، اليونيسف ...) من ناحية والاتحاد البرلماني الدولي من ناحية ثانية حيث تربطهما علاقات تعاون مشترك ووثيق ومثمر في شتّى الميادين على غرار تعزيز الديمقراطية ودعم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتمكين الشباب وإرساء الحوكمة الرشيدة وتمكين النساء والفتيات والتنمية المستديمة ومكافحة التغيرات المناخية والحدّ من مخاطر الكوارث الطبيعية...

ويحفظُ تاريخ التعاون بين المنظمتين شواهد عديدة تجسّدت خاصّة مع اتفاق سنة 1996 الذي أرسى أسس التعاون بينهما لِيلِيه قرار منظمة الأمم المتحدة لسنة 2002 الذي منحت بموجبه للاتحاد صفة الملاحظ ودعته بصفة رسمية للمشاركة بانتظام في أعمال جمعيتها العامة وتمكينه من تنظيم اجتماعات وجلسات برلمانية على هامش العديد من أنشطتها.

فمنظمة الأمم المتحدة باتت تُعوّل إلى حدّ ما على ثمار التعاون مع الاتحاد البرلماني الدولي ومن ورائه البرلمانات الوطنية الأعضاء به لا سيما مع تشجيع العديد من الدول للمشاركة المتزايدة للبرلمانيين ضمن الوفود الحكومية في أعمال الأمم المتحدة.

وهذا في الواقع اعتراف من المنظمة المذكورة بالدّور الفعّال للبرلمانيين وهو ما يسهّل إبلاغها وإحاطتها علما بشواغل تلك الشعوب وتطلعاتها ويمكّنها من العمل على نحو أوثق معها. ويُعزى ذلك إلى الدّور الذي تضطلع به البرلمانات في ترجمة الالتزامات الدولية إلى سياسات وتشريعات وطنية والإسهام في ضمان تحقيق الشفافية والمساءلة التي تعدُّ وغيرها من المهام جوهرًا أساسيًا في ترسيخ الديمقراطية وتكريس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

كما أنّ نجاحها في دورها المتعلّق بتحقيق أهداف التنمية المستديمة يتطلب اتباع نهج شامل في إطار عملية سياسية شفّافة وفعّالة وخاضعة للمساءلة.

ويتطلّبُ الامر كذلك تبادل الخبرات العالمية والإقليمية بين مختلف البلدان لتحديد أفضل الحلول بشأن التخطيط واعتماد الميزانيات وتنفيذها ورصد التقدم المحرز بشأن تحقيق أهداف التنمية المستديمة في غضون سنة 2030.

ويُصادف الاحتفال بــــ"اليوم الدولي للعمل البرلماني" هذا العام الاحتفال أيضا بمرور 135 سنة على نشأة الاتحاد البرلماني الدولي وليكون مناسبة لوضع العديد من المسائل التي تمسُّ المجموعة الدولية على طاولة حوار أساسه الوعي العميق بحتمية الخروج من منطقة القول إلى منطقة الفعل خاصّة أنّ الوضع لم يعد يحتمِل التأجيل أمام تحديات تنوّعت ومخاطر تعاظمت لتلقي بظلالها على المجتمع الدولي دون استثناء بشكل يدعو إلى تضامن وتعاون دوليين أعمق لإرساء السلم والأمن في العالم.

فهل تُواصل الاحتفاليات المستقبلية باليوم الدولي للعمل البرلماني تناوُلَ المواضيع المستهلكة وأدوار الديبلوماسية البرلمانية على الرغم من أهميتها؟ أم أنّها ستتناول مواضيع السّاعة كالجوانب المظلمة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتطوّر البرلمانات في المجال الرقمي والتعاون في مجال البحوث والدراسات وغيرها من المسائل ذات الصّلة بدعم قدراتها بهدف جعل أدوارها أكثر فعالية على الصعيد الدّولي؟

*مستشارة بمجلس نواب الشعب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أيُّة رمزية لتاريخ اليوم الدولي للعمل البرلماني؟

مؤسسة البرلمان واقع صنعته الأحداثُ التاريخية على مرّ أزمنة

بقلم: نجـــوى عوايــــطي(*)

في سياق حديثنا عن"اليوم الدولي للعمل البرلماني " الموافق لــــ30 جـــوان من كلّ سنة لا يسعنا إلاّ أن نستعرض ولو بشكل برقي تاريخية البرلمان باعتباره بيت القصيد في هذه الاحتفالية.

فمؤسسة البرلمان لم تنشأ كضرب من ضروب الفلسفة ولم تكن ابتكارا فكريا ولم تُمثّل إبداعا جادت به قريحة شاعر أو فنّان ولكنّها واقع صنعته الأحداثُ التاريخية على مرّ أزمنة ونحتت ملامحه دروب من صعاب عاشها ومراحل من تحدّيات خاضها وتركت أثرا في شكله ومضمونه.

قد نستطيع القول أنّ البرلمان يعدُّ نقطة الضوء الأولى التي اخترقت نظام الممالك والتوريث في حكم الشعوب على اختلافها، وبات منهجاً تتخذه كافة الدول المتحضّرة في العالم والمؤمنة بدور الشعب في اختيار ممثليه ليتمكّن من انتزاع سلطاته من ملكيات مطلقة أحيانا ومن نظم الحكم الاستبدادية في أحيان أخرى.

ولا يفوتنا أيضا القول بأنّ وظائف البرلمان لم تكن لتتبلور هي الأخرى دفعة واحدة ناهيك أنّ تاريخ البرلمانات الأولى يعود إلى العصور الوُسطى، ففي سنة 930 انعقد تجمّعُ أوّل برلمان "البرلمان الوطني في آيسلندا(Iceland)" ليرسم النسخة المبكّرة من النظام البرلماني الرّسمي.

وفي سنة 1188،جمع ألفنسو التّاسع ملك ليون وغاليسيا(Galicia)أوّل برلمان في غرب أوروبا والذي مثّل أوّل أنموذج للبرلمان الحديث في أوروبا.

وتعود جذور أوّل ظهور لمعنى "البرلمان" في المملكة المتحدة إلى عام 1225زمن حكم الملك هنري الثالث آنذاك وتحت تسمية "المجلس العظيم"، على أنّ الاستخدام الأوّل لكلمة "برلمان" بصفة رسمية كانت عام 1236 لوصف الاجتماع الاستشاري للملك، وهو لفظ مشتقّ من الكلمة الفرنسية "Parlement".

واستوجب الأمر انتظار حلول سنة 1258لتحصل نقلة في مفهوم البرلمان في إنجلترا حين تصــــادم الملــــك هنري الثالـــث مــــع النبلاء، وأقـــــــرّ البرلمــــــان المنعقـــد ساعتهــــا في أكسفــــورد اتفاقيـــة تتضمّن مقترحات بانعقاد هيكــــل منتظم ثلاث مرات في السنة إضافة إلى إدخال 12 ممثلاً للمقاطعات من غير النبلاء.

وأثناء الثورة الهولندية ،تحديدا خلال سنة1581، التي يُطلق عليها أيضا حرب الثمانين عاما، تطوّر مثال مبكَّر للحكومة البرلمانية في هولندا وبلجيكا الحاليتين ، باستيلاء برلمان هولندا على السلطات السيادية والتشريعية والتنفيذية من ملك إسبانيا آنذاك "فيليب الثاني".

إذن تتعدّدُ الشواهد التاريخية وتتضافر الأمثلة لتُؤكّد على صبغة التّدرُّج والمرحليّة في انتشار ظاهرة البرلمان وفي تنوّع وتوسّع الوظائف التي أسندت له. وهو لأمر طبيعي إذ يُعدُّ مبدأ التطوّر سنّة الحياة للدول وللمؤسسات كما للنّاس وهو حقيقة لا هروب منها كما قال العلاّمة ابن خلدون في المقدمة الباحثة عن فضل علم التاريخ «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدُّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدُّل الأعصار ومرور الأيام". وهذا فعلا ما انطبق على بعض البرلمانات في العالم والتي بلغت فيها درجة تطور وظائفها إلى مستوى ليــــــس له مثيل بل إلى حدّ أن تضرب بها أمثال على غـــــــرار البرلمان الإيطالي الذي قيل عــــن صلاحياته وسلطته ووزنــــــه السياسي "أنّه يستطيع أن يفعل كلّ شيء عَدا تحويل الرّجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل".

ومن منطلق إيماننا بأنّ "التاريخ ذاكرة الأمم" فإنّنا مدعوون إلى الخــوض في جانب آخر مــــــــن غماره لنتبيّن تاريخية ورمزية الاحتفال باليوم الدولي للعمل البرلماني أو كما يحبُّ البعض تسميته "اليوم الدولي للبرلمان"الموافق ليوم 30 جوان من كلّ سنة. فماذا لو علمنا أنّ هذا التاريخ مرتبط بنشأة أعرق منظمة برلمانية دولية؟

ولعلّ من المفيد هنا الإشارة إلى أنّ إقرار هذه المناسبة السنوية يعود إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عـــــــــ278/72ـــدد الذي اعتمدته بتاريخ 22 ماي 2018 والذي تظهر فيه رمزية تاريخ الاحتفالية المذكورة الموافق لتاريخ نشأة الاتحاد البرلماني الدولي (Union Interparlementaire).

وتعود نشأة الاتحاد البرلماني الدوليإلى 30 جوان 1889 كمبادرة لمجموعة من البرلمانيين الذين كرّسوا أنفسهم لتعزيز السلام والأمن والتواصل مع نظرائهم من الشعوب الأخرى للتشاور والحوار وتبادل وجهات النظر وتقاسم التجارب، وهو بذلك مثّل أوّل بذور الديبلوماسية البرلمانية وظاهرة فريدة من نوعها كأوّل منظمة للتفاوض التعدّدي،لتلحق به فيما بعد عدة مؤتمرات دولية شكلت إرهاصات للحدث الأبرز في تاريخ الدبلوماسية الدولية ألا وهو مؤتمر فرساي وولادة النظام الدولي الذي تبلور في نشأة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى.

وأصبح الاتحاد البرلماني الدولي أو كما يطلق عليه "دار البرلمانات"والذي يضمُّ حاليا 180 برلمانا عضوا و15 هيئة منتسبة على غرار الاتحاد البرلماني العربي والاتحاد البرلماني الافريقي والجمعية البرلمانية للمتوسط والبرلمان الأوروبي...يعملُ بشكل مُطّرد على تطوير الحوكمة ودعم العمل البرلماني وتعزيز قيم الديمقراطية والشفافية في ظلّ برلمانات قوية تعبر عن حاجيات الشعوب وترمي إلى تحقيق تطلعاتها من خلال الإسهام في تعزيز الديمقراطية التمثيلية ودعم مكانة المرأة والشباب في الحياة السياسية إضافة إلى السعي إلى إحلال السلم والأمن وتكريس حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وتحقيق التنمية المستديمة...

ومثّل بذلك الاتحاد البرلماني الدولي منصّة حيوية للحوار بين البرلمانيين والتفاعل بينهم في إطار الدبلوماسية البرلمانية التي تنوّعت وتطوّرت وتأقلمت مع تشابك مصالح الشعوب وتداخلها وتعاظم التحديات العالمية لتصبح كنهج من المفاوضات السياسية التي توسّع حضورها في مجال العلاقات الدولية مُكتسحة بذلك دوائر التعاون الدولي ومسجّلة حضورها ومساندتها للدبلوماسية التقليدية ليذيع صيتها وتملأ الدنيا على غرار ما ورد على لسان رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي سابقا السيد Christian Poncelet، حين قال "شِـئـنا أمْ أبَـيْـنا، رحّـبنا أم استـنكرنا، الدبلوماسية البرلمانية موجودة، وقد الْـتقـيتُها، وهي تُمارس في جميع البلدان بكثافة وبأساليب متغيرة دون شكّ، كما أصبحت تكتسي أهمية متزايدة على الصعيد الدولي".

فهل تقف رمزية تاريخ الاحتفال باليوم الدولي للعمل البرلماني عند هذا الحدِّ؟ طبعا الإجابة ستكون بالنّفي لأنّ هذه الاحتفالية تحمل أيضا في باطنها ما هو أعمق إذ أنّها تترجم أهمية التفاعل بين منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة التابعة لها (منظمة التجارة العالمية، منظمة الصحة العالمية، منظمة الأغذية والزراعة، اليونسكو، اليونيسف ...) من ناحية والاتحاد البرلماني الدولي من ناحية ثانية حيث تربطهما علاقات تعاون مشترك ووثيق ومثمر في شتّى الميادين على غرار تعزيز الديمقراطية ودعم استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتمكين الشباب وإرساء الحوكمة الرشيدة وتمكين النساء والفتيات والتنمية المستديمة ومكافحة التغيرات المناخية والحدّ من مخاطر الكوارث الطبيعية...

ويحفظُ تاريخ التعاون بين المنظمتين شواهد عديدة تجسّدت خاصّة مع اتفاق سنة 1996 الذي أرسى أسس التعاون بينهما لِيلِيه قرار منظمة الأمم المتحدة لسنة 2002 الذي منحت بموجبه للاتحاد صفة الملاحظ ودعته بصفة رسمية للمشاركة بانتظام في أعمال جمعيتها العامة وتمكينه من تنظيم اجتماعات وجلسات برلمانية على هامش العديد من أنشطتها.

فمنظمة الأمم المتحدة باتت تُعوّل إلى حدّ ما على ثمار التعاون مع الاتحاد البرلماني الدولي ومن ورائه البرلمانات الوطنية الأعضاء به لا سيما مع تشجيع العديد من الدول للمشاركة المتزايدة للبرلمانيين ضمن الوفود الحكومية في أعمال الأمم المتحدة.

وهذا في الواقع اعتراف من المنظمة المذكورة بالدّور الفعّال للبرلمانيين وهو ما يسهّل إبلاغها وإحاطتها علما بشواغل تلك الشعوب وتطلعاتها ويمكّنها من العمل على نحو أوثق معها. ويُعزى ذلك إلى الدّور الذي تضطلع به البرلمانات في ترجمة الالتزامات الدولية إلى سياسات وتشريعات وطنية والإسهام في ضمان تحقيق الشفافية والمساءلة التي تعدُّ وغيرها من المهام جوهرًا أساسيًا في ترسيخ الديمقراطية وتكريس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

كما أنّ نجاحها في دورها المتعلّق بتحقيق أهداف التنمية المستديمة يتطلب اتباع نهج شامل في إطار عملية سياسية شفّافة وفعّالة وخاضعة للمساءلة.

ويتطلّبُ الامر كذلك تبادل الخبرات العالمية والإقليمية بين مختلف البلدان لتحديد أفضل الحلول بشأن التخطيط واعتماد الميزانيات وتنفيذها ورصد التقدم المحرز بشأن تحقيق أهداف التنمية المستديمة في غضون سنة 2030.

ويُصادف الاحتفال بــــ"اليوم الدولي للعمل البرلماني" هذا العام الاحتفال أيضا بمرور 135 سنة على نشأة الاتحاد البرلماني الدولي وليكون مناسبة لوضع العديد من المسائل التي تمسُّ المجموعة الدولية على طاولة حوار أساسه الوعي العميق بحتمية الخروج من منطقة القول إلى منطقة الفعل خاصّة أنّ الوضع لم يعد يحتمِل التأجيل أمام تحديات تنوّعت ومخاطر تعاظمت لتلقي بظلالها على المجتمع الدولي دون استثناء بشكل يدعو إلى تضامن وتعاون دوليين أعمق لإرساء السلم والأمن في العالم.

فهل تُواصل الاحتفاليات المستقبلية باليوم الدولي للعمل البرلماني تناوُلَ المواضيع المستهلكة وأدوار الديبلوماسية البرلمانية على الرغم من أهميتها؟ أم أنّها ستتناول مواضيع السّاعة كالجوانب المظلمة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي وتطوّر البرلمانات في المجال الرقمي والتعاون في مجال البحوث والدراسات وغيرها من المسائل ذات الصّلة بدعم قدراتها بهدف جعل أدوارها أكثر فعالية على الصعيد الدّولي؟

*مستشارة بمجلس نواب الشعب