تونس-الصباح
يُلقَب بـ " قاضي الشعر" في تونس اعتبارا لمتابعته الدقيقة لكل ما له علاقة بالشعر من خلال دراسات تحليلية ونقدية تعد اليوم من أبرزالكتابات التوثيقية لكل من يروم معرفة أسرارالشعر وأصحابه صورة ومعنى ومبنى.
هو الدكتور الجامعي فتحي النصري الذي له رؤيته الخاصة في كتابة الشعر .. وهو واحد من الذين لا يستعجلون النشر على اعتبار أن الحالة الشعرية عنده يجهل موعد حضورها في وجدانه من عدمه، فالشعرعنده أحاسيس ومشاعر وانفعالات، في حين أن النقد مرتبط بالعقل والأفكار والمفاهيم وهي المبادئ التي يسير على هديها، مما أهله ليكون احد افضل نقاد الشعر في تونس وعلى مستوى الوطن العربي أيضا.
حوار محسن بن احمد
* سؤال لابدّ منه ، كيف كانت بداية العلاقة مع الشعر؟
قصّتي مع الشعر هي قصّة معظم الشعراء. قصّة ولع بدأ منذ الصبا، فقد كنت مغرما بالأدب وكانت الكتب المتاحة قليلة فكنت أقرأ كلّ ما يقع تحت يديّ وأعاود مرارا وتكرارا قراءة النصوص الواردة في الكتاب المدرسي ولا سيّما القصائد وأحفظها، وكان حلمي أن أصبح كاتبا وكان ميخائيل نعيمة يمثّل نموذج الكاتب عندي لكثرة نصوصه في الكتاب المدرسي أوّلا ولأنّها نصوص سرديّة ممتعة ثانيا والسبب الثالث أنّه قد يتخلّل السرد فيها أبيات من الشعر ما زلت أحفظها إلى اليوم، وبدأت أحاول الكتابة بعد أن تمكّنت من بعض أوزان الشعر العربي منذ الخامسة عشرة ونشرت أوّل قصيدة في السادسة عشرة في مجلّة "العلى" التي يصدرها المعهد العلوي بالعاصمة حيث كنت أدرس، كنت أكتب آنذاك الشعر العموديّ وكانت القصيدة على بحر المتقارب، وقد نشرت أوّل قصيدة خارج الإطار المدرسيّ في مجلّة "الفكر" في عدد جوان 1976، وكنت في الثامنة عشرة من عمري، وقد رحّب الأستاذ المرحوم البشير بن سلامة رئيس التحرير بقصائدي وهو ما حفزني على المواظبة على النشر في المجلّة ولم يمرّ عامان حتى أصبح اسمي يثبت على الغلاف الخارجي، إذ كانت هيئة تحرير المجلّة تنتقي بعض النصوص للإعلان عنها فيه وهو بمثابة التنويه بها، كان اسمي آنذاك "فتحي الجلاصي"، وقد نشرت آخر قصيدة في "الفكر" في عدد مارس 1978. وقد جمعت في القصائد المنشورة بين الشكل العمودي والشكل الحرّ الذي اكتشفته بمفردي إذ لم يكن له حضور في الكتاب المدرسي، وذلك حين وقع بين يديّ بمحض الصدفة وأنا في الخامسة عشرة ديوان نزار قبّاني "حبيبتي"، وانقطعت بعدها عن النشر لأسباب يطول شرحها وقد ذكرتها في كتابي السيريّ "صديقي رضا لينين، ورقات من سيرة جيل معطوب"، ولم أعد إلى النشر إلاّ في سنة 1982 إذ نشرت سنة 1982،على ما أذكر،في جريدة "الطريق الجديد" قصيدة بعنوان "رقصة الطائر الذبيح" وقد ضمّنتها ديواني البكر "قالت اليابسة" (1994) ولكن عودتي إلى النشر كانت باسم فتحي النصري هذه المرّة. وكنت بذلك كأنّني أبدأ من جديد.
* كيف تعيش لحظة الكتابة؟
لا أختار لحظة الكتابة فالشعر يأتي أو لا يأتي. وعليّ أن أنتظر القصيدة التي قد تبدأ بالتقاط شيء يترجم إحساسا مّا أو حالة، إلى كلمات وصورة وإيقاع. وقد لا يتعدّى هذا المكوّن الأوّل الجملة أو البيت ولكنّه يعِد بالمزيد. وأعي أنّني عثرت على قصيدة حين تقترن هذه البداية بتصوّر أوّلي عن بنيتها، إذ لا يمكن أن أستمرّ فيها إلاّ إذا تشكّلت لديّ فكرة أولى عن البنية. فالقصيدة، مثلما أكّد الشاعر الفرنسيّ ماكس جاكوب، وهذا ينطبق على العمل الفنّي بشكل عامّ، "مادّة مبنيّة قبل كلّ شيء" وإذا تسنّى هذا أي التقاط شيء وتصوّر مّا عن البنية يبدأ الإنشاء حتّى تستوي القصيدة، واستواؤها يعني بالنسبة إليّ اتّضاح هيكلها وفي هذه المرحلة يكون الاشتغال شفويّا غالبا وهوما يتمّ عادة في النّهار ولا سيّما التقاط ما سيغدو قصيدة وتصوّر بنيتها ولكن جانبا هامّا من إنشاء النص يكون في الليل أو عند الفجر بعد أن أكون قد حصلت على قسط من النوم، عندئذ أكون صافي الذهن وهو ما قد ييسّر لي العثور على ما أريد، وقد أغادر الفراش أحيانا لأثبت ما انتهيت إليه على الورق، لا أفعل هذا إلاّ لتتسنّى لي العودة إلى النوم، إذ تظل القصيدة منقوشة في ذهني حتّى ولو لم أثبّتها بالكتابة. وبإثبات النصّ على الورق تبدأ مرحلة التنقيح والتشذيب التي لا تعدو غالبا تعديلات في جزئيّات العمل كاستبدال عبارة بأخرى أو تركيب بآخر وأنوّه بأنّ الكتابة لا تنهي العمل الشفويّ لأنّي أظلّ مسكونا بالقصيدة أردّدها حيثما كنت وأنقّحها حتّى تتّخذ صورتها التي أرضى عنها.
هذا عن إنشاء القصيدة أمّا متى يأتي الشعر فلا أدري، وما أعرفه أنّ مواسم من الخصب والجدب تتعاقب، وعندما أدخل موسم الخصب يفيض عليّ الشعر دفعة واحدة وأكتب في مدّة زمنيّة قصيرة نسبيّا عددا من القصائد التي تشترك عادة في المناخ العامّ وفي بعض الخصائص الفنّية، ويكون هذا عندما ينفتح لي باب جديد في القول. وقد أشبّه الأمر باكتشاف منجم جديد فيظلّ المكتشف يحفر ويستخرج المادّة التي يبحث عنها حتّى إذا استشعر أنّه قد استنفدها يكفّ عن الحفر ويبحث عن منجم جديد وقد يطول البحث ويستمرّ موسم الجدب مدّة طويلة. وأذكر أنّ بعد صدور مجموعتي الشعريّة الأخيرة "المعلّقة وقصائد أخرى" في سبتمبر 2023 توقّفت عن الكتابة إلى أواسط ماي 2024، وطيلة هذه الأشهر لم أكتب سوى قصيدة واحدة ولكن انتبهت أخيرا إلى أنّها كانت وعدا بمنجم جديد. وكلّ منجم يشكّل مناخا خاصّا والمجموعة الواحدة هي نتاج عدد من المناخات أو المناجم. ولذلك فإنّني أقسّم مجموعاتي الشعريّة إلى محاور أو أبواب. وعندما تكتمل مجموعة شعريّة مّا أتوقّف بعد نشرها عن الكتابة مدّة تستمرّ حتّى أعثر على شيء مختلف. وهذا الذي قد يفسّر أنّ مجموعاتي الشعريّة لا تتماثل. في مواسم الخصب أكون في حالة من التحفّز والرضى ويشتدّ قلقي وخوفي من العقم في مواسم الجدب، وقد يعود الحرص على استعادة القدرة على الكتابة، إلا أنّ البحث عن الشعر لا ينتهي، إذ نعثر على شيء منه بإنجاز القصيدة وما إن نفرغ منها حتى نعاود البحث وكأنّ الشعر لا يدرك وكأنّ القصيدة ليست سوى محاوله لأسر هذا المارد في منجز نصّيّ.
*جمعت في مسيرتك بين الشعر والنقد...ما هي العتبات التي جعلتك تجمع بين الاثنين؟
كلّ شاعر هو ناقد بالضرورة إذ هو، وهو يكتب وينقّح ويشذّب ويحكّك، يمارس ضربا من النقد على قصائده إذ يعيّر ما كتب ويقوّمه وهو في ذلك يصدر عن وعي فنّيّ أي عن اختيارات جماليّة وتصوّر مّا للشعر والشعريّة بغضّ النظر عن مدى وعيه بهذه الخلفيّة، ذلك أنّ من الشعراء من يركن إلى حدسه فحسب ومنهم من يصدر علاوة على الحدس عن نظريّة شعريّة أي عن فهم ما للشعر وعياره ووظائفه. والشعراء يتفاوتون في هذا الأمر فهناك شعراء منظّرون يحبّرون البيانات ويكتبون الكتب في النظريّة الشعريّة من أمثال أدونيس في كتابه "زمن الشعر" وكتابات أخرى وصلاح عبد الصبور في كتابه "حياتي في الشعر" وعبد الوهاب البياتي في كتابه "تجربتي الشعريّة" وغيرهم كثير وهناك من الشعراء من لا يحفل بالتنظير ويقتصر على ممارسة الشعر وهذا حال معظم الشعراء. وتؤهّل ممارسة الشعر والتنظيرللشاعر المرور إلى ممارسة النقد أي دراسة العمل الشعري والخوض في قيمته الفنّيّة. وقد فعل ذلك شعراء كثيرون حتّى أنّ البعض منهم لا يذكر اسمه إلاّ مقترنا بالصفتين الشاعر والناقد على غرار نازك الملائكة أو الشاعر الإنقليزي"ت. س. إليوت" أو الشاعر الإنقليزي الآخر "هربرت ريد" بل إنّ صفة الناقد قد تغلب عند بعضهم على صفة الشاعر وهذا حال شعراء من أمثال سلمى الخضراء الجيّوسي أو كمال خير بك أو عز الدين إسماعيل أو علي جعفر العلاق...أمّا في ما يخصّني فقد بدأت شاعرا ثمّ كانت لي مسيرة جامعيّة فتخصّصت في دراسة الشعر الحديث والمعاصر وأنجزت عددا من البحوث في هذا الإطار الأكاديمي. ولكن ثمّة أسباب أخرى جعلتني أمارس نقد الشعر فنحن معشر الشعراء نواكب تجارب بعضنا البعض ونرصد خصائصها ونلتقط ما فيها من ظواهر لافتة أو فرادة. ويجد البعض منّا أنفسهم مدعوّين إلى الخوض فيها وقد يكتبون عنها حتّى من باب الغيرة على الشعر للتنبيه إلى قيمتها، وهكذا وجدت نفسي شخصيّا أكتب عن محمّد الخالدي والمنصف الوهايبي ومحمّد الغزيّ وآدم فتحي وغيرهم وهم بدورهم كتبوا عن شعري، وهؤلاء الذين ذكرتهم جميعا شعراء يمارسون النقد وإن بتفاوت، وإقبال الشعراء على النقد في تونس وفي البلاد العربيّة والبلاد الغربيّة ظاهرة لافتة للانتباه وهي جديرة بالنظر والبحث في أسبابها. ولعلّ من هذه الأسباب أنّ النزوع الفنّي السائد في الشعر المعاصر وأعني الحداثي منه جعله أقرب إلى الانغلاق والغموض وهو ما يعسّر مقاربته فينبري الشعراء أنفسهم لإصلاح الافتقار وهذا يفضي بنا إلى سبب آخر وهو وجود أزمة في نقد الشعر. واطراد البحوث الأكاديميّة في الشعر لا يغيّر في الأمر إلاّ قليلا إذ هي تدرس بعض الظواهر أو تجري مناهج على الأثر ولا ترمي إلى تحديد قيمة الأثر الفنيّة وهو دور النقد وربّما يحتاج المشهد الشعري إلى انبعاث الممارسة النقديّة من جديد انبعاثا يشبه ما كانت عليه في العقود الستّة أو السبعة الأولى من القرن العشرين قبل أن يتراجع مدّ النقد.
* هل النقد لا يتمّ إلاّ من خلال منهج بعيد عن الذائقة الحسيّة للناقد؟
يبدأ النقد من التذوّق ولا يتسنّى بدونه فنحن عندما نقرأ قصيدة ونعجب بها تحصل لدينا انطباعات أولى عن مكامن الجمال فيها ومن هذه الانطباعات يبدأ النقد. قد يسعى البحث الأكاديمي إلى مباشرة الأثر بإجراء مقاربة مّا أو يقتصر على أن يباشره من خلال موضوع محدّد أو ظاهرة معيّنة، أمّا النقد فيرمي إلى المقاربة الشاملة التي تحدّد قيمته الفنّيّة. وقد تكون هذه المقاربة الشاملة أقلّ صرامة من البحث الأكاديمي ولكنّها ضروريّة ومفيدة لمعرفة قيمة العمل الأدبي. وقد آن الأوان في رأيي لعودة النقد الانطباعي الذي كثيرا ما حطّ الأكاديميّون من قيمته. فليس المشكل في تقديري في أن يقوم النقد على انطباعات الناقد، ولكن الأمر يتوقّف على من تصدر عنه هذه الانطباعات. فانطباعات العارف بالشعر تنطوي غالبا على معرفة وحدوس تقرّب العمل الأدبي من القارئ وتساعده على تذوّقه. وأعتقد أنّ معظم ما كتبه طه حسين والعقّاد وإحسان عبّاس وعزالدين إسماعيل ومحمّد النويهي ومحمّد صالح الجابري وغيرهم كثير نقد انطباعي ولكنّه نقد حصيف لأنّه صادر عن نقّاد عارفين بالشعر.
* إلى أيّ مدى يصحّ عليك القول إنّك "قاضي الشعر" الأوّل في تونس؟
لعلّ هذا الوصف الذي ينطوي على إطراء يصدر عن حسن ظنّ بي. وربّما هي سمعة اكتسبتها من مشاركتي في لجان التحكيم في الشعر وغيره إذ أسعى جاهدا إلى أن أكون منصفا. ولكنّني لا أعتقد أنّ الشعر يحتاج إلى قاض لأنّه لا يخضع لقوانين ثابتة يعرض عليها. وإنّما هو يصدر عن اختيارت جماليّة قد تختلف من شاعر إلى آخر فالشعريّة شعريّات. ما نحتاج إليه حقّا طليعة نقديّة تكون وسيطا بين الشاعر والقارئ وتقرّب الأعمال الشعريّة من المتلقّي. طليعة نقديّة قادرة على التقاط الجديد والمختلف والفريد وقادرة على أن تسدّ الفجوة التي تفصل بين الشعر المعاصر ومتلقّيه، وبدون وجود مثل هذه الطليعة النقديّة قد يضيع شعر كثير وتعبر تجارب هامّة أمام أعيننا دون أن ننتبه إليها. هذه الطليعة ضروريّة لوضع الأمور في مواضعها.
* جمعت بين قول الشعر والبحث فيه. كيف تحدّد العلاقة بين الاثنين؟
كثيرا ما يطرح عليّ هذا السؤال وكثيرا ما أستشعر في طرحه افتراضا ضمنيّا يتمثّل في أنّ الممارسة الشعريّة تدين للبحث بالكثير ولكن أودّ أن أوضّح أنّه حين قرّرت أن أواصل دراستي الجامعيّة وبلغت مرحلة إنجاز رسالة الدكتوراكنت قد نشرت مجموعتين شعريّتين (قالت اليابسة (1994) وأصوات المنزل (1995) ونشرت مجموعتي الثالثة (سيرة الهباء وقصائد أخرى (1999) ) أثناء اشتغالي بالأطروحة وقد اخترت البحث في الشعر الحديث لأنّه المجال الأدبي الذي أهتمّ به وأشتغل به أكثر من غيره وكان مدار البحث على "السرديّ في الشعر العربي الحديث، أشكال حضوره ووظائفه". ويعود اختياري لهذا الموضوع بالذات إلى أنّني كنت أعرف أنّني أميل في كتابتي إلى تسريد الشعر وأنّ هذه الظاهرة تمثّل في الشعر العربي المعاصر "بلاغة جديدة " على حدّ تعبير عزالدين إسماعيل وهي تميّز العديد من التجارب الشعريّة، وكانت فرضيّة الأطروحة أنّ السرد إذ يبنى عليه الشعر ليس قابلا للانصهار في بنية القصيدة فحسب بل يميّز شعريّتها ويغدو مادّة لصناعة الصورة. فاهتدائي إلى هذا الموضوع وهذه الفرضيّة يعود إلى ممارستي الشعر وتمرّسي بالشعر الحديث. فقد بحثت في ظاهرة تسريد الشعر لأنّني لا حظتها في كتابتي وليس لأنّني بحثت في "السردي في الشعر العربي الحديث" صرت أسرّد الشعر كما يتوهّم البعض. وبالإمكان القول إنّ الشعر هو الذي أفاد البحث. وفي المقابل يعسر أن يفيد البحث الشعر ذلك أنّ الشعر يصدر عن الانفعال والإحساس والعاطفة والحدس في حين أنّ البحث يرتبط بالعقل والمفاهيم والأفكار. وعلى الشاعر الذي يمارس البحث أو النقد أن يخرج من جلده ليقول شعرا.
*الشعر في عصرنا الحالي يتشكّل بأشكال عديدة ، هل تعتبر التحوّل ثورة لا بدّ منها للشعر العربي للتخلّص من النمطيّة والكلاسيكيّة التي هو عليها؟
مازال الشعر منذ نشأته إلى اليوم، وهذا شأن كلّ ظاهرة تاريخيّة، يتحوّل ويتطوّر. وفي ما يخصّ الأشكال الشعريّة عرف الشعر العربي في تاريخه عدّة أشكال منها القصيدة والرجز والموشّح ولكن سيطرت القصيدة ذات الشطرين والقافية الموحّدة على الشعر العربي القديم وانضاف إليها في العصر الحديث الشكل المقطعي والشعر الحرّ وقصيدة النثر. وهي الأشكال الأساسيّة إلى جانب أشكال أخرى ثانويّة كان لها انتشار محدود كالشعر المنثور وغير العمودي والحرّ..وساهمت كل هذه الأشكال وإن بتفاوت في تطوّر الشعر العربي. وتستدعي ثقافة الشاعر في ما أرى أن يكون عارفا بها قادرا على الأشكال الأساسيّة ثمّ هو بعد ذلك يوظّف منها ما تقتضيه القصيدة وما يناسب تجربته الشعريّة، فلا شيء يمنع الشاعر من ممارسة أيّ شكل من هذه الأشكال ولا شيء يمنعه من الجمع بين بعضها في نصّ واحد أو في ديوان. ولا أرى معنى لإلزام الشاعر نفسه بشكل واحد منها يوقف عليه كلّ شعره ولا معنى للتعصّب لشكل بعينه. غير أنّي أرى أنّه يعسر أن يأتي الشاعر بجديد داخل الشكل العمودي (نظام الشطرين والقافية الموحّدة) وذلك بسبب قافيته الموحّدة بالذات وبسبب أنّ نمطه البنائيّ القائم على تكرار المتماثل يبقيه رهين الذاكرة. فلا مستقبل لهذا الشكل المرتهن بماضيه ولا أرى أنّه بإمكان شاعر في العصر الحديث أن يتجاوز ما أنجزه أحمد شوقي في إطار هذا الشكل.
*أيّ مفهوم لك للحداثة في الشعر؟
سأقتصر على القول إنّ الحداثة جعلت من الشعر خلقا ومن الخلق مسألة لا تخصّ سوى الشاعر فإليه ترجع كل معايير الشعريّة والجمال. فلا شيء موجود قبل القصيدة والمعاني ليست ماثلة في ذهن الشاعر أو ملقاة على قارعة الطريق وهو يكسوها اللفظ والإيقاع المناسبين وإنّما الشعر مغامرة بحث عن المعنى معنى الوجود والذات في علاقتها به، والقصيدة مغامرة خلق يخوضها الشاعر لاكتشاف هذا المعنى وهي طريقه إليه. لذا كانت القصيدة الحداثيّة مغامرة بحث لا يتوقّف عن الشكل الملائم في كلّ مرّة لقول يتجدّد باستمرار. ولذلك اتّسم الشعر الحداثيّ بقدر من الغموض لأنّه بحث عن المعنى وتشكيل له في الآن نفشه.
* ماذا عن المشهد الشعريّ اليوم في تونس؟
لا يختلف كثيرا عن المشهد الشعري في سائر البلاد العربيّة، تعدّدت التجارب والمشارب وتضخّم عدد الشعراء ولكنّ الشعر قليل. وهذا سبب من أسباب نفور القرّاء من الشعر فقد اختلط الغثّ بالسمين والحابل بالنابل. لكن هناك عوامل قد تجعل الأمر أكثر سوءا في تونس، منها تعميم التعليم وارتفاع نسبة التمدرس في تونس، وهذا جيّد في حدّ ذاته لكن المفارقة تكمن في أنّ كل من اكتسب نصيبا من التعليم يتوهّم نفسه قادرا على الكتابة الإبداعيّة فيقدم على الشعر دون حصول ملكة ودون الذخيرة اللازمة، وأنوّه بأنّ هذه الملكة وهذا ينطبق على كلّ فنّ تتأتّى من حفظ الأشعار واستبطان مناويلها أي من الغرام بهذا الفنّ وليس من الشهادات العلميّة. زد إلى ذلك أنّ وسائل التواصل الاجتماعي يسّرت النشر. وهذا جيّد في حدّ ذاته وأنا شخصيّا أفدت من هذه الإمكانيّة ولكن هذه الوسائل أفضت أيضا إلى استسهال الكتابة والنشر. وأضيف إلى هذين السببين سببا ثالثا يتمثّل في أنّ البعض يتصّور أنّه باكتساب لقب شاعر يحصل على شيء من الوجاهة قد تفتح له بعض أبواب الرزق. وهو ما يعزّز الانتصاب الفوضيّ في سوق الشعر، وربّما لهذا السبب قال أدونيس مرّة : "إنّ الشعر أصبح مهنة العاطلين عن العمل".
الدكتور فتحي النصري.. سيرة موجزة
فتحي النصري من مواليد تونس شاعر و باحث جامعي متخصّص في الأدب الحديث. وهو أستاذ تعليم عال يدرّس بكلّيّة العلوم الإنسانيّة و الاجتماعيّة بتونس. رأس قسم العربيّة بها من 2011 إلى 2018.
متحصّل على الأستاذيّة في اللغة و الآداب العربيّة من دار المعلّمين العليا بتونس سنة 1981 و شهادة الكفاءة في البحث سنة 1993 و التبريز سنة 1995 و الدكتورا في الأدب العربي سنة2003 والتأهيل الجامعي سنة 2009.
--له عديد الدراسات منها على سبيل الذكر لا الحصر
السردي في الشعر العربي الحديث، "2006". الطبعة الثانية، 2020
_ شعريّة التخييل، قراءة في شعر سعدي يوسف، "2008"
-بنية البيت الحرّ الطبعة 2،النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية بالمملكة العربيّة السعوديّة، دار الانتشار العربي، لبنان، 2022
شعريّة محمّد الخالدي ( مؤلّف مشترك)"2009"
معجم السرديّات (مؤلّف مشترك" 2010"
وفي الشعر اصدر عديد المجموعات منها _ "قالت اليابسة 1994 - "أصوات المنزل، "1995 ،"سيرة الهباء،" 1999"جرار الليل" ، 2006"مثل من فوّت موعدا" دار زينب، تونس،2015 "أبواب"، 2019 ، "شيء من أجل مدينة الربّ"، وشمة للنشر، تونس، 2021
للدكتور فتحي النصري مساهمات متنوعة في مجال البحث العلمي والنقد الأدبي. وقد نشر العديد من الدراسات والمقالات. وله مساهمات في الحقل الثقافي. فهو يكتب الشعر بأشكاله المختلفة. وقد نشر العديد من القصائد ابتداء من جوان 1976 بمجلاّت وصحف تونسية وعربية.وساهم في العديد من التظاهرات الأدبية داخل تونس وخارجها بقراءة الشعر وإلقاء المحاضرات. وترجمت له أشعار إلى الفرنسيّة والإسبانيّة والانقليزيّة. وقصائده ماثلة في أنطولوجيات عديدة أنجزت في تونس ومصر والجزائر واليمن وفرنسا وإسبانيا باللغات العربيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والانقليزيّة.
من أشعار الدكتور فتحي النصري
غُرابُ إدغار ألان بُو
كنتُ في لَيْلِ كانُونَ
والريحُ تٌعْوِلُ
في رُفْقَةِ الشاعرِ الأَمَرِيكِيِّ بُو
هائِمًا معهُ
مُمْعِنًا في قصيدتِهِ:"الغُرابْ"
عِنْدَما رَجَفَ البابُ رَجْفًا خفيفًا
وخِلْتُ كَأَنَّ جَناحًا أَلَمَّ
وَحَوَّمَ بالقُرْبِ مِنْ شُرْفَتِي
وَتَناهَى نَعِيبٌ إلى مَسْمَعِي
واضطِرابْ.
وَتَساءَلْتُ مَنْ زائري في الدُّجَى
وَهَمَمْتُ بِبَابِيَ أَفْتَحُهُ
غَيْرَ أَنّي اسْتَعَدْتُ هُدُوئيَ
لَمّا الهدوءُ اسْتَتَبَّ
فَعُدْتُ إِلى مَجْلِسي والكِتابْ.
حَيْثُ يَسْأَلُ راوِي الحكايَةِ في كَمَدٍ
عَنْ مَآلِ الملاكِ الذي
كان بَيْنَ الوَرَى والملائِكِ
يُسْمَى بِ"لِينُورَ"
والآنَ باتَ سَمِيَّ الغِيابْ.
أَيُّ رِيحٍ تَهُبُّ بِلاَ رَحْمَةٍ
لِتَجُذَّ أَحِبَّتَنَا
وَتُخَلّفَنا كاليتامَى وحيدينَ
نَبْكِي القُدُودَ الخُدُودَ النّهودَ التي
تَتَفَسَّخُ بارِدَةً في التُّرابْ.
لَيْسَ فِي كلِّ جَلْعَادَ مِنْ بَلْسَمٍ لِلْفُؤادِ
ولاَ ثَمَّ آسٍ
يُضَمِّدُ جُرْحي وَأَجْراحَ شَعْبِي
وداخلنِي الشكّ في عَالَمٍ
عاجَلَتْهُ فُؤوسُ الخَرابْ.
كُنْتُ نَهْبَ هَواجِسَ لا تَنْتَهي
طَوَّحَتْنِيَ أَبْعَدَ مِنْ شِعْرِ بُو
وَخَيالِ الفَقيدَةِ لِينُورَ
حتّى انقضَى سَمَري
وإذا البابُ والطارقُ المُسْتَرابْ..
- مَنْ تُرَى جَاءَ فِي آخِرِ الليْلِ
مُقْتَحِمًا عُزْلَتِي؟
وَدَنَوتُ مِنَ المَقْبِضِ المُتَبَلّدِ
مُنْقَبِضَ النَّفْسِ:"مَنْ؟"
وَتَوَجَّسْتُ مُدّلِجًا لا يَرُدُّ الجوابْ.
إنّها الريحُ، غَمْغَمْتُ
لاَ بُدّ مِنْ أنّها الريحُ
ما زِلْتُ مُذْ هَبَطَ الليْلُ أَسْمَعُها
وَهْيَ تَعْوِي فَيَرْتَجُّ بابٌ وَيَهْتَزُّ سِتْرٌ
وَيَرْتَدُّ مِنْ رَجْعِها كَالنُّعابْ.
لَمْ يَكُنْ خارجَ البيتِ غَيرُ الظلامِ
وَرَفْرَفَةٍ في انتظاري،
- قَضَى طائرٌ وَطَرًا ومضَى، قُلْتُ
لكنَّ صوتًا تردَّدَ في داخلي ناعِبًا:
"لاَتَ حِينَ ذَهابْ".
في منامي رَأَيْتُ كَأنّي بِجَلْعادَ
أَبْحَثُ عنْ بَلْسَمٍ لِفُؤادي
وَعَنْ بَلْسَمٍ لِبِلادي
وكانَ يَحُومُ عَلَيَّ
وَيَأْكُلُ مِنْ طَبَقٍ فوْقَ رَأْسي الغرابْ
- الشاعر والناقد الدكتور فتحي النصري