حوار: محسن بن احمد
مبدع يغلب عليه الصمت حتى في أدق اللحظات فرحا كان ام ألما . صريح في مواقفه إلى حد الجرح , يعيش داخل النص قصيدا كان او رواية او نصا مترجما بكل أحاسيسه وجوارحه إلى الانصهار الكلي فيه .
تميز بتجربة صوفية كان لها عميق الأثر في نحت شخصية متمردة على الواقع رافضة للعديد من أطروحاته لأجل عالم نوراني ببهائه وصفائه وجماله .
تنقل بين أكثر من بلد عربي واروبي على امتداد أكثر من عشرين سنة فكان ان اكتشف وتعرف على ثقافات وحضارات أخرى، أغنت تجربته الحياتية والإبداعية.
** جرت العادة في سلسلة الحوارات التي أقوم بأن أسأل ضيفي، عن طفولته لأهمية هذه الفترة من حياة الإنسان، فكيف كانت طفولتك؟
- لم تكن طفولة مترفة، لكنها كانت، في المقابل، طفولة سعيدة، وهي تمثل إحدى التيمات المركزية في كتاباتي، الشعرية منها والسردية. ولأنّ ما من أحد يبرأ من طفولته، كما قال الشاعر الفرنسي شارل بودلير، فقد خصصتها بعملين اثنين: "وطن الشاعر"، وهي مجموعة شعرية صدرت عام 2003 وفازت بجائزة أبي القاسم الشابي "وما تجلوه الذاكرة، ما لا يمحوه النسيان – أشتات من سيرة المكان والزمان صدرت عام 2006، استحضرت فيهما مراحل الطفولة، مقترنة بالمكان بكل مفرداته من نباتات وحيوانات وطيور برية وتضاريس وما يكتنفها من أساطير. وما من شك في أن سنوات الغربة الطويلة التي قضيتها خارج الوطن، كانت وراء عودتي المبكرة إلى الطفولة والحنين إليها. فهي تزداد حضورا كلما نأينا عنها جغرافيا أو زمانيّا.
* أشرت الى الغربة، أي تأثير لها على تجربتك الحياتية والإبداعية؟
*الغربة، بحلوها ومرّها تجربة وجودية في رأيي، فأن تعيش تحت سماء غير سماء بلادك ووسط أناس من غير أبناء جلدتك وتتطبّع بطباعهم ليس بالأمر الهيّن. فما بالك بمن عاش أكثر من غربة: غربة شرقية وإن لم أشعر خلالها بأني غريب، حيث قضيت اثني عشر عاما في بغداد وأخرى غريبة أثناء إقامتي في جينيف بسويسرا عشر سنوات أخرى. وعشت، أخيرا غربة ثالثة كانت الأشدّ وطأة وابتلاءً، بعد عودتي إلى "أرض الوطن" أو "أرض المحن" كما سميتها في بعض كتاباتي. وطبيعي أن يكون لكل تجربة من هذه التجارب الثلاث طعمها الخاص. أمّا أهمّ ما خرجت به منها فهو الزّاد المعرفي الذي راكمته خلالها، إذ تعرّفت على ثقافات وحضارات أخرى، أغنت تجربتي الحياتية والإبداعية.
* تحضرني بالمناسبة مقولة لك في إحدى مقابلاتك الصحفية: "ذهبت إلى بغداد عاشقا وخرجت منها صوفيا"،فهل أوضحت الأمر أكثر؟
- ذهبت إلى بغداد في سن مبكّرة. كنت مسكونا بالشعر وبأسماء رموز الريادة الشعرية ممّن اطلعت على بعض أعمالهم، على رأسهم بدر شاكر السياب. وكان حلمي أن أتنفّس المناخات التي تنفسها هؤلاء وعاشوا فيها. كانت الرحلة إلى الشرق التي رافقني فيها صديقي الشاعر والرّوائي محمد علي اليوسفي شاقة وطويلة، فقد تحوّلنا برّا إلى طرابلس، ومن هناك حجزنا تذكرتي طائرة بنغازي – دمشق، وكان علينا أن نقطع ألف ومائة كيلومتر برّا لنستقل الطائرة من بنغازي إلى الشام... آثر رفيقي البقاء في العاصمة السورية، فيما واصلت أنا الطريق إلى بغداد برًّا على متن حافلة هرمة لأصل فجرًا إلى المدينة التي طالما حلمت بها....
- وبحكم معرفتي بالخارطة الشعرية العربية والعراقية بشكل مخصوص لم ألبث أن اندمجت في المشهد الثقافي لأصبح، بعد فترة وجيزة جزءًا لا يتجزأ منه... كما ربطتني علاقات صداقة متينة مع عدد كبير من رموز الثقافة، من كتاب وشعراء وفنانين تشكيليين وموسيقيين... كنت محظوظا حقا لأنني غرفت من ذلك الزخم الثقافي الهائل. لقد كانت الفترة الأكثر ثراء في حياتي، ولولاها لكنت ربما شخصا آخر... نعم لقد ذهبت إلى بغداد عاشقا وغادرتها متصوّفا. ففيها عمّقت معرفتي بالتراث العربي وفيها بدأت أتلمس طريقي إلى عالم التصوف النوراني.
* هل حدثتنا عن هذه التجربة الرّوحية التي مررت بها وعن مدى تأثيرها عليك إنسانيا وإبداعيّا؟
- كانت تجربة حاسمة، صبغت حياتي كلها، كما كان لها عميق الأثر في كتاباتي، الشعرية منها والسردية. فبالإضافة إلى مجموعتي "المرائي والمراقي" الصادرة عام 1997 التي أودعتها هذه التجربة بكل ما فيها من حرارة وتوهّج، فإن بقية أعمالي، والرّوائية منها بصفة خاصة تناولتْ، هي أيضا، هذه التجربة وبشكل أوسع... وقد توصلت من خلال معرفتي بالتصوّف الإسلامي واطلاعي على الديانات والفلسفات الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية إلى نتيجة وقفت عندها طويلاً. وهي أن هذه التجارب الرّوحية تنبع جميعُها من معين واحد هو: "الحكمة الأولى" (La sagesse primordiale)، وأنّ ما قاله لاو-تسو، أو بوذا في القرن السادس قبل الميلاد، على سبيل المثال، قاله ابن عربي أو جلال الدين الرّومي بعد ذلك بقرون وإنْ بصيغة أخرى...
إن التجربة الروحية تجربة عميقة لا يدرك أهميتها إلاّ من عاشها، فهي تقتلعك من الواقع الموبوء لتسمو بك إلى عالم نوراني أجمل وأنقى.
* يلاحظ القارئ لمجمل أعمالك احتفاء واضحا باللغة أي سر وراء كل هذا الافتتان بها؟
- سؤال طالما وُجّه إليّ: هناك أكثر من سبب لهذا الاحتفاء: شغفي المبكّر باللغة العربية وجماليتها. كان يمكن لهذا الشغف أن يظل مجرّد إعجاب وافتتان بهذه اللغة الساحرة، شأني شأن الكثيرين من أبنائها الغيورين. لكن سنوات الغربة الطويلة وما أورثتنني من إحساس حاد بفقد الوطن جعلني أبحث، في لا وعيي ربما عن وطن بديل فلم أجد سوى اللغة... إنها وطن من لا وطن له، وهي، إلى ذلك انتماء وعنوان للهوية، بل هي الهوية ذاتها. فمن لا لغة له، لا هوية له ولا انتماء.
من هذا المنطلق، ووفاءً لأمجاد الأسلاف العظام وارثهم، كان احتفائي باللغة التي منحتني الإقامة الدائمة بين جنانها الوارفة. ومن يطّلع على أعمالي الشعرية سوف يلاحظ حواري الدائم معها، إنها السلطة الوحيدة التي أعترف بها وأتعامل، بالتالي، معها، والجديرة وحدها بأن أتصارع معها أيضا... يمكن لأية لغة أخرى أن تكون حيادية بصورة من الصور باستثناء اللغة العربية، لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا.
* أنت شاعر معروف وصاحب مدونة شعرية مهمة. ومع ذلك عرفناك روائيا أيضا. هل ضاق الشعر عن التعبير عما يسكنك فلجأت إلى الرّواية؟
- مشاريعي الرّوائية ليست وليدة البارحة، ولا علاقة لها بالهجمة الشّرسة على هذا الجنس الأدبي الصعب من قبل كل من هبّ ودب، من كتبة وجامعيين في أرذل العمر طمعا في جائزة تفوح منها رائحة النفط، فهي تعود إلى أربعين سنة خلت أو أكثر "فرحلة السالك"، الصادرة عام 2011 كتبتها في ثمانينيات القرن الماضي أثناء إقامتي في جينيف، وهي أوّل نص سردي أكتبه. وأحدث رواية صدرت لي عام 2019 وأعني بها "الأوتاد" بدأتها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي أيضا وكذلك "الملامية" الصادرة عام 2017 في بيروت. روايتان فقط كتبتهما في مطلع القرن الواحد والعشرين هما: "سيدة العالي" و"الحفيدة". أما لماذا تأخر نشر هذه الأعمال فلأسباب يعرفها أكثر الأصدقاء، وهي الظروف الصعبة التي واجهتها بعد عودتي إلى البلاد، وما رافقها من تنكيل السلطة وجلاديها بي طيلة عشرين عامًا... لقد كتبت الرّواية انطلاقا من معرفتي بأن الأصل هو أن يكتب الشاعر الرّواية. بدليل أن عظماء الرّوائيّين في العالم هم أصلا شعراء كبار. لكن ظاهرة الجمع بين الشعر والرّواية كانت معدومة تقريبا في أدبنا العربي. فالشاعر لا يقرأ الرّواية والروائي لا يقرب الشعر ولم يتغيّر المشهد إلا في العقود الأخيرة. وحتى أكون منصفا فإن الشعراء أكثر إقبالاً على قراءة الرّواية من الرّوائيين على قراءة الشعر وهذه قضية أخرى، لا مجال للحديث فيها الآن.
* ما علاقتك بالمكان، أنت الذي تنقلت للإقامة مدة طويلة في المشرق لتنتقل بعدها إلى أوروبا قبل عودتك أخيرًا إلى الوطن.
- علاقتي بالمكان علاقة قلقة. فقد عشت تحت سماوات، لا تشبه إحداها الأخرى. ومن الطبيعي أن يكون لذلك أثره فيما أكتب. لكن المكان الأكثر حضورا في مدوّنتي السردية منها والشعرية هو مسقط رأسي ومهد طفولتي بمدينة المتلوي من الجنوب الغربي للبلاد التونسية... فهو محفور في ذاكرتي، أحمله حيثما أقمت وأحنّ إليه. وقد أفردته، كما ذكرت في بداية حوارنا هذا بعملين اثنين هما: "وطن الشاعر"، وهي مجموعة شعرية صدرت عام 2003 و"ما تجلوه الذاكرة، ما لا يمحوه النسيان" وهي سيرة الطفولة مقترنة بالمكان. أما رواياتي، المنشورة منها والمخطوطة فتنطلق أحداثها جميعها من نقطة مركزية واحدة هي المتلوي، المدينة المنجمية ذات النسيج الاجتماعي المتنوّع، لتتشعّب بعد ذلك وتشمل أمكنة وفضاءات نائية... إن المكان كالطفولة، كلما ابتعدنا عنه زمنيا أو جغرافيا ازداد حضورًا في ذاكرتنا ووجداننا. وكما قيل، فإن المكان الحقيقي ليس الذي تقيم فيه بل الذي نحمله فينا.
* ما مدى مساهمة الشعر في تشكيل رؤيتنا للحياة بجوانبها المتعدّدة؟
- ليس للشعر وظيفة اجتماعية أو سياسية بعينها، لأنه أسمى من أن يؤدي وظيفة كهذه. فوظيفته جمالية خالصة... أما كيف يسهم في تشكيل رؤيتنا للحياة فمن خلال ما يمنحنا إيّاه من متعة وتهذيب لذائقتنا والارتقاء بها. لكن قد يحدث أن ينزلق بعضهم بالشعر إلى مهاوي ما يُسمى بالقضايا الاجتماعية والسياسية لأن المرحلة تتطلب ذلك. لكن هذا "الشعر" سرعان ما يطويه النسيان ويتحوّل، في أحسن الحالات إلى مجرّد وثيقة يعود إليها الباحثون عند دراستهم لحقبة مّا...
وباختصار، نحن نكتب الشعر لأننا نحيا بكل ما في هذا الفعل من مغزى ورمزية.
* سوق الشعر كاسدة، ومع ذلك، فإن عدد الشعراء والشواعر، يزداد بوتيرة لافتة ومثيرة للدهشة. ما تعليقك على ذلك؟
- الظاهرة، في رأيي إيجابية ولا يسعنا إلاّ أن نباركها. فأن يتزايد عدد الشعراء والشواعر خاصة فهذا يعني أن الشعر بخير وأنه باق ولن يموت على عكس ما ذهب إليه الذين نعوه وهم كثر إذ ظنوا أن زمن الشعر قد ولّى. لكن ما فات هؤلاء هو أن الفنون، وفي مقدّمتها الشعر لها قدرة عجيبة على التكيف. فقد أعلن عن نهاية المسرح عند ظهور السينما، لكن المسرح استمر، بل استفاد من السينما، وعندما ظهر التلفزيون بعد ذلك، كان المسرح والسينما أكبر المستفيدين منه. واليوم تستفيد كل هذه الفنون وفي مقدّمتهما الشعر من التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال الاجتماعي ممّا شجع على تعاطي الشعر بصورة لم نعهدها من قبل، ولا أبالغ إذا قلت إننا بصدد تسونامي شعري حقيقي... صحيح أن غثه أكثر من سمينه، ومع ذلك، يظل الهوس بالشعر في عصرنا هذا دليلا على انتصاره... نعم سوق الشعر كاسدة وهذا ديدنها دائما، لكنها، في المقابل تشهد ازدهارا إعلاميا منقطع النظير. وهذا وحده كاف ليتهافت كل من هبّ ودب على كتابته. وهذه مفارقة من مفارقات الشعر.
* هل أنصفك النقد كشاعر؟
- عن أيّ نقد تتحدّث والنقد الحقيقي شبه معدوم. أما إذا كنت تقصد ما يطالعنا في بعض الصحف والمجلات فهذا لا يدخل في باب النقد، فهي مجرّد كتابات متهافتة، منطلقها الشللية والإخوانيات، وهي لا تعنيني.
في المقابل، أعتبر نفسي محظوظا أكاديميا إذ تناولت أطروحات كثيرة تجربتي الشعرية، في تونس وخارجها، وأخصّ بالذكر هنا الباحث المتميز والدؤوب الدكتور لطيف شنهي الذي خصني بثلاث أطروحات: أطروحة ماجستير أولى تناول فيها الظاهرة الصوفية في الشعر التونسي، ولأسباب خارجة عن إرادته لم يتمكن من مناقشتها فنشرت في كتاب لتكون أوّل بحث يتناول هذه الظاهرة ثم خصني أطروحة ماجستير ثانية ناقشها في كلية الآداب بصفاقس، وقد صدرت عام 2013 تحت عنوان: الطرس والدواة – بحث في "تطريسية شعر محمد الخالدي". وأخيرا بأطروحة دكتوراه نالها بمرتبة الشرف، تناول فيها ظاهرة "تحوّل النص الشعري قصّا في كتابات محمد الخالدي". وستصدر عن إحدى دور النشر هذه الأيام، إن لم تكن قد صدرت بعدُ. وهناك بحوث أخرى قيد الإنجاز الآن في تونس وخارجها.
في المقابل لم تحظ مدونتي الروائية التي لا تقلّ شأنا عن مدونتي الشعرية بالاهتمام الذي يليق بها، ربما لأنها لا تعالج ما يُسمى "بالقضايا الاجتماعية والسياسية". وإنما تتناول قضايا إنسانية وكونية قد لا تكون من اهتمامات نقادنا الأشاوس الذين يقتصر نشاطهم، في أحسن الحالات على مداخلات متهافتة يقدّمونها في التظاهرات التي يعودون إليها مقابل مكافأة مالية زهيدة وما يبعث على الأسف هو أن هذه الظاهرة المرضية ما تنفكّ تستفحل يومًا بعد يوم.
* تسلمت إدارة بيت الشعر من عام 2012 إلى نهاية 2017، فهل حدثتنا عن تجربتك في هذا المرفق الثقافي؟
- عُيّنت عام 2012 على رأس بيت الشعر كنوع من رد الاعتبار بعد عشرين عاما من التجويع والتنكيل في عهد نظام بن علي. وقد سعيت إلى تجسيد تصوّري لما يمكن أن يكون عليه بيت الشعر وبالرّغم من ضعف الميزانية آنذاك فقد نظمنا عددا من التظاهرات كانت حديث الأوساط الثقافية من بينها سهرة رمضانية بعنوان "ترجمان الأشواق" كما أنتجنا تظاهرة استمرّت لسنوات عديدة هي "تشويش" منحنا الشباب، خلالها فرصة لتفجير طاقاتهم الإبداعية في كل المجالات. كما احتضن البيت، لسنوات، تظاهرتين مهمتين هما: "سيّدة الكلمات" لصاحبتها الشاعرة والممثلة المسرحية والسينمائية صابرين غنودي، و"فنظازيا" لصاحبتها القاصة والشاعرة الشابة نيران الطرابلسي.
أمّا أهم ما يُحسب لبيت الشعر أثناء إدارتي له فهو إصداره لست مجموعات شعرية لشعراء لم يسبق لهم النشر. وهم اليوم من أبرز الأسماء على الساحة الشعرية التونسية. بلا منازع.
* علاقتك بالساحة الأدبية محدودة، فهل هذا اختيار منك أم موقف؟
- اختيار وموقف في الآن نفسه: اختيار لأنني فضلت أن أنأى بنفسي عن ساحة أشعر بأنني غريب فيها، لتحكم الشللية والمحسوبية في مفاصلها. وموقف لأنها لا تتفق ورؤيتي لما يمكن أن تكون عليه الثقافة كما أتصورها وكما عشتها تحت سموات أخرى.
* هل ينتابك شعور بالوحدة في مناخ كهذا؟
- كلاّ، صحيح أنني اعتزلت الساحة الثقافية لكن هذا لا يعني أنني أعيش في وحدة... هناك خلط بين مفهوميْ الوحدة والعزلة. فالأولى قد تفرض عليك لظروف لا دخل لك فيها. أما العزلة فهي اختيار وقد اخترت العزلة كغيري من ممارسي الكتابة في العالم لأتفرّغ للكتابة والقراءة... والتأمل الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتي اليومية. أما الوحدة فلم أشعر بها أبدًا، فلي صداقاتي وعلاقاتي الجميلة التي تملأ حياتي فرحًا وبهجة.
* كيف ترى العلاقة بين المثقّف والثورة؟
- عن أية ثورة تتحدّث؟ إذا كنت تقصد بالثورة ما حدث في 14 جانفي 2011، فإن الحديث هنا يصبح في غير محلّه. فالثورة، لكي تكون جديرة بهذه التسمية، تشترط وجود طليعة تقودها فإذا نجحت في إزاحة النظام القائم استلمت هي السلطة. ومثل هذا التمشي المتعارف عليه في ثورات العالم لم نره في ما سُمّي بالثورة في تونس. فبعد انهيار النظام استلم الحكم غرباءُ لا يعترفون لا بالدولة ولا بالوطن الذي يعتبرونه مجرّد حفنة من تراب وحتى يكتمل المشهد السريالي تحالف هؤلاء الغرباء مع حثالات من عهد البايات ليُبسطوا سيطرتهم على البلاد فكان ما كان من دمار وخراب ونهب للثروات الوطنية دون وازع من ضمير.
* فكيف يمكن، والحال هذه أن نتحدّث عن ثورة؟؟
* أمّا ما أثار استغرابي أكثر فهو انخراط جوقة من أشباه الكتّاب والشعراء في "تمجيد الثورة والتنظير لها بإصدارهم كتبا ويوميات هزيلة المحتوى، فضحت مستواهم المعرفي المسطح وهزالهم الثقافي.
محمد الخالدي.. سيرة موجزة
محمد الخالدي أصيل مدينة المتلوي بالجنوب الغربي للبلاد التونسية ,شاعر وروائي ومترجم
له اهتمام خاص بالتصوف والديانات الشرقية، وقد كتب عنها وترجم منها نصوصا كثيرة.
أقام في بغداد بين سنتيْن 1972-1983حيث حصل الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة بغداد وعلى الماجستير في الاختصاص نفسه من الجامعة المستنصرية.
انتقل عام 1983 إلى جينيف وأقام فيها عشر سنوات.
صدرت له حتى الآن اثنتا عشر مجموعة شعرية، ست روايات، أربعة كتب مترجمة، سيرة بعنوان: "ما تجلوه الذاكرة... ما لا يمحوه النسيان" وكتاب في الدراسات بعنوان: "الإبداع والتجربة الرّوحية – رؤية مغايرة".
له عدة أعمال مخطوطة في الشعر والرّواية والترجمة تنتظر النشر.
من اشعار محمد الخالدي
وردة الأسرار
مشينا في مناكبها
صغارًا نجمع الخرَزَ الملوّنَ
أو نطارد لاهثين مساقطَ البلّورِ
في وديانها العطشى
ونبحث في الرّمالِ الهُوجِ عن بيض النّعامِ
ووردة حجريةٍ
كنّا نحاول أن نفكَّ خطوطَها
وتَنَاسُقَ الأضلاع فيها،
فتأخذنا التعاريجُ العجيبةُ برهةً
ماذا تقول خطوطها؟
ومتى استقرّت هاهنا
في هذه الكثبان تمحونا ونمحوها؟
وكيف أضاعها كلُّ الرّعاةِ
فلمْ يروها مرّةً،
لم يبْحثوا عنها ولم يَتَوَجّسوا
إيقاعَها بين الرّمالِ فينْهَبُوها.
كبُرنا فجأةً، ضاعت طفولتُنا
ولم نَبْرَحْ نفتّش في الرّمال الهوجِ
عن بيضِ النّعام ووردةٍ حجريّةٍ
ضنّت علينا يومَها بالسرِّ
حتّى أينعتْ فينا.
ممالك أخرى
تلك معابدُ تغرَقُ في الصّمتِ تنادينا
سنطيرُ إليها
ونقولُ لسادِنها ها نحنُ أتينا
فأَعِدَّ لنا خُلْوتَنا
وأعِدَّ لنا خمرًا
وغِلاَلاً مترَعةً بالضوءِ
أعِرْنا ثوبًا زاهيا كي نخْلَع طِمْريْنا.
وسندعو بوذا ليبارك رحلتنا
سنقولُ له علّمْنا الحكمةَ
علّمنا كيف نروّضُ هذا الجسدَ الجامحَ
كيف نقوّض هذا الكونَ الأحدبَ
علّمْنا سرّ النّورِ
وسرَّ الرّوحِ تشِفُّ
فتغدو نورا يسبَحُ في نورٍ
سنَشيدُ قِبابًا من يشْبٍ وعقيقٍ
ونقُدُّ لنا لغةً من حجر يتوهّجُ:
- هذي لغةٌ بكْرٌ لم يطْمِثْها أحدٌ من قبلُ ...
سنركبُ غيمًا ونطيرُ،
نحطُّ على قممٍ زرقاءَ،
نُجاور نجمًا
أو نحضُنُ برقا
وإذا شئتَ رثَينا مدنًا خلعتْنا
وإذا شئتَ ضحِكْنا من مدنِ
كانتْ يوما آوتْنا
وإذا شئتَ نصَبْنا قبّتَنا وشربْنا
ثمّ دعونا الشّعراءَ جميعًا:
- هذي مملكةٌ أخرى
فتعالَوْا وأقيموا فيها