إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

المحكمة الإدارية تعتبر أنّ إدارتها غير معنية بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة

إبراهيم البَرتاجي :أستاذ تعليم عال في القانون العامّ

 

    أمام اليأس المتنامي من أن تصبح بلادنا في يوم ما دولة قانون تخضع فيها الهياكل العمومية إلى ما جاء في الدّستور وفي التّشاريع بمختلف أصنافها، يحقّ لنا أن نردّد كلّ يوم قول سيّد الشّعراء :

يا أعدل النّاس إلّا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.

كما يحقّ لنا أن نتذكّر دائما قول المنظّرين من أنّ كلّ من يمتلك سلطة يكون ميّالا للإفراط فيها. يجول كلّ هذا بالخاطر عند الاطّلاع على الحكم ألاستئنافي الصّادر عن المحكمة الإدارية في 17 نوفمبر 2022 والّذي قام فيه الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بوصفه رئيس إدارة هذه المحكمة ضدّ جمعية القضاة التّونسيين، في قضية تعلّقت بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة.

    انطلقت القضية عندما تقدّمت جمعية القضاة بطلب للرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية قصد الحصول على بعض التّفاصيل المتعلّقة باتّفاقية التّوأمة المبرمة بين المحكمة الإدارية ومجلس الدّولة الإيطالي (معايير اختيار القائمين من الجانب التّونسي على تنفيذ الاتّفاقية، قائمة الزّيارات والتّربّصات الّتي أُنجزت في إطار هذه الاتّفاقية وقائمة المستفيدين منها...). وأمام الرّفض الضّمني الصّادر عن إدارة المحكمة تجاه هذا الطّلب، رفعت الجمعية أمرها إلى هيئة النّفاذ إلى المعلومة عملا بأحكام الفصل 29 من القانون الأساسي المؤرّخ في 24 مارس 2016 والمتعلّق بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة. وحكمت الهيئة لصالح الطّالبة وذلك بأن إذنت للرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بتمكينها من المعلومات المطلوبة. لكن المحكمة الإدارية ممثَّلة في رئيسها الأوّل طعنت بالاستئناف في هذا الحكم أمام...المحكمة الإدارية، كما ينصّ على ذلك الفصل 31 من قانون 2016 المذكور. والملاحظ أنّ الاستئناف قُدّم هنا دون الاستعانة بمحام، لكن الدّائرة الاستئنافية تجاوزت هذا الإشكال ونظرت في الأصل. وكان حكمها لصالح الإدارة، إذ تولّت نقض الحكم الابتدائي والقضاء من جديد بعدم قبول الدّعوى متعلّلة في ذلك بأنّ قانون النّفاذ إلى المعلومة لا ينطبق على إدارة المحكمة الإدارية.

رفْع الاستئناف دون الاستعانة بمحام

    رفع الرّئيس الأوّل للاستئناف، بوصفه رئيس إدارة المحكمة الإدارية، بصفة شخصية، أي دون الاستعانة بمحام خلافا للقاعدة العامّة المضمّنة بالفصل 59 من قانون 1 جوان 1972 المتعلّق بالمحكمة الإدارية، كما وقع تنقيحه في 3 جوان 1996. وقد جاء في هذا الفصل أنّه " يرفع الاستئناف...بمقتضى مطلب يقدّم لكتابة المحكمة بواسطة محام لدى التّعقيب أو لدى الاستئناف ".

    وقد أثارت المستأنف ضدّها هذه المسألة وطلبت على أساسها رفض الاستئناف شكلا لعدم رفعه طبقا لما نصّ عليه الفصل 59 المذكور. بيّنت المحكمة عن صواب أنّ المشرّع لم يضع قواعد خاصّة تتعلّق باستئناف أحكام هيئة النّفاذ إلى المعلومة وأنّه، تبعا لذلك، يتعيّن الاستناد إلى القواعد العامّة المنطبقة على هذا الطّعن، أي، أوّلا وبالذّات، إلى الفصل 59 من قانون المحكمة الإدارية. وبالرّجوع إلى هذا الفصل، خُيّل للمحكمة أنّها وجدت مخرجا لاعتبار أنّه، في قضية الحال، يجوز للهيكل العمومي رفع الاستئناف دون الاستعانة بمحام. استندت المحكمة في هذا الشّأن إلى الفقرة الثّالثة من الفصل المذكور الّتي تنصّ على أنّه " تعفى الإدارات العمومية من مساعدة المحامي في جميع حالات الاستئناف المتعلّقة بمادّة تجاوز السّلطة. " لكن لا يصحّ في الحقيقة الاستناد إلى هذه الأحكام، لا لأنّ الأمر لا يتعلّق بإدارة عمومية، بل لأنّ النّزاع لا يندرج في إطار دعوى تجاوز السّلطة، إذ لا ينحصر موضوعه في طلب إلغاء قرار إداري. والغريب أنّ المحكمة نفسها أقرّت بهذا في الحكم الماثل وذلك بقولها أنّ لهيئة النّفاذ إلى المعلومة، عند نظرها في القرار المشتكى منه وإذا اقتنعت بوجاهة الطّعن فيه، " سلطة إصدار قرارها لا بإلغاء ذلك القرار وإنّما بإلزام الهيكل الخاضع لأحكام القانون...بتمكين طالب النّفاذ من المعلومة المطلوبة ". وهو ما يتطابق مع الواقع، لا فقط بالرّجوع إلى الحكم المطعون فيه، بل بشكل عامّ إلى فقه قضاء هيئة النّفاذ إلى المعلومة الصّادر تحت رقابة المحكمة الإدارية.

    بعد هذا لا يمكن أن نعتبر أنّ النّزاع يندرج في إطار قضاء تجاوز السّلطة على عكس ما ارتأته المحكمة عندما استندت إلى الفقرة الثّالثة من الفصل 59 المذكور توصّلا إلى الإقرار بانطباق الإعفاء من الاستعانة بمحام في النّزاع الرّاهن ، حتّى وإن اجتنبت ذكر عبارة " تجاوز السّلطة " الواردة بالنّصّ واستعملت بدلا عنها عبارة " دعاوى الإلغاء ". اعتبرت المحكمة إذن أنّ القضية تندرج في إطار دعوى تجاوز السّلطة، وهو ما يُعتبر نشازا في ظلّ فقه القضاء الحالي الّذي دأب فيه قاضي تجاوز السّلطة على الاكتفاء بإلغاء القرار المطعون فيه إذا تبيّنت له لا شرعيته. فلا حديث، في الوقت الرّاهن، في القضاء الإداري التّونسي، عن أذون يوجّهها قاضي تجاوز السّلطة للهياكل العمومية، ولا حديث كذلك عن دعوى تجاوز السّلطة خارج المحكمة الإدارية. ولعلّه يكون من الطّريف هنا توخّي سبيل التّأويل الانتهازي والتّعبير عن الاستبشار بإقدام المحكمة الإدارية على فتح الباب لإرساء مفهوم جديد لقضاء تجاوز السّلطة لا يقف فيه القاضي عند حدّ الإلغاء، بل يلغي القرار المخالف للقانون ثمّ يأذن للإدارة بالقيام بما يجب القيام به خدمة للشّرعية ولفاعلية دعوى تجاوز السّلطة.

عدم خضوع إدارة المحكمة الإدارية لقانون النّفاذ إلى المعلومة

    يعلم الجميع أنّ السّلطة القضائية، تماما مثل السّلطة التّشريعية، فيها جانب إداري يتجسّم في الهياكل الإدارية الموجودة داخل السّلطة والسّاهرة على أن تقوم كلّ سلطة بوظيفتها على أحسن وجه. فنجد بذلك، في كلّ مرّة، أعوانا ووثائق وقرارات إلى غير ذلك من المكوّنات الّتي تجسّم وجود الإدارة. ويصحّ هذا القول في خصوص مختلف المحاكم بما في ذلك، ولا شكّ، المحكمة الإدارية، الشّيء الّذي يسمح بالقول أنّ إدارة كلّ محكمة خاضعة، مبدئيا، لواجب احترام حقّ الأشخاص في النّفاذ إلى المعلومة. لكن ها أنّ المحكمة الإدارية تستثني إدارتها من الامتثال لهذا الواجب، وتقدّم لذلك حجّتين مترابطتين وقابلتين للنّقاش.

    تستند الحجّة الأولى إلى نطاق انطباق الحقّ في النّفاذ إلى المعلومة من حيث الهياكل المعنية به كما حدّدها الفصل الثّاني من قانون 2016. يذكر هذا الفصل، عند حديثه عن القضاء " الهيئات القضائية، المجلس الأعلى للقضاء، المحكمة الدستورية، محكمة المحاسبات ". وقد لاحظت الدّائرة الاستئنافية بسهولة أنّ المحكمة الإدارية غير مذكورة بصريح العبارة ضمن هذه القائمة، فاستنتجت أنّها غير معنية بالحقّ المذكور. وهو قول يصعب التّسليم به إذ جاءت عبارة " الهيئات القضائية " عامّة تشمل، لا فقط، الهيئات الموجودة في تاريخ القانون، بل كذلك الهيئات المستقبلية. فلا ننسى أنّ قانون النّفاذ إلى المعلوم صدر في ظلّ دستور 27 جانفي 2014 الّذي بشّرنا، عند تعرّضه للقضاء الإداري في فصله 116، بوجود محاكم إدارية ابتدائية ومحاكم إدارية استئنافية ومحكمة إدارية عليا.

    والملاحظ أنّ المحكمة استندت إلى الفصل 532 من مجلّة الالتزامات والعقود الّذي جاء فيه : " نصّ القانون لا يحتمل إلّا المعنى الّذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون. " لكن، في الحقيقة، لا يخدم هذا النّصّ ما ارتأته المحكمة من أنّ إدارتها غير خاضعة لقانون النّفاذ إلى المعلومة. ويتأكّد هذا إذا أضفنا له الفصل 533 من نفس المجلّة الّذي ينصّ على أنّه " إذا كانت عبارة القانون مطلقة جرت على إطلاقها. " بعد هذا لا يكون من المجدي الرّجوع إلى الأعمال التّحضيرية لقانون النّفاذ إلى المعلومة الّتي وجدت فيها المحكمة ما ترى أنّه يسمح باستثناء إدارتها من تطبيق القانون المذكور، ونصل بذلك إلى الحجّة الثّانية.

    وجدت المحكمة في الأعمال التّحضيرية المذكورة ما يدلّ على أنّه تمّ استبعاد المحكمة الإدارية من الخضوع إلى قانون النّفاذ إلى المعلومة حتّى لا تكون خصما وحكما في نفس الوقت، باعتبار أنّها تراقب استئنافيا وتعقيبيا الأحكام الصّادرة عن هيئة النّفاذ إلى المعلومة. وقد اقتنعت المحكمة بهذا الكلام وخلصت إلى " أنّ إرادة المشرّع اتّجهت نحو حصر مجال انطباق القانون الأساسي المتعلّق بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة على الهياكل المحدّدة بالفصل 2 منه واستثناء المحكمة الإدارية من مجال انطباقه لضمان حيادها والنّأي بها عن الجمع بين صفتي الخصم والحكم في آن واحد عند النّظر في النّزاعات المتعلّقة بالطّلبات المقدّمة إليها للنّفاذ إلى الوثائق الّتي تنتجها أو تتحصّل عليها في إطار ممارسة نشاطها..."

    يصعب التّسليم بهذا الكلام لأنّ الأمر يتعلّق بمستويين مختلفين. أمّا المستوى الأوّل فهو إداري يتعلّق بإدارة المحكمة الإدارية وتتمّ مقاضاة رئيسها الأوّل بوصفه رئيسا لتلك الإدارة. وأمّا المستوى الثّاني فهو قضائي ويتمثّل في تدخّل قاضي الاستئناف الإداري ومن بعده قاضي التّعقيب الإداري لمراقبة ما يصدر عن هيئة النّفاذ إلى المعلومة من أحكام. ثمّ أنّ الإشارة إلى مسألة الحياد بهذه الكيفية يمثّل خطورة بالغة، إذ قد يُفهم منه خطأ أنّ إدارة المحكمة الإدارية لا يمكن، بشكل عامّ، أن تكون طرفا في نزاع إداري يعود، بطبيعته، لاختصاص المحكمة الإدارية، ممّا تصبح معه، مثلا، القرارات الإدارية الصّادرة عن الرّئيس الأوّل محصّنة من دعوى الإلغاء. وهو ما يكذّبه الواقع الفقه قضائي، إذ حصل، في بعض المناسبات، أن تمّ القيام ضدّ الرّئيس الأوّل للطّعن في قرار اتّخذه في إطار مهمّته الإدارية. ونذكر هنا، على سبيل المثال، حكم نقابة أعوان البنك المركزي الصّادر في 30 ماي 1991، حيث تمّ الطّعن في قرار صادر عن الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية لم تقل في شأنه المحكمة أنّه لا يقبل الطّعن بالإلغاء لأنّه صدر عن إدارة المحكمة الإدارية.

    أساءت المحكمة الإدارية بهذا الحكم الاستئنافي لحقّ النّفاذ إلى المعلومة وقد يرى العامّة من خلال هذا الحكم أنّها وضعت نفسها فوق القانون، وهو ما سيكون محلّ استياء، خاصّة وأنّ الأمر يتعلّق بحقّ دستوري كرّسه دستور 27 جانفي 2014 في فصله 32 وتبعه في ذلك دستور 25 جويلية 2022 في فصله 38. وعسى أن تتاح الفرصة لقاضي التّعقيب الإداري للنّظر في اجتهاد القاضي الاستئنافي في هذا الحكم الّذي قد يذكّرنا بمقولة " اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما ".

المحكمة الإدارية تعتبر أنّ إدارتها غير معنية بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة

إبراهيم البَرتاجي :أستاذ تعليم عال في القانون العامّ

 

    أمام اليأس المتنامي من أن تصبح بلادنا في يوم ما دولة قانون تخضع فيها الهياكل العمومية إلى ما جاء في الدّستور وفي التّشاريع بمختلف أصنافها، يحقّ لنا أن نردّد كلّ يوم قول سيّد الشّعراء :

يا أعدل النّاس إلّا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.

كما يحقّ لنا أن نتذكّر دائما قول المنظّرين من أنّ كلّ من يمتلك سلطة يكون ميّالا للإفراط فيها. يجول كلّ هذا بالخاطر عند الاطّلاع على الحكم ألاستئنافي الصّادر عن المحكمة الإدارية في 17 نوفمبر 2022 والّذي قام فيه الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بوصفه رئيس إدارة هذه المحكمة ضدّ جمعية القضاة التّونسيين، في قضية تعلّقت بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة.

    انطلقت القضية عندما تقدّمت جمعية القضاة بطلب للرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية قصد الحصول على بعض التّفاصيل المتعلّقة باتّفاقية التّوأمة المبرمة بين المحكمة الإدارية ومجلس الدّولة الإيطالي (معايير اختيار القائمين من الجانب التّونسي على تنفيذ الاتّفاقية، قائمة الزّيارات والتّربّصات الّتي أُنجزت في إطار هذه الاتّفاقية وقائمة المستفيدين منها...). وأمام الرّفض الضّمني الصّادر عن إدارة المحكمة تجاه هذا الطّلب، رفعت الجمعية أمرها إلى هيئة النّفاذ إلى المعلومة عملا بأحكام الفصل 29 من القانون الأساسي المؤرّخ في 24 مارس 2016 والمتعلّق بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة. وحكمت الهيئة لصالح الطّالبة وذلك بأن إذنت للرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية بتمكينها من المعلومات المطلوبة. لكن المحكمة الإدارية ممثَّلة في رئيسها الأوّل طعنت بالاستئناف في هذا الحكم أمام...المحكمة الإدارية، كما ينصّ على ذلك الفصل 31 من قانون 2016 المذكور. والملاحظ أنّ الاستئناف قُدّم هنا دون الاستعانة بمحام، لكن الدّائرة الاستئنافية تجاوزت هذا الإشكال ونظرت في الأصل. وكان حكمها لصالح الإدارة، إذ تولّت نقض الحكم الابتدائي والقضاء من جديد بعدم قبول الدّعوى متعلّلة في ذلك بأنّ قانون النّفاذ إلى المعلومة لا ينطبق على إدارة المحكمة الإدارية.

رفْع الاستئناف دون الاستعانة بمحام

    رفع الرّئيس الأوّل للاستئناف، بوصفه رئيس إدارة المحكمة الإدارية، بصفة شخصية، أي دون الاستعانة بمحام خلافا للقاعدة العامّة المضمّنة بالفصل 59 من قانون 1 جوان 1972 المتعلّق بالمحكمة الإدارية، كما وقع تنقيحه في 3 جوان 1996. وقد جاء في هذا الفصل أنّه " يرفع الاستئناف...بمقتضى مطلب يقدّم لكتابة المحكمة بواسطة محام لدى التّعقيب أو لدى الاستئناف ".

    وقد أثارت المستأنف ضدّها هذه المسألة وطلبت على أساسها رفض الاستئناف شكلا لعدم رفعه طبقا لما نصّ عليه الفصل 59 المذكور. بيّنت المحكمة عن صواب أنّ المشرّع لم يضع قواعد خاصّة تتعلّق باستئناف أحكام هيئة النّفاذ إلى المعلومة وأنّه، تبعا لذلك، يتعيّن الاستناد إلى القواعد العامّة المنطبقة على هذا الطّعن، أي، أوّلا وبالذّات، إلى الفصل 59 من قانون المحكمة الإدارية. وبالرّجوع إلى هذا الفصل، خُيّل للمحكمة أنّها وجدت مخرجا لاعتبار أنّه، في قضية الحال، يجوز للهيكل العمومي رفع الاستئناف دون الاستعانة بمحام. استندت المحكمة في هذا الشّأن إلى الفقرة الثّالثة من الفصل المذكور الّتي تنصّ على أنّه " تعفى الإدارات العمومية من مساعدة المحامي في جميع حالات الاستئناف المتعلّقة بمادّة تجاوز السّلطة. " لكن لا يصحّ في الحقيقة الاستناد إلى هذه الأحكام، لا لأنّ الأمر لا يتعلّق بإدارة عمومية، بل لأنّ النّزاع لا يندرج في إطار دعوى تجاوز السّلطة، إذ لا ينحصر موضوعه في طلب إلغاء قرار إداري. والغريب أنّ المحكمة نفسها أقرّت بهذا في الحكم الماثل وذلك بقولها أنّ لهيئة النّفاذ إلى المعلومة، عند نظرها في القرار المشتكى منه وإذا اقتنعت بوجاهة الطّعن فيه، " سلطة إصدار قرارها لا بإلغاء ذلك القرار وإنّما بإلزام الهيكل الخاضع لأحكام القانون...بتمكين طالب النّفاذ من المعلومة المطلوبة ". وهو ما يتطابق مع الواقع، لا فقط بالرّجوع إلى الحكم المطعون فيه، بل بشكل عامّ إلى فقه قضاء هيئة النّفاذ إلى المعلومة الصّادر تحت رقابة المحكمة الإدارية.

    بعد هذا لا يمكن أن نعتبر أنّ النّزاع يندرج في إطار قضاء تجاوز السّلطة على عكس ما ارتأته المحكمة عندما استندت إلى الفقرة الثّالثة من الفصل 59 المذكور توصّلا إلى الإقرار بانطباق الإعفاء من الاستعانة بمحام في النّزاع الرّاهن ، حتّى وإن اجتنبت ذكر عبارة " تجاوز السّلطة " الواردة بالنّصّ واستعملت بدلا عنها عبارة " دعاوى الإلغاء ". اعتبرت المحكمة إذن أنّ القضية تندرج في إطار دعوى تجاوز السّلطة، وهو ما يُعتبر نشازا في ظلّ فقه القضاء الحالي الّذي دأب فيه قاضي تجاوز السّلطة على الاكتفاء بإلغاء القرار المطعون فيه إذا تبيّنت له لا شرعيته. فلا حديث، في الوقت الرّاهن، في القضاء الإداري التّونسي، عن أذون يوجّهها قاضي تجاوز السّلطة للهياكل العمومية، ولا حديث كذلك عن دعوى تجاوز السّلطة خارج المحكمة الإدارية. ولعلّه يكون من الطّريف هنا توخّي سبيل التّأويل الانتهازي والتّعبير عن الاستبشار بإقدام المحكمة الإدارية على فتح الباب لإرساء مفهوم جديد لقضاء تجاوز السّلطة لا يقف فيه القاضي عند حدّ الإلغاء، بل يلغي القرار المخالف للقانون ثمّ يأذن للإدارة بالقيام بما يجب القيام به خدمة للشّرعية ولفاعلية دعوى تجاوز السّلطة.

عدم خضوع إدارة المحكمة الإدارية لقانون النّفاذ إلى المعلومة

    يعلم الجميع أنّ السّلطة القضائية، تماما مثل السّلطة التّشريعية، فيها جانب إداري يتجسّم في الهياكل الإدارية الموجودة داخل السّلطة والسّاهرة على أن تقوم كلّ سلطة بوظيفتها على أحسن وجه. فنجد بذلك، في كلّ مرّة، أعوانا ووثائق وقرارات إلى غير ذلك من المكوّنات الّتي تجسّم وجود الإدارة. ويصحّ هذا القول في خصوص مختلف المحاكم بما في ذلك، ولا شكّ، المحكمة الإدارية، الشّيء الّذي يسمح بالقول أنّ إدارة كلّ محكمة خاضعة، مبدئيا، لواجب احترام حقّ الأشخاص في النّفاذ إلى المعلومة. لكن ها أنّ المحكمة الإدارية تستثني إدارتها من الامتثال لهذا الواجب، وتقدّم لذلك حجّتين مترابطتين وقابلتين للنّقاش.

    تستند الحجّة الأولى إلى نطاق انطباق الحقّ في النّفاذ إلى المعلومة من حيث الهياكل المعنية به كما حدّدها الفصل الثّاني من قانون 2016. يذكر هذا الفصل، عند حديثه عن القضاء " الهيئات القضائية، المجلس الأعلى للقضاء، المحكمة الدستورية، محكمة المحاسبات ". وقد لاحظت الدّائرة الاستئنافية بسهولة أنّ المحكمة الإدارية غير مذكورة بصريح العبارة ضمن هذه القائمة، فاستنتجت أنّها غير معنية بالحقّ المذكور. وهو قول يصعب التّسليم به إذ جاءت عبارة " الهيئات القضائية " عامّة تشمل، لا فقط، الهيئات الموجودة في تاريخ القانون، بل كذلك الهيئات المستقبلية. فلا ننسى أنّ قانون النّفاذ إلى المعلوم صدر في ظلّ دستور 27 جانفي 2014 الّذي بشّرنا، عند تعرّضه للقضاء الإداري في فصله 116، بوجود محاكم إدارية ابتدائية ومحاكم إدارية استئنافية ومحكمة إدارية عليا.

    والملاحظ أنّ المحكمة استندت إلى الفصل 532 من مجلّة الالتزامات والعقود الّذي جاء فيه : " نصّ القانون لا يحتمل إلّا المعنى الّذي تقتضيه عبارته بحسب وضع اللّغة وعرف الاستعمال ومراد واضع القانون. " لكن، في الحقيقة، لا يخدم هذا النّصّ ما ارتأته المحكمة من أنّ إدارتها غير خاضعة لقانون النّفاذ إلى المعلومة. ويتأكّد هذا إذا أضفنا له الفصل 533 من نفس المجلّة الّذي ينصّ على أنّه " إذا كانت عبارة القانون مطلقة جرت على إطلاقها. " بعد هذا لا يكون من المجدي الرّجوع إلى الأعمال التّحضيرية لقانون النّفاذ إلى المعلومة الّتي وجدت فيها المحكمة ما ترى أنّه يسمح باستثناء إدارتها من تطبيق القانون المذكور، ونصل بذلك إلى الحجّة الثّانية.

    وجدت المحكمة في الأعمال التّحضيرية المذكورة ما يدلّ على أنّه تمّ استبعاد المحكمة الإدارية من الخضوع إلى قانون النّفاذ إلى المعلومة حتّى لا تكون خصما وحكما في نفس الوقت، باعتبار أنّها تراقب استئنافيا وتعقيبيا الأحكام الصّادرة عن هيئة النّفاذ إلى المعلومة. وقد اقتنعت المحكمة بهذا الكلام وخلصت إلى " أنّ إرادة المشرّع اتّجهت نحو حصر مجال انطباق القانون الأساسي المتعلّق بالحقّ في النّفاذ إلى المعلومة على الهياكل المحدّدة بالفصل 2 منه واستثناء المحكمة الإدارية من مجال انطباقه لضمان حيادها والنّأي بها عن الجمع بين صفتي الخصم والحكم في آن واحد عند النّظر في النّزاعات المتعلّقة بالطّلبات المقدّمة إليها للنّفاذ إلى الوثائق الّتي تنتجها أو تتحصّل عليها في إطار ممارسة نشاطها..."

    يصعب التّسليم بهذا الكلام لأنّ الأمر يتعلّق بمستويين مختلفين. أمّا المستوى الأوّل فهو إداري يتعلّق بإدارة المحكمة الإدارية وتتمّ مقاضاة رئيسها الأوّل بوصفه رئيسا لتلك الإدارة. وأمّا المستوى الثّاني فهو قضائي ويتمثّل في تدخّل قاضي الاستئناف الإداري ومن بعده قاضي التّعقيب الإداري لمراقبة ما يصدر عن هيئة النّفاذ إلى المعلومة من أحكام. ثمّ أنّ الإشارة إلى مسألة الحياد بهذه الكيفية يمثّل خطورة بالغة، إذ قد يُفهم منه خطأ أنّ إدارة المحكمة الإدارية لا يمكن، بشكل عامّ، أن تكون طرفا في نزاع إداري يعود، بطبيعته، لاختصاص المحكمة الإدارية، ممّا تصبح معه، مثلا، القرارات الإدارية الصّادرة عن الرّئيس الأوّل محصّنة من دعوى الإلغاء. وهو ما يكذّبه الواقع الفقه قضائي، إذ حصل، في بعض المناسبات، أن تمّ القيام ضدّ الرّئيس الأوّل للطّعن في قرار اتّخذه في إطار مهمّته الإدارية. ونذكر هنا، على سبيل المثال، حكم نقابة أعوان البنك المركزي الصّادر في 30 ماي 1991، حيث تمّ الطّعن في قرار صادر عن الرّئيس الأوّل للمحكمة الإدارية لم تقل في شأنه المحكمة أنّه لا يقبل الطّعن بالإلغاء لأنّه صدر عن إدارة المحكمة الإدارية.

    أساءت المحكمة الإدارية بهذا الحكم الاستئنافي لحقّ النّفاذ إلى المعلومة وقد يرى العامّة من خلال هذا الحكم أنّها وضعت نفسها فوق القانون، وهو ما سيكون محلّ استياء، خاصّة وأنّ الأمر يتعلّق بحقّ دستوري كرّسه دستور 27 جانفي 2014 في فصله 32 وتبعه في ذلك دستور 25 جويلية 2022 في فصله 38. وعسى أن تتاح الفرصة لقاضي التّعقيب الإداري للنّظر في اجتهاد القاضي الاستئنافي في هذا الحكم الّذي قد يذكّرنا بمقولة " اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما ".