إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"الصباح الأدبي".. الآلهة لا تشارك الأطفال ألعابهم

 

قصة: ريم القمري

  عشت فترة طفولتي الأولى في بيت جدي، بيت من الطراز العربي القديم يتميز بصحن دار مربع الشكل قلبه مفتوح نحو السماء، تفتح عليه شبابيك وأبواب غرف متعددة تحيط به.

     عشت أجمل ذكريات طفولتي في ذلك البيت، سبرت أغوار كل ركن فيه.

 أنا الطفل المشاغب الذي لم يكن يهدأ أبدا، أركض عبر الغرف، وأزرع الفوضى أينما حللت.

    لكن أجمل مكان في البيت بالنسبة لي، كان صحن الدار ملاذي وفضائي الخاص الذي أمارس فيه حريتي المطلقة وفيه أحس دائما أن السماء قريبة جدا، ملك يدي، وأن الإله المتحصن في قلبها -كما كان يحدثني جدي-ما هو إلا السحاب، ذلك الأبيض الناعم الذي يغطي جسد السماء، كنت أعيد تشكيله يوميا كما أريد وساعة أشاء، لم يعترض يوما ولم تغضب السماء مني، حتى أني لا أذكر أنها عاقبتني أبدا، وكنت أجد الله كل صباح في انتظاري.

    يوميًا أستلقي على ظهري بالساعات، أراقبه بلا كلل أو ملل، وعندي قناعة جازمة أن الله يلعب معي، حيث يتخذ أشكالا مختلفة حينا، وغريبة أحيانا أخرى، ومألوفة في الأغلب. أحببت هذه الألعاب الصباحية لدرجة أنني كرهت القمر، نعم.. كرهته لأنه يحجب عني وجه الله.

  وفي أحد الأيام قررت أمي مغادرة هذا البيت، والانتقال للعيش في بيت على الطراز العصري، أذكر جيدًا أن أبي قد علق وقتها ساخرا:

- سنصبح عائلة متحضرة الآن،

امتعضت أمي ولم ترد بأي شيء، وانتقلنا.

  ومن يومها سكنني حزن ما يزال يرافقني إلى اليوم، لقد فقدت سمائي، وضاع مني إلهي.

  لم أستطع التأقلم أبدًا تحت سقف يحبسني تحته باستمرار، خسرت إلهي الذي شاركني مطولًا ألعابي، وانتهت حريتي، وسقطت تحت وطأة حلم ظل يتكرر باستمرار وبصفة شبه دورية.

كنت أرى فيما يرى النائم أن سقف الصالون في بيتنا الجديد سقط،فتكشف وجه السماء وكنت أركض فاتحا ذراعي، ووجهي باسم نحو السماء.

      وكم كان حلمًا حقيقيًا، لدرجة أني كنت في كل مرة أقفز من السرير، مندفعا بقوة حتى أتأكد بنفسي من تحقق الحلم، فيصفعني الواقع بقسوة ويخيب أملي.

     أما في البيت، فغالبا ما كانت تصاب جدتي بنوبة شديدة من التشاؤم، عندما أحدثها عن حلمي، فتهرع لإعداد قصعة كبيرة من "الكسكسي " تتصدق بها على الفقراء مرددة بقناعة: لابدَّ أن ندفع البلاء، تأويل الحلم واضح، سقوط سقف البيت يعني موت عماد البيت، -الله لا يقدر-جدك أو أبوك.

  مات الاثنان بعد سنوات (جدي ثم أبي) ومع ذلك لم يتوقف الحلم، إلا عندما بلغت سنًا متقدمة نسبيًا من العمر، أعتقد عندما غادرت الطفولة نهائيا وأنا على مشارف الثلاثين.

     توقف الحلم إذاً، فقط حين فقدت براءة طفولتي، حين عرفت أن الالهة لا تشارك الأطفال ألعابهم أبدًا، ولا تحميهم ضرورة من الموت حين يسقط من السماء.

توقف الحلم حين تخلت السماء عن بياضها واختارت الأحمر، توقف الحلم حين بدأ كل من أحبهم بالصعود للسماء، وتركوني وحدي على الأرض بلا سماء.

     توقف الحلم حين غادرت طفولتي على عجل، كنت ما أزال أركض حافي القدمين متحررا من عقال الأشياء، مستمتعا بكل ما حولي، دون أن أفكر في الغد، ذهبوا كلهم ولم يتبقَ معي إلا أنت تقاومين عنت الحياة وقسوتها من أجلي.

  أذكر جيدا أنك كنت قد قلت لي، أن أجمل يوم في حياتك كان حين ضمني صدرك واستنشقت راحتي وتغللت في جسدك، ومن يومها لم نفترق، تسري رائحتك في مسامي، وتتوغلين بعيدًا في دمي.

    تجلسين في غيابي قلقة، تأخذني منك مصادفات الحياة بعيدا لكنني أعود دائما، وحدك من تملكين كل تفاصيلي، وتعرفين موضع الألم في روحي وجسدي.

   لم أكن دائما فتى صالحا، كذبت عليك أحيانا، وكنت صادقا فقط في حاجتي إليك، كلما عدت مكسورًا من هزائمي الصغيرة.

     أذكر لا مبالاتك المصطنعة حين اكتشفت سجائري الأولى، التي كنت أدخنها خلسة فوق السطح وكيف كنت تغمزين بعينك فأرتبك وأصمت.

   سأخبرك بسر، لم أكن أشعر أنا الولد الشقي بالخجل إلا منك أنت، خجلت أول مرة مارست فيها العادة السرية خلسة في الحمام، تخيلت وجهك وذبت.

     أحسست أنك كنت تربتين على كتفي، وتبتسمين لفحولتي، في كل مرة أنام فيها في حضن حبيبة عابرة.

   خجلت أيضا وأنا أتسلل ليلا ثملا، بعد ليلة خمرية مع أصدقاء السوء، كما كنت تصفينهم وأنا ألمح ظلك خلف النافذة.

     لقد أحببتك دائما في صمت،أنا من كان قادرا دائما على إغواء أجمل النساء بعذب الكلام، لم أقل لك يوما كم أحبك، لم أرسل لك رسائل، لم أكتب قصائد غزل في عينيك، ولم تنتظري يوما مني ذلك، كنت تعلمين أني لست بشاعر، أنا مجرد ولد فاشل في الدراسة، أكمل الثانوية بصعوبة شديدة، مع ذلك كنت فخورة بي، ولم أفهم يوما سبب فخرك ذلك.

   لأجل عينيك فقط لم أفقد إيماني بالسماء، السماء التي كانت تقذفنا بالموت، وكنت تواجهينها دائما بابتسامتك، فتشرق من خلف الدموع.

    ولم أخنك أبدا، هم من اقتلعوني من حضنك بين إغفاءتين وبسمة، اخترقوا صمت الليل وشردونا، ما زال حلمي دافئا، ورائحتك تنساب مع دمي حارة.

     أين أنا الآن؟ أشعر أنني خفيف جدا مثل ريشة، يعبث بها الهواء كما يشاء، إنني أفقد توازني، لا أكاد أحس بثقل جسدي، بل أشعر أنني فقدت جسدي تماما، أحاول أن أحرك يدي وألمس رجلي، يا إلهي يدي ليست هنا أيضا، أين ذهبت؟ لا أشعر بها، رأسي خفيف جدا يتحرك دون أن أحركه، إذا كنت قد فقدت حواسي، فلماذا أستمر بالشعور بما حولي؟؟ 

     خفيف كأني حقيقة الأشياء، فقدت جسد الطين، تخلصت من رائحة الصلصال في دمي، بل أشعر أنني فقدت ما يربطني بالواقع تماما، أبحث عن يدي علني أعثر على رجلي وألمسها، يا إلاهي يدي ليست هنا، أين ذهبت؟؟ أين أنا الآن؟ تتزاحم الأفكار في رأسي المفقود أصلا.

أنوارٌ كثيرة تتراقص أمام عيني،صدقا لا أستطيع أن أجزم إن كانت تتراقص أمام عيني أم أمام شيء آخر، المهم أنني أحس بوجودها لكنني عاجز عن تحديد مصدرها.

     الصمت حولي رهيب، لا أعرف هذا المكان، ولا أعتقد أنني زرته من قبل، يشبه البحر،لا، لا أعتقد، ثم أنا لم أزر البحر يوما في حياتي؛ وزد على ذلك لا أشعرالآن بالبلل.

     أرهف السمع فتأتيني أصوات بعيدة، لا تشبه همس العشاق، أو مناجاة النساك، فيها ألم وحشرجات، إنها صرخات استغاثة، أدور حول نفسي وتزداد حيرتي.

     أين أنا؟ ومن أكون؟ حين قفزإلى ذهني السؤال الأخير، اكتشفت أنني لا أذكر شيئًا، لقد فقدت الذاكرة تماما، نعم فقدتها، لا اسم لي ولا تاريخ ميلاد، لا عنوان ولا أهل، حتى ذكريات حبيبة لا أملك.

عدم لا اسم ولا تاريخ لي، بقايا وجود بشري لفظته أحشاء الكون، من أكون وكيف أستمر بلا ذاكرة؟

     بدأت الأصوات البعيدة تقترب أكثر، صارت أوضح، ومع ذلك لا يمكنني الجزم بفحواها، تبدو مجرد همهمات غامضة، تغيب عنها مقومات اللغة.

     فجأة حصل دوي كبير، عقبه صوت انفجار عظيم، أو ربما هكذا تهيأ لي، وأنا أسبح في هذا اللامكان، ارتج ما حولي وارتججت معه.

      بعد ثوانٍ، أطلت عليَّ بعض الوجوه وتحلقت حولي، بدت لي أليفة، ولكنني لم أفلح في تذكر أي منها بشكل واضح، انتابني شعور بالثقة، ذلك الشعور الغامض الذي نركن إليه دون أن يكون لدينا سبب واضح لذلك.

      اقترب أحدهم مني كثيرا حتى كاد يلتصق بي، ودفع باتجاهي بوشاح أبيض يلطخ بياضه الأحمر، كانت دمائي، وكان وشاحيارتديته حين غادرت فجرا المنزل والتحقت برفاقي بالجيش الوطني ضمن فرقة مقاومة الإرهاب، متجهين صوب الجبل لمحاصرة إحدى المجموعات الإرهابية المتحصنة هنالك منذ فترة طويلة.

     كان وشاح أمي رفيقي دائما، لففته حول رقبتي، في ذلك الفجر البارد، ركضت لاستقل عربة الجيش، أسابق روائح الفجر الأولى، ممزوجة برائحة أمي، حين وصلنا الجبل، وبدأنا في المسير، كنت أحث الخطى، وأفكر أنه عليَّ الزواج قريبا، صرت أشعر بالقلق حين أغادر أمي وأتركها وحيدة لفترات لا أعلم كم ستطول،

 قبل أن ينفجر اللغم ويحول جسدي إلى أشلاء، كنت أبتسم للفكرة بسعادة وبدأت في كتابة الرسالة لك، لأول مرة  أكتب لك أحسست برغبة شديدة تدفعني للقيام بذلك، سقط الوشاح في دمي وبقيت ذاكرتي وأوراق الرسالة عائمة بين ثناياه.

     عادت لي ذاكرتي أخيرا، الموتى يحملون دائما ذكرياتهم معهم، لا حاجة لأهل الأرض بذكرياتنا، نحن ننتهي حين تجف آخر الدموع الأرضية، وننسى كما إننا لم نكن، ألقيت نظرة أخيرة على أشلائي المبعثرة، عانقت آخر ذكرياتي ثم انسحبت من مجالكم الجوي وانطفأت.

     حين حولوني إلى أشلاء لم أستطع أن أخبرهم، أنك أعددت العشاء وأنه مازال ساخنا وأنك في انتظاري، لم يمهلوني قليلا لأقول إني فقط أحتاج قبلة أخيرة منك، حتى أنام بسلام.

   لا تحرسي الصور في غيابي، اتركي الغبار يأكلها، لا أحب أن ينغلق قلبك على بقايا صور.
     لا تعتني بثيابي وغرفة نومي، دعي عنك كل ما يذكرك بحضوري الجسدي، فقط اتركي الأغاني تتردد كل مساء في المكان، وأوقدي الشموع لروحي. 

   وليتك تعودين يا أمي إلى دارنا القديمة، وتستلقين في الصحن وتدعين الله للعب معك افعلي هذا من أجلي، وأخبريه أن يوصل رسائل قلبك اليَّ، أحبك من خلف هذا البياض كما أحببتك دائما دون أن اقول.

 

"الصباح الأدبي".. الآلهة لا تشارك الأطفال ألعابهم

 

قصة: ريم القمري

  عشت فترة طفولتي الأولى في بيت جدي، بيت من الطراز العربي القديم يتميز بصحن دار مربع الشكل قلبه مفتوح نحو السماء، تفتح عليه شبابيك وأبواب غرف متعددة تحيط به.

     عشت أجمل ذكريات طفولتي في ذلك البيت، سبرت أغوار كل ركن فيه.

 أنا الطفل المشاغب الذي لم يكن يهدأ أبدا، أركض عبر الغرف، وأزرع الفوضى أينما حللت.

    لكن أجمل مكان في البيت بالنسبة لي، كان صحن الدار ملاذي وفضائي الخاص الذي أمارس فيه حريتي المطلقة وفيه أحس دائما أن السماء قريبة جدا، ملك يدي، وأن الإله المتحصن في قلبها -كما كان يحدثني جدي-ما هو إلا السحاب، ذلك الأبيض الناعم الذي يغطي جسد السماء، كنت أعيد تشكيله يوميا كما أريد وساعة أشاء، لم يعترض يوما ولم تغضب السماء مني، حتى أني لا أذكر أنها عاقبتني أبدا، وكنت أجد الله كل صباح في انتظاري.

    يوميًا أستلقي على ظهري بالساعات، أراقبه بلا كلل أو ملل، وعندي قناعة جازمة أن الله يلعب معي، حيث يتخذ أشكالا مختلفة حينا، وغريبة أحيانا أخرى، ومألوفة في الأغلب. أحببت هذه الألعاب الصباحية لدرجة أنني كرهت القمر، نعم.. كرهته لأنه يحجب عني وجه الله.

  وفي أحد الأيام قررت أمي مغادرة هذا البيت، والانتقال للعيش في بيت على الطراز العصري، أذكر جيدًا أن أبي قد علق وقتها ساخرا:

- سنصبح عائلة متحضرة الآن،

امتعضت أمي ولم ترد بأي شيء، وانتقلنا.

  ومن يومها سكنني حزن ما يزال يرافقني إلى اليوم، لقد فقدت سمائي، وضاع مني إلهي.

  لم أستطع التأقلم أبدًا تحت سقف يحبسني تحته باستمرار، خسرت إلهي الذي شاركني مطولًا ألعابي، وانتهت حريتي، وسقطت تحت وطأة حلم ظل يتكرر باستمرار وبصفة شبه دورية.

كنت أرى فيما يرى النائم أن سقف الصالون في بيتنا الجديد سقط،فتكشف وجه السماء وكنت أركض فاتحا ذراعي، ووجهي باسم نحو السماء.

      وكم كان حلمًا حقيقيًا، لدرجة أني كنت في كل مرة أقفز من السرير، مندفعا بقوة حتى أتأكد بنفسي من تحقق الحلم، فيصفعني الواقع بقسوة ويخيب أملي.

     أما في البيت، فغالبا ما كانت تصاب جدتي بنوبة شديدة من التشاؤم، عندما أحدثها عن حلمي، فتهرع لإعداد قصعة كبيرة من "الكسكسي " تتصدق بها على الفقراء مرددة بقناعة: لابدَّ أن ندفع البلاء، تأويل الحلم واضح، سقوط سقف البيت يعني موت عماد البيت، -الله لا يقدر-جدك أو أبوك.

  مات الاثنان بعد سنوات (جدي ثم أبي) ومع ذلك لم يتوقف الحلم، إلا عندما بلغت سنًا متقدمة نسبيًا من العمر، أعتقد عندما غادرت الطفولة نهائيا وأنا على مشارف الثلاثين.

     توقف الحلم إذاً، فقط حين فقدت براءة طفولتي، حين عرفت أن الالهة لا تشارك الأطفال ألعابهم أبدًا، ولا تحميهم ضرورة من الموت حين يسقط من السماء.

توقف الحلم حين تخلت السماء عن بياضها واختارت الأحمر، توقف الحلم حين بدأ كل من أحبهم بالصعود للسماء، وتركوني وحدي على الأرض بلا سماء.

     توقف الحلم حين غادرت طفولتي على عجل، كنت ما أزال أركض حافي القدمين متحررا من عقال الأشياء، مستمتعا بكل ما حولي، دون أن أفكر في الغد، ذهبوا كلهم ولم يتبقَ معي إلا أنت تقاومين عنت الحياة وقسوتها من أجلي.

  أذكر جيدا أنك كنت قد قلت لي، أن أجمل يوم في حياتك كان حين ضمني صدرك واستنشقت راحتي وتغللت في جسدك، ومن يومها لم نفترق، تسري رائحتك في مسامي، وتتوغلين بعيدًا في دمي.

    تجلسين في غيابي قلقة، تأخذني منك مصادفات الحياة بعيدا لكنني أعود دائما، وحدك من تملكين كل تفاصيلي، وتعرفين موضع الألم في روحي وجسدي.

   لم أكن دائما فتى صالحا، كذبت عليك أحيانا، وكنت صادقا فقط في حاجتي إليك، كلما عدت مكسورًا من هزائمي الصغيرة.

     أذكر لا مبالاتك المصطنعة حين اكتشفت سجائري الأولى، التي كنت أدخنها خلسة فوق السطح وكيف كنت تغمزين بعينك فأرتبك وأصمت.

   سأخبرك بسر، لم أكن أشعر أنا الولد الشقي بالخجل إلا منك أنت، خجلت أول مرة مارست فيها العادة السرية خلسة في الحمام، تخيلت وجهك وذبت.

     أحسست أنك كنت تربتين على كتفي، وتبتسمين لفحولتي، في كل مرة أنام فيها في حضن حبيبة عابرة.

   خجلت أيضا وأنا أتسلل ليلا ثملا، بعد ليلة خمرية مع أصدقاء السوء، كما كنت تصفينهم وأنا ألمح ظلك خلف النافذة.

     لقد أحببتك دائما في صمت،أنا من كان قادرا دائما على إغواء أجمل النساء بعذب الكلام، لم أقل لك يوما كم أحبك، لم أرسل لك رسائل، لم أكتب قصائد غزل في عينيك، ولم تنتظري يوما مني ذلك، كنت تعلمين أني لست بشاعر، أنا مجرد ولد فاشل في الدراسة، أكمل الثانوية بصعوبة شديدة، مع ذلك كنت فخورة بي، ولم أفهم يوما سبب فخرك ذلك.

   لأجل عينيك فقط لم أفقد إيماني بالسماء، السماء التي كانت تقذفنا بالموت، وكنت تواجهينها دائما بابتسامتك، فتشرق من خلف الدموع.

    ولم أخنك أبدا، هم من اقتلعوني من حضنك بين إغفاءتين وبسمة، اخترقوا صمت الليل وشردونا، ما زال حلمي دافئا، ورائحتك تنساب مع دمي حارة.

     أين أنا الآن؟ أشعر أنني خفيف جدا مثل ريشة، يعبث بها الهواء كما يشاء، إنني أفقد توازني، لا أكاد أحس بثقل جسدي، بل أشعر أنني فقدت جسدي تماما، أحاول أن أحرك يدي وألمس رجلي، يا إلهي يدي ليست هنا أيضا، أين ذهبت؟ لا أشعر بها، رأسي خفيف جدا يتحرك دون أن أحركه، إذا كنت قد فقدت حواسي، فلماذا أستمر بالشعور بما حولي؟؟ 

     خفيف كأني حقيقة الأشياء، فقدت جسد الطين، تخلصت من رائحة الصلصال في دمي، بل أشعر أنني فقدت ما يربطني بالواقع تماما، أبحث عن يدي علني أعثر على رجلي وألمسها، يا إلاهي يدي ليست هنا، أين ذهبت؟؟ أين أنا الآن؟ تتزاحم الأفكار في رأسي المفقود أصلا.

أنوارٌ كثيرة تتراقص أمام عيني،صدقا لا أستطيع أن أجزم إن كانت تتراقص أمام عيني أم أمام شيء آخر، المهم أنني أحس بوجودها لكنني عاجز عن تحديد مصدرها.

     الصمت حولي رهيب، لا أعرف هذا المكان، ولا أعتقد أنني زرته من قبل، يشبه البحر،لا، لا أعتقد، ثم أنا لم أزر البحر يوما في حياتي؛ وزد على ذلك لا أشعرالآن بالبلل.

     أرهف السمع فتأتيني أصوات بعيدة، لا تشبه همس العشاق، أو مناجاة النساك، فيها ألم وحشرجات، إنها صرخات استغاثة، أدور حول نفسي وتزداد حيرتي.

     أين أنا؟ ومن أكون؟ حين قفزإلى ذهني السؤال الأخير، اكتشفت أنني لا أذكر شيئًا، لقد فقدت الذاكرة تماما، نعم فقدتها، لا اسم لي ولا تاريخ ميلاد، لا عنوان ولا أهل، حتى ذكريات حبيبة لا أملك.

عدم لا اسم ولا تاريخ لي، بقايا وجود بشري لفظته أحشاء الكون، من أكون وكيف أستمر بلا ذاكرة؟

     بدأت الأصوات البعيدة تقترب أكثر، صارت أوضح، ومع ذلك لا يمكنني الجزم بفحواها، تبدو مجرد همهمات غامضة، تغيب عنها مقومات اللغة.

     فجأة حصل دوي كبير، عقبه صوت انفجار عظيم، أو ربما هكذا تهيأ لي، وأنا أسبح في هذا اللامكان، ارتج ما حولي وارتججت معه.

      بعد ثوانٍ، أطلت عليَّ بعض الوجوه وتحلقت حولي، بدت لي أليفة، ولكنني لم أفلح في تذكر أي منها بشكل واضح، انتابني شعور بالثقة، ذلك الشعور الغامض الذي نركن إليه دون أن يكون لدينا سبب واضح لذلك.

      اقترب أحدهم مني كثيرا حتى كاد يلتصق بي، ودفع باتجاهي بوشاح أبيض يلطخ بياضه الأحمر، كانت دمائي، وكان وشاحيارتديته حين غادرت فجرا المنزل والتحقت برفاقي بالجيش الوطني ضمن فرقة مقاومة الإرهاب، متجهين صوب الجبل لمحاصرة إحدى المجموعات الإرهابية المتحصنة هنالك منذ فترة طويلة.

     كان وشاح أمي رفيقي دائما، لففته حول رقبتي، في ذلك الفجر البارد، ركضت لاستقل عربة الجيش، أسابق روائح الفجر الأولى، ممزوجة برائحة أمي، حين وصلنا الجبل، وبدأنا في المسير، كنت أحث الخطى، وأفكر أنه عليَّ الزواج قريبا، صرت أشعر بالقلق حين أغادر أمي وأتركها وحيدة لفترات لا أعلم كم ستطول،

 قبل أن ينفجر اللغم ويحول جسدي إلى أشلاء، كنت أبتسم للفكرة بسعادة وبدأت في كتابة الرسالة لك، لأول مرة  أكتب لك أحسست برغبة شديدة تدفعني للقيام بذلك، سقط الوشاح في دمي وبقيت ذاكرتي وأوراق الرسالة عائمة بين ثناياه.

     عادت لي ذاكرتي أخيرا، الموتى يحملون دائما ذكرياتهم معهم، لا حاجة لأهل الأرض بذكرياتنا، نحن ننتهي حين تجف آخر الدموع الأرضية، وننسى كما إننا لم نكن، ألقيت نظرة أخيرة على أشلائي المبعثرة، عانقت آخر ذكرياتي ثم انسحبت من مجالكم الجوي وانطفأت.

     حين حولوني إلى أشلاء لم أستطع أن أخبرهم، أنك أعددت العشاء وأنه مازال ساخنا وأنك في انتظاري، لم يمهلوني قليلا لأقول إني فقط أحتاج قبلة أخيرة منك، حتى أنام بسلام.

   لا تحرسي الصور في غيابي، اتركي الغبار يأكلها، لا أحب أن ينغلق قلبك على بقايا صور.
     لا تعتني بثيابي وغرفة نومي، دعي عنك كل ما يذكرك بحضوري الجسدي، فقط اتركي الأغاني تتردد كل مساء في المكان، وأوقدي الشموع لروحي. 

   وليتك تعودين يا أمي إلى دارنا القديمة، وتستلقين في الصحن وتدعين الله للعب معك افعلي هذا من أجلي، وأخبريه أن يوصل رسائل قلبك اليَّ، أحبك من خلف هذا البياض كما أحببتك دائما دون أن اقول.