وعد من لا يملك لمن لا ولن يستحق، وبعد قرن وست سنوات تعود ذكرى وعد بلفور على وقع طوفان من الدم مع استمرار العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة التي خذلها العالم وجعلها مخبرا مفتوحا لتنفيذ جريمة القرن ممثلة في المحرقة المستمرة التي يتعرض لها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة منذ ست وعشرين يوما باستعمال كل الأسلحة المتطورة الفتاكة والأسلحة الفوسفورية المحرمة دوليا ..
ذكرى وعد بَلفُور أو إعلان بَلفُور تلك الخطيئة التي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني منذ عقود تعود اليوم.
وعد أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى بتأسيس "وطن قوميّ للشعب اليهوديّ" على ارض فلسطين، حيث كان اليهود أقلية لا يتعدون -5% من إجماليّ السكان.. واعتمدت بريطانيا آنذاك على كذبة زائفة مفادها "أن فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، لتمنح بذلك الحركة الصهيونية وعصابات "الشترن" و"الهاغاناه" الضوء الأخضر لاقتراف جرائم التصفية العرقية والابادة والتهجير من دير ياسين الى قبية وطنطورة والقدس والخليل وقانا وصبرا وشاتيلا وغزة مرات ومرات وصولا الى ما يحدث اليوم من مجازر يومية استهدفت المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد والبيوت والمنظمات الإنسانية الدولية.. حتى تجاوز عدد الاطفال الشهداء المستهدفين الأربعة آلاف طفل دون اعتبار للمفقودين تحت الأنقاض فيما لا تزال حصيلة شهداء غزة تواصل الارتفاع كل يوم بل وكل ساعة.. يحدث كل ذلك فيما يصر صناع القرار في العالم ممن وقعت حكوماتهم السابقة وثيقة اعلان الدولة العبرية على رفض وقف العدوان والسماح لاهالي غزة باخراج الجرحى من تحت الانقاض او دفن الشهداء ..
صدر هذا الوعد ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر1917 مُوَجَّهَةٌ من وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني وصدر الوعد في الصحافة في 9 نوفمبر عام 1917... وحتى اليوم لا يزال الفلسطينيون يتحملون تداعيات الوعد البلفوري المشؤوم الذي شكل سابقة في القانون الدولي كما لم يشر إلى حدود فلسطين المعنيّة، واعترفت بريطانيا لا حقا أنه كان ينبغي أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين وذلك في ردها على الحملة الدولية التي أطلقها مركز العودة الفلسطيني في لندن لمطالبة الحكومة البريطانية الاعتذار عن وعد بلفور.. ولكن منذ ذلك التاريخ لا بريطانيا اعتذرت ولا أمريكا التي دعمت وساعدت في تأسيس الكيان الإسرائيلي اعترفت بحق الفلسطينيين في النضال والحق في تقرير المصير..106 أعوام من الاحتلال والقتل الجماعي والتهجير والاقتلاع والاغتيالات ظل خلالها المجتمع الدولي على الدوام ودون حياء او احراج في صف الجلاد منتصرا لعقليته المتغطرسة التي تصطدم اليوم بمنعرج عرف بـ"طوفان الاقصى" واصرار من المقاومة على اعادة القضية الفلسطينية الى سطح الاحداث ومواصلة الصمود في مواجهة الاحتلال رغم انعدام التكافؤ ورغم كل ما تتعرض له غزة من ابادة للاجيال.. يحدث ذلك من طرف الشعب الذي يصر على أنه تعرض لاسوإ محرقة ولكنه لا يتوانى عن تكرارها في حق شعب انتزع ارضه ظلما بالقوة ..
اسيا العتروس
هل يدفع اختراق أكتوبر واشنطن لمراجعة استراتيجيها الشرق أوسطية؟
بقلم: هاني مبارك
يقول استاذ الاعلام والمستشار الاعلامي بسفارة دولة فلسطين هاني مبارك لقد "كان اختراق السابع من أكتوبر الذي اطاح بهيبة الردع الاسرائيلي ووضع وسائل وتكنولوجيات الانذار المبكر الامريكية التي زودت بها إسرائيل موضع تندر وسخرية من قبل الخبراء الامنيين في العالم، لم تستطع معه إدارة بايدن إخفاء دهشتها وربما هلعها".
لم يمض بعد زمن طويل كي ننسى ان الرئيس بايدن في خطابات حملته الانتخابية او في خطاب التنصيب انه لفت إلى أنها تتبلور امام فترة رئاسته حاجة لمعالجة ثلاث قضايا رئيسية هي بالإضافة إلى «تعزيز» الديمقراطية في الولايات المتحدة، وتهيئة المواطنين الأمريكيين للانخراط في الاقتصاد العالمي، فإنه ركز على عودة أمريكا لقيادة العالم من خلال ما اسماه بالانخراط النشط في مساندة الانظمة الديمقراطية بمواجهة الديكتاتوريات في العالم في إشارة إلى روسيا والصين.
وقد نظر الكثير من المحللين في حينها إلى أن هذه الالتزامات تعد استمرارا للإستراتيجية التي اعلن عنها الرئيس أوباما في العام 2011- 2012، لاعادة تكييف قوة الدولة وفقا لمتغيرات توزيعها على مستوى العالم لتفعيل تقليد أمريكي في فهم السياسة الخارجية يقوم على رصد العدو من الداخل قبل الخروج للحرب معه والعودة.
وفي المقابل كثيرون ايضا لم يصدقوا انذاك، كما لم يصدقوا بعد تقرير مجموعة بيكر هملتون، إن غزو العراق، لم يخرج عن نطاق الحسابات الأمريكية أوروبيا، للانفراد بقيادة أبدية للنظام الدولي.
ولم يقتنعوا أن الاقتراب الأمريكي من النفط العراقي ليضاف إلى النفط الخليجي والليبي والجزائري إنما أراد محافظو أمريكا الجدد من ورائه لي ذراع أوربا لحملها على قبول هذا الانفراد الذي اعقب انهيار الإتحاد السوفييتي وتسبب في خروج أوروبا واليابان من المظلة النووية الأمريكية وخلق حالة من بوادر تمرد على القيادة الأمريكية، استشعرها البيت الأبيض بصورة خاصة أثناء سعيه لتأمين تمويل حرب إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991.
لقد أرادت واشنطن ببسط نفوذها على مصادر الطاقة العالمية وإخراجها من نطاق أي احتمال تجاذب أن تتموقع في المكان الذي يتيح لها ضبط إيقاع التناقضات في المصالح البينية للدول الغربية التي تفجرت في أعقاب الحرب الباردة من جهة وإبقاء مصادر طاقتها وتطورها الصناعي رهينة الرضا الأمريكي للحيلولة دون عودة ملامح ذلك التمرد من جهة ثانية.
وفي نفس الوقت كانت الولايات المتحدة ترقب الاوضاع في كل من روسيا والصين، البلدان الأكثر احتمالا للعودة إلى ميدان المنافسة على قيادة النظام الدولي، حيث بلغت المخاوف الأمريكية أوجها مع الزحف الصيني الذي اكتسى طابعا اقتصاديا مقلقا مع تصاعد حاد في حجم المصاعب التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، وهو ما حدا بالرئيس اوباما وادارته في الابان لتأكيد اعتماد إستراتيجية تعكس متطلبات التطورات الجيوسياسية التي تواجهها الولايات مستقبلا، وخصوصا في منطقة شرق آسيا.
وعلى الرغم من أن تلك الإستراتيجية الجديدة سمحت بتكثيف الحضور العسكري الأميركي في منطقة "آسيا – المحيط الهادئ"، لكنها ابقت على التعاون الوثيق مع الحلف الأطلسي، إلى جانب التيقظ الدائم في الشرق الأوسط، وتحديدا فيما يتعلق بملف العلاقات مع إيران، في إشارة للتأكيد على عزم الولايات المتحدة الاستمرار في تعزيز تواجدها وانتشارها العسكري في معظم أنحاء العالم، لتأمين استمرار انفرادها بقيادة النظام الدولي.
ولكن ورغم هذه اليقضة الشاملة والتحفز الكلي الا أنها ركزت على ما سمي بالتحول المستقبلي في جميع الأنماط الديموغرافية والجيوبوليتيكية والاقتصادية والعسكرية نحو المحيط الهادئ على افتراض ان التحديات الإستراتيجية ستكون في منطقة المحيط الهادئ ومن الدول الواقعة على ساحل المحيط الهندي، في إشارة ضمنية إلى المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى الخليج العربي.
ولذا فان التحول الأمريكي من شرق أوسط تتحكم بنفطه ولا تحتاج منه لأكثر من 10% ، فيما تبلغ نسبة الحاجة الأوروبية من نفس النفط إلى ما يزيد عن 60%، وتتجاوز بالنسبة لليابان نسبة الـ90% الى منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ التي تمتلك كل الإمكانيات اللازمة لتأمين تطورها الاقتصادي، كان يؤكد على تجديد قوة الدولة وتكييفها للاستمرار في إستراتيجية الانفراد بالسيطرة على قمة النظام الدولي.
وعلى الرغم من ذلك فقد نظر اتباع المدرسة الواقعية لاداء إدارة أوباما على انها لم تتصرف بالقدر الكافي من الواقعية استجابة للتحديات التي فرضها تحرك تجاه القوة حيث تعاظم حجم وتأثير القوتين الصينية والروسية، وذهب في اعتقاد عدد واسع من صانعي السياسة الخارجية الأميركية أن حالة النظام الدولي الراهن تشبه إلى حد ما حالة الحرب الباردة، الأمر الذي يستدعي صياغة محددة للدور المتصور لواشنطن، وخاصة في المناطق الأكثر أهمية وحساسية لمصالحها في مواجهة ما يعتبر تحدياً جديّاً من قبل روسيا والصين لهذه المصالح عبر قوس المواجهة الدائرة مع روسيا، بدءاً من بحر البلطيق، مروراً بالبحر الأسود وإيران، وفي بعض مناطق الشرق الأوسط كسوريا.
وعلى أرضية هذه الخلفيات الفكرية التي قيّمت سياسات أوباما تم ايصال ترامب ذو النزعة الشعبوية المبنية على الجنوح الانعزالي والقومي إلى البيت الابيض الذي وجد في حالة سيولة النظام الدولي الناجمة عن غياب التوازن في القوة على مستوى قيادته الذي من شأنه ان يحدد قواعد السلوك التي تضبط علاقات القوى العظمى وحلفائها، فرصة لسلوك في السياسة الخارجية اتصف بالتنمر والصقورية كنقيض لما قيل انه ضعف إدارة أوباما التي عرّضت مصالح امريكا وقدرتها على الردع للتآكل، خاصة نحو كل من إيران التي رأى بالاتفاق النووي معها جائزة لا تستحقها، وربط بين بقاء القوات الأميركية في سوريا، ومنع وصول طهران إلى البحر المتوسط، وروسيا الذي ادعى أن إحجام إدارة أوباما عن كبح اندفاعاتها في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وتدخلاتها في دول البلطيق، وفي الشرق الأوسط، ودورها في الملف النووي الإيراني؛ قد شجعها على مواصلة نهجها في تحدي نفوذ ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها،اذ لم يفرط بوتين وقتها باي فرصة للدعوة والتأكيد على ضرورة إعادة النظر بانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي.
وفي سياق صياغة هذا النهج الأمريكي المتشدد وبكثير من تعمد إظهار النزوع الاستعلائي والإحساس المفرط بالتفوق وعدم الحاجة للاخر والاستخفاف به والاكتفاء بالذات ترجمة لشعار ترامب الانتخابي ''أمريكا اولا'' ذهبت واشنطن للتنصل والانسحاب من عديد الاتفاقيات الدولية في مجالات التجارة الحرة والبيئة والعلاقات الدولية، وتعاملت برعونة كبيرة وغطرسة اكبر في عدد من الازمات الإقليمية على غرار أزمة دول الخليج والحرب في اليمن والقضية الفلسطينة، وصلت إلى حد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل متحدية بذلك مشاعر ليس الفلسطينيين ولا العرب والمسلمين بل حتى حلفائها القريبين منها.
وورد حينها على لسان اكثر من مراقب ومحلل للشؤون السياسية والاستراتيجية الأمريكية ان مرد هذا الاستخفاف الأمريكي بالشرق الأوسط وبالصراع العربي الإسرائيلي يعود اساسا إلى المبالغة بالاحساس بالقوة والتفوق الذي شكل جوهر سياسات ترامب القائمة على البحث عن السلام عن طريق القوة اولا وان مصدر السلام هي حماية ما كان يسميها بثقافة الشعب الأمريكي التي تقف على الضد منها ثقافة التطرف والارهاب اللتان ينطوي الشرق الأوسط على كم كبير منهما في إشارة شديدة الوضوح لاطلاق يد إسرائيل في المنطقة.
وفعلا فقد انعكس ذلك على سياسات إسرائيل على مستويي الاطاحة النهائية بنهج السلام والتفاوض وارتفاع مستوى وحشيتها ضد الفلسطينيين ان بمضاعفة سياسات القتل والاعتقال او بتكثيف مصادرة الأراضي واستيطانها لانهاء احتمال حل الدولتين، وفي الوقت نفسه وفي ظل فراغ عميق لدور قيادة النظام العربي وضعف شديد في تفاعلاته على المستوى الدولي بالإضافة إلى الانقسامات والخلافات والحروب التي شهدتها أكثر من دولة، برزت إلى السطح قراءات أمريكية لا تخلو من عدم دقة حول عجز طويل الأمد قد اصاب عوامل الرد فيه، تولد عنه اعتقاد قوي بان المنطقة ذهبت إلى حالة من الركود.
في هذه البيئة الإقليمية وتزايد القلق الأمريكي من تنامي القوة الصينية والتقارب بين بكين وموسكو وعملهما المشترك على خلق منظومات مؤسسية موازية وتجمعات اقتصادية وسياسية وفي ظروف أمريكية داخلية غير مسبوقة تم إيصال جو بايدن إلى البيت الابيض، الذي سارع كردة فعل تصحيحية لسياسات ترامب إلى نقض معظم مقارباته خاصة على مستوى إدارة الشأن الدولي، وعمل بصورة مبكرة على انعاش استراتيجية المواجهة في منطقة الباسفيك، وتكريس كل السياسات الأمريكية في خدمة هذه الاستراتيجية التي ضمنها مؤخرا للتوجهات الجيوسياسية الأخيرة لإدارته من أجل تعزيز مصالح أمريكا الحيوية والتغلب على المنافسة الصينية والتهديد الروسي والتصدي للتحديات المشتركة، فيما استمرت إدارة بايدن كباقي الادارات السابقة في التعامل مع الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ خالصة تعمل بين الحين والآخر على إدارة ازماتها وإعادة ترتيب تناقضات دولها، دون ان تعير انتباها كافيا لعوامل تفجر ازماتها، حيث اهملت على سبيل المثال العمل على ايجاد حل دائم وعادل للحقوق الوطنية الفلسطينية، التي ُتركت لعبث اليمين الديني العنصري المتطرف، بل وشجعته على مواصلة عبثه هذا من خلال تمهيد الطريق أمامه عبر موجات من التطبيع العربي الإسرائيلي الذي كان من الجانب الآخر يزرع بذور انفجار الأزمة.
وفي غمرة الانهماك الأمريكي بإعادة ترتيب أوراقه في الشرق الاوسط، الذي أبدت بعض دوله جنوحا للبحث عن بدائل ذات طابع بعيد المدى عن العلاقات مع واشنطن، في محاولة لاحتواء تصاعد النفوذين الروسي والصيني، دون ادنى اهتمام يذكر بأهم عناصر أزمة المنطقة المتمثلة باستمرار الاحتلال الاسرائيلي، كان اختراق السابع من أكتوبر الذي اطاح بهيبة الردع الاسرائيلي ووضع وسائل وتكنولوجيات الانذار المبكر الامريكية التي زودت بها إسرائيل موضع تندر وسخرية من قبل الخبراء الأمنيين في العالم، لم تستطع معه إدارة بايدن إخفاء دهشتها وربما هلعها، إذ لم تمض ساعات على الهجوم الفلسطيني حتى كانت فرق خبراء الاستطلاع على الحدود مع غزة لدراسة وفهم كيف حدث ذلك، فيما كانت القوات البحرية الأمريكية تتجه نحو المنطقة لسد فراغ الشلل الذي أحدثته صدمة الاختراق وردع اي أطراف يمكن لها أن تفكر بتوسيع رقعة المواجهة.
وعلى الرغم مما أوحى به الاندفاع الامريكي والاوروبي نحو اسرائيل على انه استعداد لحرب قاسية وواسعة الا أن مجريات الاحداث أظهرت حجم التريث وحتى الخوف الأمريكي من فتح باب الصراع الشامل، بل وعمد الاعلام الأمريكي إلى تسريبات تشير إلى رغبة واشنطن في البحث عن بدائل عن توسيع نطاق الحرب، ترافق ذلك مع إعادة الاعتبار والاهتمام بقضايا المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية التي كانت وستبقى عامل التفجير الدائم.
صحيح ان واشنطن لم تفصح بعد عن وجهة نظر ملموسة لمواجهة تحديات استمرار الاحتلال، ولا زالت تحبذ الحديث في العموميات، غير انها باتت اكثر ادراكا لخطأ اعتبار الشرق الأوسط منطقة نفوذ خالصة دون ان تجد حلا عادلا للقضية الفلسطينة، والارجح على هذا الصعيد إن واشنطن أرادت أن تمد بوجودها على قمة هرم النظام الدولي وان تنأى بالشرق الأوسط خلال مواجهتها مع الصين وروسيا عن الصراع والتنافس ستعمل على إعادة النظر بإستراتيجية الإهمال والتفويض ليمين إسرائيلي عنصري للعبث بها، وتضع اسس جديدة لها تقوم على إعادة التوازن للمنطقة بفرض حل الدولتين حلا عادلا وواضحا.
عندما أسقطت غزة كل الأقنعة...
بقلم: الدكتور هيثم مناع
يقول الناشط السياسي الدكتور هيثم مناع في وصفه لما يحدث في غزة " إنها القيامة الصغرىLittle apocalypse ، باستعارة تعبير كوستاغافراس. ولكن هذه المرة، قيامة نهاية كيانٍ قام على الأسطورة الأكبر تناقضا مع جملة ما طرح عصر التنوير على العالم من قيمٍ، باسمها استوطن واستعمر وساد قرونا، وباسمها أيضا، غطى على احتكاره السلطان والمال والإعلام واستعباد شعوب وسحق أخرى". ها نحن نرى أورسولا فاندر لاين وإيتامار بن غفير في معسكر واحد، جو بايدن وبنيامين نتانياهو في غرفة عمليات حرب مشتركة. كل أحاديث الحكومات الغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يضعها وزير الحرب الإسرائيلي يوأف جالانت تحت بسطاره العسكري، وأكثر من ذلك، يستنفر الخبراء والأساطيل ومليارات الدولارات من أجل منح "جيش الدفاع" القدرة على قتل أكبر عدد من النساء والأطفال.
إنها القيامة الصغرىLittle apocalypse ، باستعارة تعبير كوستاغافراس. ولكن هذه المرة، قيامة نهاية كيانٍ قام على الأسطورة الأكبر تناقضا مع جملة ما طرح عصر التنوير على العالم من قيمٍ، باسمها استوطن واستعمر وساد قرونا، وباسمها أيضا، غطى على احتكاره السلطان والمال والإعلام واستعباد شعوب وسحق أخرى.
كم كتبنا وكتب غيرنا من أصحاب البصيرة أن هذا المشروع الصهيوني في فلسطين يحمل جينات مقتله، كان المؤسسون يعتقدون بإمكانية أقلمة فكرة الشعب والسيادة مع الانحدار من دين محدد، ونسخ البناء التاريخ الأوربي للدولة-الأمة عبر الانتساب الجماعي لليهودية.
يمكن أن نتحدث عن المؤسسين بما نشاء، إلا أنه من الصعب ربطهم بالتدين أو الدين بل حتى الثقافة الدينية التاريخية. في حين أن مجموع ميكانزمات بناء الأسطورة والشعب والدولة، يقوم على تأسيس دولة صهيونية في فلسطين شرطها الأول أن تكون جنسيتها وجنسية سكانها يهودية، الأمر الذي يستلزم بالضرورة، اثننة الدينl’ethnisation de la religion، ما يسميه المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي ثم اختراع أرض إسرائيل.لم يكن هناك أي دور للحاخامات أو الفتاوى أو ”العهد القديم“ في عملية البناء هذه، بقدر ما جرى تقمص أفكار متأثرة بالقومية الاشتراكية الأوربية، وبشكل خاص النازية. وكم كنت أتوقف عند قول الصديق الراحل شمعون بلاص وهو يقول قبل ثلاثين عاما: "الحركة الصهيونية غربية قلباً وقالباً، وكانت محتكمة إلى مفهوم يدعو إلى الهجرة إلى فلسطين، والتموضع فيها وشراء أراض، فيما عُرف بالاستيطان، وهو ترجمة للكولونيالية. ومن الناحية الثقافية، كانت مقاربة الصهيونية أن الشرق متخلف. وهذا يعني، من ضمن أمور كثيرة أخرى، أن الصهاينة جاءوا إلى المشرق، ليس من أجل أن يندمجوا فيه، إنما من أجل تشييد هوية يهودية ذات محتد غربيّ. وبناء على ذلك، من المقدّر أن يبقى المشرق في مواجهة دائمة مع هذه الغاية. ولدى إقامة الدولة، أصبحت هذه المقاربة أكثر رسوخاً، ونُظر إلى يهود المشرق العرب أنهم أتوا من العالم المتخلّف، وينبغي تربيتهم من جديد."
عرف شمعون بلاص المجتمع الإسرائيلي من داخله، وكان له بعد النظر في أن صهر مجموعات مختلفة بشكل تسلطي، يلغي الانتماءات الأصلية للقادمين عبر مأسسة هوية واحدة للدين والدولة والمجتمع، أي إلباس كتاب كفاحي لأدولف هتلر عباءة يهودية.
لذا لا نستغرب أن يصل المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند إلى جملته التراجيدية عندما يقول:"أنا أتقدم في السن ولا أريد أن تكون الكلمة الأخيرة لأدولف هتلر.“
نظام الأبارتايد هذا، المتناقض تناقضا صارخا مع كل الدنيا بأسرها، هل يتصور فعلا أنه مؤمن بنفسه، وبكونه فوق الجميع، فوق النقد، فوق الخطأ، وبالتأكيد والحالة هذه، فوق الفكرة الأزلية للجريمة والعقاب؟ هل يعتقد أن المنظومة العالمية System-Worldالتي اعتبرته قاعدة ارتكاز لها، يمكن أن تشاطره هذا الوهم دون أن يكون ذلك أحد معاول الهدم الأساسية لهذه المنظومة العالمية السائدة نفسها؟
أقام نظام الأبارتايد الإسرائيلي في 75 عاما آخر مجسّم على قيد الحياة لكل الجرائم والمذابح التي ارتكبتها المنظومة الغربية طيلة قرون الاستعمار والاستيطان والحروب العالمية، القديم منها والحديث، بما فيها أهوال المحرقة التي وقعت في قلب أوروبا بحق اليهود والغجر.. وأصبح بذلك، المهرج الأخير لمنظومة عالمية مات أبطالها الحقيقيون.
تكمن نقمة التاريخ في إنجاز عمله حتى النهاية وليس بالقطعة، ويصبح من الضروري تذكير أشباه المثقفين أننا بصدد عالم في طور الولادة. وفي ظروف تاريخية مشابهة، لم تمتلك حضارة في التاريخ البشري يوما القوة على المبارزة النبيلة في مراحل أفولها. ومن سوء حظ العجوز الخرف، أن صناعة الكذب وفلسفة الهزيمة في الحروب الهجينة لم تنته فصولها الأوكرانية بعد، وأن إفريقيا تتخلص من آخر قواعد الاستعمار الأوربي القديم-الجديد، وأن كل سكان فرنسا وبريطانيا، كلاهما لا يشكلان اليوم أكثر من 2 بالمائة من البشر. وأن وجود مئات القواعد العسكرية الأمريكية على امتداد كوكبنا، لا يمكّن الإدارة الأمريكية من حماية رعاياها في بلدان تعتبرها مناطق نفوذ.
تمر البشرية بمعارج وأوجاع قبل أن تدفن شكلا بائدا في ذاته ومن أجل ذاته، لكن المرحلة النهائية لشكل تخطاه الوعي الإنساني العالمي هي ملهاته، وكما قال ماركس، فإن "آلهة اليونان الذين أصيبوا بجراح مميتة بصورة مأساوية في مسرحية أسخيليوس "بروميثوس مقيدا" عادوا هذه المرة فماتوا موتا هزليا في محاورات لوقانيوس".
لقد أسقطت جثث أطفال غزة كل الأقنعة، وأظهرت للعالم أجمع، أن نظام الأبارتايد لا يمكن أن يستمر دون انتهاج سياسة محرقة politique génocidaire منهجية بحق من يختلف عنه في الرؤيا والتصور.
من تحت أنقاض نصف أبنية ومساجد ومشافي ومدارس غزة المدمرة، ثمة يافطة تنغرز في ضمير الناس من كل الثقافات والأديان، الذين لم يبيعوا ضمائرهم في أسواق النخاسة تقول:
إرهاب نظام الأبارتايد، هو أعلى أشكال الإرهاب في زمننا المعاصر.
يتعذّرُ على إسرائيل إلاّ أن تكون دولة فصلِ عنصريٍ (أبارتايد)
بقلم الدكتور: محمد حافظ يعقوب
اعتبر الدكتور محمد حافظ يعقوب الكاتب الفلسطيني المقيم في فرنسا "إن ما يحصل اليوم في غزة وباختصار، عملية نزع "الإنسانية" عن الفلسطيني التي صار التعبير عنها صريحا ودون لبس، من قادة مجلس الحرب على الشعب الفلسطيني، هي ترخيص بالقتل الجماعي والتهجير والتدمير لكل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية والوجود الفلسطيني.. أعترف الآن أن الدافع الذي حفزني وشد من عزيمتي على الاشتغال على "بيان ضد الأبارتايد"، هي تحضيرات الإسرائيليين وأنصارهم لاحتفالات أرادوها ضخمة بالذكرى الخمسين لتأسيس دولة إسرائيل. وكانت الاستعدادات التي يقومون بها للاحتفاء بهذه المناسبة في أوساطهم الفرنسية والأمريكية على الخصوص لا تخلو من عُنجهية مُستفزّة. وقد حَشدت لذلك الأموالَ الكثيرةَ وأصدقاءها في العالم كي تخلق الانطباع، وهو سياسي بالضرورة، في أن شرعيتها راسخة بدلالة وجودها نفسه، وباعتراف العالم بهذا الوجود.
كان لابد من الرد؛ من استحضار الوجه الآخر للصورة، الوجه الذي يتعذّر طمسُ ملامحه، لأن فلسطين، كما قال الفلسطيني بالتبني الراحل إيلان هاليفي، تبرز بجلاء خلف إسرائيل ومن بين تفاصيل صورتها المُذهّبة.
1- من البيّن إذن أن هواجس الدراسة هذه كانت تتصل وقتئذ بسؤال الشرعية: شرعية فلسطين وشرعية إسرائيل: نكبة أم استقلال. ولا يخفى أن إسرائيل أرادت، وما زالت تريد، إثبات أن شرعيتها راسخة، وتوليد الانطباع السياسي بالضرورة بصحة السرد أو الرواية الصهيونية بخصوص تدمير فلسطين وإنشاء إسرائيل على أنقاضها وفوقها، وبأن الرواية الفلسطينية تجافي الحقيقة السياسية والتاريخية على السواء.
2- لكل زمان أسئلته؛ وأسئلة اليوم ما عادت هي نفسها تلك الأسئلة، التي حكمت هواجس "بيان ضد الأبارتايد" وقت العمل عليه في مطالع العام 1998. فقد حدثت تغيّرات كثيرة طبعت بميسمِها الثقيل كفاحَ الفلسطينيين من أجل تحررهم، وهم يُكابدُون اليومَ أوضاعاً ما كان يمكن تخيلها قبل عقدين من الزمان:
3- يصعد اليمينُ المتطرف في العالم، في كلّ مكان في العالم، وتواجه الحريات السياسية وترسانتها الحقوقية وأفكارها والمدافعين عنها، حملةً شرسةً مازالت، بتقديري، في بداياتها. ومع إدارة السيد دونالد ترامب، انتقلت السياسة الأمريكية من محاباة إسرائيل وضمان أمنها إلى إعلان حرب مفتوحة على الفلسطينيين من غير طلاء، وإلى أن يتكشّف البيت الأبيضُ عن أنه الطرف الفاعلُ في مساعي تصفية القضية الفلسطينية والقوة الضاربة في المشروع الصهيوني من حيث هو كذلك. وجاء السابع من أكتوبر، ليؤكد بأن ترامب لم يكن مجرد طفرة، وأن إدارة جو بايدن قادرة على القيام بما لم تقم به إدارة أخرى، لحماية ودعم الأبارتايد الإسرائيلي.
4- يقتتل العرب ويستفحلُ وهنهم، إن لم يكن انهيارهم، ويفقدون كثيراً مما رسخه كفاحُ أجيالهم من أجل التوحيد والتحرر والعمران.
5- حدثت انتفاضتان فلسطينيتان داميتان لم تجف دماؤهما بعد. واستشهد الآلاف من الفلسطينيين أولهم الرئيس ياسر عرفات. ونجم عن استيلاء حركة حماس على قطاع غزة انقسامٌ فلسطيني كثيفُ الوطأة على قضيتهم، وأصاب صورةَ كفاحِهم العادلِ وصورتهم كضحايا بعطبٍ ثقيل.
6- تفكيك إسرائيل بقيادة شارون مستوطنات قطاع غزة و"الانسحاب" منه بغرض الاستفراد بالضفة الغربية أي السيطرة عليها بالاستيطان وبالتهويد. واستقر اليمين الإسرائيلي المتطرف في السلطة، وازدادت عدوانية دولة إسرائيل التي أخذت تندفع أكثر فأكثر نحو الانتقال بالأبارتايد من الممارسة والمُضمَر إلى مأسسته أي تشريعه بالقوانين، وآخرها القانونُ المعروف باسم قانون (يهودية الدولة). فإذ يرسِّمُ هذا القانون هويةَ إسرائيل كدولة يهودية، يضع في الحقيقة الأسس القانونية للأبارتايد: يخطّ تخوماً كثيفةً بين السكان في الدولة، ويبعدُ أهلَ البلاد الأصليين، العربَ الفلسطينيين، ويدفعُ بهم نحو أن يحتلوا مواقع مواطني الدرجة الثانية. فبحسب قانون (يهودية الدولة)، انتفت عن غير اليهودي، أي الفلسطيني، صفة المواطن، فقد غدا مقيماً في الدولة، ويمكن لسلطاتها أن تطرده منها إن اقتضت مصالحها أو ضرورات “أمنـ”ها ذلك.
7- والواقع أن إسرائيل بهذا القانون حلّت لَبساً طالما أربكها بخصوص تعريفها لذاتها، أي هويتها. فقد دأبت على تقديم نفسها على أنها دولة ديمقراطية ويهودية في آن. في بداياتها، أي منذ بن غوريون، أبرزت إسرائيل “البعد” الديمقراطي في هذه الهوية، ثم أخذت تميل مع صعود اليمين نحو إبراز “البعد” اليهودي فيها. هكذا دُفع البعد الديمقراطي إلى خلف الصورة. اليومَ، أفصحت إسرائيلُ عن أنها دولةٌ لبعض المقيمين فيها: للسّادة الأحرار فقط.
8- في العمق، لم يتغيّر شيء يذكر على طبائع الأشياء بخصوص القضية الفلسطينية. فما زالت الفرضية المركزية أو الفكرة المحورية التي استندت إليها في "بيان ضد الأبارتايد" صالحةً اليومَ إن لم أقل إن صلاحيتها تعززها الوقائع والأيام. وبيانها، باختصار، إنه يتعذّرُ على إسرائيل إلاّ أن تكون دولة فصلِ عنصريٍ أو أبارتايد. وإن الإسرائيليين يعرفون ذلك ويدركونه ويستسهلونه أو يستهينون به ويشتغلون وفقه.
ما يحصل اليوم باختصار، أن عملية نزع "الإنسانية" عن الفلسطيني التي صار التعبير عنها صريحا ودون لبس، من قادة مجلس الحرب على الشعب الفلسطيني، هي ترخيص بالقتل الجماعي والتهجير والتدمير لكل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية والوجود الفلسطيني...
من بلفور إلى هولوكوست غزة: سياسات التطهير العرقي أخطر العناوين في الحكاية الفلسطينية…!
بقلم: نواف الزرو
يقول الباحث والكاتب والمؤرخ الدكتور نواف الزرو ما بين الأمس.. أمس "بلفور" والنكبة والتهجير والتهديم والمجازر، واليوم، بعد خمسة وسبعين عاما، ما زلنا نتابع البلدوزرات الصهيونية ذاتها كيف تواصل مهماتها التي لم تنجز من وجهة نظرهم.
ليس من شك أن ذلك الوعد النكبوي الذي يطلقون عليه "وعد بلفور" هو البداية وهو المنطلق وهو الأساس لكل ما يقترف في فلسطين من مجازر ومحارق صهيونية مروعة ومن تدمير ومحو شامل لمئات المدن والبلدات والقرى الفلسطينية وكل ذلك في اطار سياسات التطهير العرقي الصهيونية، وفي ظل ما تقترفه قوات الاحتلال من محرقة ابادية شاملة هولوكوستية في هذه الايام ضد اهلنا في قظاع غزة، وكي لا ننسى وكي يتم نقلها عبر الاجيال، ففي الحكاية الفلسطينية بامتداداتها التاريخية من "وعد بلفور" الى "السيوف الحديدية" و"الهولوكوست" المقترف في قطاع غزة بمضامينها النكبوية، ربما أول ما يخطر بالبال والفكر والذاكرة، هو ذلك العنوان المرعب “التطهير العرقي في فلسطين”، فهو من أهم وأخطر العناوين التي يذكرنا بها نتنياهو وسموترتش وبن غفير واليمين الصهيوني الفاشي نظرا لأفكارهم ومواقفهم ومقترحاتهم ودعواتهم العنصرية اليمينية الفاشية التطهيرية التي يطلقونها تباعا، وينسحب ذلك على المجتمع الصهيوني كله، وكان من أبرز دعواتهم للتخلص من العرب الباقين في فلسطين 48 ما قال ليبرمان على سبيل المثال: “أنه يرغب في أن تكون إسرائيل دولة يهودية وصهيونية.. وأنه يجب التخلص من العرب”، وكذلك دعوته لـ”شطب القضية الفلسطينية من القواميس”، يضاف إلى ذلك طبعا تلك الفتاوى التي يطلقها كبار حاخاماتهم وصغارهم على حد سواء، والتي تبيح الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين لتبقى فلسطين يهودية نظيفة من العرب، ما يحدث في غزة وفي فلسطين في هذه الأيام يعيدنا إلى ذاكرة النكبة وإلى نقطة البداية وهي “خيار التطهير العرقي” الذي تريد المؤسسة الصهيونية اليوم أن تقود الأوضاع إليه.
وفي هذه المضامين العنصرية التطهيرية الابادية الممتدة والمتصلة على ارضية "بلفور"، كان المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابيه أكد “ارتكاب جرائم تطهير عرقي في فلسطين عام 1948 وفقا لخطط مفصلة، وأن إسرائيل تواصل ذلك حتى اليوم بطرق مختلفة”، موضحا “أن فكرة التطهير العرقي ولدت مع نشوء الصهيونية، إلا أنها حولتها لخطط عندما بات اليهود يحتلون ثلث سكان البلاد، لافتا إلى أن الخطط “ا”(1930) و”ب” (1946) و”ج” (1947) تتحدث عن ذلك، لكن الخطة “د” (1948) تحدد معالم خطة التطهير العرقي بوضوح وبشكل صريح”، وشدد بابيه على “أن الحرب عام 48 استخدمت من قبل الصهيونية وسيلة لتطبيق خطة التطهير العرقي بخلاف أبحاث المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين اعتبروا أن التطهير جاء نتيجة للحرب”، وقامت الخطة على تطويق المدن والقرى العربية من ثلاث جهات وترك الجهة الرابعة مفتوحة لتمكين السكان من النزوح وإطلاق النار على المدنيين وهدم المنازل بالمتفجرات وسرقة الممتلكات بشكل منهجي”، كما تضمنت الخطة اقتراف مذابح ضد المدنيين في الأرياف الفلسطينية لإرهاب السكان ودفعهم على الهرب، لافتا إلى أن الصهيونية نفذت مجزرة في بعض القرى قبيل احتلال المدن الكبرى".
يبدو المشهد الماثل في هذه الأيام في فلسطين.. في مدنها وقراها ومخيماتها وخربها وأمكنتها المختلفة، وكأنه ذلك المشهد التدميري الذي عاشته فلسطين قبل نحو خمسة وسبعين عاما… ذلك المشهد الذي لم يبق ولم يذر من الأرض والعرب شيئا.. إنه مشهد التطهير العرقي… ما يعيدنا بداية إلى استحضار تلك الخطط التي عملوا بها ما قبل قيام دولتهم، فحسب الدكتور “ايلان بابيه” فقد وضعت الصهيونية خطة مكتوبة للتطهير العرقي في فلسطين قبل النكبة بسنوات تم تطويرها مع الوقت إلى أن تبلورت نهائيا فيما يعرف بـ”الخطة- د”، ولكن وفي سياق مخططها الاستراتيجي للسطو على فلسطين بغية إقامة الدولة الصهيونية، كانت الحركة الصهيونية –بتنظيماتها العسكرية الإرهابية العديدة آنذاك- قد تبنت ما أطلقوا عليها الخطة – ج- التي نصت بوضوح على ما ستشمل عليه الأعمال الإجرامية ضد العرب من ضمن ما نصت عليه:
“قتل القيادات السياسية الفلسطينية؛ قتل المحرضين الفلسطينيين ومن يدعمونهم ماليا، قتل الفلسطينيين الذين يعملون ضد اليهود؛ قتل ضباط ومسؤولين كبار كانوا يعملون مع سلطات الانتداب؛ تخريب المواصلات الفلسطينية؛ تخريب موارد العيش الفلسطينية: آبار المياه، الطواحين …الخ. مهاجمة القرى الفلسطينية المجاورة التي يحتمل أن تساعد في الهجمات في المستقبل؛ مهاجمة النوادي الفلسطينية، والمقاهي، وأماكن التجمع… الخ”. وبعدها عمدت الصهيونية إلى تطوير الخطة-ج- وقامت بصياغة جديدة للخطة الأخيرة خلال أشهر قليلة اطلقت عليها الخطة -د، وهي الخطة التي قررت مصير العرب داخل المنطقة التي كان زعماء الحركة الصهيونية يتطلعون إلى إقامة دولتهم اليهودية المقبلة عليها.
وكما وثق لاحقا، فمنذ الإعلان عن قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني 1947، تم الإفراج عن الخطة “د” لوضعها موضع التنفيذ، بعد إقرارها – نهائياً- من قبل قيادة الهاغانا في 10 مارس 1948، وكانت تقضي، كما اعترف الجنرال “يادين” في مقابلة مع صحيفة “حداشوت” في “كانون الأول 1985، بـ “تدمير القرى العربية المجاورة للمستعمرات اليهودية، وطرد سكانها”…. أما “بن غوريون” فقد أصدر، كما هو مدون في يومياته، أمراً في 19 كانون الأول 1947 يقضي بأن “كل هجوم يجب أن يكون ضربة قاضية تؤدي إلى تدمير البيوت وطرد سكانها”… واستجابة لهذا الأمر، وبعد أقل من أسبوعين، دعا الجنرال “يغال آلون” قائد البالماخ – فلوغوت ماحتس (كتائب السحق)، في الأمر اليومي الذي أصدره الى حرب شاملة تحقق الإبادة الجماعية والتدمير الاقتصادي، إذ “من الصعب (كما ينص الأمر) تمييز الأعداء من غير الأعداء، ومن المستحيل تفادي قتل الأطفال… إلى ذلك، لم تتوقف المخططات والنوايا الابادية عند عام النكبة، بل هي مستمرة، فقد كشف قائد شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أهرون يريف، النقاب سنة 1973 إن هناك مخططات لاستغلال أول حرب قادمة وترحيل ما بين 600 و700 مواطن عربي من الجليل والضفة الغربية إلى شرق الأردن. وهناك أكثر من رأي لدى المؤرخين اليهود عن أن مجزرة كفر قاسم التي نفذت سنة 1956 إبان حرب السويس (المعروفة باسم ”العدوان الثلاثي على مصر”)، استهدفت إرهاب فلسطينيي 48 وحملهم على الرحيل هم وبقية فلسطينيي 48 في منطقة المثلث، ولكنها فشلت.
وما بين الأمس.. أمس "بلفور" والنكبة والتهجير والتهديم والمجازر، واليوم، بعد خمسة وسبعين عاما، ما زلنا نتابع البلدوزرات الصهيونية ذاتها كيف تواصل مهماتها التي لم تنجز من وجهة نظرهم.. ونتابع سياسات التطهير العرقي والمجازر الجماعية… ونتابع عمليات التهديم والتهجير المتواصلة التي يستكملون فيها سياسات التطهير العرقي المقترفة منذ النكبة… ففي فلسطين من بحرها إلى نهرها، تلك هي المساحة التي تتحرك فيها وعليها بلدوزرات الهدم والتدمير والتخريب والتهجير الصهيونية، بلا توقف أو كلل، فالهدف الكبير لديهم كان منذ "بلفور" وما قبل إقامة دولتهم، وما زال ساريا إلى اليوم هو: هدم وتدمير وتنظيف الارض من معالمها واهلها وتمهيدها للتهويد الشامل بلا عرب!.
يقف الشعب العربي الفلسطيني هناك، على امتداد مساحة فلسطين من بحرها إلى نهرها أمام تحد وجودي في مواجهة الحروب والبلدوزرات الصهيونية، فليس في الأفق أي تسوية أو حل أو انسحاب صهيوني، وليس في الأفق أيضا سوى الحروب مع المشروع الصهيوني…! وليس في الأفق كذلك أي دور أو تدخل عربي أو أممي.
نأمل أن تكون كافة القوى والفصائل الفلسطينية، قد استخلصت العبر والاستخلاصات اللازمة.. فالوحدة والمصالحة الوطنية الفلسطينية هي الممر الإجباري نحو هزيمة المشروع الصهيوني والتحرير والاستقلال.
تونس- الصباح
وعد من لا يملك لمن لا ولن يستحق، وبعد قرن وست سنوات تعود ذكرى وعد بلفور على وقع طوفان من الدم مع استمرار العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة التي خذلها العالم وجعلها مخبرا مفتوحا لتنفيذ جريمة القرن ممثلة في المحرقة المستمرة التي يتعرض لها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة منذ ست وعشرين يوما باستعمال كل الأسلحة المتطورة الفتاكة والأسلحة الفوسفورية المحرمة دوليا ..
ذكرى وعد بَلفُور أو إعلان بَلفُور تلك الخطيئة التي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني منذ عقود تعود اليوم.
وعد أصدرته الحكومة البريطانيّة خلال الحرب العالمية الأولى بتأسيس "وطن قوميّ للشعب اليهوديّ" على ارض فلسطين، حيث كان اليهود أقلية لا يتعدون -5% من إجماليّ السكان.. واعتمدت بريطانيا آنذاك على كذبة زائفة مفادها "أن فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض"، لتمنح بذلك الحركة الصهيونية وعصابات "الشترن" و"الهاغاناه" الضوء الأخضر لاقتراف جرائم التصفية العرقية والابادة والتهجير من دير ياسين الى قبية وطنطورة والقدس والخليل وقانا وصبرا وشاتيلا وغزة مرات ومرات وصولا الى ما يحدث اليوم من مجازر يومية استهدفت المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد والبيوت والمنظمات الإنسانية الدولية.. حتى تجاوز عدد الاطفال الشهداء المستهدفين الأربعة آلاف طفل دون اعتبار للمفقودين تحت الأنقاض فيما لا تزال حصيلة شهداء غزة تواصل الارتفاع كل يوم بل وكل ساعة.. يحدث كل ذلك فيما يصر صناع القرار في العالم ممن وقعت حكوماتهم السابقة وثيقة اعلان الدولة العبرية على رفض وقف العدوان والسماح لاهالي غزة باخراج الجرحى من تحت الانقاض او دفن الشهداء ..
صدر هذا الوعد ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر1917 مُوَجَّهَةٌ من وزير خارجيّة المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني وصدر الوعد في الصحافة في 9 نوفمبر عام 1917... وحتى اليوم لا يزال الفلسطينيون يتحملون تداعيات الوعد البلفوري المشؤوم الذي شكل سابقة في القانون الدولي كما لم يشر إلى حدود فلسطين المعنيّة، واعترفت بريطانيا لا حقا أنه كان ينبغي أن يدعو الإعلان لحماية الحقوق السياسيّة للعرب الفلسطينيِّين وذلك في ردها على الحملة الدولية التي أطلقها مركز العودة الفلسطيني في لندن لمطالبة الحكومة البريطانية الاعتذار عن وعد بلفور.. ولكن منذ ذلك التاريخ لا بريطانيا اعتذرت ولا أمريكا التي دعمت وساعدت في تأسيس الكيان الإسرائيلي اعترفت بحق الفلسطينيين في النضال والحق في تقرير المصير..106 أعوام من الاحتلال والقتل الجماعي والتهجير والاقتلاع والاغتيالات ظل خلالها المجتمع الدولي على الدوام ودون حياء او احراج في صف الجلاد منتصرا لعقليته المتغطرسة التي تصطدم اليوم بمنعرج عرف بـ"طوفان الاقصى" واصرار من المقاومة على اعادة القضية الفلسطينية الى سطح الاحداث ومواصلة الصمود في مواجهة الاحتلال رغم انعدام التكافؤ ورغم كل ما تتعرض له غزة من ابادة للاجيال.. يحدث ذلك من طرف الشعب الذي يصر على أنه تعرض لاسوإ محرقة ولكنه لا يتوانى عن تكرارها في حق شعب انتزع ارضه ظلما بالقوة ..
اسيا العتروس
هل يدفع اختراق أكتوبر واشنطن لمراجعة استراتيجيها الشرق أوسطية؟
بقلم: هاني مبارك
يقول استاذ الاعلام والمستشار الاعلامي بسفارة دولة فلسطين هاني مبارك لقد "كان اختراق السابع من أكتوبر الذي اطاح بهيبة الردع الاسرائيلي ووضع وسائل وتكنولوجيات الانذار المبكر الامريكية التي زودت بها إسرائيل موضع تندر وسخرية من قبل الخبراء الامنيين في العالم، لم تستطع معه إدارة بايدن إخفاء دهشتها وربما هلعها".
لم يمض بعد زمن طويل كي ننسى ان الرئيس بايدن في خطابات حملته الانتخابية او في خطاب التنصيب انه لفت إلى أنها تتبلور امام فترة رئاسته حاجة لمعالجة ثلاث قضايا رئيسية هي بالإضافة إلى «تعزيز» الديمقراطية في الولايات المتحدة، وتهيئة المواطنين الأمريكيين للانخراط في الاقتصاد العالمي، فإنه ركز على عودة أمريكا لقيادة العالم من خلال ما اسماه بالانخراط النشط في مساندة الانظمة الديمقراطية بمواجهة الديكتاتوريات في العالم في إشارة إلى روسيا والصين.
وقد نظر الكثير من المحللين في حينها إلى أن هذه الالتزامات تعد استمرارا للإستراتيجية التي اعلن عنها الرئيس أوباما في العام 2011- 2012، لاعادة تكييف قوة الدولة وفقا لمتغيرات توزيعها على مستوى العالم لتفعيل تقليد أمريكي في فهم السياسة الخارجية يقوم على رصد العدو من الداخل قبل الخروج للحرب معه والعودة.
وفي المقابل كثيرون ايضا لم يصدقوا انذاك، كما لم يصدقوا بعد تقرير مجموعة بيكر هملتون، إن غزو العراق، لم يخرج عن نطاق الحسابات الأمريكية أوروبيا، للانفراد بقيادة أبدية للنظام الدولي.
ولم يقتنعوا أن الاقتراب الأمريكي من النفط العراقي ليضاف إلى النفط الخليجي والليبي والجزائري إنما أراد محافظو أمريكا الجدد من ورائه لي ذراع أوربا لحملها على قبول هذا الانفراد الذي اعقب انهيار الإتحاد السوفييتي وتسبب في خروج أوروبا واليابان من المظلة النووية الأمريكية وخلق حالة من بوادر تمرد على القيادة الأمريكية، استشعرها البيت الأبيض بصورة خاصة أثناء سعيه لتأمين تمويل حرب إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991.
لقد أرادت واشنطن ببسط نفوذها على مصادر الطاقة العالمية وإخراجها من نطاق أي احتمال تجاذب أن تتموقع في المكان الذي يتيح لها ضبط إيقاع التناقضات في المصالح البينية للدول الغربية التي تفجرت في أعقاب الحرب الباردة من جهة وإبقاء مصادر طاقتها وتطورها الصناعي رهينة الرضا الأمريكي للحيلولة دون عودة ملامح ذلك التمرد من جهة ثانية.
وفي نفس الوقت كانت الولايات المتحدة ترقب الاوضاع في كل من روسيا والصين، البلدان الأكثر احتمالا للعودة إلى ميدان المنافسة على قيادة النظام الدولي، حيث بلغت المخاوف الأمريكية أوجها مع الزحف الصيني الذي اكتسى طابعا اقتصاديا مقلقا مع تصاعد حاد في حجم المصاعب التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، وهو ما حدا بالرئيس اوباما وادارته في الابان لتأكيد اعتماد إستراتيجية تعكس متطلبات التطورات الجيوسياسية التي تواجهها الولايات مستقبلا، وخصوصا في منطقة شرق آسيا.
وعلى الرغم من أن تلك الإستراتيجية الجديدة سمحت بتكثيف الحضور العسكري الأميركي في منطقة "آسيا – المحيط الهادئ"، لكنها ابقت على التعاون الوثيق مع الحلف الأطلسي، إلى جانب التيقظ الدائم في الشرق الأوسط، وتحديدا فيما يتعلق بملف العلاقات مع إيران، في إشارة للتأكيد على عزم الولايات المتحدة الاستمرار في تعزيز تواجدها وانتشارها العسكري في معظم أنحاء العالم، لتأمين استمرار انفرادها بقيادة النظام الدولي.
ولكن ورغم هذه اليقضة الشاملة والتحفز الكلي الا أنها ركزت على ما سمي بالتحول المستقبلي في جميع الأنماط الديموغرافية والجيوبوليتيكية والاقتصادية والعسكرية نحو المحيط الهادئ على افتراض ان التحديات الإستراتيجية ستكون في منطقة المحيط الهادئ ومن الدول الواقعة على ساحل المحيط الهندي، في إشارة ضمنية إلى المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى الخليج العربي.
ولذا فان التحول الأمريكي من شرق أوسط تتحكم بنفطه ولا تحتاج منه لأكثر من 10% ، فيما تبلغ نسبة الحاجة الأوروبية من نفس النفط إلى ما يزيد عن 60%، وتتجاوز بالنسبة لليابان نسبة الـ90% الى منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ التي تمتلك كل الإمكانيات اللازمة لتأمين تطورها الاقتصادي، كان يؤكد على تجديد قوة الدولة وتكييفها للاستمرار في إستراتيجية الانفراد بالسيطرة على قمة النظام الدولي.
وعلى الرغم من ذلك فقد نظر اتباع المدرسة الواقعية لاداء إدارة أوباما على انها لم تتصرف بالقدر الكافي من الواقعية استجابة للتحديات التي فرضها تحرك تجاه القوة حيث تعاظم حجم وتأثير القوتين الصينية والروسية، وذهب في اعتقاد عدد واسع من صانعي السياسة الخارجية الأميركية أن حالة النظام الدولي الراهن تشبه إلى حد ما حالة الحرب الباردة، الأمر الذي يستدعي صياغة محددة للدور المتصور لواشنطن، وخاصة في المناطق الأكثر أهمية وحساسية لمصالحها في مواجهة ما يعتبر تحدياً جديّاً من قبل روسيا والصين لهذه المصالح عبر قوس المواجهة الدائرة مع روسيا، بدءاً من بحر البلطيق، مروراً بالبحر الأسود وإيران، وفي بعض مناطق الشرق الأوسط كسوريا.
وعلى أرضية هذه الخلفيات الفكرية التي قيّمت سياسات أوباما تم ايصال ترامب ذو النزعة الشعبوية المبنية على الجنوح الانعزالي والقومي إلى البيت الابيض الذي وجد في حالة سيولة النظام الدولي الناجمة عن غياب التوازن في القوة على مستوى قيادته الذي من شأنه ان يحدد قواعد السلوك التي تضبط علاقات القوى العظمى وحلفائها، فرصة لسلوك في السياسة الخارجية اتصف بالتنمر والصقورية كنقيض لما قيل انه ضعف إدارة أوباما التي عرّضت مصالح امريكا وقدرتها على الردع للتآكل، خاصة نحو كل من إيران التي رأى بالاتفاق النووي معها جائزة لا تستحقها، وربط بين بقاء القوات الأميركية في سوريا، ومنع وصول طهران إلى البحر المتوسط، وروسيا الذي ادعى أن إحجام إدارة أوباما عن كبح اندفاعاتها في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وتدخلاتها في دول البلطيق، وفي الشرق الأوسط، ودورها في الملف النووي الإيراني؛ قد شجعها على مواصلة نهجها في تحدي نفوذ ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها،اذ لم يفرط بوتين وقتها باي فرصة للدعوة والتأكيد على ضرورة إعادة النظر بانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي.
وفي سياق صياغة هذا النهج الأمريكي المتشدد وبكثير من تعمد إظهار النزوع الاستعلائي والإحساس المفرط بالتفوق وعدم الحاجة للاخر والاستخفاف به والاكتفاء بالذات ترجمة لشعار ترامب الانتخابي ''أمريكا اولا'' ذهبت واشنطن للتنصل والانسحاب من عديد الاتفاقيات الدولية في مجالات التجارة الحرة والبيئة والعلاقات الدولية، وتعاملت برعونة كبيرة وغطرسة اكبر في عدد من الازمات الإقليمية على غرار أزمة دول الخليج والحرب في اليمن والقضية الفلسطينة، وصلت إلى حد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل متحدية بذلك مشاعر ليس الفلسطينيين ولا العرب والمسلمين بل حتى حلفائها القريبين منها.
وورد حينها على لسان اكثر من مراقب ومحلل للشؤون السياسية والاستراتيجية الأمريكية ان مرد هذا الاستخفاف الأمريكي بالشرق الأوسط وبالصراع العربي الإسرائيلي يعود اساسا إلى المبالغة بالاحساس بالقوة والتفوق الذي شكل جوهر سياسات ترامب القائمة على البحث عن السلام عن طريق القوة اولا وان مصدر السلام هي حماية ما كان يسميها بثقافة الشعب الأمريكي التي تقف على الضد منها ثقافة التطرف والارهاب اللتان ينطوي الشرق الأوسط على كم كبير منهما في إشارة شديدة الوضوح لاطلاق يد إسرائيل في المنطقة.
وفعلا فقد انعكس ذلك على سياسات إسرائيل على مستويي الاطاحة النهائية بنهج السلام والتفاوض وارتفاع مستوى وحشيتها ضد الفلسطينيين ان بمضاعفة سياسات القتل والاعتقال او بتكثيف مصادرة الأراضي واستيطانها لانهاء احتمال حل الدولتين، وفي الوقت نفسه وفي ظل فراغ عميق لدور قيادة النظام العربي وضعف شديد في تفاعلاته على المستوى الدولي بالإضافة إلى الانقسامات والخلافات والحروب التي شهدتها أكثر من دولة، برزت إلى السطح قراءات أمريكية لا تخلو من عدم دقة حول عجز طويل الأمد قد اصاب عوامل الرد فيه، تولد عنه اعتقاد قوي بان المنطقة ذهبت إلى حالة من الركود.
في هذه البيئة الإقليمية وتزايد القلق الأمريكي من تنامي القوة الصينية والتقارب بين بكين وموسكو وعملهما المشترك على خلق منظومات مؤسسية موازية وتجمعات اقتصادية وسياسية وفي ظروف أمريكية داخلية غير مسبوقة تم إيصال جو بايدن إلى البيت الابيض، الذي سارع كردة فعل تصحيحية لسياسات ترامب إلى نقض معظم مقارباته خاصة على مستوى إدارة الشأن الدولي، وعمل بصورة مبكرة على انعاش استراتيجية المواجهة في منطقة الباسفيك، وتكريس كل السياسات الأمريكية في خدمة هذه الاستراتيجية التي ضمنها مؤخرا للتوجهات الجيوسياسية الأخيرة لإدارته من أجل تعزيز مصالح أمريكا الحيوية والتغلب على المنافسة الصينية والتهديد الروسي والتصدي للتحديات المشتركة، فيما استمرت إدارة بايدن كباقي الادارات السابقة في التعامل مع الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ خالصة تعمل بين الحين والآخر على إدارة ازماتها وإعادة ترتيب تناقضات دولها، دون ان تعير انتباها كافيا لعوامل تفجر ازماتها، حيث اهملت على سبيل المثال العمل على ايجاد حل دائم وعادل للحقوق الوطنية الفلسطينية، التي ُتركت لعبث اليمين الديني العنصري المتطرف، بل وشجعته على مواصلة عبثه هذا من خلال تمهيد الطريق أمامه عبر موجات من التطبيع العربي الإسرائيلي الذي كان من الجانب الآخر يزرع بذور انفجار الأزمة.
وفي غمرة الانهماك الأمريكي بإعادة ترتيب أوراقه في الشرق الاوسط، الذي أبدت بعض دوله جنوحا للبحث عن بدائل ذات طابع بعيد المدى عن العلاقات مع واشنطن، في محاولة لاحتواء تصاعد النفوذين الروسي والصيني، دون ادنى اهتمام يذكر بأهم عناصر أزمة المنطقة المتمثلة باستمرار الاحتلال الاسرائيلي، كان اختراق السابع من أكتوبر الذي اطاح بهيبة الردع الاسرائيلي ووضع وسائل وتكنولوجيات الانذار المبكر الامريكية التي زودت بها إسرائيل موضع تندر وسخرية من قبل الخبراء الأمنيين في العالم، لم تستطع معه إدارة بايدن إخفاء دهشتها وربما هلعها، إذ لم تمض ساعات على الهجوم الفلسطيني حتى كانت فرق خبراء الاستطلاع على الحدود مع غزة لدراسة وفهم كيف حدث ذلك، فيما كانت القوات البحرية الأمريكية تتجه نحو المنطقة لسد فراغ الشلل الذي أحدثته صدمة الاختراق وردع اي أطراف يمكن لها أن تفكر بتوسيع رقعة المواجهة.
وعلى الرغم مما أوحى به الاندفاع الامريكي والاوروبي نحو اسرائيل على انه استعداد لحرب قاسية وواسعة الا أن مجريات الاحداث أظهرت حجم التريث وحتى الخوف الأمريكي من فتح باب الصراع الشامل، بل وعمد الاعلام الأمريكي إلى تسريبات تشير إلى رغبة واشنطن في البحث عن بدائل عن توسيع نطاق الحرب، ترافق ذلك مع إعادة الاعتبار والاهتمام بقضايا المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية التي كانت وستبقى عامل التفجير الدائم.
صحيح ان واشنطن لم تفصح بعد عن وجهة نظر ملموسة لمواجهة تحديات استمرار الاحتلال، ولا زالت تحبذ الحديث في العموميات، غير انها باتت اكثر ادراكا لخطأ اعتبار الشرق الأوسط منطقة نفوذ خالصة دون ان تجد حلا عادلا للقضية الفلسطينة، والارجح على هذا الصعيد إن واشنطن أرادت أن تمد بوجودها على قمة هرم النظام الدولي وان تنأى بالشرق الأوسط خلال مواجهتها مع الصين وروسيا عن الصراع والتنافس ستعمل على إعادة النظر بإستراتيجية الإهمال والتفويض ليمين إسرائيلي عنصري للعبث بها، وتضع اسس جديدة لها تقوم على إعادة التوازن للمنطقة بفرض حل الدولتين حلا عادلا وواضحا.
عندما أسقطت غزة كل الأقنعة...
بقلم: الدكتور هيثم مناع
يقول الناشط السياسي الدكتور هيثم مناع في وصفه لما يحدث في غزة " إنها القيامة الصغرىLittle apocalypse ، باستعارة تعبير كوستاغافراس. ولكن هذه المرة، قيامة نهاية كيانٍ قام على الأسطورة الأكبر تناقضا مع جملة ما طرح عصر التنوير على العالم من قيمٍ، باسمها استوطن واستعمر وساد قرونا، وباسمها أيضا، غطى على احتكاره السلطان والمال والإعلام واستعباد شعوب وسحق أخرى". ها نحن نرى أورسولا فاندر لاين وإيتامار بن غفير في معسكر واحد، جو بايدن وبنيامين نتانياهو في غرفة عمليات حرب مشتركة. كل أحاديث الحكومات الغربية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يضعها وزير الحرب الإسرائيلي يوأف جالانت تحت بسطاره العسكري، وأكثر من ذلك، يستنفر الخبراء والأساطيل ومليارات الدولارات من أجل منح "جيش الدفاع" القدرة على قتل أكبر عدد من النساء والأطفال.
إنها القيامة الصغرىLittle apocalypse ، باستعارة تعبير كوستاغافراس. ولكن هذه المرة، قيامة نهاية كيانٍ قام على الأسطورة الأكبر تناقضا مع جملة ما طرح عصر التنوير على العالم من قيمٍ، باسمها استوطن واستعمر وساد قرونا، وباسمها أيضا، غطى على احتكاره السلطان والمال والإعلام واستعباد شعوب وسحق أخرى.
كم كتبنا وكتب غيرنا من أصحاب البصيرة أن هذا المشروع الصهيوني في فلسطين يحمل جينات مقتله، كان المؤسسون يعتقدون بإمكانية أقلمة فكرة الشعب والسيادة مع الانحدار من دين محدد، ونسخ البناء التاريخ الأوربي للدولة-الأمة عبر الانتساب الجماعي لليهودية.
يمكن أن نتحدث عن المؤسسين بما نشاء، إلا أنه من الصعب ربطهم بالتدين أو الدين بل حتى الثقافة الدينية التاريخية. في حين أن مجموع ميكانزمات بناء الأسطورة والشعب والدولة، يقوم على تأسيس دولة صهيونية في فلسطين شرطها الأول أن تكون جنسيتها وجنسية سكانها يهودية، الأمر الذي يستلزم بالضرورة، اثننة الدينl’ethnisation de la religion، ما يسميه المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي ثم اختراع أرض إسرائيل.لم يكن هناك أي دور للحاخامات أو الفتاوى أو ”العهد القديم“ في عملية البناء هذه، بقدر ما جرى تقمص أفكار متأثرة بالقومية الاشتراكية الأوربية، وبشكل خاص النازية. وكم كنت أتوقف عند قول الصديق الراحل شمعون بلاص وهو يقول قبل ثلاثين عاما: "الحركة الصهيونية غربية قلباً وقالباً، وكانت محتكمة إلى مفهوم يدعو إلى الهجرة إلى فلسطين، والتموضع فيها وشراء أراض، فيما عُرف بالاستيطان، وهو ترجمة للكولونيالية. ومن الناحية الثقافية، كانت مقاربة الصهيونية أن الشرق متخلف. وهذا يعني، من ضمن أمور كثيرة أخرى، أن الصهاينة جاءوا إلى المشرق، ليس من أجل أن يندمجوا فيه، إنما من أجل تشييد هوية يهودية ذات محتد غربيّ. وبناء على ذلك، من المقدّر أن يبقى المشرق في مواجهة دائمة مع هذه الغاية. ولدى إقامة الدولة، أصبحت هذه المقاربة أكثر رسوخاً، ونُظر إلى يهود المشرق العرب أنهم أتوا من العالم المتخلّف، وينبغي تربيتهم من جديد."
عرف شمعون بلاص المجتمع الإسرائيلي من داخله، وكان له بعد النظر في أن صهر مجموعات مختلفة بشكل تسلطي، يلغي الانتماءات الأصلية للقادمين عبر مأسسة هوية واحدة للدين والدولة والمجتمع، أي إلباس كتاب كفاحي لأدولف هتلر عباءة يهودية.
لذا لا نستغرب أن يصل المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند إلى جملته التراجيدية عندما يقول:"أنا أتقدم في السن ولا أريد أن تكون الكلمة الأخيرة لأدولف هتلر.“
نظام الأبارتايد هذا، المتناقض تناقضا صارخا مع كل الدنيا بأسرها، هل يتصور فعلا أنه مؤمن بنفسه، وبكونه فوق الجميع، فوق النقد، فوق الخطأ، وبالتأكيد والحالة هذه، فوق الفكرة الأزلية للجريمة والعقاب؟ هل يعتقد أن المنظومة العالمية System-Worldالتي اعتبرته قاعدة ارتكاز لها، يمكن أن تشاطره هذا الوهم دون أن يكون ذلك أحد معاول الهدم الأساسية لهذه المنظومة العالمية السائدة نفسها؟
أقام نظام الأبارتايد الإسرائيلي في 75 عاما آخر مجسّم على قيد الحياة لكل الجرائم والمذابح التي ارتكبتها المنظومة الغربية طيلة قرون الاستعمار والاستيطان والحروب العالمية، القديم منها والحديث، بما فيها أهوال المحرقة التي وقعت في قلب أوروبا بحق اليهود والغجر.. وأصبح بذلك، المهرج الأخير لمنظومة عالمية مات أبطالها الحقيقيون.
تكمن نقمة التاريخ في إنجاز عمله حتى النهاية وليس بالقطعة، ويصبح من الضروري تذكير أشباه المثقفين أننا بصدد عالم في طور الولادة. وفي ظروف تاريخية مشابهة، لم تمتلك حضارة في التاريخ البشري يوما القوة على المبارزة النبيلة في مراحل أفولها. ومن سوء حظ العجوز الخرف، أن صناعة الكذب وفلسفة الهزيمة في الحروب الهجينة لم تنته فصولها الأوكرانية بعد، وأن إفريقيا تتخلص من آخر قواعد الاستعمار الأوربي القديم-الجديد، وأن كل سكان فرنسا وبريطانيا، كلاهما لا يشكلان اليوم أكثر من 2 بالمائة من البشر. وأن وجود مئات القواعد العسكرية الأمريكية على امتداد كوكبنا، لا يمكّن الإدارة الأمريكية من حماية رعاياها في بلدان تعتبرها مناطق نفوذ.
تمر البشرية بمعارج وأوجاع قبل أن تدفن شكلا بائدا في ذاته ومن أجل ذاته، لكن المرحلة النهائية لشكل تخطاه الوعي الإنساني العالمي هي ملهاته، وكما قال ماركس، فإن "آلهة اليونان الذين أصيبوا بجراح مميتة بصورة مأساوية في مسرحية أسخيليوس "بروميثوس مقيدا" عادوا هذه المرة فماتوا موتا هزليا في محاورات لوقانيوس".
لقد أسقطت جثث أطفال غزة كل الأقنعة، وأظهرت للعالم أجمع، أن نظام الأبارتايد لا يمكن أن يستمر دون انتهاج سياسة محرقة politique génocidaire منهجية بحق من يختلف عنه في الرؤيا والتصور.
من تحت أنقاض نصف أبنية ومساجد ومشافي ومدارس غزة المدمرة، ثمة يافطة تنغرز في ضمير الناس من كل الثقافات والأديان، الذين لم يبيعوا ضمائرهم في أسواق النخاسة تقول:
إرهاب نظام الأبارتايد، هو أعلى أشكال الإرهاب في زمننا المعاصر.
يتعذّرُ على إسرائيل إلاّ أن تكون دولة فصلِ عنصريٍ (أبارتايد)
بقلم الدكتور: محمد حافظ يعقوب
اعتبر الدكتور محمد حافظ يعقوب الكاتب الفلسطيني المقيم في فرنسا "إن ما يحصل اليوم في غزة وباختصار، عملية نزع "الإنسانية" عن الفلسطيني التي صار التعبير عنها صريحا ودون لبس، من قادة مجلس الحرب على الشعب الفلسطيني، هي ترخيص بالقتل الجماعي والتهجير والتدمير لكل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية والوجود الفلسطيني.. أعترف الآن أن الدافع الذي حفزني وشد من عزيمتي على الاشتغال على "بيان ضد الأبارتايد"، هي تحضيرات الإسرائيليين وأنصارهم لاحتفالات أرادوها ضخمة بالذكرى الخمسين لتأسيس دولة إسرائيل. وكانت الاستعدادات التي يقومون بها للاحتفاء بهذه المناسبة في أوساطهم الفرنسية والأمريكية على الخصوص لا تخلو من عُنجهية مُستفزّة. وقد حَشدت لذلك الأموالَ الكثيرةَ وأصدقاءها في العالم كي تخلق الانطباع، وهو سياسي بالضرورة، في أن شرعيتها راسخة بدلالة وجودها نفسه، وباعتراف العالم بهذا الوجود.
كان لابد من الرد؛ من استحضار الوجه الآخر للصورة، الوجه الذي يتعذّر طمسُ ملامحه، لأن فلسطين، كما قال الفلسطيني بالتبني الراحل إيلان هاليفي، تبرز بجلاء خلف إسرائيل ومن بين تفاصيل صورتها المُذهّبة.
1- من البيّن إذن أن هواجس الدراسة هذه كانت تتصل وقتئذ بسؤال الشرعية: شرعية فلسطين وشرعية إسرائيل: نكبة أم استقلال. ولا يخفى أن إسرائيل أرادت، وما زالت تريد، إثبات أن شرعيتها راسخة، وتوليد الانطباع السياسي بالضرورة بصحة السرد أو الرواية الصهيونية بخصوص تدمير فلسطين وإنشاء إسرائيل على أنقاضها وفوقها، وبأن الرواية الفلسطينية تجافي الحقيقة السياسية والتاريخية على السواء.
2- لكل زمان أسئلته؛ وأسئلة اليوم ما عادت هي نفسها تلك الأسئلة، التي حكمت هواجس "بيان ضد الأبارتايد" وقت العمل عليه في مطالع العام 1998. فقد حدثت تغيّرات كثيرة طبعت بميسمِها الثقيل كفاحَ الفلسطينيين من أجل تحررهم، وهم يُكابدُون اليومَ أوضاعاً ما كان يمكن تخيلها قبل عقدين من الزمان:
3- يصعد اليمينُ المتطرف في العالم، في كلّ مكان في العالم، وتواجه الحريات السياسية وترسانتها الحقوقية وأفكارها والمدافعين عنها، حملةً شرسةً مازالت، بتقديري، في بداياتها. ومع إدارة السيد دونالد ترامب، انتقلت السياسة الأمريكية من محاباة إسرائيل وضمان أمنها إلى إعلان حرب مفتوحة على الفلسطينيين من غير طلاء، وإلى أن يتكشّف البيت الأبيضُ عن أنه الطرف الفاعلُ في مساعي تصفية القضية الفلسطينية والقوة الضاربة في المشروع الصهيوني من حيث هو كذلك. وجاء السابع من أكتوبر، ليؤكد بأن ترامب لم يكن مجرد طفرة، وأن إدارة جو بايدن قادرة على القيام بما لم تقم به إدارة أخرى، لحماية ودعم الأبارتايد الإسرائيلي.
4- يقتتل العرب ويستفحلُ وهنهم، إن لم يكن انهيارهم، ويفقدون كثيراً مما رسخه كفاحُ أجيالهم من أجل التوحيد والتحرر والعمران.
5- حدثت انتفاضتان فلسطينيتان داميتان لم تجف دماؤهما بعد. واستشهد الآلاف من الفلسطينيين أولهم الرئيس ياسر عرفات. ونجم عن استيلاء حركة حماس على قطاع غزة انقسامٌ فلسطيني كثيفُ الوطأة على قضيتهم، وأصاب صورةَ كفاحِهم العادلِ وصورتهم كضحايا بعطبٍ ثقيل.
6- تفكيك إسرائيل بقيادة شارون مستوطنات قطاع غزة و"الانسحاب" منه بغرض الاستفراد بالضفة الغربية أي السيطرة عليها بالاستيطان وبالتهويد. واستقر اليمين الإسرائيلي المتطرف في السلطة، وازدادت عدوانية دولة إسرائيل التي أخذت تندفع أكثر فأكثر نحو الانتقال بالأبارتايد من الممارسة والمُضمَر إلى مأسسته أي تشريعه بالقوانين، وآخرها القانونُ المعروف باسم قانون (يهودية الدولة). فإذ يرسِّمُ هذا القانون هويةَ إسرائيل كدولة يهودية، يضع في الحقيقة الأسس القانونية للأبارتايد: يخطّ تخوماً كثيفةً بين السكان في الدولة، ويبعدُ أهلَ البلاد الأصليين، العربَ الفلسطينيين، ويدفعُ بهم نحو أن يحتلوا مواقع مواطني الدرجة الثانية. فبحسب قانون (يهودية الدولة)، انتفت عن غير اليهودي، أي الفلسطيني، صفة المواطن، فقد غدا مقيماً في الدولة، ويمكن لسلطاتها أن تطرده منها إن اقتضت مصالحها أو ضرورات “أمنـ”ها ذلك.
7- والواقع أن إسرائيل بهذا القانون حلّت لَبساً طالما أربكها بخصوص تعريفها لذاتها، أي هويتها. فقد دأبت على تقديم نفسها على أنها دولة ديمقراطية ويهودية في آن. في بداياتها، أي منذ بن غوريون، أبرزت إسرائيل “البعد” الديمقراطي في هذه الهوية، ثم أخذت تميل مع صعود اليمين نحو إبراز “البعد” اليهودي فيها. هكذا دُفع البعد الديمقراطي إلى خلف الصورة. اليومَ، أفصحت إسرائيلُ عن أنها دولةٌ لبعض المقيمين فيها: للسّادة الأحرار فقط.
8- في العمق، لم يتغيّر شيء يذكر على طبائع الأشياء بخصوص القضية الفلسطينية. فما زالت الفرضية المركزية أو الفكرة المحورية التي استندت إليها في "بيان ضد الأبارتايد" صالحةً اليومَ إن لم أقل إن صلاحيتها تعززها الوقائع والأيام. وبيانها، باختصار، إنه يتعذّرُ على إسرائيل إلاّ أن تكون دولة فصلِ عنصريٍ أو أبارتايد. وإن الإسرائيليين يعرفون ذلك ويدركونه ويستسهلونه أو يستهينون به ويشتغلون وفقه.
ما يحصل اليوم باختصار، أن عملية نزع "الإنسانية" عن الفلسطيني التي صار التعبير عنها صريحا ودون لبس، من قادة مجلس الحرب على الشعب الفلسطيني، هي ترخيص بالقتل الجماعي والتهجير والتدمير لكل ما له علاقة بالهوية الفلسطينية والوجود الفلسطيني...
من بلفور إلى هولوكوست غزة: سياسات التطهير العرقي أخطر العناوين في الحكاية الفلسطينية…!
بقلم: نواف الزرو
يقول الباحث والكاتب والمؤرخ الدكتور نواف الزرو ما بين الأمس.. أمس "بلفور" والنكبة والتهجير والتهديم والمجازر، واليوم، بعد خمسة وسبعين عاما، ما زلنا نتابع البلدوزرات الصهيونية ذاتها كيف تواصل مهماتها التي لم تنجز من وجهة نظرهم.
ليس من شك أن ذلك الوعد النكبوي الذي يطلقون عليه "وعد بلفور" هو البداية وهو المنطلق وهو الأساس لكل ما يقترف في فلسطين من مجازر ومحارق صهيونية مروعة ومن تدمير ومحو شامل لمئات المدن والبلدات والقرى الفلسطينية وكل ذلك في اطار سياسات التطهير العرقي الصهيونية، وفي ظل ما تقترفه قوات الاحتلال من محرقة ابادية شاملة هولوكوستية في هذه الايام ضد اهلنا في قظاع غزة، وكي لا ننسى وكي يتم نقلها عبر الاجيال، ففي الحكاية الفلسطينية بامتداداتها التاريخية من "وعد بلفور" الى "السيوف الحديدية" و"الهولوكوست" المقترف في قطاع غزة بمضامينها النكبوية، ربما أول ما يخطر بالبال والفكر والذاكرة، هو ذلك العنوان المرعب “التطهير العرقي في فلسطين”، فهو من أهم وأخطر العناوين التي يذكرنا بها نتنياهو وسموترتش وبن غفير واليمين الصهيوني الفاشي نظرا لأفكارهم ومواقفهم ومقترحاتهم ودعواتهم العنصرية اليمينية الفاشية التطهيرية التي يطلقونها تباعا، وينسحب ذلك على المجتمع الصهيوني كله، وكان من أبرز دعواتهم للتخلص من العرب الباقين في فلسطين 48 ما قال ليبرمان على سبيل المثال: “أنه يرغب في أن تكون إسرائيل دولة يهودية وصهيونية.. وأنه يجب التخلص من العرب”، وكذلك دعوته لـ”شطب القضية الفلسطينية من القواميس”، يضاف إلى ذلك طبعا تلك الفتاوى التي يطلقها كبار حاخاماتهم وصغارهم على حد سواء، والتي تبيح الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين لتبقى فلسطين يهودية نظيفة من العرب، ما يحدث في غزة وفي فلسطين في هذه الأيام يعيدنا إلى ذاكرة النكبة وإلى نقطة البداية وهي “خيار التطهير العرقي” الذي تريد المؤسسة الصهيونية اليوم أن تقود الأوضاع إليه.
وفي هذه المضامين العنصرية التطهيرية الابادية الممتدة والمتصلة على ارضية "بلفور"، كان المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابيه أكد “ارتكاب جرائم تطهير عرقي في فلسطين عام 1948 وفقا لخطط مفصلة، وأن إسرائيل تواصل ذلك حتى اليوم بطرق مختلفة”، موضحا “أن فكرة التطهير العرقي ولدت مع نشوء الصهيونية، إلا أنها حولتها لخطط عندما بات اليهود يحتلون ثلث سكان البلاد، لافتا إلى أن الخطط “ا”(1930) و”ب” (1946) و”ج” (1947) تتحدث عن ذلك، لكن الخطة “د” (1948) تحدد معالم خطة التطهير العرقي بوضوح وبشكل صريح”، وشدد بابيه على “أن الحرب عام 48 استخدمت من قبل الصهيونية وسيلة لتطبيق خطة التطهير العرقي بخلاف أبحاث المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين اعتبروا أن التطهير جاء نتيجة للحرب”، وقامت الخطة على تطويق المدن والقرى العربية من ثلاث جهات وترك الجهة الرابعة مفتوحة لتمكين السكان من النزوح وإطلاق النار على المدنيين وهدم المنازل بالمتفجرات وسرقة الممتلكات بشكل منهجي”، كما تضمنت الخطة اقتراف مذابح ضد المدنيين في الأرياف الفلسطينية لإرهاب السكان ودفعهم على الهرب، لافتا إلى أن الصهيونية نفذت مجزرة في بعض القرى قبيل احتلال المدن الكبرى".
يبدو المشهد الماثل في هذه الأيام في فلسطين.. في مدنها وقراها ومخيماتها وخربها وأمكنتها المختلفة، وكأنه ذلك المشهد التدميري الذي عاشته فلسطين قبل نحو خمسة وسبعين عاما… ذلك المشهد الذي لم يبق ولم يذر من الأرض والعرب شيئا.. إنه مشهد التطهير العرقي… ما يعيدنا بداية إلى استحضار تلك الخطط التي عملوا بها ما قبل قيام دولتهم، فحسب الدكتور “ايلان بابيه” فقد وضعت الصهيونية خطة مكتوبة للتطهير العرقي في فلسطين قبل النكبة بسنوات تم تطويرها مع الوقت إلى أن تبلورت نهائيا فيما يعرف بـ”الخطة- د”، ولكن وفي سياق مخططها الاستراتيجي للسطو على فلسطين بغية إقامة الدولة الصهيونية، كانت الحركة الصهيونية –بتنظيماتها العسكرية الإرهابية العديدة آنذاك- قد تبنت ما أطلقوا عليها الخطة – ج- التي نصت بوضوح على ما ستشمل عليه الأعمال الإجرامية ضد العرب من ضمن ما نصت عليه:
“قتل القيادات السياسية الفلسطينية؛ قتل المحرضين الفلسطينيين ومن يدعمونهم ماليا، قتل الفلسطينيين الذين يعملون ضد اليهود؛ قتل ضباط ومسؤولين كبار كانوا يعملون مع سلطات الانتداب؛ تخريب المواصلات الفلسطينية؛ تخريب موارد العيش الفلسطينية: آبار المياه، الطواحين …الخ. مهاجمة القرى الفلسطينية المجاورة التي يحتمل أن تساعد في الهجمات في المستقبل؛ مهاجمة النوادي الفلسطينية، والمقاهي، وأماكن التجمع… الخ”. وبعدها عمدت الصهيونية إلى تطوير الخطة-ج- وقامت بصياغة جديدة للخطة الأخيرة خلال أشهر قليلة اطلقت عليها الخطة -د، وهي الخطة التي قررت مصير العرب داخل المنطقة التي كان زعماء الحركة الصهيونية يتطلعون إلى إقامة دولتهم اليهودية المقبلة عليها.
وكما وثق لاحقا، فمنذ الإعلان عن قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني 1947، تم الإفراج عن الخطة “د” لوضعها موضع التنفيذ، بعد إقرارها – نهائياً- من قبل قيادة الهاغانا في 10 مارس 1948، وكانت تقضي، كما اعترف الجنرال “يادين” في مقابلة مع صحيفة “حداشوت” في “كانون الأول 1985، بـ “تدمير القرى العربية المجاورة للمستعمرات اليهودية، وطرد سكانها”…. أما “بن غوريون” فقد أصدر، كما هو مدون في يومياته، أمراً في 19 كانون الأول 1947 يقضي بأن “كل هجوم يجب أن يكون ضربة قاضية تؤدي إلى تدمير البيوت وطرد سكانها”… واستجابة لهذا الأمر، وبعد أقل من أسبوعين، دعا الجنرال “يغال آلون” قائد البالماخ – فلوغوت ماحتس (كتائب السحق)، في الأمر اليومي الذي أصدره الى حرب شاملة تحقق الإبادة الجماعية والتدمير الاقتصادي، إذ “من الصعب (كما ينص الأمر) تمييز الأعداء من غير الأعداء، ومن المستحيل تفادي قتل الأطفال… إلى ذلك، لم تتوقف المخططات والنوايا الابادية عند عام النكبة، بل هي مستمرة، فقد كشف قائد شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أهرون يريف، النقاب سنة 1973 إن هناك مخططات لاستغلال أول حرب قادمة وترحيل ما بين 600 و700 مواطن عربي من الجليل والضفة الغربية إلى شرق الأردن. وهناك أكثر من رأي لدى المؤرخين اليهود عن أن مجزرة كفر قاسم التي نفذت سنة 1956 إبان حرب السويس (المعروفة باسم ”العدوان الثلاثي على مصر”)، استهدفت إرهاب فلسطينيي 48 وحملهم على الرحيل هم وبقية فلسطينيي 48 في منطقة المثلث، ولكنها فشلت.
وما بين الأمس.. أمس "بلفور" والنكبة والتهجير والتهديم والمجازر، واليوم، بعد خمسة وسبعين عاما، ما زلنا نتابع البلدوزرات الصهيونية ذاتها كيف تواصل مهماتها التي لم تنجز من وجهة نظرهم.. ونتابع سياسات التطهير العرقي والمجازر الجماعية… ونتابع عمليات التهديم والتهجير المتواصلة التي يستكملون فيها سياسات التطهير العرقي المقترفة منذ النكبة… ففي فلسطين من بحرها إلى نهرها، تلك هي المساحة التي تتحرك فيها وعليها بلدوزرات الهدم والتدمير والتخريب والتهجير الصهيونية، بلا توقف أو كلل، فالهدف الكبير لديهم كان منذ "بلفور" وما قبل إقامة دولتهم، وما زال ساريا إلى اليوم هو: هدم وتدمير وتنظيف الارض من معالمها واهلها وتمهيدها للتهويد الشامل بلا عرب!.
يقف الشعب العربي الفلسطيني هناك، على امتداد مساحة فلسطين من بحرها إلى نهرها أمام تحد وجودي في مواجهة الحروب والبلدوزرات الصهيونية، فليس في الأفق أي تسوية أو حل أو انسحاب صهيوني، وليس في الأفق أيضا سوى الحروب مع المشروع الصهيوني…! وليس في الأفق كذلك أي دور أو تدخل عربي أو أممي.
نأمل أن تكون كافة القوى والفصائل الفلسطينية، قد استخلصت العبر والاستخلاصات اللازمة.. فالوحدة والمصالحة الوطنية الفلسطينية هي الممر الإجباري نحو هزيمة المشروع الصهيوني والتحرير والاستقلال.