الحجب لا يخلو منه مجتمع. فهو مبثوث في البنى والنظم والمؤسّسات والأفراد والجماعات. وهو حاضر، في الميكرو والمكرو، في الجزئيّ والشموليّ، ظاهر وخفيّ، واضح وغامض، صريح وملتبس... ونظرا لما للحجب، من معانٍ كثيرة، ومداخل معرفيّة متنوّعة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ترتبط باللغويّ والاصطلاحيّ، وتمنحنا تأمّلا عميقا في الظاهرة. نحاول، حينئذ، من منطلق سوسيولوجيّ بنيويّ، استكشاف المعنى والدلالة منه، أيْ، ما يحدث بيننا، في مجتمعنا التونسيّ، من حجب، طال مستويات كثيرة، ليست مرتبطة بالمنظومة التعليميّة وحدها، كما هو جارٍ في مستوى المدرسة التونسيّة، من حجب للإعداد، أو كشفها، إنّما هو حاضر في كلّ قطاعات الدولة ومؤسّساتها...
أوّلا، يحيل الحجب، في المعجم العربيّ الجامع، على فعل حجَبَ يَحجُب، حَجْبًا وحِجابًا، فهو حاجِب، والمفعول مَحْجوب. ويُفهم الحجب، هنا، بأضداده، كأنْ يحجب الضّوء، أيْ، ستره، ووضع عليه حجابا. أو حال بينه والشيء المراد كشفه، مثل حجب بينهما، أي حال بينهما لتنعدم الرؤية، أو حجبه من الدخول، أيْ منعه. والحجب، يقتضي الحجاب، وما يرادفه من قبيل: حاجز، وساتِر، وفاصِل، ومانِع، ومُغَطٍّ ، وسَدّ... وهذا الحجب، في المعنى اللغويّ، هو في الحقيقة، نافذة مفتوحة على ممارسات كثيرة، في الدولة والمجتمع، دولتنا ومجتمعنا. فهو ليس ببريء، وإن بدا في مواضع عفويّا. فأين يتجلّى الحجب تونسيّا؟ ولماذا ؟ وكيف؟ وهل بالإمكان تجاوزه؟
ثانيا، يبدأ الحجب كما نعتقد، بفعل إنسانيّ، فرديّ أو جماعيّ، لينتهي إلى قرار. وهو قرار، تترتّب عنه آثار نفسيّة واجتماعيّة لمن وقع عليه الحجب. ومثلما بيّنا لغويّا، ما يحيل إليه الحجب، من منع وصدّ وستر ...فإنّ ذلك يتجلّى لنا في ممارسات كثيرة، تطبّعت بها المؤسّسة التونسيّة، أيْ، في كلّ القطاعات دون استثناء. وإذا بدا لنا الحجب في المؤسسة التعليميّة بمثابة رهان، لتحقيق مطالب مشروعة للمربين، نتفهّمها، فهي لا تتوقّف، في اعتقادنا، عند مطالب فحسب، إنّما المسألة، أعمق من ذلك بكثير، لتحيل على صراع، وهيمنة، ونفوذ، ومواجهة، ووجود أيضا، بمعنى أوجد أو لا أوجد. وطبعا، ليست المدرسة المثال الوحيد، بل هناك أمثلة كثيرة مشابهة لها، في كلّ الوزارات، حين تُمرّر قراراتها وقوانينها، وتحجب عنا حقائق كثيرة، كان بالإمكان عرضها أمام الجميع بالشفافيّة اللازمة. ويتجلى لنا هذا بوضوح، في كلّ المؤسّسات الخاضعة لتراتبيّة، تبدأ من المركز إلى القواعد مرورا بالهياكل. وهنا، يتحوّل الحجب إلى أسلوب، ونمط حياة، محكوم بأفعال واعية، وغير واعية، هي -في الحقيقة- خاضعة لمسار تراكميّ بنيويّ، يُصبح مُتمثّلا ومُستبطنا في الممارسات الفرديّة والجماعيّة، خاصة لم هم في موقع القرار مركزيا أو جهويّا أو محليّا. وطبعا، لا نعمّم فالاستثناء موجود. فالحجب، بهذا المعنى الرسميّ في الدولة، قد يساهم في إحباط فاعلين كثر، وحرمانهم، واستبعادهم، من حقوق كثيرة مشروعة.
ثالثا، لا يقتصر الحجب على الدولة ومؤسساتها بل يشمل أيضا، المجتمع وأفراده، ونلاحظ ذلك في كثير من الأسر التونسيّة، فالحجب بين المرأة والرجل، متداول، ويتجلى في الممارسات والأفعال من استبعاد وتغييب وعنف ونكران، سواء من الرجل إلى المرأة، أو العكس. وهو يحيل على أسباب كثيرة منها، الهيمنة، والنفوذ، والذكوريّة والاستعلاء، وغيرها...ويشمل الحجب الأبناء، والعائلة الموسّعة كذلك، للإغراض ذاتها. ولعلّ أهمّها ما يحيل عليه الصراع الجيلي. إنّ هذا الحجب المُمارس، في الدولة ومؤسساتها، والمجتمع وأفراده، كما نتابع، ونلاحظ، ونقدّر، ونتأمّل فيه، يسمح لنا بفهم وتأويل هذه الأفعال، التي نراها مُعمّمة ومُنتشرة ومُتراكمة، باعتبارها تحيل على مجتمع، نعتقد أنّه يشكو من أمراض كثيرة: نفسيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، وقيميّة في العموم. تبدو لنا الدولة هي بشكل ما تعبير عن مجتمعها. والعلاقة بينهما مترابطة، لكنّها ليست سويّة في الغالب، لأنّنا نراها خاضعة لمهيمن ومهيمن عليه، ومسيطر ونافذ ومُتحكّم فيه، وهو ما يتنافى والعقد الاجتماعيّ لروسو، الذي يؤكّد على احترام الجميع، أي الإرادات الجماعيّة لكلّ المواطنين. نحن نمارس الحجب، ونخفي الحقيقة، بل حقائق كثيرة، لغايات ذاتيّة، ترتبط، في كثير منها، بغنائم ومنافع للبعض، على حساب البعض الآخر، ونعيد إنتاج الهيمنة والخضوع والمظلوميّة والفقر والإحباط، كما تحافظ القوى المهيمنة الصّلبة على مواقعها ومصالحها.
رابعا، نحن مجتمع للأسف الشديد، كما دولته، نخاف الحقيقة، ونخفيها، ونحتكرها، ونحجبها. ولئن بدت لنا الحقيقة- بنيويّا- ظاهرة ومستترة، فهي تبرهن عن فاعل ومفعول به، ربّما يشمل الفعل على كلّ ممكنات البلاد، ومقدراتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والعلميّة والتكنولوجيّة، وهي تظلّ بحاجة للكشف عنها، مثلما نحن بحاجة إلى إعلان الحقيقة كلّها مكتملة، وهي من أهمّ علامات المواطنة الفاعلة. فالمواطنة، تقتضي المشاركة الجماعيّة في الشأن العام، أيْ، كلّ من موقعه، دون تمييز، أو تمايز للبعض على حساب البعض. فالحجب، في اعتقادي، لا يمتّ بصلة للقوى الديمقراطيّة الحرّة، ولا للقوى الوطنيّة، التي تريد أن تنهض بالبلاد. والرهان، يظلّ قائما على الشفافيّة والوضوح والتحلي بالديمقراطيّة، واحترام الجميع، وتقدير الذوات البشريّة، وإزالة الحواجز بيننا، باعتبارنا مواطنين لنا حقوق وواجبات، وأوّلها تعميم المعلومة على لجميع، وتحيينها، وفي وقتها، ودون احتكارها. وخلافا لما يقع من حجب، ونحن نقدّر كلّ الحقوق المشروعة لكل التونسيين، كان بالإمكان الدعم والإسناد والمساندة لمن حجبوا عن العمل لسنوات طويلة، وهم يتمنون شغلا ولو من وراء حجاب...وختاما، تظلّ الحقيقة مطلبنا، ونحن من أجلها نكتب، ونلتزم.
* باحث في علم الاجتماع.
بقلم :علي الظاهري(*)
الحجب لا يخلو منه مجتمع. فهو مبثوث في البنى والنظم والمؤسّسات والأفراد والجماعات. وهو حاضر، في الميكرو والمكرو، في الجزئيّ والشموليّ، ظاهر وخفيّ، واضح وغامض، صريح وملتبس... ونظرا لما للحجب، من معانٍ كثيرة، ومداخل معرفيّة متنوّعة في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ترتبط باللغويّ والاصطلاحيّ، وتمنحنا تأمّلا عميقا في الظاهرة. نحاول، حينئذ، من منطلق سوسيولوجيّ بنيويّ، استكشاف المعنى والدلالة منه، أيْ، ما يحدث بيننا، في مجتمعنا التونسيّ، من حجب، طال مستويات كثيرة، ليست مرتبطة بالمنظومة التعليميّة وحدها، كما هو جارٍ في مستوى المدرسة التونسيّة، من حجب للإعداد، أو كشفها، إنّما هو حاضر في كلّ قطاعات الدولة ومؤسّساتها...
أوّلا، يحيل الحجب، في المعجم العربيّ الجامع، على فعل حجَبَ يَحجُب، حَجْبًا وحِجابًا، فهو حاجِب، والمفعول مَحْجوب. ويُفهم الحجب، هنا، بأضداده، كأنْ يحجب الضّوء، أيْ، ستره، ووضع عليه حجابا. أو حال بينه والشيء المراد كشفه، مثل حجب بينهما، أي حال بينهما لتنعدم الرؤية، أو حجبه من الدخول، أيْ منعه. والحجب، يقتضي الحجاب، وما يرادفه من قبيل: حاجز، وساتِر، وفاصِل، ومانِع، ومُغَطٍّ ، وسَدّ... وهذا الحجب، في المعنى اللغويّ، هو في الحقيقة، نافذة مفتوحة على ممارسات كثيرة، في الدولة والمجتمع، دولتنا ومجتمعنا. فهو ليس ببريء، وإن بدا في مواضع عفويّا. فأين يتجلّى الحجب تونسيّا؟ ولماذا ؟ وكيف؟ وهل بالإمكان تجاوزه؟
ثانيا، يبدأ الحجب كما نعتقد، بفعل إنسانيّ، فرديّ أو جماعيّ، لينتهي إلى قرار. وهو قرار، تترتّب عنه آثار نفسيّة واجتماعيّة لمن وقع عليه الحجب. ومثلما بيّنا لغويّا، ما يحيل إليه الحجب، من منع وصدّ وستر ...فإنّ ذلك يتجلّى لنا في ممارسات كثيرة، تطبّعت بها المؤسّسة التونسيّة، أيْ، في كلّ القطاعات دون استثناء. وإذا بدا لنا الحجب في المؤسسة التعليميّة بمثابة رهان، لتحقيق مطالب مشروعة للمربين، نتفهّمها، فهي لا تتوقّف، في اعتقادنا، عند مطالب فحسب، إنّما المسألة، أعمق من ذلك بكثير، لتحيل على صراع، وهيمنة، ونفوذ، ومواجهة، ووجود أيضا، بمعنى أوجد أو لا أوجد. وطبعا، ليست المدرسة المثال الوحيد، بل هناك أمثلة كثيرة مشابهة لها، في كلّ الوزارات، حين تُمرّر قراراتها وقوانينها، وتحجب عنا حقائق كثيرة، كان بالإمكان عرضها أمام الجميع بالشفافيّة اللازمة. ويتجلى لنا هذا بوضوح، في كلّ المؤسّسات الخاضعة لتراتبيّة، تبدأ من المركز إلى القواعد مرورا بالهياكل. وهنا، يتحوّل الحجب إلى أسلوب، ونمط حياة، محكوم بأفعال واعية، وغير واعية، هي -في الحقيقة- خاضعة لمسار تراكميّ بنيويّ، يُصبح مُتمثّلا ومُستبطنا في الممارسات الفرديّة والجماعيّة، خاصة لم هم في موقع القرار مركزيا أو جهويّا أو محليّا. وطبعا، لا نعمّم فالاستثناء موجود. فالحجب، بهذا المعنى الرسميّ في الدولة، قد يساهم في إحباط فاعلين كثر، وحرمانهم، واستبعادهم، من حقوق كثيرة مشروعة.
ثالثا، لا يقتصر الحجب على الدولة ومؤسساتها بل يشمل أيضا، المجتمع وأفراده، ونلاحظ ذلك في كثير من الأسر التونسيّة، فالحجب بين المرأة والرجل، متداول، ويتجلى في الممارسات والأفعال من استبعاد وتغييب وعنف ونكران، سواء من الرجل إلى المرأة، أو العكس. وهو يحيل على أسباب كثيرة منها، الهيمنة، والنفوذ، والذكوريّة والاستعلاء، وغيرها...ويشمل الحجب الأبناء، والعائلة الموسّعة كذلك، للإغراض ذاتها. ولعلّ أهمّها ما يحيل عليه الصراع الجيلي. إنّ هذا الحجب المُمارس، في الدولة ومؤسساتها، والمجتمع وأفراده، كما نتابع، ونلاحظ، ونقدّر، ونتأمّل فيه، يسمح لنا بفهم وتأويل هذه الأفعال، التي نراها مُعمّمة ومُنتشرة ومُتراكمة، باعتبارها تحيل على مجتمع، نعتقد أنّه يشكو من أمراض كثيرة: نفسيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، وقيميّة في العموم. تبدو لنا الدولة هي بشكل ما تعبير عن مجتمعها. والعلاقة بينهما مترابطة، لكنّها ليست سويّة في الغالب، لأنّنا نراها خاضعة لمهيمن ومهيمن عليه، ومسيطر ونافذ ومُتحكّم فيه، وهو ما يتنافى والعقد الاجتماعيّ لروسو، الذي يؤكّد على احترام الجميع، أي الإرادات الجماعيّة لكلّ المواطنين. نحن نمارس الحجب، ونخفي الحقيقة، بل حقائق كثيرة، لغايات ذاتيّة، ترتبط، في كثير منها، بغنائم ومنافع للبعض، على حساب البعض الآخر، ونعيد إنتاج الهيمنة والخضوع والمظلوميّة والفقر والإحباط، كما تحافظ القوى المهيمنة الصّلبة على مواقعها ومصالحها.
رابعا، نحن مجتمع للأسف الشديد، كما دولته، نخاف الحقيقة، ونخفيها، ونحتكرها، ونحجبها. ولئن بدت لنا الحقيقة- بنيويّا- ظاهرة ومستترة، فهي تبرهن عن فاعل ومفعول به، ربّما يشمل الفعل على كلّ ممكنات البلاد، ومقدراتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والعلميّة والتكنولوجيّة، وهي تظلّ بحاجة للكشف عنها، مثلما نحن بحاجة إلى إعلان الحقيقة كلّها مكتملة، وهي من أهمّ علامات المواطنة الفاعلة. فالمواطنة، تقتضي المشاركة الجماعيّة في الشأن العام، أيْ، كلّ من موقعه، دون تمييز، أو تمايز للبعض على حساب البعض. فالحجب، في اعتقادي، لا يمتّ بصلة للقوى الديمقراطيّة الحرّة، ولا للقوى الوطنيّة، التي تريد أن تنهض بالبلاد. والرهان، يظلّ قائما على الشفافيّة والوضوح والتحلي بالديمقراطيّة، واحترام الجميع، وتقدير الذوات البشريّة، وإزالة الحواجز بيننا، باعتبارنا مواطنين لنا حقوق وواجبات، وأوّلها تعميم المعلومة على لجميع، وتحيينها، وفي وقتها، ودون احتكارها. وخلافا لما يقع من حجب، ونحن نقدّر كلّ الحقوق المشروعة لكل التونسيين، كان بالإمكان الدعم والإسناد والمساندة لمن حجبوا عن العمل لسنوات طويلة، وهم يتمنون شغلا ولو من وراء حجاب...وختاما، تظلّ الحقيقة مطلبنا، ونحن من أجلها نكتب، ونلتزم.