بقلــم علي السّعداوي*
كم يؤلمني وأنا أستمع إلى بعض البرامج الاذاعية والتلفزية عندنا مما تستأثر بأوقات الاستماع والمشاهدة، القوية، أن يخوض المتحاورون والمتجادلون في مواضيع ليست من اهتمامات شعبنا وامتنا كالمباريات الجنسية في السويد، أو في أحداث شاذة ذات صيغة إجرامية جريا، ربما وتقليدا لوسائل الاعلام الغربية، ويمسكوا أو يتغاضوا عن طرْق أمهات القضايا في بلادنا كالشباب والشغل والوظيف والعمل في القطاع العام والقطاع الخاص والبون الشاسع بين الأمرين وان كانت والحق يقال لا تفتأ بعض صحفنا المكتوبة، ومجلاتنا على قلتها تتجاسر على فتح الملفات المنسية وعرض مختلف الرؤى والآراء بشأنها كما تفعل هذه الصحيفة ولكن شتان في المتابعة والتلقي بين المرئي والمسموع والمكتوب ! للأسف الشديد. ولعل التهافت على الاشهار وراء الاختيار وأسلوب التناول.
فموضوع شبابنا المتعلم وسوق الشغل و لقمــة العيش وبناء المصير على غاية من الرّاهنيــة وحاجــة إلى التناول العام وبرصانة وعمق : لماذا ترى يجري الكثيرون منهم، عند التخرج أو حتى قبل ذلك، وراء " الوظيف" أو العمل في القطاع العامّ ولا يلتفتون إلى العمل المستقلّ أو الشغل في القطاع الخاص إلا مكرهيـن وفي آخر المطاف؟ ! هل تساءلنا هذا السؤال، ممــّــن يعنيهم أمر شبابنا الطالع الطامــح إلى الاستقرار والطمأنينـة والبذل والعطاء؟ الحقّ إنّ الجواب بديهــيّ وبه نلتمس الأعذار، والواقع المعيشي اليومي خير شاهد ودليل. ولا نحتاج إلى كثير تفلسف في الأمر.
العمل في الوظيفة العمومية والقطاع العامّ يساوي في الأذهان الأجر القانوني المضمون واحترام كثير من الحقوق والامتيازات المهنيـة مما يعود إلى عهدة الدولة والتزاماتها، وفوق ذلك نقابات صلبة صامدة تدافع وتنافح وهياكل مختصـة تتابع وتراقب. إنّ العبارة المجازيـة التونسية الشهيرة: "مسمار في حيط" تلخـّــص كلّ شيء، حين نتحدّث عن الانتماء إلى هذا المجال.
ومن جهة أخرى ماذا يجد الشابّ والشابّـة في القطاع الخاص والشغل المستقل؟ الجواب: نقيض ما سبق، أي الأجر غير الملائم وغير المضمون ودوس الحقوق أو الإشاحـة عنها، والدفاع النقابي الفاتر والمتابعة الإدارية المختصة النادرة، فكيف نلوم شبابنا على تعلّقه بالمجال الأوّل وزهده في المجال الثاني؟
نعم: القطاع الخاص بنوعيه: العمل فيه مثمر والجدّية متوفرة وسائر المحاسن الأخرى كالانضباط والاجتهاد والابداع والابتكار وتوظيف المهارة والمعرفة، وهو باب واسع للتشغيل ومصدر الإنتاج وعنوان الإنتاجيــة على العموم، لكنّه – في المقابل – قطاع ظالم يهضـــم الحقوق المهنيــّــة ولا يبالي بمصير العامل والاطار المختصّ، يقال إنّه هو الاخر مظلوم من الدولـة وهياكلــها، يعاني ما يعاني من ضغوط ومفاجآت و تسويف وإهمال، حتــى هذا أيضا إشكال حقيقــي .
أما السبيل الأول المفضّل لدى طلاّب الشغل أعنـي الوظيفة العمومية والقطاع العام فماذا يربح وماذا يجني جزاء ضماناته وتعهداته وجميل سخائه في المنح والترقيات؟ هل أفضى " المسمار" المشهور إلى غـُــنـم كسبه الوطن و تمتـّــع به الشعب؟ ! كلّنا نعلم ما تفضي إليه عقليـّــة " البيليك" و "مسمار في حيط" في كثير من الأحيان: الخواء والفتور، والتقصير والتسيّب، في كلمة: قلـّــة الإنتاج والانتاجيـة، عكس المتوقع والمأمول. إنّها مفارقات عجيبة في اقتصادنا وإدارتنا: الضمانات لا تشحذ الهمم – أعني الضمانات الشغليّــة. والبذل والعطاء في القطاع الخاص لا يخدمان بالضرورة العامل فيه بل قد يرمي به هذا السلوك إلى حافة الهاويـــة: العطالة وما وراءها من نفاد الدخــل والهشاشــة النفسيـّــة. لا أدّعــي تمكّنا من هذه المسألة وأهل الذكر أوســـع فهما وأعمــق تحليلا. ولكنـّـــي كمواطــن بسيط خدم بلاده ما يقرب من أربعين سنة بكل صدق و إخلاص ونكران للذات، لا أرضــي بهذه المفارقات العجيبــة: بهذا الغبــن والحيــــف، "بمسمار في حيط" يهدّ البنيان – بنيان المجتمع والوطــن، وبإهدار للطاقات التوّاقـة وإجبارها على اتخاذ الحلول القصــوى: ترك البلاد والهجرةو "الحرقـة" . فلنفكـر معا في مصير شبابنا ولنساعده على البقاء في وطنه ينتـج ويبدع.
* مربّ متقاعد
بقلــم علي السّعداوي*
كم يؤلمني وأنا أستمع إلى بعض البرامج الاذاعية والتلفزية عندنا مما تستأثر بأوقات الاستماع والمشاهدة، القوية، أن يخوض المتحاورون والمتجادلون في مواضيع ليست من اهتمامات شعبنا وامتنا كالمباريات الجنسية في السويد، أو في أحداث شاذة ذات صيغة إجرامية جريا، ربما وتقليدا لوسائل الاعلام الغربية، ويمسكوا أو يتغاضوا عن طرْق أمهات القضايا في بلادنا كالشباب والشغل والوظيف والعمل في القطاع العام والقطاع الخاص والبون الشاسع بين الأمرين وان كانت والحق يقال لا تفتأ بعض صحفنا المكتوبة، ومجلاتنا على قلتها تتجاسر على فتح الملفات المنسية وعرض مختلف الرؤى والآراء بشأنها كما تفعل هذه الصحيفة ولكن شتان في المتابعة والتلقي بين المرئي والمسموع والمكتوب ! للأسف الشديد. ولعل التهافت على الاشهار وراء الاختيار وأسلوب التناول.
فموضوع شبابنا المتعلم وسوق الشغل و لقمــة العيش وبناء المصير على غاية من الرّاهنيــة وحاجــة إلى التناول العام وبرصانة وعمق : لماذا ترى يجري الكثيرون منهم، عند التخرج أو حتى قبل ذلك، وراء " الوظيف" أو العمل في القطاع العامّ ولا يلتفتون إلى العمل المستقلّ أو الشغل في القطاع الخاص إلا مكرهيـن وفي آخر المطاف؟ ! هل تساءلنا هذا السؤال، ممــّــن يعنيهم أمر شبابنا الطالع الطامــح إلى الاستقرار والطمأنينـة والبذل والعطاء؟ الحقّ إنّ الجواب بديهــيّ وبه نلتمس الأعذار، والواقع المعيشي اليومي خير شاهد ودليل. ولا نحتاج إلى كثير تفلسف في الأمر.
العمل في الوظيفة العمومية والقطاع العامّ يساوي في الأذهان الأجر القانوني المضمون واحترام كثير من الحقوق والامتيازات المهنيـة مما يعود إلى عهدة الدولة والتزاماتها، وفوق ذلك نقابات صلبة صامدة تدافع وتنافح وهياكل مختصـة تتابع وتراقب. إنّ العبارة المجازيـة التونسية الشهيرة: "مسمار في حيط" تلخـّــص كلّ شيء، حين نتحدّث عن الانتماء إلى هذا المجال.
ومن جهة أخرى ماذا يجد الشابّ والشابّـة في القطاع الخاص والشغل المستقل؟ الجواب: نقيض ما سبق، أي الأجر غير الملائم وغير المضمون ودوس الحقوق أو الإشاحـة عنها، والدفاع النقابي الفاتر والمتابعة الإدارية المختصة النادرة، فكيف نلوم شبابنا على تعلّقه بالمجال الأوّل وزهده في المجال الثاني؟
نعم: القطاع الخاص بنوعيه: العمل فيه مثمر والجدّية متوفرة وسائر المحاسن الأخرى كالانضباط والاجتهاد والابداع والابتكار وتوظيف المهارة والمعرفة، وهو باب واسع للتشغيل ومصدر الإنتاج وعنوان الإنتاجيــة على العموم، لكنّه – في المقابل – قطاع ظالم يهضـــم الحقوق المهنيــّــة ولا يبالي بمصير العامل والاطار المختصّ، يقال إنّه هو الاخر مظلوم من الدولـة وهياكلــها، يعاني ما يعاني من ضغوط ومفاجآت و تسويف وإهمال، حتــى هذا أيضا إشكال حقيقــي .
أما السبيل الأول المفضّل لدى طلاّب الشغل أعنـي الوظيفة العمومية والقطاع العام فماذا يربح وماذا يجني جزاء ضماناته وتعهداته وجميل سخائه في المنح والترقيات؟ هل أفضى " المسمار" المشهور إلى غـُــنـم كسبه الوطن و تمتـّــع به الشعب؟ ! كلّنا نعلم ما تفضي إليه عقليـّــة " البيليك" و "مسمار في حيط" في كثير من الأحيان: الخواء والفتور، والتقصير والتسيّب، في كلمة: قلـّــة الإنتاج والانتاجيـة، عكس المتوقع والمأمول. إنّها مفارقات عجيبة في اقتصادنا وإدارتنا: الضمانات لا تشحذ الهمم – أعني الضمانات الشغليّــة. والبذل والعطاء في القطاع الخاص لا يخدمان بالضرورة العامل فيه بل قد يرمي به هذا السلوك إلى حافة الهاويـــة: العطالة وما وراءها من نفاد الدخــل والهشاشــة النفسيـّــة. لا أدّعــي تمكّنا من هذه المسألة وأهل الذكر أوســـع فهما وأعمــق تحليلا. ولكنـّـــي كمواطــن بسيط خدم بلاده ما يقرب من أربعين سنة بكل صدق و إخلاص ونكران للذات، لا أرضــي بهذه المفارقات العجيبــة: بهذا الغبــن والحيــــف، "بمسمار في حيط" يهدّ البنيان – بنيان المجتمع والوطــن، وبإهدار للطاقات التوّاقـة وإجبارها على اتخاذ الحلول القصــوى: ترك البلاد والهجرةو "الحرقـة" . فلنفكـر معا في مصير شبابنا ولنساعده على البقاء في وطنه ينتـج ويبدع.
* مربّ متقاعد