صدر في الآونة الأخيرة كتاب بعنوان "أضواء على تاريخ تونس الحديث من بداية الحماية إلى بداية الحركة النقابية الأولى" (1881 ـ 1924) لمؤلفة الشيخ الأستاذ البشير الشريف وهو من مواليد 25 أوت 1929 بمدينة قفصة، حفظ ما تيسر من القرآن الكريم والتحق بالفرع الزيتوني بقفصة فالجامعة الزيتونية بالعاصمة حيث تحصل على الأهلية، وبعد ذلك انظم إلى سلك التعليم بداية من عام 1954 فجاب البلاد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا إلى أن أحيل على شرف المهنة سنة 1989.
"أضواء على تاريخ تونس الحديث" نال به الجائزة التقديرية الكبرى لمدينة تونس عام 1976 فعاد إليه بالتنقيح والإضافة وأصدره هذه السنة.. وهو كتاب يعكس مدى شغف صاحبه بالتاريخ وأخذ العبر منه خدمة لتونسنا الخضراء. فالكتاب رصد دقيق ومتابعة متأتية لوضع الإيالة التونسية في تلك الحقبة إذ مدح صاحبه رموز الحركة الوطنية أمثال البشير صفر ومحمد علي الحامي والمنصف باي وعلي باش حانبة وندد بمن باعوا ضمائرهم كبعض البايات ومصطفى ابن إسماعيل وبذلك يكون المؤلف قد خلد البطولات التي عرف بها الشغب التونسي ومن استشهدوا منه فداء لتونس.
لقد كان المؤلف منهجيا في تناوله لما أراد تبليغه إذ بدأ بظروف بسط الحماية الفرنسية على البلاد التونسية فأشار إلى احتلال الجزائر سنة 1830 وبذلك صارت فرنسا جارة لتونس فخشيت فرنسا أن تصبح تونس قاعدة لانطلاق حركة ثورية تهدد وجودها بالقطر الجزائري فبدأت تخطط لاحتلالها خاصة وأن تونس كانت في حالة من التدهور وانهيار نظام الحكم الأمر الذي جلب لها أطماع الدول الغربية كفرنسا وإيطاليا للاستفادة من موقعها وخيراتها.. تحدث المؤلف عن مؤتمر برلين المنعقد في 13 جويلية سنة 1879 برئاسة بسمار.
وبحضور نواب عن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا وإيطاليا والإمبراطورية العثمانية وذلك من أجل قسمة ممتلكات الرجل المريض.
وقال آنذاك وزير خارجية انقلترا سالبوري Salisbury لرئيس وفد فرنسا: "افعلوا بتونس ما تريدون... لا يمكنكم ترك قرطاجنة للبرابرة"، في هذه الظروف الصعبة كان حكام تونس لا يفكرون إلا في مصالحكم والحفاظ على الكرسي على حساب الشعب فمصطفى من إسماعيل الجاهل تسلق السلم الوظيفي فتقلد رتبة فريق ثم أصبح عاملا على الوطن القبلي (واليا) ثم ولي وظيفة صاحب الطابع وفي يوم 25 أوت 1878 ارتقى إلى الوزارة الكبرى التي سعى إليها بشتى الطرق الوضيعة بل ظل يطمح إلى خلافة الباي، ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن حياته كانت شذوذا وفجورا وانحطاطا وسرقات أموال الدولة وإفشاء أسرار الدولة للمستعمر وتسهيل دخولها تحت الحماية الفرنسية طوعا وهنا تظاهر الباب بالغضب فأبرق إلى السلطان العثماني مقللا من أهمية دخول الجيش الفرنسي إلى التراب التونسي، بل ألقى المسؤولية على الجزائريين وشيئا فشيئا أصبح الصادق باي يتلقى الأوامر من فرنسا فيوقع على ما تتخذه من إجراءات أدت إلى استعمار تونس.
إذا كان الأستاذ البشير الشريف قد ندد بخيانة الباي وأبرز تواطؤ من باعوا ضمائرهم فإنه قد شدد على موقف النخبة الوطنية المستنيرة فأبرز كفاحهم ونضالهم وتضحياتهم وهجرة البعض منهم للتعريف بالقضية التونسية كمان أن البعثة الطالبية الأولى التي عادت من فرنسا قد قامت بجلب التأييد الأجنبي من أحرار العالم بما في ذلك أحرار فرنسا وفي تونس قام هؤلاء بتوعية الشعب فأسسوا الجمعيات مثل الجمعية الخلدونية...
وتوحدت جهود دعاة الإصلاح من زيتونيين وصادقيين من أجل خوض معركة النضال بواسطة القلم فتم إصدار جريدة الحاضرة سنة 1888 لنشر الوعي وتعريف المواطنين بحقوقهم وواجباتهم ومن هؤلاء نذكر مدير الجريدة الأستاذ علي بوشوشة ولجنة لامعة من رجالات النهضة كان من أبرزهم محمد البشير صفر والشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد السنوسي ومحمد القروي ومحمد الأصرم ومحمد بلخوجة وعلي الورداني وغيرهم... وكانت الصحافة همزة وصل بين مثقفي تونس ومثقفي مصر.
لقيت الصحافة المكتوبة بالعربية أو الفرنسية استحسان كل الدوائر لأنها ستمكن الطلبة من الاطلاع على ثقافة فرنسا وحضارتها لكن الجالية الفرنسية رأت فيها خطرا على وجودها خاصة وقد تكاثرت الجمعيات مثل الجمعية الخيرية الإسلامية (1905) والجمعية الرياضية الإسلامية (1905) والمدرسة القرآنية العصرية (1906) والجمعية الرياضية والموسيقية الناصرية (1890) وصحيفة سبيل الرشاد (1905) للشيخ عبد العزيز الثعالبي والرشدية (1904) والصواب لمحمد الجعايبي (1904).
ونتيجة لهذا المد الثقافي زار بلادنا زعيم الحزب الوطني المصري محمد فريد 1902 وسجل لقاءاته ومشاهداته وانطباعاته في كتاب سماه "من مصر إلى مصر" فشجع ذلك الشيخ محمد عبده على زيارة تونس ثانية سنة 1903 فتجول في ربوعها وحاضر وتفاعل مع شيوخ جامع الزيتونة المعمور.
لقد بين الأستاذ البشير الشريف الدور الكبير الذي لعبته الزيتونة والمدرسة الصادقية من نشر للوعي في صفوف المواطنين إلى جانب الجمعيات التي قاومت المستعمر كجمعية الأوقاف التي تزعمها المناضل الكبير البشير صفر.
وكانت فرنسا تتصدى لكل التحركات الوطنية بل أغرت الشباب بفتح باب التجنيس بالجنسية الفرنسية لكل تونسي قضى ثلاث سنوات في خدمة الجيش الفرنسي أو أحرز على شهادة الدكتوراه من فرنسا لكن هذه المحاولة باءت بالفشل هي الأخرى فسعت إلى تحجير الصحف ومنع الاجتماعات وغلق المقاهي العربية وتحجير بيع السلاح وحمله.
وعمد المستعمر إلى إبعاد قادة الحركة الوطنية وعقلة مكاسبهم وبيعها.
ولكن هذا العسف لم يزد التونسيين إلا صلابة فتتالت الانتفاضات والثورات مثل ثورة خليفة بن عسكر وثورة الدغباجي وثورة البشير بن سديرة.
وفي هذا الخضم ظهرت الحركة النقابية خاصة مع عودة محمد علي الحامي من ألمانيا.
وقف الأستاذ البشير الشريف متأملا في كل ما يحدث في البلاد التونسية من أحداث سياسية واجتماعية ونقابية فسجلها وأبدى رأيه فيها.
وكان كلما حل بمنطقة من ترابنا التونسي تسلح بقلمه مسجلا كل ما يحدث هناك ويلقي المحاضرات معرفا بما مرت به بلادنا من نكسات في تاريخها الحديث ومنددا بالمناورات والمؤامرات التي مهدت إلى احتلال بلادنا ومنوها بالتعبئة والوعي الوطني من خلال الانتفاضات والحركة النقابية التي هزت أركان المستعمر.
كان الأستاذ البشير الشريف مناضلا في أكثر من حقل فهو مرب مخلص ونقابي صلب ومؤرخ ثابت ورجل دين متمرس وصحفي مثابر ومثقف لامع وسياسي محنك وتدفعه في كل ذلك وطنيته الفياضة التي انتحت العديد من المؤلفات ومازلنا ننتظر منه المزيد رغم تقدمه في السن أطال الله عمره وأمده بوافر الصحة.. إنه قدوة للشباب.
سجل تاريخه بأحرف من ذهب بفضل عمله الدؤوب وبحثه المتواصل وخير دليل على ذلك أن هذا الكتاب ألفه ثم أضاف إليه ونقحه رغم أنه نال به جائزة علي البلهوان لأحسن دراسة تاريخية لسنة 1976 وشرفه آنذاك الوزير الأول محمد مزالي رحمه الله بكتابة مقدمته.إنه كتاب مفيد للدارسين والأكاديين وعشاق التاريخ.
• أستاذ جامعي متقاعد
بقلم: الحبيب عليه(*)
صدر في الآونة الأخيرة كتاب بعنوان "أضواء على تاريخ تونس الحديث من بداية الحماية إلى بداية الحركة النقابية الأولى" (1881 ـ 1924) لمؤلفة الشيخ الأستاذ البشير الشريف وهو من مواليد 25 أوت 1929 بمدينة قفصة، حفظ ما تيسر من القرآن الكريم والتحق بالفرع الزيتوني بقفصة فالجامعة الزيتونية بالعاصمة حيث تحصل على الأهلية، وبعد ذلك انظم إلى سلك التعليم بداية من عام 1954 فجاب البلاد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا إلى أن أحيل على شرف المهنة سنة 1989.
"أضواء على تاريخ تونس الحديث" نال به الجائزة التقديرية الكبرى لمدينة تونس عام 1976 فعاد إليه بالتنقيح والإضافة وأصدره هذه السنة.. وهو كتاب يعكس مدى شغف صاحبه بالتاريخ وأخذ العبر منه خدمة لتونسنا الخضراء. فالكتاب رصد دقيق ومتابعة متأتية لوضع الإيالة التونسية في تلك الحقبة إذ مدح صاحبه رموز الحركة الوطنية أمثال البشير صفر ومحمد علي الحامي والمنصف باي وعلي باش حانبة وندد بمن باعوا ضمائرهم كبعض البايات ومصطفى ابن إسماعيل وبذلك يكون المؤلف قد خلد البطولات التي عرف بها الشغب التونسي ومن استشهدوا منه فداء لتونس.
لقد كان المؤلف منهجيا في تناوله لما أراد تبليغه إذ بدأ بظروف بسط الحماية الفرنسية على البلاد التونسية فأشار إلى احتلال الجزائر سنة 1830 وبذلك صارت فرنسا جارة لتونس فخشيت فرنسا أن تصبح تونس قاعدة لانطلاق حركة ثورية تهدد وجودها بالقطر الجزائري فبدأت تخطط لاحتلالها خاصة وأن تونس كانت في حالة من التدهور وانهيار نظام الحكم الأمر الذي جلب لها أطماع الدول الغربية كفرنسا وإيطاليا للاستفادة من موقعها وخيراتها.. تحدث المؤلف عن مؤتمر برلين المنعقد في 13 جويلية سنة 1879 برئاسة بسمار.
وبحضور نواب عن ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا وإيطاليا والإمبراطورية العثمانية وذلك من أجل قسمة ممتلكات الرجل المريض.
وقال آنذاك وزير خارجية انقلترا سالبوري Salisbury لرئيس وفد فرنسا: "افعلوا بتونس ما تريدون... لا يمكنكم ترك قرطاجنة للبرابرة"، في هذه الظروف الصعبة كان حكام تونس لا يفكرون إلا في مصالحكم والحفاظ على الكرسي على حساب الشعب فمصطفى من إسماعيل الجاهل تسلق السلم الوظيفي فتقلد رتبة فريق ثم أصبح عاملا على الوطن القبلي (واليا) ثم ولي وظيفة صاحب الطابع وفي يوم 25 أوت 1878 ارتقى إلى الوزارة الكبرى التي سعى إليها بشتى الطرق الوضيعة بل ظل يطمح إلى خلافة الباي، ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن حياته كانت شذوذا وفجورا وانحطاطا وسرقات أموال الدولة وإفشاء أسرار الدولة للمستعمر وتسهيل دخولها تحت الحماية الفرنسية طوعا وهنا تظاهر الباب بالغضب فأبرق إلى السلطان العثماني مقللا من أهمية دخول الجيش الفرنسي إلى التراب التونسي، بل ألقى المسؤولية على الجزائريين وشيئا فشيئا أصبح الصادق باي يتلقى الأوامر من فرنسا فيوقع على ما تتخذه من إجراءات أدت إلى استعمار تونس.
إذا كان الأستاذ البشير الشريف قد ندد بخيانة الباي وأبرز تواطؤ من باعوا ضمائرهم فإنه قد شدد على موقف النخبة الوطنية المستنيرة فأبرز كفاحهم ونضالهم وتضحياتهم وهجرة البعض منهم للتعريف بالقضية التونسية كمان أن البعثة الطالبية الأولى التي عادت من فرنسا قد قامت بجلب التأييد الأجنبي من أحرار العالم بما في ذلك أحرار فرنسا وفي تونس قام هؤلاء بتوعية الشعب فأسسوا الجمعيات مثل الجمعية الخلدونية...
وتوحدت جهود دعاة الإصلاح من زيتونيين وصادقيين من أجل خوض معركة النضال بواسطة القلم فتم إصدار جريدة الحاضرة سنة 1888 لنشر الوعي وتعريف المواطنين بحقوقهم وواجباتهم ومن هؤلاء نذكر مدير الجريدة الأستاذ علي بوشوشة ولجنة لامعة من رجالات النهضة كان من أبرزهم محمد البشير صفر والشيخ سالم بوحاجب والشيخ محمد السنوسي ومحمد القروي ومحمد الأصرم ومحمد بلخوجة وعلي الورداني وغيرهم... وكانت الصحافة همزة وصل بين مثقفي تونس ومثقفي مصر.
لقيت الصحافة المكتوبة بالعربية أو الفرنسية استحسان كل الدوائر لأنها ستمكن الطلبة من الاطلاع على ثقافة فرنسا وحضارتها لكن الجالية الفرنسية رأت فيها خطرا على وجودها خاصة وقد تكاثرت الجمعيات مثل الجمعية الخيرية الإسلامية (1905) والجمعية الرياضية الإسلامية (1905) والمدرسة القرآنية العصرية (1906) والجمعية الرياضية والموسيقية الناصرية (1890) وصحيفة سبيل الرشاد (1905) للشيخ عبد العزيز الثعالبي والرشدية (1904) والصواب لمحمد الجعايبي (1904).
ونتيجة لهذا المد الثقافي زار بلادنا زعيم الحزب الوطني المصري محمد فريد 1902 وسجل لقاءاته ومشاهداته وانطباعاته في كتاب سماه "من مصر إلى مصر" فشجع ذلك الشيخ محمد عبده على زيارة تونس ثانية سنة 1903 فتجول في ربوعها وحاضر وتفاعل مع شيوخ جامع الزيتونة المعمور.
لقد بين الأستاذ البشير الشريف الدور الكبير الذي لعبته الزيتونة والمدرسة الصادقية من نشر للوعي في صفوف المواطنين إلى جانب الجمعيات التي قاومت المستعمر كجمعية الأوقاف التي تزعمها المناضل الكبير البشير صفر.
وكانت فرنسا تتصدى لكل التحركات الوطنية بل أغرت الشباب بفتح باب التجنيس بالجنسية الفرنسية لكل تونسي قضى ثلاث سنوات في خدمة الجيش الفرنسي أو أحرز على شهادة الدكتوراه من فرنسا لكن هذه المحاولة باءت بالفشل هي الأخرى فسعت إلى تحجير الصحف ومنع الاجتماعات وغلق المقاهي العربية وتحجير بيع السلاح وحمله.
وعمد المستعمر إلى إبعاد قادة الحركة الوطنية وعقلة مكاسبهم وبيعها.
ولكن هذا العسف لم يزد التونسيين إلا صلابة فتتالت الانتفاضات والثورات مثل ثورة خليفة بن عسكر وثورة الدغباجي وثورة البشير بن سديرة.
وفي هذا الخضم ظهرت الحركة النقابية خاصة مع عودة محمد علي الحامي من ألمانيا.
وقف الأستاذ البشير الشريف متأملا في كل ما يحدث في البلاد التونسية من أحداث سياسية واجتماعية ونقابية فسجلها وأبدى رأيه فيها.
وكان كلما حل بمنطقة من ترابنا التونسي تسلح بقلمه مسجلا كل ما يحدث هناك ويلقي المحاضرات معرفا بما مرت به بلادنا من نكسات في تاريخها الحديث ومنددا بالمناورات والمؤامرات التي مهدت إلى احتلال بلادنا ومنوها بالتعبئة والوعي الوطني من خلال الانتفاضات والحركة النقابية التي هزت أركان المستعمر.
كان الأستاذ البشير الشريف مناضلا في أكثر من حقل فهو مرب مخلص ونقابي صلب ومؤرخ ثابت ورجل دين متمرس وصحفي مثابر ومثقف لامع وسياسي محنك وتدفعه في كل ذلك وطنيته الفياضة التي انتحت العديد من المؤلفات ومازلنا ننتظر منه المزيد رغم تقدمه في السن أطال الله عمره وأمده بوافر الصحة.. إنه قدوة للشباب.
سجل تاريخه بأحرف من ذهب بفضل عمله الدؤوب وبحثه المتواصل وخير دليل على ذلك أن هذا الكتاب ألفه ثم أضاف إليه ونقحه رغم أنه نال به جائزة علي البلهوان لأحسن دراسة تاريخية لسنة 1976 وشرفه آنذاك الوزير الأول محمد مزالي رحمه الله بكتابة مقدمته.إنه كتاب مفيد للدارسين والأكاديين وعشاق التاريخ.