إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قراءة أولى في خارطة الانتخابات في تركيا .. سارت السفينة كما شاءت حسابات اردوغان.. فهل يكسب رهان التحديات الكبرى القائمة؟

 

أردوغان زعيم محافظ أتقن فنون الرقص على حبال الأزمات في الداخل والخارج.. وخبر أسرار الاستثمار في الملفات والصراعات، تراجع عندما استوجب الأمر ذلك وكشر عن أنيابه متى أراد ذلك واستقطب الطبقات الشعبية..

 

تونس- الصباح

 من شرفة القصر الرئاسي الإمبراطوري الذي بات يعرف بقصر ألف بيت وبيت نسبة لعدد الغرف التي يحتويها، خاطب الرئيس التركي الفائز في الانتخابات الرئاسية أنصاره الذين تجمعوا للاحتفال بفوزه بولاية رئاسية جديدة، وحاول اردوغان في البداية تبني خطابا جامعا ونبرة متصالحة داعيا الأتراك إلى التضامن والاتحاد قبل أن يحيد عن ذلك ويسخر من منافسه مرددا "باي باي كمال" مذكرا في ذات الوقت الحضور بدعم المعارضة للمثليين وبرفضه لما يمس المرأة والأسرة ...

-السفن تجري بما يشتهي أردوغان

وفيما تتواتر على اردوغان بطاقات التهاني من الحلفاء وغير الحلفاء، تبقى أنظار العواصم الغربية موجه إلى أنقرة لفهم ما يمكن أن يطرأ على توجهات الرئيس القديم الجديد الذي فرض حتى الآن ديبلوماسية براغماتية وأبدى قدرة على الانحناء للعواصف إلى حين زوال مخاطرها والمبادرة بمصالحة خصوم الأمس متخليا عن خطابه الهجومي المتشنج، وهو ما حدث مع السعودية ومصر قبل أن يبادر بإرسال إشارات برغبته في طي صفحات الماضي والبحث عن جسور التطبيع مع الرياض والقاهرة وربما روسيا بحثا عن صفقات واستثمارات جديدة للاقتصاد التركي وبحثا أيضا عن دور إقليمي ودولي في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي وفي أوروبا وآسيا... فاردوغان الذي تعاطف مع أوكرانيا ودعم حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن سيادته رفض منطق العقوبات على روسيا ولم يتوان عن تعزيز العلاقات مع إيران.. وبرغم كل الانتقادات الموجهة له من خصومه خاصة بعد انقلاب 2016 الذي أطلق بمقتضاه اردوغان يده لضرب معارضيه بقبضة من حديد فان أنصاره يعتبرون أن فترة حكم اردوغان وهي الأطول مهدت للاستقرار في تركيا التي عرفت ثلاثة انقلابات عسكرية تلتها عمليات قمعية واسعة في 1960 و1971 و1980.

أردوغان زعيم إسلامي محافظ لا يخفي توجهاته أتقن فن الرقص على حبال الأزمات في الداخل والخارج... وخبر أسرار الاستثمار في الملفات والصراعات، تراجع عندما استوجب الأمر ذلك وكشر عن أنيابه متى أراد ذلك.. جعل لتركيا موقعا إقليميا ودوليا مهما استثمر في البنية التحتية وفي جعل بلاده قبلة سياحية... رغم الكارثة المدمرة التي اهتزت لها تركيا لم يفقد مساندة ناخبيه ولعل اردوغان من فئة الحكام الذين يعرفون كيف يسوقون لتجربتهم الشخصية كقصة نجاح في مجتمعهم فهو ابن الصياد الذي سيصبح رئيس بلدية اسطمبول ثم رئيس وزراء تركيا ثم رئيسها لثلاث ولايات متتالية ومن يدري فقد يجد اردوغان في الدستور الذي جعله على مقاسه لاعتماد نظام رئاسي بدل النظام البرلماني ما يؤهله للحكم مدى الحياة فالسلطة المطلقة لا تقبل قيودا ولا تخضع لمعارضة... ثم إن اردوغان كسب رهان الانتخابات التشريعية وحتى إن تراجعت الأرقام فان البرلمان سيكون في قبضته.. إلى أين ستتجه تركيا؟ وهل يندفع اردوغان منتشيا بانتصاره إلى تغيير ما فرضه كمال أتاتورك على المجتمع التركي من قوانين وضعيه تتعلق بالمساواة في الإرث وفي منع تعدد الزوجات وفي ضمان دولة تركيا العلمانية أم أنه سيكبح أحلامه؟ الأكيد أن ملفات كثيرة من الاقتصادي بالدرجة الأولى إلى الاجتماعي ومنه إلى الأزمات مع قبرص واليونان والأزمات المفتوحة مع العراق وسوريا إلى جانب السعي إلى دور إقليمي ودولي في الصراعات الكبرى في الأزمة الأوكرانية أو في توسيع الحلف الأطلسي، وتبقى الأنظار موجهة إلى أنقرة لاستقراء نوايا اردوغان وتوجهاته على وقع نظام عالمي لم يتضح بعد ...

تمكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من الفوز بولاية رئاسية  خماسية جديدة تأتي بعد مرحلة من الغموض والتشكيك بعد اللجوء ولأول مرة في تاريخ تركيا منذ مائة عام على تأسيس الجمهورية التركية على الذهاب إلى دورة انتخابية ثانية مع تقدم المعارضة بزعامة كمال كليتشار أوغلو التي استطاعت تجاوز الكثير من الحواجز قبل أن يفشل في الأمتار الأخيرة في إزاحة الرئيس المتخلي أردوغان وهو السياسي المتمرس الذي بات يوصف بالثعلب السياسي في الداخل والخارج لا سيما وأنه خبر السياسة طوال أكثر من ربع قرن ليفرض بالتالي سلطانه ويدشن مائوية تركيا الثانية على وقع انقسام واستقطاب غير مسبوق في المجتمع التركي وفق ما أظهرته لغة الأرقام.

-ماذا تحمل لغة الأرقام؟

ولعل نظرة أولى على نتائج هذه الانتخابات التي تابعتها مختلف عواصم العالم سواء الحليفة لاردوغان أو غير الحليفة، وأول هذه الأرقام ما يتعلق بنسبة المشاركة التي بلغت. 

في الجولة الثانية والأخيرة 84.22%، بما يعكس انخراط الأتراك بمختلف توجهاتهم في المشهد السياسي للمشاركة في هذه العملية الانتخابية التي تعزز شرعية اردوغان لدى أنصاره.. وفيما يتعلق بنتائج التصويت فقد حصل اردوغان في الجولة التي أُجريت يوم 14 ماي على 27.13 مليون صوت في حين حصل منافسه كليتشار على 24.60 مليون صوت، بحسب النتائج الرسمية الصادرة عن الهيئة العليا للانتخابات في تركيا. وأدعى عدم فوز أي من المترشحين على أكثر من 50% من الأصوات إلى تنظيم جولة ثانية بفاصل أسبوعين يوم 28 ماي. وبلغت نسبة المشاركة في الجولة الأولى 87.04%.

وفي الجولة الثانية أول أمس، وبحسب وكالة أنباء الأناضول الرسمية، حصل أردوغان على 27.73 مليون صوت، أي 52.60% من مجمل الأصوات، بينما حصل كليجدار أوغلو على 25.43 مليون صوت. أي 47.40وبلغت نسبة المشاركة في الجولة الثانية 84.22%.. وبذلك يهيمن أردوغان على الرئاسية والتشريعية حيث، فاز حزبه العدالة والتنمية بنسبة 35.61% من الأصوات، متراجعا نحو سبع نقاط عن انتخابات 2018. لكن تحالفه، الذي يضم كذلك حزب الحركة القومية، احتفظ بأغلبية برلمانية مريحة.

 لا خلاف أن فوز أردوغان بخمس سنوات أخرى في الحكم إلى غاية 2028 يمثل ضربة قوية لخصومه الأتراك الذين يتهمونه بتقويض الديمقراطية وضرب الحريات والتضييق على المعارضة... كما يعزز فوز اردوغان  أيضا فرصته في إحياء ما يتطلع إليه من هيمنة ونفوذ بإعادة إحياء نجم الإمبراطورية العثمانية الذي أفل وتقديم نفسه كزعيم للعالم الإسلامي لأحد مسارات الإسلام السياسي المتبقي إلى جانب إيران بعد فشل التجارب السابقة وانهيارها في مختلف دول الربيع العربي ...

-تحديات كبرى

على أن هذه التقدم الواضح لاردوغان في الانتخابات الرئاسية  بعد عشرين سنة قضاها في السلطة يضعه أمام قائمة من التحديات  الداخلية والخارجية. ويأتي هذا الانتصار فيما يسجل الاقتصاد التركي ركودا غير مسبوق مع انهيار الليرة وتفاقم التضخم وارتفاع الأسعار فضلا عن تداعيات كارثة الزلزال المدمر الذي هز سوريا وتركيا وأدى إلى مقتل أكثر من مائة وخمسين ألفا في تركيا وتشريد الآلاف ليكشف عن مدى استفحال الفساد الإداري وفساد مقاولين والمتاجرين بحياة البشر مع انهيار آلاف المباني في لحظات خلال الزلزال كما تنهار القصور الرملية... بما يجعل المعركة الاقتصادية الأهم أمام اردوغان لاستعادة ثقة الرأي العام المنقسم إلى جانب ملف اللاجئين الذي كان من ابرز عناوين الحملات الانتخابية لمختلف المترشحين.. ولاشك أن تركيا بلد الـ85 مليون نسمة والعضو في الحلف الأطلسي تبقى لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط وفي المتوسط كما في القارة الإفريقية مع دخول تركيا أردوغان سباق التنافس على موطئ قدم في السوق الإفريقية الواعدة ...

وقد حاز اردوغان بتهاني مختلف قادة العالم بدءا بالحليف القطري الذي يعول عليه اردوغان لتمويل إعادة اعمار ما هدمه الزلزال مرورا بموسكو الداعم لاردوغان وواشنطن التي طالما انتقدت مسار الديموقراطية للرئيس التركي وضربه النخب والحقوقيين والمعارضة وصولا إلى دول الحلف الأطلسي والأمم المتحدة ...

ويعتبر ملاحظون أن أول اختبار لنوايا اردوغان سيتضح خلال قمة الأطلسي التي تعقد في جويلية القادم في فيلنيوس في لتوانيا عندما يطلب منه التخلي عن حق النقض الذي استخدمته تركيا ضد انضمام السويد للناتو، كما سبق ورفعت تركيا الحظر على فنلندا.. وتبقى ورقة الأكراد من أكثر الملفات التي لا تقبل فيها تركيا التنازل... هيمنة اردوغان على الآلة الدعائية التركية إلى جانب الهيمنة على اغلب وسائل الإعلام عقدت مهمة المعارضة بزعامة  كليتشدار أوغلو الذي انتقد سطوة الرئيس المتخلي على 90 بالمائة منها، بما فيها تلفزيون الدولة الرسمي، فضلاً عن الإمكانات الهائلة لأجهزة الدولة والوزارات والولاة الذين تقول المعارضة إنهم قدموا دعماً غير محدود لاردوغان ويحسب له انه في العقد الأول من حكمه انضمت تركيا إلى مجموعة الدول العشرين الأكثر ثراءً. وهو من عمل على تحديث البلاد بتشييد مطارات وطرق وجسور ومستشفيات وجامعات وفنادق تضاهي أو تفوق أحيانا ما يتوفر في الغرب ...

-المعارضة والدرس الذي لم تنتبه له

خاضت المعارضة المعركة الانتخابية بإعلان الائتلاف السداسي أو ما سمي بـ"تحالف الأمة" الذي يشمل أحزاب المعارضة الرئيسيّة وهي: حزب الشعب الجمهوري، الحزب الجديد، حزب السعادة، حزب المستقبل، حزب التقدم والديمقراطية والحزب الديمقراطي. إلا أن المعارضة التي حققت نتائج مهمة في الجولة الأولى فشلت في كسب الرهان وسقطت في الاختبار بعد أن رفعت راية إعادة النظام البرلماني.. ويبدو أن الخطأ الأكبر للمعارضة فشلها في اختيار مرشح من جيل الشباب ويتمتع بالكاريزما وله ما يكفي من الخبرة السياسية على استقطاب الأجيال الجديدة وقادر على تحشيد الناخبين ثم إن الخلافات التي تسربت من داخل أحزاب المعارضة أو ائتلاف الأمة كان لها دورها في قطع الطريق أمام المعارضة العلمانية الحداثة في مجتمع محافظ... ولاشك أن أنصار اردوغان يجدون في مسيرة الرجل الذي يقدم نفسه على انه ابن الشعب الذي سجن بسبب قصيدة ثم دخل عالم السياسة ليمضي من رئيس بلدية إلى رئيس وزراء فرئيس للجمهورية ما جعل له موقع في الأوساط الشعبية ...

اسيا العتروس

قراءة أولى في خارطة الانتخابات في تركيا ..  سارت السفينة كما شاءت حسابات اردوغان.. فهل يكسب رهان التحديات الكبرى القائمة؟

 

أردوغان زعيم محافظ أتقن فنون الرقص على حبال الأزمات في الداخل والخارج.. وخبر أسرار الاستثمار في الملفات والصراعات، تراجع عندما استوجب الأمر ذلك وكشر عن أنيابه متى أراد ذلك واستقطب الطبقات الشعبية..

 

تونس- الصباح

 من شرفة القصر الرئاسي الإمبراطوري الذي بات يعرف بقصر ألف بيت وبيت نسبة لعدد الغرف التي يحتويها، خاطب الرئيس التركي الفائز في الانتخابات الرئاسية أنصاره الذين تجمعوا للاحتفال بفوزه بولاية رئاسية جديدة، وحاول اردوغان في البداية تبني خطابا جامعا ونبرة متصالحة داعيا الأتراك إلى التضامن والاتحاد قبل أن يحيد عن ذلك ويسخر من منافسه مرددا "باي باي كمال" مذكرا في ذات الوقت الحضور بدعم المعارضة للمثليين وبرفضه لما يمس المرأة والأسرة ...

-السفن تجري بما يشتهي أردوغان

وفيما تتواتر على اردوغان بطاقات التهاني من الحلفاء وغير الحلفاء، تبقى أنظار العواصم الغربية موجه إلى أنقرة لفهم ما يمكن أن يطرأ على توجهات الرئيس القديم الجديد الذي فرض حتى الآن ديبلوماسية براغماتية وأبدى قدرة على الانحناء للعواصف إلى حين زوال مخاطرها والمبادرة بمصالحة خصوم الأمس متخليا عن خطابه الهجومي المتشنج، وهو ما حدث مع السعودية ومصر قبل أن يبادر بإرسال إشارات برغبته في طي صفحات الماضي والبحث عن جسور التطبيع مع الرياض والقاهرة وربما روسيا بحثا عن صفقات واستثمارات جديدة للاقتصاد التركي وبحثا أيضا عن دور إقليمي ودولي في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي وفي أوروبا وآسيا... فاردوغان الذي تعاطف مع أوكرانيا ودعم حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن سيادته رفض منطق العقوبات على روسيا ولم يتوان عن تعزيز العلاقات مع إيران.. وبرغم كل الانتقادات الموجهة له من خصومه خاصة بعد انقلاب 2016 الذي أطلق بمقتضاه اردوغان يده لضرب معارضيه بقبضة من حديد فان أنصاره يعتبرون أن فترة حكم اردوغان وهي الأطول مهدت للاستقرار في تركيا التي عرفت ثلاثة انقلابات عسكرية تلتها عمليات قمعية واسعة في 1960 و1971 و1980.

أردوغان زعيم إسلامي محافظ لا يخفي توجهاته أتقن فن الرقص على حبال الأزمات في الداخل والخارج... وخبر أسرار الاستثمار في الملفات والصراعات، تراجع عندما استوجب الأمر ذلك وكشر عن أنيابه متى أراد ذلك.. جعل لتركيا موقعا إقليميا ودوليا مهما استثمر في البنية التحتية وفي جعل بلاده قبلة سياحية... رغم الكارثة المدمرة التي اهتزت لها تركيا لم يفقد مساندة ناخبيه ولعل اردوغان من فئة الحكام الذين يعرفون كيف يسوقون لتجربتهم الشخصية كقصة نجاح في مجتمعهم فهو ابن الصياد الذي سيصبح رئيس بلدية اسطمبول ثم رئيس وزراء تركيا ثم رئيسها لثلاث ولايات متتالية ومن يدري فقد يجد اردوغان في الدستور الذي جعله على مقاسه لاعتماد نظام رئاسي بدل النظام البرلماني ما يؤهله للحكم مدى الحياة فالسلطة المطلقة لا تقبل قيودا ولا تخضع لمعارضة... ثم إن اردوغان كسب رهان الانتخابات التشريعية وحتى إن تراجعت الأرقام فان البرلمان سيكون في قبضته.. إلى أين ستتجه تركيا؟ وهل يندفع اردوغان منتشيا بانتصاره إلى تغيير ما فرضه كمال أتاتورك على المجتمع التركي من قوانين وضعيه تتعلق بالمساواة في الإرث وفي منع تعدد الزوجات وفي ضمان دولة تركيا العلمانية أم أنه سيكبح أحلامه؟ الأكيد أن ملفات كثيرة من الاقتصادي بالدرجة الأولى إلى الاجتماعي ومنه إلى الأزمات مع قبرص واليونان والأزمات المفتوحة مع العراق وسوريا إلى جانب السعي إلى دور إقليمي ودولي في الصراعات الكبرى في الأزمة الأوكرانية أو في توسيع الحلف الأطلسي، وتبقى الأنظار موجهة إلى أنقرة لاستقراء نوايا اردوغان وتوجهاته على وقع نظام عالمي لم يتضح بعد ...

تمكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من الفوز بولاية رئاسية  خماسية جديدة تأتي بعد مرحلة من الغموض والتشكيك بعد اللجوء ولأول مرة في تاريخ تركيا منذ مائة عام على تأسيس الجمهورية التركية على الذهاب إلى دورة انتخابية ثانية مع تقدم المعارضة بزعامة كمال كليتشار أوغلو التي استطاعت تجاوز الكثير من الحواجز قبل أن يفشل في الأمتار الأخيرة في إزاحة الرئيس المتخلي أردوغان وهو السياسي المتمرس الذي بات يوصف بالثعلب السياسي في الداخل والخارج لا سيما وأنه خبر السياسة طوال أكثر من ربع قرن ليفرض بالتالي سلطانه ويدشن مائوية تركيا الثانية على وقع انقسام واستقطاب غير مسبوق في المجتمع التركي وفق ما أظهرته لغة الأرقام.

-ماذا تحمل لغة الأرقام؟

ولعل نظرة أولى على نتائج هذه الانتخابات التي تابعتها مختلف عواصم العالم سواء الحليفة لاردوغان أو غير الحليفة، وأول هذه الأرقام ما يتعلق بنسبة المشاركة التي بلغت. 

في الجولة الثانية والأخيرة 84.22%، بما يعكس انخراط الأتراك بمختلف توجهاتهم في المشهد السياسي للمشاركة في هذه العملية الانتخابية التي تعزز شرعية اردوغان لدى أنصاره.. وفيما يتعلق بنتائج التصويت فقد حصل اردوغان في الجولة التي أُجريت يوم 14 ماي على 27.13 مليون صوت في حين حصل منافسه كليتشار على 24.60 مليون صوت، بحسب النتائج الرسمية الصادرة عن الهيئة العليا للانتخابات في تركيا. وأدعى عدم فوز أي من المترشحين على أكثر من 50% من الأصوات إلى تنظيم جولة ثانية بفاصل أسبوعين يوم 28 ماي. وبلغت نسبة المشاركة في الجولة الأولى 87.04%.

وفي الجولة الثانية أول أمس، وبحسب وكالة أنباء الأناضول الرسمية، حصل أردوغان على 27.73 مليون صوت، أي 52.60% من مجمل الأصوات، بينما حصل كليجدار أوغلو على 25.43 مليون صوت. أي 47.40وبلغت نسبة المشاركة في الجولة الثانية 84.22%.. وبذلك يهيمن أردوغان على الرئاسية والتشريعية حيث، فاز حزبه العدالة والتنمية بنسبة 35.61% من الأصوات، متراجعا نحو سبع نقاط عن انتخابات 2018. لكن تحالفه، الذي يضم كذلك حزب الحركة القومية، احتفظ بأغلبية برلمانية مريحة.

 لا خلاف أن فوز أردوغان بخمس سنوات أخرى في الحكم إلى غاية 2028 يمثل ضربة قوية لخصومه الأتراك الذين يتهمونه بتقويض الديمقراطية وضرب الحريات والتضييق على المعارضة... كما يعزز فوز اردوغان  أيضا فرصته في إحياء ما يتطلع إليه من هيمنة ونفوذ بإعادة إحياء نجم الإمبراطورية العثمانية الذي أفل وتقديم نفسه كزعيم للعالم الإسلامي لأحد مسارات الإسلام السياسي المتبقي إلى جانب إيران بعد فشل التجارب السابقة وانهيارها في مختلف دول الربيع العربي ...

-تحديات كبرى

على أن هذه التقدم الواضح لاردوغان في الانتخابات الرئاسية  بعد عشرين سنة قضاها في السلطة يضعه أمام قائمة من التحديات  الداخلية والخارجية. ويأتي هذا الانتصار فيما يسجل الاقتصاد التركي ركودا غير مسبوق مع انهيار الليرة وتفاقم التضخم وارتفاع الأسعار فضلا عن تداعيات كارثة الزلزال المدمر الذي هز سوريا وتركيا وأدى إلى مقتل أكثر من مائة وخمسين ألفا في تركيا وتشريد الآلاف ليكشف عن مدى استفحال الفساد الإداري وفساد مقاولين والمتاجرين بحياة البشر مع انهيار آلاف المباني في لحظات خلال الزلزال كما تنهار القصور الرملية... بما يجعل المعركة الاقتصادية الأهم أمام اردوغان لاستعادة ثقة الرأي العام المنقسم إلى جانب ملف اللاجئين الذي كان من ابرز عناوين الحملات الانتخابية لمختلف المترشحين.. ولاشك أن تركيا بلد الـ85 مليون نسمة والعضو في الحلف الأطلسي تبقى لاعبا أساسيا في الشرق الأوسط وفي المتوسط كما في القارة الإفريقية مع دخول تركيا أردوغان سباق التنافس على موطئ قدم في السوق الإفريقية الواعدة ...

وقد حاز اردوغان بتهاني مختلف قادة العالم بدءا بالحليف القطري الذي يعول عليه اردوغان لتمويل إعادة اعمار ما هدمه الزلزال مرورا بموسكو الداعم لاردوغان وواشنطن التي طالما انتقدت مسار الديموقراطية للرئيس التركي وضربه النخب والحقوقيين والمعارضة وصولا إلى دول الحلف الأطلسي والأمم المتحدة ...

ويعتبر ملاحظون أن أول اختبار لنوايا اردوغان سيتضح خلال قمة الأطلسي التي تعقد في جويلية القادم في فيلنيوس في لتوانيا عندما يطلب منه التخلي عن حق النقض الذي استخدمته تركيا ضد انضمام السويد للناتو، كما سبق ورفعت تركيا الحظر على فنلندا.. وتبقى ورقة الأكراد من أكثر الملفات التي لا تقبل فيها تركيا التنازل... هيمنة اردوغان على الآلة الدعائية التركية إلى جانب الهيمنة على اغلب وسائل الإعلام عقدت مهمة المعارضة بزعامة  كليتشدار أوغلو الذي انتقد سطوة الرئيس المتخلي على 90 بالمائة منها، بما فيها تلفزيون الدولة الرسمي، فضلاً عن الإمكانات الهائلة لأجهزة الدولة والوزارات والولاة الذين تقول المعارضة إنهم قدموا دعماً غير محدود لاردوغان ويحسب له انه في العقد الأول من حكمه انضمت تركيا إلى مجموعة الدول العشرين الأكثر ثراءً. وهو من عمل على تحديث البلاد بتشييد مطارات وطرق وجسور ومستشفيات وجامعات وفنادق تضاهي أو تفوق أحيانا ما يتوفر في الغرب ...

-المعارضة والدرس الذي لم تنتبه له

خاضت المعارضة المعركة الانتخابية بإعلان الائتلاف السداسي أو ما سمي بـ"تحالف الأمة" الذي يشمل أحزاب المعارضة الرئيسيّة وهي: حزب الشعب الجمهوري، الحزب الجديد، حزب السعادة، حزب المستقبل، حزب التقدم والديمقراطية والحزب الديمقراطي. إلا أن المعارضة التي حققت نتائج مهمة في الجولة الأولى فشلت في كسب الرهان وسقطت في الاختبار بعد أن رفعت راية إعادة النظام البرلماني.. ويبدو أن الخطأ الأكبر للمعارضة فشلها في اختيار مرشح من جيل الشباب ويتمتع بالكاريزما وله ما يكفي من الخبرة السياسية على استقطاب الأجيال الجديدة وقادر على تحشيد الناخبين ثم إن الخلافات التي تسربت من داخل أحزاب المعارضة أو ائتلاف الأمة كان لها دورها في قطع الطريق أمام المعارضة العلمانية الحداثة في مجتمع محافظ... ولاشك أن أنصار اردوغان يجدون في مسيرة الرجل الذي يقدم نفسه على انه ابن الشعب الذي سجن بسبب قصيدة ثم دخل عالم السياسة ليمضي من رئيس بلدية إلى رئيس وزراء فرئيس للجمهورية ما جعل له موقع في الأوساط الشعبية ...

اسيا العتروس