*منظومة الاستلاب هذه ساعدت على ميلاد اعتقادات وتصورات خاطئة بلا حدود لدى التونسيات والتونسيين بالنسبة لعلاقتهم بلغتهم الوطنية
الرئيس الحبيب بورقيبة خاطب الرؤساء الأمريكيين والألمان باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية و يكتب معظم التونسيات والتونسيين شيكاتهم البنكية باللغة الفرنسية وتستعمل أغلبية التونسيات الفرنسية في الحديث عن الألوان ويدرس التلاميذ التونسيون العلوم بالفرنسية ابتداء من المرحلة الثانوية ولا يحتج معظم التونسيات والتونسيين على اللافتات المكتوبة باللغة الفرنسية فقط، والأمثلة على الاستلاب اللغوي لا تُحصى في البلاد التونسية.
تشويش علاقة الأطفال مع العربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية/الوطنية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من اللغة العربية/الوطنية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية أو لغة الأم (الدارجة التونسية النقية من كلمات لغة المستعمِر وغيره). تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
ميلاد التصورات والاعتقادات الخاطئة
فمنظومة الاستلاب هذه ساعدت على ميلاد اعتقادات وتصورات خاطئة بلا حدود لدى التونسيات والتونسيين بالنسبة لعلاقتهم بلغتهم الوطنية الأمر الذي جعل أنه لا تكاد توجد خطوط حمراء بالنسبة لما يمكن أن يعتقد فيه عامة وخاصة الناس من هؤلاء. أي أن الظروف والعوامل المختلفة قادرة على تشكيل تصورات واعتقادات الأفراد والجماعات والمجتمعات كما تشاء تقريبا . وبعبارة أخرى، فكل شيء مباح في دنيا التصورات والاعتقادات. مثلا، فأغلبية التونسيات والتونسيين يعتقدون أن كتابتهم لشيكاتهم البنكية بالحروف اللاتينية وليس بالحروف العربية هو السلوك الصحيح الذي لا عيب فيه لأنهم يعتقدون أنه سلوك يرمز إلى التحضر والتقدم ولبّ الحياة العصرية.بينما يُبطل التحليل الموضوعي أُسسَ تلك الاعتقادات والتصورات الواهية . فكتابة الشيك بالحروف العربية ب 100 دينارا يساوي بالضبط 100 دينارا عندما تُكُتب بحروف لاتينية. ومن جهة أخرى، فواقع التقدم والحداثة والتحضر يتمثل بالأحرى في الالتزام بالعمل واحترام الوقت والإنجاز الكبير والقيّم في جميع الميادين وليس في مجرد استعمال لغة المستعمر أو غيرها من اللغات الأجنبية . فاحتضان التصورات والاعتقادات الخاطئة والباطلة يجعل معظم الشعب التونسي ضحية تغلب عليها السذاجة وضُعف الوعي والإدراك الذكيّ لحقائق الأمور. أي أن منظومة الاستلاب اللغوي جعلته شعبا " يعديوها عليه بسهولة" كما نقول في اللهجة العامية التونسية.
الحجر اللغوي وما أدراك ؟
فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمر ظاهرة الاستلاب اللغوي لدى القمة والقاعدة ومن بينهما بعد أكثر من 60 سنة بعد ' الاستقلال ' ؟ نجيب على السؤال بطرح فكرة أو مفهوم أو نظرية لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، و تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة واحترامها أكثر من غيرها، من جهة أخرى. يمكن تطبيق هذا الطرح الفكري المفاهيمي والنظري على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما العربية اللغة الوطنية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة فقط هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث.
نكتفي بذكر مثالين للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:
1-إن خريجي التعليم التونسي في ما سُمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون من تلك الشعبة جميع المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
2-أما خريجو بقية نظام التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين- فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا في الماضي أو يدرسون في الحاضر باللغة الفرنسية فقط ابتداء من المرحلة الثانوية ما يسمى بالمواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكمياء والعلوم الطبيعية.
إذن، فالتكوين اللغوي لهذين الصنفين من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذي أدى إلى الفرق بينهما في علاقتهما باللغة الوطنية/العربية. فمن ناحية، يُدافع خريجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتوني بشدة عن حق المجتمع التونسي في استعمال لغته العربية وعدم السماح للغات الأجنبية بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتصف "الحداثيون" التونسيون الفاقدون لنظام تعليم الحجر اللغوي بموقف متذبذب نحو منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية بالمجتمع التونسي. وبالتالي، فهم لا يكادون يؤمنون ويتصرفون لصالح حق المجتمع التونسي الكامل في استعمال فقط لغته الوطنية/العربية في جميع شؤونه على أرضه. وللشفافية العلمية ولتسمية الأشياء بأسمائها يجب القول بأن التجربة التونسية في تعلّم لغة المستعمر في عهديْ الاحتلال والاستقلال تُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنها عامل تشويش في أحسن الأحوال واستلاب في حالات أخرى كثيرة ينْقَضُّ على اللغة العربية لدى عديد من المتعلمين وبين معظم المثقفين الفاقدين للحجر اللغوي. يشخص رفييل بتاي مؤلف كتاب العقل العربي 1983 آثار التعليم المزدوج اللغة (الفاقد للحجر اللغوي) المتحيز للفرنسية وثقافتها في مجتمعات المغرب العربي. فوجد أنها تؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى الخريجين: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
بيت القصيد لعبر الحجر اللغوي
فحسب المعالم المبيًّنة أعلاه، تكشف الموضوعية أن تعلّم اللغة الأجنبية/الفرنسية بالطريقة التونسية (غياب الحجر اللغوي الذي يعني هنا التدريس باللغة العربية فقط حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل لكن الانفتاح الكامل على تعلم اللغات الأجنبية ) في عهد الاستقلال أمر غير سليم بالنسبة للمحافظة على اللغة العربية كحق سيادة وتحرر للمجتمع التونسي. وهكذا يتضح أن سلب حق المجتمع التونسي في لغته هو حصيلة لتآمر مزدوج: خارجي وداخلي تقوده النخب "الحداثية" الفاقدة للحجر اللغوي.
*عالم الاجتماع – تونس
بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي (*)
*منظومة الاستلاب هذه ساعدت على ميلاد اعتقادات وتصورات خاطئة بلا حدود لدى التونسيات والتونسيين بالنسبة لعلاقتهم بلغتهم الوطنية
الرئيس الحبيب بورقيبة خاطب الرؤساء الأمريكيين والألمان باللغة الفرنسية بدلا عن اللغة العربية/الوطنية و يكتب معظم التونسيات والتونسيين شيكاتهم البنكية باللغة الفرنسية وتستعمل أغلبية التونسيات الفرنسية في الحديث عن الألوان ويدرس التلاميذ التونسيون العلوم بالفرنسية ابتداء من المرحلة الثانوية ولا يحتج معظم التونسيات والتونسيين على اللافتات المكتوبة باللغة الفرنسية فقط، والأمثلة على الاستلاب اللغوي لا تُحصى في البلاد التونسية.
تشويش علاقة الأطفال مع العربية
لا يكاد يتحدث أحد في المجتمع التونسي عن المضار التي تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية/الوطنية في الروضات. فعلم النفس يؤكد أن السنَّ المبكرة هي المرحلة المثالية التي يكسب فيها الطفلُ علاقة سليمة وحميمة مع لغته إذا لم يتدخل تعلّمُ لغات أخرى في ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سنّ الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلّة أن جلُّ النساء المدرّسات في الروضات يملْن إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والانكليزية وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتين اللغتين أفضل من اللغة العربية/الوطنية. إن هذا السلوك اللغوي النسائي المتحيز للغات الأجنبية ليس بالأمر المفاجئ بالنسبة لتفسير هذه الظاهرة. يتمثل تفسيرنا الخاص في أن موقع المرأة في شبكة ثلاثية ( الفرنسي والتونسي والتونسية) يدفعها إلى التحيّز إلى اللغة الفرنسية وغيرها. يأتي هذا من أنها تحتل المكانة السفلى في تلك الشبكة الثلاثية حيث يكون الفرنسي/الفرنسية في المكانة العليا والتونسي في المرتبة الثانية والتونسية في المكانة الأخيرة. ولرفع موقعها تلجأ إلى أدوات رمزية تعتقد أنها تحسّن من وضعها الاجتماعي وتُكسبها معالم الحداثة والتقدّم وهي استعمال اللغة الفرنسية شفويا وكتابة أكثر من التونسي وبنبرة باريسية. ومن ثم، يُنتظر أن يؤثر ذلك السلوك سلبا على علاقة هؤلاء الأطفال بلغتهم الوطنية أو لغة الأم (الدارجة التونسية النقية من كلمات لغة المستعمِر وغيره). تمثل هذه السلوكيات اللغوية التونسية من الروضات إلى أعلى السلطات ما ينبغي تسميتها منظومة الاستلاب اللغوي في القمة والقاعدة ومن بينهما ولدى الكبار والصغار في المجتمع التونسي بعد أكثر من نصف قرن من 'الاستقلال'.
ميلاد التصورات والاعتقادات الخاطئة
فمنظومة الاستلاب هذه ساعدت على ميلاد اعتقادات وتصورات خاطئة بلا حدود لدى التونسيات والتونسيين بالنسبة لعلاقتهم بلغتهم الوطنية الأمر الذي جعل أنه لا تكاد توجد خطوط حمراء بالنسبة لما يمكن أن يعتقد فيه عامة وخاصة الناس من هؤلاء. أي أن الظروف والعوامل المختلفة قادرة على تشكيل تصورات واعتقادات الأفراد والجماعات والمجتمعات كما تشاء تقريبا . وبعبارة أخرى، فكل شيء مباح في دنيا التصورات والاعتقادات. مثلا، فأغلبية التونسيات والتونسيين يعتقدون أن كتابتهم لشيكاتهم البنكية بالحروف اللاتينية وليس بالحروف العربية هو السلوك الصحيح الذي لا عيب فيه لأنهم يعتقدون أنه سلوك يرمز إلى التحضر والتقدم ولبّ الحياة العصرية.بينما يُبطل التحليل الموضوعي أُسسَ تلك الاعتقادات والتصورات الواهية . فكتابة الشيك بالحروف العربية ب 100 دينارا يساوي بالضبط 100 دينارا عندما تُكُتب بحروف لاتينية. ومن جهة أخرى، فواقع التقدم والحداثة والتحضر يتمثل بالأحرى في الالتزام بالعمل واحترام الوقت والإنجاز الكبير والقيّم في جميع الميادين وليس في مجرد استعمال لغة المستعمر أو غيرها من اللغات الأجنبية . فاحتضان التصورات والاعتقادات الخاطئة والباطلة يجعل معظم الشعب التونسي ضحية تغلب عليها السذاجة وضُعف الوعي والإدراك الذكيّ لحقائق الأمور. أي أن منظومة الاستلاب اللغوي جعلته شعبا " يعديوها عليه بسهولة" كما نقول في اللهجة العامية التونسية.
الحجر اللغوي وما أدراك ؟
فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمر ظاهرة الاستلاب اللغوي لدى القمة والقاعدة ومن بينهما بعد أكثر من 60 سنة بعد ' الاستقلال ' ؟ نجيب على السؤال بطرح فكرة أو مفهوم أو نظرية لا تكاد تخطر على بال الخاصة ناهيك عن العامة. تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية.. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، و تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية في الحديث والكتابة واحترامها أكثر من غيرها، من جهة أخرى. يمكن تطبيق هذا الطرح الفكري المفاهيمي والنظري على نظام التعليم التونسي. لقد تبنى نظام التعليم في المدارس التونسية نمطين في لغة التدريس: 1- التدريس بلغتين هما العربية اللغة الوطنية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية في مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2- التدريس بلغة واحدة فقط هي اللغة العربية في تلك المراحل الثلاث.
نكتفي بذكر مثالين للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:
1-إن خريجي التعليم التونسي في ما سُمى 'شعبة أ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون من تلك الشعبة جميع المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.
2-أما خريجو بقية نظام التعليم التونسي – وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين- فهم فاقدون للحجر اللغوي، أي أنهم درسوا في الماضي أو يدرسون في الحاضر باللغة الفرنسية فقط ابتداء من المرحلة الثانوية ما يسمى بالمواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكمياء والعلوم الطبيعية.
إذن، فالتكوين اللغوي لهذين الصنفين من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذي أدى إلى الفرق بينهما في علاقتهما باللغة الوطنية/العربية. فمن ناحية، يُدافع خريجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتوني بشدة عن حق المجتمع التونسي في استعمال لغته العربية وعدم السماح للغات الأجنبية بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتصف "الحداثيون" التونسيون الفاقدون لنظام تعليم الحجر اللغوي بموقف متذبذب نحو منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية بالمجتمع التونسي. وبالتالي، فهم لا يكادون يؤمنون ويتصرفون لصالح حق المجتمع التونسي الكامل في استعمال فقط لغته الوطنية/العربية في جميع شؤونه على أرضه. وللشفافية العلمية ولتسمية الأشياء بأسمائها يجب القول بأن التجربة التونسية في تعلّم لغة المستعمر في عهديْ الاحتلال والاستقلال تُبيّن بما لا يدع مجالا للشك أنها عامل تشويش في أحسن الأحوال واستلاب في حالات أخرى كثيرة ينْقَضُّ على اللغة العربية لدى عديد من المتعلمين وبين معظم المثقفين الفاقدين للحجر اللغوي. يشخص رفييل بتاي مؤلف كتاب العقل العربي 1983 آثار التعليم المزدوج اللغة (الفاقد للحجر اللغوي) المتحيز للفرنسية وثقافتها في مجتمعات المغرب العربي. فوجد أنها تؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى الخريجين: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
بيت القصيد لعبر الحجر اللغوي
فحسب المعالم المبيًّنة أعلاه، تكشف الموضوعية أن تعلّم اللغة الأجنبية/الفرنسية بالطريقة التونسية (غياب الحجر اللغوي الذي يعني هنا التدريس باللغة العربية فقط حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل لكن الانفتاح الكامل على تعلم اللغات الأجنبية ) في عهد الاستقلال أمر غير سليم بالنسبة للمحافظة على اللغة العربية كحق سيادة وتحرر للمجتمع التونسي. وهكذا يتضح أن سلب حق المجتمع التونسي في لغته هو حصيلة لتآمر مزدوج: خارجي وداخلي تقوده النخب "الحداثية" الفاقدة للحجر اللغوي.