إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي | البشير بن سلامة المفكر الوطني: تلميذ شارل أندري جوليان وبورقيبة ورفيق محمد مزالي

 

بقلم: كمال بن يونس

عرفت مثل أبناء جيلي الكاتب والمثقف والمفكر البشير بن سلامة (1931 – 2023 ) ورفيق دربه الأستاذ محمد مزالي ( 1925-2010 ) في الكتاب المدرسي ، عبر نصوصهما المشتركة ، المقتبسة من مجلة " الفكر" التي قادا مسيرتها منذ استقلال البلاد عن فرنسا حتى 1986 .

وعرفناه مع محمد مزالي من خلال ما كانت تتضمنه الكتب المدرسية من مختارات من ترجمتهما للكتاب المرجع الذي ألفه أستاذهما وصديق أستاذهما الرئيس الحبيب بورقيبة المؤرخ الفرنسي الكبير شارل اندري جوليان ( 1891- 1991 ) عن تاريخ شمال إفريقيا ..

ثم عرفت المرحوم الأستاذ البشير بن سلامة خلال زياراته المتعاقبة لمؤسسة دار الصباح وفي المنتديات الثقافية والعلمية بعد إبعاده في 1986 عن وزارة الثقافة ، ضمن "مسلسل" الإقالات للوزراء المخلصين لرئيس الحكومة محمد مزالي في سياق الصراعات داخل السلطة على خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة.

التقيت المرحوم البشير بن سلامة مرارا في دار الصباح في مكاتب رؤساء التحرير وأعلامها الذين سبقوني إليها عبد اللطيف الفراتي وصالح الحاجة وعبد السلام الحاج قاسم والمرحوم أحمد عامر والأستاذ محمد بن رجب ..

ثم تعرفت عليه في مكتبي في جريدة الصباح خلال زياراته لي خصيصا..وتواصلت لقاءاتنا في مناسبات ثقافية وعلمية مختلفة، بينها عند استضافته من قبل الأستاذ عبد الجليل التميمي في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات لتقديم شهادته عن مشواره العلمي والثقافي والسياسي ..

وإذ تصعب الكتابة عن علم في حجم البشير بن سلامة الذي نشر عشرات الكتب وأنجز ألاف المقالات والدراسات والمحاضرات، فيمكن تقديم قراءة لحصيلة إبداعاته وانجازاته في 3 كلمات : الهوية والوطنية والانفتاح.

• بالنسبة للهوية، يمكن اعتبار سلسلة كتابات البشير بن سلامة ورفيق دربه محمد مزالي، أبرز مرجع فكري ثقافي للدولة الوطنية التونسية الحديثة التي تزعمها الحبيب بورقيبة منذ 1955 وكلف نخبة من المقربين منه برسم ملامحها والبرهنة على خصوصياتها وجذورها التاريخية المحلية والإقليمية والدولية .

في هذا السياق يفهم تكفل الثنائي محمد مزالي والبشير بن سلامة بتأسيس مجلة " الفكر" وترجمة كتاب المؤرخ والمفكر الفرنسي شارل اندري جوليان عن تاريخ شمال إفريقيا .

قام بن سلامة ومزالي ورفاقه عبر مجلة " الفكر" بتأكيد العمق العربي الإسلامي للشخصية التونسية والمغاربية .

 وكرست دراسات شارل اندري جوليان التي وقع تعميق مختارات منها طوال عقود على ملايين التلاميذ والطلاب " الخصوصيات " البربرية القرطاجنية والشمال إفريقيا لتونس العربية المسلمة وشقيقاتها في المنطقة المغاربية.

وقد وقع تكريس الأبعاد الوطنية والمرجعية الثقافية التونسية المغاربية في مجلة "الفكر" وكتابات البشير بن سلامة ورفيقه محمد مزالي والمؤسسات الثقافية الوطنية الرائدة التي تأسست خلال إشراف مزالي على رئاسة الحكومة وبن سلامة على وزارة الثقافة ما بين 1980 و 1986 .

وكانت من بين نقاط قوة بن سلامة أنه لم يعتزل عالم الثقافة والفكر بعد إبعاده عن وزارة الثقافة في 1986 لأسباب سياسية، بل تابع عبر سلسلة مؤلفاته الأدبية والفكرية ومقالاته الصحفية بلورة الرؤية الثقافية الوطنية التي دافع عنها منذ تخرجه من دار المعلمين العليا وخوضه تجارب عديدة في عالم الكتابة والنشر والإشراف على المؤسسات الثقافية والعلمية.

وتواصل عطاء البشير بن سلامة وهو في العقد التاسع من عمره عندما نشر كتابه الرمز في مؤسسة " برق للنشر " للإعلامي محمد البرقاوي تحت عنوان :" عابرة هي الأيام " ..

وسعدت مع نخبة من المثقفين والإعلاميين والمسؤولين السابقين في الإدارة والدولة بالمشاركة في حوارات مع البشير بن سلامة عند تقديم هذا المؤلف الذي أراده تتويجا لمسيرته العلمية والثقافية والفكرية والسياسية مع جيل من الوطنيين بناة الدولة الحديثة .

ولئن كرست كتابات البشير بن سلامة وأدبياته انفتاحا فكريا وثقافيا على " الآخر"، وحاولت أن تثبت إيمانه بتعدد المرجعيات والمدارس، فقد كانت كذلك مثالا للانفتاح على مختلف الأشكال في الكتابة .

وإذ تراوحت كثير من كتابات بن سلامة بين الدراسات والترجمة والرواية ، فقد كان مؤلفه الأخير" الفتنة " معبرا جدا.

أهدى المثقف ووزير الثقافة المبدع النخب التونسية والعربية قبل حوالي 5 أعوام من وفاته " حكايات " عن " الفتن" التي عرفتها البلاد التونسية.

 واختار في هذه الرواية أن يعرض بأسلوب " حكواتي" أدبي جميل قصصا جميلة عن " المولدي المريش " و" الكلبة " توقف من خلاله عند ثلاثة من أخطر "الفتن" التي عاشتها البلاد التونسية : الأولى في النصف الأول من القرن الثامن عشر ( 1728- 1756 ) بسبب الصراع على السلطة بين " الباشية " و" الحسينية " أي أنصار مؤسس الدولة الحسينية الحسين بن علي وابن أخيه علي باشا .

الثانية ضمن ما عرف ب" الفتنة اليوسفية " (1955-1962 ) بين أنصار الزعيمين الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الدستوري وصالح بن يوسف الأمين العام للحزب.

أما الثالثة فكانت الصراعات على خلافة الرئيس بورقيبة أواسط الثمانينات من القرن الماضي وانتهت بإبعاد محمد مزالي عن رئاسة الحكومة والبشير بن سلامة عن وزارة الثقافة وغلق مجلة الفكر وتهميش قطاع الثقافة والمثقفين " العروبيين" ..

قد تتفق مع البشير بن سلامة الكاتب والمثقف والسياسي وقد تنتقده، لكنك لابد أن تقدر مساهماته وإضافاته وخصاله الوطنية وإصراره على المشي وعلى الكتابة حتى موفى العقد التاسع من عمره ..رحمه الله رحمة واسعة.

 

 

 

رأي | البشير بن سلامة المفكر الوطني:  تلميذ شارل أندري جوليان وبورقيبة ورفيق محمد مزالي

 

بقلم: كمال بن يونس

عرفت مثل أبناء جيلي الكاتب والمثقف والمفكر البشير بن سلامة (1931 – 2023 ) ورفيق دربه الأستاذ محمد مزالي ( 1925-2010 ) في الكتاب المدرسي ، عبر نصوصهما المشتركة ، المقتبسة من مجلة " الفكر" التي قادا مسيرتها منذ استقلال البلاد عن فرنسا حتى 1986 .

وعرفناه مع محمد مزالي من خلال ما كانت تتضمنه الكتب المدرسية من مختارات من ترجمتهما للكتاب المرجع الذي ألفه أستاذهما وصديق أستاذهما الرئيس الحبيب بورقيبة المؤرخ الفرنسي الكبير شارل اندري جوليان ( 1891- 1991 ) عن تاريخ شمال إفريقيا ..

ثم عرفت المرحوم الأستاذ البشير بن سلامة خلال زياراته المتعاقبة لمؤسسة دار الصباح وفي المنتديات الثقافية والعلمية بعد إبعاده في 1986 عن وزارة الثقافة ، ضمن "مسلسل" الإقالات للوزراء المخلصين لرئيس الحكومة محمد مزالي في سياق الصراعات داخل السلطة على خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة.

التقيت المرحوم البشير بن سلامة مرارا في دار الصباح في مكاتب رؤساء التحرير وأعلامها الذين سبقوني إليها عبد اللطيف الفراتي وصالح الحاجة وعبد السلام الحاج قاسم والمرحوم أحمد عامر والأستاذ محمد بن رجب ..

ثم تعرفت عليه في مكتبي في جريدة الصباح خلال زياراته لي خصيصا..وتواصلت لقاءاتنا في مناسبات ثقافية وعلمية مختلفة، بينها عند استضافته من قبل الأستاذ عبد الجليل التميمي في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات لتقديم شهادته عن مشواره العلمي والثقافي والسياسي ..

وإذ تصعب الكتابة عن علم في حجم البشير بن سلامة الذي نشر عشرات الكتب وأنجز ألاف المقالات والدراسات والمحاضرات، فيمكن تقديم قراءة لحصيلة إبداعاته وانجازاته في 3 كلمات : الهوية والوطنية والانفتاح.

• بالنسبة للهوية، يمكن اعتبار سلسلة كتابات البشير بن سلامة ورفيق دربه محمد مزالي، أبرز مرجع فكري ثقافي للدولة الوطنية التونسية الحديثة التي تزعمها الحبيب بورقيبة منذ 1955 وكلف نخبة من المقربين منه برسم ملامحها والبرهنة على خصوصياتها وجذورها التاريخية المحلية والإقليمية والدولية .

في هذا السياق يفهم تكفل الثنائي محمد مزالي والبشير بن سلامة بتأسيس مجلة " الفكر" وترجمة كتاب المؤرخ والمفكر الفرنسي شارل اندري جوليان عن تاريخ شمال إفريقيا .

قام بن سلامة ومزالي ورفاقه عبر مجلة " الفكر" بتأكيد العمق العربي الإسلامي للشخصية التونسية والمغاربية .

 وكرست دراسات شارل اندري جوليان التي وقع تعميق مختارات منها طوال عقود على ملايين التلاميذ والطلاب " الخصوصيات " البربرية القرطاجنية والشمال إفريقيا لتونس العربية المسلمة وشقيقاتها في المنطقة المغاربية.

وقد وقع تكريس الأبعاد الوطنية والمرجعية الثقافية التونسية المغاربية في مجلة "الفكر" وكتابات البشير بن سلامة ورفيقه محمد مزالي والمؤسسات الثقافية الوطنية الرائدة التي تأسست خلال إشراف مزالي على رئاسة الحكومة وبن سلامة على وزارة الثقافة ما بين 1980 و 1986 .

وكانت من بين نقاط قوة بن سلامة أنه لم يعتزل عالم الثقافة والفكر بعد إبعاده عن وزارة الثقافة في 1986 لأسباب سياسية، بل تابع عبر سلسلة مؤلفاته الأدبية والفكرية ومقالاته الصحفية بلورة الرؤية الثقافية الوطنية التي دافع عنها منذ تخرجه من دار المعلمين العليا وخوضه تجارب عديدة في عالم الكتابة والنشر والإشراف على المؤسسات الثقافية والعلمية.

وتواصل عطاء البشير بن سلامة وهو في العقد التاسع من عمره عندما نشر كتابه الرمز في مؤسسة " برق للنشر " للإعلامي محمد البرقاوي تحت عنوان :" عابرة هي الأيام " ..

وسعدت مع نخبة من المثقفين والإعلاميين والمسؤولين السابقين في الإدارة والدولة بالمشاركة في حوارات مع البشير بن سلامة عند تقديم هذا المؤلف الذي أراده تتويجا لمسيرته العلمية والثقافية والفكرية والسياسية مع جيل من الوطنيين بناة الدولة الحديثة .

ولئن كرست كتابات البشير بن سلامة وأدبياته انفتاحا فكريا وثقافيا على " الآخر"، وحاولت أن تثبت إيمانه بتعدد المرجعيات والمدارس، فقد كانت كذلك مثالا للانفتاح على مختلف الأشكال في الكتابة .

وإذ تراوحت كثير من كتابات بن سلامة بين الدراسات والترجمة والرواية ، فقد كان مؤلفه الأخير" الفتنة " معبرا جدا.

أهدى المثقف ووزير الثقافة المبدع النخب التونسية والعربية قبل حوالي 5 أعوام من وفاته " حكايات " عن " الفتن" التي عرفتها البلاد التونسية.

 واختار في هذه الرواية أن يعرض بأسلوب " حكواتي" أدبي جميل قصصا جميلة عن " المولدي المريش " و" الكلبة " توقف من خلاله عند ثلاثة من أخطر "الفتن" التي عاشتها البلاد التونسية : الأولى في النصف الأول من القرن الثامن عشر ( 1728- 1756 ) بسبب الصراع على السلطة بين " الباشية " و" الحسينية " أي أنصار مؤسس الدولة الحسينية الحسين بن علي وابن أخيه علي باشا .

الثانية ضمن ما عرف ب" الفتنة اليوسفية " (1955-1962 ) بين أنصار الزعيمين الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الدستوري وصالح بن يوسف الأمين العام للحزب.

أما الثالثة فكانت الصراعات على خلافة الرئيس بورقيبة أواسط الثمانينات من القرن الماضي وانتهت بإبعاد محمد مزالي عن رئاسة الحكومة والبشير بن سلامة عن وزارة الثقافة وغلق مجلة الفكر وتهميش قطاع الثقافة والمثقفين " العروبيين" ..

قد تتفق مع البشير بن سلامة الكاتب والمثقف والسياسي وقد تنتقده، لكنك لابد أن تقدر مساهماته وإضافاته وخصاله الوطنية وإصراره على المشي وعلى الكتابة حتى موفى العقد التاسع من عمره ..رحمه الله رحمة واسعة.