يوم 10 ماي 2023 الذّكرى الثّامنة والثلاثون لوفاة المغفور له بإذن الله الطّاهر بن عمّار الذي يعرف الكثيرون أنّه الوزير الأكبر ورئيس الحكومة التّونسيّة والذي قاد المفاوضات وأمضى وثيقة الاستقلال الدّاخلي في 3 جوان 1955 ووثيقة الاستقلال التّام في 20 مارس 1956.
إنّ الذين وُلدوا سنة وفاته هم اليوم شبابٌ يقتربون من الكهولة والذين وُلِدُوا أيّامَ إمْضائه هذيْن الوثيقتيْن الهامّتيْن في تاريخ تونس الحديثة هم الآن في أعقاب الكهولة يُطلّون على الشيخوخة وأغلبهم لا يعرفون عن الرّجل إلاّ ما سبق ذكره. والحقيقة أنّ ذلك ليس إلاّ تتويجا لمسيرة طويلة عسيرة قاربت نصف قرن من الزّمن سعى فيها الرّجل إلى خدمة الوطن بثبات وعزم وصبرٍ لا يلين.
*انطلاق المسيرة:
توفّي والده سنة 1908 فاستنجبَه جدّه ودعاه إلى تسيير ضيعاته المترامية الأطراف فانقطع عن التعليم بمعهد كارنو وهو في السّنة النّهائيّة واضطلع بالمسؤوليّة كاملة وهو دون العشرين وخلال ممارسته لنشاطه الفلاحي أدرك الامتيازات والتسهيلات والمحاباة التي تتعامل بها سُلط الحماية مع الفلاّحين الفرنسيين من المعمّرين مقابل وضع العراقيل واختلاق العوائق في طريق الفلاّحين التونسيين كما تبيّن لهفة هذه السّلط على انتزاع الأراضي وتوزيعها على ذويهم بكلّ الحيَل والوسائل واكتشف بالمعاينة حين زار فرنسا أنّ الوجه الذي تبديه السّلَطُ الفرنسيّة في بلاده تختلف تماما عن الوجه الذي تتصرّف به مع مواطنيها فتضرب عرضَ الحائط قيَمَ المساواة والحريّة وتكافؤ الفرص واحترام القانون ومن هنا ومنذ دراسته بالعلويّة ومعهد كارنو تيقّظ الحسّ الوطني لدى هذا الشّابّ وما انفكّ يتنامى، وكان منذ العقد الأوّل من القرن العشرين قد بطأ حَرَاكٌ قاده الخرّيجين الأوائل من المدرسة الصّادقيّة تعبّر عنه صحيفتهم "التونسي " Le Tunisien ومن بينهم وطني نشيط مؤسّس جمعيّة قدماء الصّادقيّة سنة 1905 خير الله بن مصطفى الذي تعرّف عن طريقه على عبد الجليل الزّاوش وعلي باش حانبة وحسن القلاّتي ومحمّد الأصرم وغيرهم وكان يحضر لقاءاتهم بنهج "الكومسيون" ويشارك نقاشاتهم ثمّ أصبح يعقد اجتماعات برأس الدّرب وقد ورد اسمه في تقارير أمنيّة وبذلك يكون الطّاهر بن عمّار بدأ نشاطه السّياسي منذ بدء أوّل حركة سياسيّة شهدتها البلاد وهي حركة الشباب التونسي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الطّاهر بن عمّار تميّز منذ شبابه المبكّر بالقدرة على التواصل مع الغير وربط العلاقات والصداقات فعند زيارته لفرنسا سنة 1910 و1911 وبالإضافة إلى مشاغله المهنيّة في تجارة الحبوب وحضور المعارض الفلاحيّة كان مهتمّا بارتياد المسارح ودور الثقافة والاتّصال بأهل الفكر والأدب والسياسة فقد ربط صلات صداقة برجال سيكون لهم شأن في تسيير فرنسا مثل "جورج كليمنصو" و"جورج لاق" و"أرتيسد بريان" و"ألكسندر ملّلران" وغيرهم..
وبعد نهاية الحرب العالميّة الأولى ظهرت في صفوف "الشباب التونسي" فكرة الارتقاء بنشاطهم من النادي الفكري الذي يجمعهم إلى تأسيس حزبِ سياسيّ يطالب بحقوق التونسيين في بلدهم وإلغاء الميْز وعدم المساواة في العليم والالتحاق بالوظائف ودار النّقاش واحتدّ وكانت الأغلبيّة تدعو إلى التريّث والإبقاء على الحراك في صلب منتدى فكريّ أمّا تكوين حزب سياسي ففيه مجازفة غير مأمونة العواقب إلاّ أنّ خطاب الرئيس الأمريكيّ "ولسن" في جانفي 1918 الذي أقرّ بحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها كان له صدى وتأثير في الأوساط الوطنيّة وشجّع على الإقدام على تكوين حزبِ سياسيّ يناضل على مصالح الأمّة ومستقبلها وكان الطّاهر بن عمّار من المتحمّسين لهذا التوجّه وأصبح قد ناهز الثلاثين من عمره قياديّا فاعلا ومؤثّرا في أوساط النّادي التونسي وفي النّشاط الوطنيّ إجمالا، فقد سافر في جوان 1919 إلى باريس مغتنما فرصة زيارة "ولسن" للعاصمة الفرنسيّة لحضور مؤتمر السّلم بـ"فرساي" وتمكّن بمساعدة صديق له تعرّف عليه سابقا وهو سفير الولايات المتّحدة بباريس إلى 1919 "دولاس قرافس شارب" أن يتّصل بالرئيس الأمريكي "ولسن" ويعرض عليه القضيّة التونسيّة في علاقة بخطابه الشّهير وإعلانه عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
وحين نشر الشّيح عبد العزيز الثعالبي بمساعدة أحمد سقّا كتابه "تونس الشهيدة" في شهر جانفي 1920 كان الطّاهر بن عمّار حاضرا عند تقديم الكتاب وسعى إلى دعوة معرفه من التونسيين المقيمين بباريس للعمل أو الدّراسة وأحدث الكتاب ردودَ فعلِ في فرنسا فقد اعتبرته تجاسرا وجرأة على هيبة الدّولة الحامية وانقسمت حياله النّخبة الوطنيّة بين متحمّس ومتحفّظ عمّا جاء فيه من مطالب وانتهت النقاشات والتشاورات بعقد اجتماع يوم غرّة فيفري 1920 بدار علي كاهية يضمّ ستّة عشر عضوا من بينهم الطّاهر بن عمّار وبعد نقاس مستفيض طويل اتّفقوا على مطالب وتكوين لجنة تسافر إلى فرنسا وتعرض المطالب التونسيّة على السّلك الفرنسيّة العليا في باريس.
وبذلك نتبيّن أنّ الطّاهر بن عمّار كان حاضرا وفاعلا ومؤثّرا في أنشطة النّخبة التونسيّة التي آمنت بالقضيّة الوطنيّة وانخرط منذ شبابه المبكّر في الحراك السياسي الذي انطلق منذ العقد الأوّل من القرن العشرين.
*الطّاهر بن عمّار والمفاوضات:
وانطلق وفد في 3 جوان 1920 يضمّ خمسة أعضاء من الحزب الدّستوري يقوده الأستاذ أحمد الصّافي وعضويْن آخريْن وعضو يمثّل الزاوية البكريّة وعضو يمثّل الزّاوية الباهيّة في اتّجاه باريس واستقبلهم هناك الشيخ الثعالبي وأحمد السقّا وبدأت المساعي لاتّصال بالمسؤولين الفرنسيين، ولمّا كان تقديم كتاب "تونس الشهيدة" في جانفي الفارط أحدث صدمةً لدى الطبقة السياسيّة الفرنسيّة ورأوا فيه تجاسرا على الدّولة الحامية وهيبتها، ولمّا مُنِيَ اليسار الفرنسي الأكثر قبولا للتفاوض مع المستعمرات بهزيمة موجعة في انتخابات 1919 كلّ ذلك جعل مهمّة الوفد صعبةً للغاية ولم تشهد أيّ تقدّم ممّا جعل أعضاء الوفد يطلبون من الطّاهر بن عمّار أن يلتحق بهم فكان ذلك بعد أسبوعيْن أي يوم 17 جوان فتمكّن من إقامة مأدبة بمساعدة السيّدة " لويز مِيِي" زوجة المقيم العام الأسبق بتونس وابنها "فيليب" المولود بتونس وحضرها أعضاء برلمانيون بارزون وسياسيون ممّن لهم تأثير في الرأي العام الفرنسي وصحفيّون وما إن بدأ النّقاش حتّى أبدت الأطراف الفرنسيّة استنكارها لما ورد في "تونس الشهيدة" حتّى كان ردّ الوفد التونسي ما مفاده أنّ مطالبهم غير قابلة للنقاش ممّا جعل المدعوّين ينسحبون وفشل اللّقاء فشلا ذريعا وأثّر ذلك حتّى في مواقف الأعضاء المساندة للقضيّة التونسيّة ولم يتمكّن الوفد من مقابلة رئيس الوزراء ولا حتّى وزير الخارجيّة وإذا بعناصر من الأمن الفرنسي تداهم مقرّ إقامة الوفد التونسي وتحجز وثائقه وتبعثر ما فيه ووقع إيقاف الثعالبي وعاد الوفد إلى تونس بخيبة كبيرة وبنتائج سلبيّة كانت وبالا على الحركة الوطنيّة في خطواتها الأولى واحتدّ النقاش واشتدّ الصّراع بين أعضاء النّخبة داخل الحزب وتوالت اللقاءات وتتالت النقاشات لاسيّما وأنّ ثلاثة من قادة الحزب رهن الاعتقال بالسجن المدني واستقرّ الرّأي على ضرورة إرسال وفد ثانِ إلى باريس ليلطّف من الآثار التي تركها كتاب "تونس الشهيدة" في أوساط النّخب الفرنسيّة ويحاول إعادة فتح باب التفاوض مع السّلط هناك ولكسب مؤيّدين للقضيّة التونسيّة لدى أهل الفكر والسياسة والرأي العام الفرنسي عموما.
واتّفقت قيادة الحزب على أن يكون الطّاهر بن عمّار رئيسا للوفد الذي يضمّ سبعة أعضاء هذه المرّة أربعة من الفلاّحين الكبار ومحامييْن وصناعي أحدهم من جربة وآخر من سوسة وثالث من بنزرت ولم يكن الطّاهر بن عمّار رئيس الوفد أكبرهم سنّا وإنّما كان أصغرهم جميعا ولكنّ ما أبداه حين التحق بالوفد الأوّل من مهارة في التواصل وما رأى له أفراد الوفد من علاقات ومعارف بالنخبة الفرنسيّة وما عاينوه من قدرة على إدارة النّقاش كلّ ذلك جعلهم يتّخذونه رئيسا لهدا الوفد الثّاني الذي ستكون مهمّته أكثر عسرا نظرا للأجواء المتوتّرة بين النّخب الفرنسيّة وقادة الحركة الوطنيّة التونسيّة.
ومن شروط التفاوض -كما يعلم الطّاهر بن عمّار – وهو المطّلع على عقليّة النّخب الفرنسيّة أن تتوفّر في الطّرف التونسي المفاوض المصداقيّة والتمثيليّة فطاف هو ورفاقه بأنحاء البلاد يجمعون الإمضاءات من المواطنين في عريضة ورغم التوجّس والتردّد والتحفّظ والخوف الذي كان يعمّ البلاد بعد فشل الوفد الأوّل وإيقاف الشيخ الثعالبي واثنين من قادة الحزب فإنّ الطّاهر بن عمّار و من معه تمكّنوا من جمع ما يقارب الثلاثين ألف إمضاء وهو رقم في ذلك الزّمن وتلك الظّروف على غاية من الأهميّة.
وانطلق الوفد في اتّجاه مرسيليا على الباخرة في 22 سبتمبر 1920 ووصلوا إليها منهكين من عاصفة هوجاء واضطرّوا إلى الإقامة بمرسيليا مدّة ليسترجعوا العافية والنّشاط وانطلق الوفد بالقطار إلى باريس وهناك بدأ العمل من أجل إنجاح المهمّة التي أتوا من أجلها وتَحْمِل آمال التونسيين الذين توافدوا من مختلف الجهات لتوديع الوفد بالميناء وقد وصفت جريدة "الوزير" في عددها الصادر يوم 25 ديسمبر ذلك اليوم بـ"اليوم التّاريخي"، وكان لابدّ من خطّة رسمها الطّاهر بن عمّار حيث بدأ بالاتّصال بالحقوقيين والصّحفيين ومن له بهم صلة من البرلمانيين الفرنسيين ووزّع عليهم وعلى غيرهم من سكّان باريس منشورا بعنوان "تحيّة إلى الشّعب الفرنسي" تمهيدا لنشاط الوفد وسرعان ما التقى الوفد بالمقيم العام الفرنسي الجديد "لوسيان سان" وشرحوا له المطالب وسعَوْا إلى إقناعه بعدالتها وشرعيتها وكان اللّقاء في أجواء طيّبة قد نُزِع منها التوتّر وكان ذلك بحضور شخصيّات فرنسيّة مهمّة ومؤثّرة.
ولمّا كان الطّاهر بن عمّار يعرف تأثير الصّحافة في الرأي العام الفرنسي فقد اتّصل بصديقه الشّاب " فيليب مِيِي" وهو من مواليد تونس كما ذكرنا وكان يعمل في صحيفة من أكثر الصّحف انتشارا قي فرنسا آنذاك وهي صحيفة "الزّمان" Le Temps فضمن مساندتها وبالفعل صدر بالصحيفة مقال يوم 29 ديسمبر 1920 بعنوان "وفد تونسيّ بباريس" قدّم فيها المطالب التونسيّة واعتبرها شرعيّة وفي غاية المعقوليّة وتعبر عن قضيّة عادلة وتوصّل الوفد بفضل هذا التمهيد الجيّد إلى مقابلة السيّد " بيرِتّي" Peretti مدير الشؤون السياسيّة بوزارة الخارجيّة وهو ما مهّد للوفد باللّقاء المأمول مع رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجيّة السيّد "جورج لاق" Georges Leygues الذي كان للطّاهر بن عمّار به سابق معرفة حين زار بنزرت كما التقى به في مسارح باريس فكلاهما كان يرتاد المسارح وكان اللقاء إيجابيّا إذ قدّم الطّاهر بن عمّار رئيس الوفد العريضة التي تتضمّن ثلاثين ألف إمضاء التي تؤكّد شعبيّة المطالب وتمثيليّة الوفد وعرض عليه المطالب التونسيّة وكان ذلك يوم 6 جانفي 1921ثمّ توجّه الوفد التّونسيّ إلى البرلمان الفرنسي ووزّع ألف نسخة من وثيقة بعنوان "القضيّة التّونسيّة" على أعضاء البرلمان وأعضاء مجلس الشيوخ والمنظّمات القوميّة الفرنسيّة والسياسيين البارزين والمؤثّرين في الرأي العام والصحفيين.
* أستاذ مبرّز مدير أسبق للمدرسة الصّادقيّة
بقلم:حبيب الحزقي(*)
يوم 10 ماي 2023 الذّكرى الثّامنة والثلاثون لوفاة المغفور له بإذن الله الطّاهر بن عمّار الذي يعرف الكثيرون أنّه الوزير الأكبر ورئيس الحكومة التّونسيّة والذي قاد المفاوضات وأمضى وثيقة الاستقلال الدّاخلي في 3 جوان 1955 ووثيقة الاستقلال التّام في 20 مارس 1956.
إنّ الذين وُلدوا سنة وفاته هم اليوم شبابٌ يقتربون من الكهولة والذين وُلِدُوا أيّامَ إمْضائه هذيْن الوثيقتيْن الهامّتيْن في تاريخ تونس الحديثة هم الآن في أعقاب الكهولة يُطلّون على الشيخوخة وأغلبهم لا يعرفون عن الرّجل إلاّ ما سبق ذكره. والحقيقة أنّ ذلك ليس إلاّ تتويجا لمسيرة طويلة عسيرة قاربت نصف قرن من الزّمن سعى فيها الرّجل إلى خدمة الوطن بثبات وعزم وصبرٍ لا يلين.
*انطلاق المسيرة:
توفّي والده سنة 1908 فاستنجبَه جدّه ودعاه إلى تسيير ضيعاته المترامية الأطراف فانقطع عن التعليم بمعهد كارنو وهو في السّنة النّهائيّة واضطلع بالمسؤوليّة كاملة وهو دون العشرين وخلال ممارسته لنشاطه الفلاحي أدرك الامتيازات والتسهيلات والمحاباة التي تتعامل بها سُلط الحماية مع الفلاّحين الفرنسيين من المعمّرين مقابل وضع العراقيل واختلاق العوائق في طريق الفلاّحين التونسيين كما تبيّن لهفة هذه السّلط على انتزاع الأراضي وتوزيعها على ذويهم بكلّ الحيَل والوسائل واكتشف بالمعاينة حين زار فرنسا أنّ الوجه الذي تبديه السّلَطُ الفرنسيّة في بلاده تختلف تماما عن الوجه الذي تتصرّف به مع مواطنيها فتضرب عرضَ الحائط قيَمَ المساواة والحريّة وتكافؤ الفرص واحترام القانون ومن هنا ومنذ دراسته بالعلويّة ومعهد كارنو تيقّظ الحسّ الوطني لدى هذا الشّابّ وما انفكّ يتنامى، وكان منذ العقد الأوّل من القرن العشرين قد بطأ حَرَاكٌ قاده الخرّيجين الأوائل من المدرسة الصّادقيّة تعبّر عنه صحيفتهم "التونسي " Le Tunisien ومن بينهم وطني نشيط مؤسّس جمعيّة قدماء الصّادقيّة سنة 1905 خير الله بن مصطفى الذي تعرّف عن طريقه على عبد الجليل الزّاوش وعلي باش حانبة وحسن القلاّتي ومحمّد الأصرم وغيرهم وكان يحضر لقاءاتهم بنهج "الكومسيون" ويشارك نقاشاتهم ثمّ أصبح يعقد اجتماعات برأس الدّرب وقد ورد اسمه في تقارير أمنيّة وبذلك يكون الطّاهر بن عمّار بدأ نشاطه السّياسي منذ بدء أوّل حركة سياسيّة شهدتها البلاد وهي حركة الشباب التونسي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الطّاهر بن عمّار تميّز منذ شبابه المبكّر بالقدرة على التواصل مع الغير وربط العلاقات والصداقات فعند زيارته لفرنسا سنة 1910 و1911 وبالإضافة إلى مشاغله المهنيّة في تجارة الحبوب وحضور المعارض الفلاحيّة كان مهتمّا بارتياد المسارح ودور الثقافة والاتّصال بأهل الفكر والأدب والسياسة فقد ربط صلات صداقة برجال سيكون لهم شأن في تسيير فرنسا مثل "جورج كليمنصو" و"جورج لاق" و"أرتيسد بريان" و"ألكسندر ملّلران" وغيرهم..
وبعد نهاية الحرب العالميّة الأولى ظهرت في صفوف "الشباب التونسي" فكرة الارتقاء بنشاطهم من النادي الفكري الذي يجمعهم إلى تأسيس حزبِ سياسيّ يطالب بحقوق التونسيين في بلدهم وإلغاء الميْز وعدم المساواة في العليم والالتحاق بالوظائف ودار النّقاش واحتدّ وكانت الأغلبيّة تدعو إلى التريّث والإبقاء على الحراك في صلب منتدى فكريّ أمّا تكوين حزب سياسي ففيه مجازفة غير مأمونة العواقب إلاّ أنّ خطاب الرئيس الأمريكيّ "ولسن" في جانفي 1918 الذي أقرّ بحقّ الشّعوب في تقرير مصيرها كان له صدى وتأثير في الأوساط الوطنيّة وشجّع على الإقدام على تكوين حزبِ سياسيّ يناضل على مصالح الأمّة ومستقبلها وكان الطّاهر بن عمّار من المتحمّسين لهذا التوجّه وأصبح قد ناهز الثلاثين من عمره قياديّا فاعلا ومؤثّرا في أوساط النّادي التونسي وفي النّشاط الوطنيّ إجمالا، فقد سافر في جوان 1919 إلى باريس مغتنما فرصة زيارة "ولسن" للعاصمة الفرنسيّة لحضور مؤتمر السّلم بـ"فرساي" وتمكّن بمساعدة صديق له تعرّف عليه سابقا وهو سفير الولايات المتّحدة بباريس إلى 1919 "دولاس قرافس شارب" أن يتّصل بالرئيس الأمريكي "ولسن" ويعرض عليه القضيّة التونسيّة في علاقة بخطابه الشّهير وإعلانه عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
وحين نشر الشّيح عبد العزيز الثعالبي بمساعدة أحمد سقّا كتابه "تونس الشهيدة" في شهر جانفي 1920 كان الطّاهر بن عمّار حاضرا عند تقديم الكتاب وسعى إلى دعوة معرفه من التونسيين المقيمين بباريس للعمل أو الدّراسة وأحدث الكتاب ردودَ فعلِ في فرنسا فقد اعتبرته تجاسرا وجرأة على هيبة الدّولة الحامية وانقسمت حياله النّخبة الوطنيّة بين متحمّس ومتحفّظ عمّا جاء فيه من مطالب وانتهت النقاشات والتشاورات بعقد اجتماع يوم غرّة فيفري 1920 بدار علي كاهية يضمّ ستّة عشر عضوا من بينهم الطّاهر بن عمّار وبعد نقاس مستفيض طويل اتّفقوا على مطالب وتكوين لجنة تسافر إلى فرنسا وتعرض المطالب التونسيّة على السّلك الفرنسيّة العليا في باريس.
وبذلك نتبيّن أنّ الطّاهر بن عمّار كان حاضرا وفاعلا ومؤثّرا في أنشطة النّخبة التونسيّة التي آمنت بالقضيّة الوطنيّة وانخرط منذ شبابه المبكّر في الحراك السياسي الذي انطلق منذ العقد الأوّل من القرن العشرين.
*الطّاهر بن عمّار والمفاوضات:
وانطلق وفد في 3 جوان 1920 يضمّ خمسة أعضاء من الحزب الدّستوري يقوده الأستاذ أحمد الصّافي وعضويْن آخريْن وعضو يمثّل الزاوية البكريّة وعضو يمثّل الزّاوية الباهيّة في اتّجاه باريس واستقبلهم هناك الشيخ الثعالبي وأحمد السقّا وبدأت المساعي لاتّصال بالمسؤولين الفرنسيين، ولمّا كان تقديم كتاب "تونس الشهيدة" في جانفي الفارط أحدث صدمةً لدى الطبقة السياسيّة الفرنسيّة ورأوا فيه تجاسرا على الدّولة الحامية وهيبتها، ولمّا مُنِيَ اليسار الفرنسي الأكثر قبولا للتفاوض مع المستعمرات بهزيمة موجعة في انتخابات 1919 كلّ ذلك جعل مهمّة الوفد صعبةً للغاية ولم تشهد أيّ تقدّم ممّا جعل أعضاء الوفد يطلبون من الطّاهر بن عمّار أن يلتحق بهم فكان ذلك بعد أسبوعيْن أي يوم 17 جوان فتمكّن من إقامة مأدبة بمساعدة السيّدة " لويز مِيِي" زوجة المقيم العام الأسبق بتونس وابنها "فيليب" المولود بتونس وحضرها أعضاء برلمانيون بارزون وسياسيون ممّن لهم تأثير في الرأي العام الفرنسي وصحفيّون وما إن بدأ النّقاش حتّى أبدت الأطراف الفرنسيّة استنكارها لما ورد في "تونس الشهيدة" حتّى كان ردّ الوفد التونسي ما مفاده أنّ مطالبهم غير قابلة للنقاش ممّا جعل المدعوّين ينسحبون وفشل اللّقاء فشلا ذريعا وأثّر ذلك حتّى في مواقف الأعضاء المساندة للقضيّة التونسيّة ولم يتمكّن الوفد من مقابلة رئيس الوزراء ولا حتّى وزير الخارجيّة وإذا بعناصر من الأمن الفرنسي تداهم مقرّ إقامة الوفد التونسي وتحجز وثائقه وتبعثر ما فيه ووقع إيقاف الثعالبي وعاد الوفد إلى تونس بخيبة كبيرة وبنتائج سلبيّة كانت وبالا على الحركة الوطنيّة في خطواتها الأولى واحتدّ النقاش واشتدّ الصّراع بين أعضاء النّخبة داخل الحزب وتوالت اللقاءات وتتالت النقاشات لاسيّما وأنّ ثلاثة من قادة الحزب رهن الاعتقال بالسجن المدني واستقرّ الرّأي على ضرورة إرسال وفد ثانِ إلى باريس ليلطّف من الآثار التي تركها كتاب "تونس الشهيدة" في أوساط النّخب الفرنسيّة ويحاول إعادة فتح باب التفاوض مع السّلط هناك ولكسب مؤيّدين للقضيّة التونسيّة لدى أهل الفكر والسياسة والرأي العام الفرنسي عموما.
واتّفقت قيادة الحزب على أن يكون الطّاهر بن عمّار رئيسا للوفد الذي يضمّ سبعة أعضاء هذه المرّة أربعة من الفلاّحين الكبار ومحامييْن وصناعي أحدهم من جربة وآخر من سوسة وثالث من بنزرت ولم يكن الطّاهر بن عمّار رئيس الوفد أكبرهم سنّا وإنّما كان أصغرهم جميعا ولكنّ ما أبداه حين التحق بالوفد الأوّل من مهارة في التواصل وما رأى له أفراد الوفد من علاقات ومعارف بالنخبة الفرنسيّة وما عاينوه من قدرة على إدارة النّقاش كلّ ذلك جعلهم يتّخذونه رئيسا لهدا الوفد الثّاني الذي ستكون مهمّته أكثر عسرا نظرا للأجواء المتوتّرة بين النّخب الفرنسيّة وقادة الحركة الوطنيّة التونسيّة.
ومن شروط التفاوض -كما يعلم الطّاهر بن عمّار – وهو المطّلع على عقليّة النّخب الفرنسيّة أن تتوفّر في الطّرف التونسي المفاوض المصداقيّة والتمثيليّة فطاف هو ورفاقه بأنحاء البلاد يجمعون الإمضاءات من المواطنين في عريضة ورغم التوجّس والتردّد والتحفّظ والخوف الذي كان يعمّ البلاد بعد فشل الوفد الأوّل وإيقاف الشيخ الثعالبي واثنين من قادة الحزب فإنّ الطّاهر بن عمّار و من معه تمكّنوا من جمع ما يقارب الثلاثين ألف إمضاء وهو رقم في ذلك الزّمن وتلك الظّروف على غاية من الأهميّة.
وانطلق الوفد في اتّجاه مرسيليا على الباخرة في 22 سبتمبر 1920 ووصلوا إليها منهكين من عاصفة هوجاء واضطرّوا إلى الإقامة بمرسيليا مدّة ليسترجعوا العافية والنّشاط وانطلق الوفد بالقطار إلى باريس وهناك بدأ العمل من أجل إنجاح المهمّة التي أتوا من أجلها وتَحْمِل آمال التونسيين الذين توافدوا من مختلف الجهات لتوديع الوفد بالميناء وقد وصفت جريدة "الوزير" في عددها الصادر يوم 25 ديسمبر ذلك اليوم بـ"اليوم التّاريخي"، وكان لابدّ من خطّة رسمها الطّاهر بن عمّار حيث بدأ بالاتّصال بالحقوقيين والصّحفيين ومن له بهم صلة من البرلمانيين الفرنسيين ووزّع عليهم وعلى غيرهم من سكّان باريس منشورا بعنوان "تحيّة إلى الشّعب الفرنسي" تمهيدا لنشاط الوفد وسرعان ما التقى الوفد بالمقيم العام الفرنسي الجديد "لوسيان سان" وشرحوا له المطالب وسعَوْا إلى إقناعه بعدالتها وشرعيتها وكان اللّقاء في أجواء طيّبة قد نُزِع منها التوتّر وكان ذلك بحضور شخصيّات فرنسيّة مهمّة ومؤثّرة.
ولمّا كان الطّاهر بن عمّار يعرف تأثير الصّحافة في الرأي العام الفرنسي فقد اتّصل بصديقه الشّاب " فيليب مِيِي" وهو من مواليد تونس كما ذكرنا وكان يعمل في صحيفة من أكثر الصّحف انتشارا قي فرنسا آنذاك وهي صحيفة "الزّمان" Le Temps فضمن مساندتها وبالفعل صدر بالصحيفة مقال يوم 29 ديسمبر 1920 بعنوان "وفد تونسيّ بباريس" قدّم فيها المطالب التونسيّة واعتبرها شرعيّة وفي غاية المعقوليّة وتعبر عن قضيّة عادلة وتوصّل الوفد بفضل هذا التمهيد الجيّد إلى مقابلة السيّد " بيرِتّي" Peretti مدير الشؤون السياسيّة بوزارة الخارجيّة وهو ما مهّد للوفد باللّقاء المأمول مع رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجيّة السيّد "جورج لاق" Georges Leygues الذي كان للطّاهر بن عمّار به سابق معرفة حين زار بنزرت كما التقى به في مسارح باريس فكلاهما كان يرتاد المسارح وكان اللقاء إيجابيّا إذ قدّم الطّاهر بن عمّار رئيس الوفد العريضة التي تتضمّن ثلاثين ألف إمضاء التي تؤكّد شعبيّة المطالب وتمثيليّة الوفد وعرض عليه المطالب التونسيّة وكان ذلك يوم 6 جانفي 1921ثمّ توجّه الوفد التّونسيّ إلى البرلمان الفرنسي ووزّع ألف نسخة من وثيقة بعنوان "القضيّة التّونسيّة" على أعضاء البرلمان وأعضاء مجلس الشيوخ والمنظّمات القوميّة الفرنسيّة والسياسيين البارزين والمؤثّرين في الرأي العام والصحفيين.