إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

من حكم بورقيبة إلى سعيد | المعارضة التونسية.. "شعلة" ثم "كرتونية" فانتهازية غنائمية

 

المعارضة فشلت في تحقيق أهدافها بسبب تركيز نشاطها وتفكيرها في "السلطة" والكرسي دون اهتمام بالبرامج الإصلاحية

 

إعداد: نزيهة الغضباني

تونس – الصباح

الحديث عن المعارضة السياسية في تاريخ تونس القريب أي منذ فترة ما بعد الاستقلال إلى الآن، بدءا بفترة حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مرورا بفترة حكم الراحل زين العابدين بن علي ففترة ما بعد ثورة 2011 وصولا إلى فترة حكم الرئيس الحالي قيس سعيد، يبدو مشابها ومكررا من فترة لأخرى، رغم اختلاف السياقات الحافة بكل مرحلة. وقد تناول عديد المؤرخين والسياسيين هذه المسألة في سياقات سياسية وتاريخية ومناسبات إعلامية مختلفة ومتعددة خاصة أن عددا كبيرا ممن عاشوا وعايشوا هذه المراحل لا يزالون فاعلين ويواصلون نفس الدور إلى اليوم. وبعد المرور من مرحلة التأسيس و"النضال" من أجل الوجود ووضع لبنات الاختلاف عبر تعددية حزبية تقطع مع ثقافة ومبدأ الحزب الواحد، دفع ضريبتها عدد كبير من السياسيين والفئات التي انخرطت في تلك المشاريع السياسية القائمة على الاختلاف مع منظومة الحكم سواء في عد بورقيبة أو بن علي الديكتاتورية لاسيما بالنسبة لليسار أو القوى التقدمية والمدنية التي خرجت من رحم الحزب الدستوري، تجد القوى السياسية نفسها، بعد ثورة 2011 تتخبط في دائرة ضيقة بحثا عن مخارج ورؤى وصور وتوجهات عملية تنأى بها عن وضعها السابق وتضعها في حضرة مناخ سياسي ديمقراطي بشكل مفاجئ لم تكن مهيأة للتعاطي مع طقوسه. فتداخلت جملة من العوامل التي "كيّفت" الوضع بالنسبة للحكم والمعارضة على حد السواء، اختلط فيها اختلط فيها الذاتي والموضوعي وكان للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية وتداعيات السياقات الإقليمية والدولية دور في ذلك. لتعود المعارضة في هذه الفترة المربع الأول في رحلة البحث عن "الذات" والصراع من أجل إعادة التشكل والتموضع من جديد.

بالعودة إلى بعض المراجع والإصدارات التاريخية، التي تناولت الإرهاصات الأولى للممارسة السياسية والحزبية في تونس وما تم نتداوله إعلاميا حول المسألة، خاصة بعد الخروج من مرحلة الاستعمار وبداية بناء الجمهورية بما تتطلبه من مؤسسات وتغييرات قانونية وهيكلية وثقافية وفكرية والقطع مع منظومة حكم البايات، تتقاطع النتائج المتعلقة بدور الطبقة السياسية الناشئة مع شهادات أغلب الفاعلين في تلك المرحلة سواء داخل أجهزة ومؤسسات الدولة أو من الطبقة الفكرية والثقافية أو السياسية والحزبية والمدنية، حول نفس المعطيات المحددة للمرحلة السياسية في الجمهورية الأولى الناشئة. خاصة أن الجهة السياسية المهيمنة في مرحلة ما بعد الاستقلال اقتصرت على الحزب الحر الدستوري كسليل للحركة الوطنية. وذلك بعد أن انتهج بورقيبة رئيس الجمهورية والحزب سياسة التفرد بالحكم والقرار والتعيينات على رأس الحزب والاتحاد العام التونسي للشغل وغيرها من المنظمات والهياكل الوطنية الموجودة آنذاك على غرار اتحاد الفلاحين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والحرف اليدوية، ومن ثمة تكريس وجود وحكم الحزب الواحد.

 

الاختلاف الذي مهد الطريق

عرف الحزب الحر الدستوري الجديد خلافات عديدة بين قياداته، تفاقمت في بداية الستينات خاصة بسبب الانتقادات الموجهة لبعض خيارات بورقيبة مثل حرب الجلاء ببنزرت سنة 1962 أو غيرها من الخيارات، أدت إلى انقسام الحزب إلى شقين الأول منتصر لبورقيبة والثاني لصالح بن يوسف، فتحت الطريق لأصوات أخرى مختلفة عن الرأي الواحد داخل الحزب، لتشهد في مرحلة لاحقة صعود اليسار الذي خرج من رحم اليسار الجامعي. وشكل حاضنة لجانب من المبادرات الشبابية الفكرية والسياسية التي ما انفكت تنتشر وتنشط في مختلف الأوساط الجامعية وغيرها. كما كان لتعرض بورقيبة إلى محاولة انقلابية تورطت فيها مجموعة من العسكريين والمدنيين حكم على اغلبهم بالإعدام، دورها في حظر نشاط الحزب الشيوعي التونسي وحلّ ما تبقى من الحزب الدستوري القديم وأصبحت المعارضة تقتصر في الستينات على بعض الشخصيات في الخارج وبعض التنظيمات اليسارية والقومية الصغيرة. لتعدد الاتجاهات داخل الحزب الحاكم بما في ذلك التيار الإسلامي الذي بدأ يظهر بعد نكسة 1967 العربية وتوجه البعض للتجربة الإسلامية بعد فشل الاشتراكية والقومية مثلما أكد ذلك المفكر عبدالله العروي. فكانت مجلة "المعرفة" في تونس رافدا للأفكار الخادمة لهذه التجربة التي نشأت وخرجت من رحم الحزب الحاكم.

"برسبكتيف"

تعود نشأة حركة برسبكتيف في أوساط الطلبة التونسيين بالعاصمة الفرنسية باريس الذين كانوا يتلقون تعليمهم في الجامعات الفرنسية في بداية الستينات من القرن الماضي. وضمت في تشكيلتها عناصر ذات مرجعيات سياسية مختلفة من قومين وشيوعيين من تروتسكيين ومستقلين. وبعد سلسلة من الاجتماعات عقدتها اللجان المنظمة للحركة منذ عام 1963 توصلوا إلى اتفاق على تأسيس تجمع للطلبة اليساريين بمختلف مرجعياتهم وتوجهاتهم العقائدية، وأطلقت على التجمع اسم "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" مما يعني تبنيها الفكر الاشتراكي. وهو التوجه ذاته الذي كان النظام التونسي يعتزم التوجه نحوه خاصة بعد خروج المعمر الفرنسي ومغادرة الرأسماليين لتونس وتأثير ذلك السلبي على الاقتصاد الوطني، إلا أن المجموعة عرفت أكثر باسم برسبكتيف  أو "آفاق". وبعد انتقالها إلى تونس عام 1964 ساهمت التغيرات التي شهدتها التركيبة الاجتماعية للطلبة التونسيين بحكم توسع الجامعات والتزايد الكبير الذي شهدته أعداد الطلبة فيها، في تجذر الحركة ودفعتها إلى التوجه نحو الفكر الراديكالي. ويمكن القول إن ذلك العامل كان له دور في تحديد مسار تلك الحركة التي تم القضاء عليها وسجن أغلب رموزها من بينهم الراجل جلبار النقاش.

حركة الديموقراطيين الاشتراكيين

كان لتأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سنة بشكل رسمي سنة 1978  برئاسة أحمد المستيري، دور كبير في تعزيز دور المعارضة السياسية في تونس في أواخر السبعينات، واحتضان ودعم المجتمع المدني وتأسيس هياكل مدنية وحقوقية على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الأعلى للحريات، بمشاركة شخصيات وطنية وتقدمية من بينهم الدالي الجازي وحمودة بن سلامة وسعدون الزمرلي. فأصبحت بذلك الحركة تتحرك في فضاء تنظيمي واسع ليتعزز ذلك ببعث وإصدار صحفية "الرأي" ثم الميثاق القومي. وكان منطلقا لنشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة والدفاع عن الحريات. وقد تزامن ذلك مع توسع الصراعات من أجل موازين القوى والشقوق في أوساط الحكم  بعد بداية تدهور الحالة الصحية لبورقيبة إضافة إلى تواتر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي عزز موقع الحركة في صف المعارضة لتحظى بقبول القواعد الشعبية لمرشحيها في انتخابات سنة 1981، وهو ما دفع الجهات الرسمية لتغيير نتائجها، وفق ما أكده في مراحل لاحقة كل من محمد مزالي، الوزير الأول، وإدريس قيقة الذي كان يشغل خطة وزيرا للداخلية، آنذاك.

واستطاع زين العابدين بن علي بسط يده على الأجهزة الأمنية ليجد نفسه في موقع الرجل القوي في ظل تصاعد الصدام مع حركة الاتجاه الإسلامي، إذ تم تعيينه في 2 أكتوبر 1987  وزيرا أولا وأمينا عاما للحزب مع إبقائه على رأس الداخلية. وفي ليلة 7 نوفمبر 1987 أعلن اضطلاعه بالرئاسة، لتدخل البلاد منعرجا سياسيا جديدا، بعد أن رحبت القوى المعارضة بهذا التغيير، وانخرطت كلها في النقاش الذي فتحه معه حول الميثاق الوطني الذي وافقت كل القوى في الإمضاء عليه باستثناء حزب العمال الشيوعي.

 

المعارضة في البرلمان

تمكنت المعارضة من دخول البرلمان بعد 40 سنة من الاستقلال وذلك بعد فوز حركة الديمقراطيين لاشتراكيين بمقاعد في مجلس النواب في انتخابات 1994، لكن وبعد سجن أمين عام الحزب محمد مواعدة بعد عام من ذلك التاريخ وسجن عدد من قياداته أصبحت الحركة تتحرك في فلك النظام الحاكم. خاصة أن بعض قيادييها يعترف أن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين لم تقطع منذ ذلك التاريخ شعرة معاوية مع السلطة. وهو الأمر نفسه تقريبا بالنسبة لعدد من الأحزاب المحسوبة على المعارضة. وظل دورها "شكليا" في المشهد السياسي بعد أن تمكنت آلية الحكم القمعية لبن علي من تطويعها والتحكم في مسارات تحركها وإدخالها "بيت الطاعة" قسرا وتحويلها إل معارضة وموالية فيما اختار البعض النشاط في السرية. لينجح الشارع التونسي بعد اندلاع تحركات احتجاجية في أغلب جهات الجمهورية منذ ديسمبر 2010 في إسقاط منظومة حكم بن علي لتحقق بذلك ما عجزت عنه قوى المعارضة المهيكلة والمنظمة على امتداد سنوات وعقود.

 

تغير موزاين القوى

أسفرت ثورة 2011 في تغيير المشهد السياسي والحزبي برمته في تونس بعد تغير موازين القوى، وصعود بعض الأحزاب التي كانت في المعارضة إلى موقع القرار والحكم بقيادة حركة النهضة، إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في نهاية نفس السنة. وتداخلت الأوراق بالنسبة للتنظيمات الحزبية باختلاف توجهاتها باعتبار أن انتظارات الجميع كانت موجهة لتكريس نظام ديمقراطي والحريات ولم يكن الحديث عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وفرض العدالة بين الجهات وفي التشغيل الذي يضمن العيش الكريم لكل أبناء تونس لاسيما بالنسبة للشباب الحامل للشهائد العليا والعاطل عن العمل. لذلك عادت بعض القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية والمجتمع المدني إلى ممارسة دورها في المعارضة والتصدي لمحاولة الحكام الجدد الانحراف بالثورة عن مطالبها الإصلاحية الحقيقية مقابل تكريس مشروع ظلامي يهدف في أبعاده لتغيير نمط المجتمع التونسي وتكريس مظاهر وثقافة وأنماط دخيلة والهروب عن أهداف الثورة. خاصة أن حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية شريكا حركة النهضة في الحكم شكلا صمام أمان في الدفاع عن المشروع الذي انتفضت قوى مختلفة في معارضته والتصدي له.

معارضة "غنائمية"

لذلك دفعت القوى المعارضة لمنظومة الحكم التي تقودها حركة النهضة في أوائل العشرية الماضية الضربة غالية، وذلك بعد تسجيل عدد من الاغتيالات السياسية من أبرزها الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي إضافة إلى سقوط عدد كبير من أبناء المؤسستين الأمنية والعسكرية شهداء وجرحى فضلا عن أحداث العنف والاعتداءات التي أضرت بالاقتصاد الوطني مثل حادثة الاعتداء على سياح أجانب في متحف باردو 2015 والهجوم المسلح على أحد النزل بسوسة في صائفة نفس السنة.

وقد كان لتبادل الأدوار في صفوف المعارضة وعدم استقرار بعض القوى على موقف من السلطة من العوامل التي ساهمت في توسيع الأزمة السياسية خاصة بعد "حالة الإسهال" الحزبي التي عرفتها الساحة السياسية بعد الثورة وسرعة بعث واندثار الأحزاب وارتباط وجودها ومواقفها بما تكسبه وتحققه من السلطة.

لذلك ذهبت عديد القراءات إلى أن المعارضة التي برزت في العشرية الماضية كانت غنائمية بامتياز، اختزلت في نشاطها ومواقفها طبيعة الطبقة السياسية التي برزت بعد سقوط منظومة بن علي ونزعتها إلى تحقيق المكاسب والتعاطي مع الدولة بمنطق الغنية دون أي مبادرة للإصلاح والتأسيس. إذ سريعا ما تحقق الانسجام بين نداء تونس والنهضة بمجرد التوافق حول تقاسم مغانم السلطة وهي السبب الذي أدى إلى انقسام النداء واندثاره بعد رفض بعض قيادييه قبول رئيسه الباجي قائد السبسي الدخول في تحالف مع النهضة. وهو تقريبا نفس السبب الذي كان وراء معاقبة القواعد الشعبية لطرفي حزب "الترويكا" واليسار وغيرها من الأحزاب التقليدية إثر مقاطعتها في انتخابات 2014 بعد انخراطها تقريبا في نفس توجه الحزب الحاكم في الحوار الوطني أو الحوار الموسع الذي سبقه مع كل الأطياف السياسية.

لذلك برزت قوى المجتمع المدني في دور المعارضة بشكل غيب الأحزاب السياسية، لكن نجاح سلطة الإشراف والأحزاب الشريكة في الحكم في استقطاب أغلب رموز المجتمع المدني ساهم في تراجع صوت المعارضة في النصف الأخير من العشرية الماضية، الأمر الذي عمق الهوة بين القواعد الشعبية والطبقة السياسية دون مبالاة الجانب الثاني بخطورة ذلك. ليتعزز الصراع على السلطة خاصة بعد تأسيس وظهور أحزاب جديدة وسرعة صعودها وفوزها بمقاعد في البرلمان على غرار التيار الديمقراطي وحزب الدستوري الحر وتحيا تونس وائتلاف الكرامة وقلب تونس وغيرها. يأتي ذلك في الوقت الذي تضاعفت فيها أزمات البلاد على مستويات مختلفة لاسيما تداعيات أزمة الجائحة الصحية العالمية التي عرفها العالم في 2019 وارتفاع قائمة الديون التونسية للمانحين الدوليين مقل غياب أي مبادرة إصلاحية الأمر الذي عمق الأزمات الاجتماعية. واكتفت المعارضة بالصراع والدفاع عن مكاسبها وربط نضالاتها وتحركاتها بما يخدم مصالحها الحزبية الضيقة. فضلا عن تكرر مشاهد ترذيل العمل السياسي داخل البرلمان أو في الصراع على الصلاحيات بين قصر قرطاج والقصبة وباردو التي قاد لها دستور 2014.

فكان هذا العامل سببا لترحيب طبقات شعبية ومدنية واسعة بقرارات 25 جويلية 2021 القاضية بإيقاف عجلة منظومة الحكم التي تقودها النهضة، وما نجم عنها من تحييد وتجميد للطبقة السياسية، رغم المحاولات المتكررة للمعارضة للمسار الذي يقوده قيس سعيد اليوم للتحرك والعودة إلى مواقع الفعل والقرار.

وأرجعت بعض القراءات سبب فشل المعارضة اليوم في تحقيق أهدافها وعجزها عن تكوين قوة قادرة على فرض نسقها في المشهد العام رغم أخطاء السلطة، هو تركيز نشاطها وتفكيرها على "السلطة" والكرسي دون اهتمام بالبرامج الإصلاحية والبناء والتأسيس من ناحية وعدم قيامها كلها بمراجعات ونقد ذاتي وجمود تفكيرها وعدم تجديد نفسها وهياكلها. لتعود بذلك المعارضة مرة أخرى إلى النقطة الصفر. وقد كان لتعاطيها مع ما تم تداوله منذ أيام حول غياب رئيس الجمهورية عن المشهد العام، والهبة الجماعية لاقتناص "صدفة" وهمية للبحث عن آليات خلافة قيس سعيد والوصول إلى السلطة، تأكيد على خلو وفاضها من أي مشروع عملي ديمقراطي. وهو ما من شأنه أن يعزز المخاوف من  هذه القوى ويدفع إلى ترقب "بديل" في هذه المهمة التي لا تستقيم الأنظمة الديمقراطية دون وجود معارضة فاعلة وقوية.

عبد اللطيف الحناشي لـ"الصباح": أدوار غير مستقرة ومعارضة منقوصةالساحة الحزبية عرفت ظواهر ومشاكل لا حدَّ لها أثَّرت أحيانًا بعمق على المشهد السياسي

فيما يتعلق بتاريخ المعارضة في تونس، فقد تم بعد الاستقلال القضاء على الصحافة التونسية شيئا فشيئا ولم تبق إلا الصحافة الموالية للحزب الحاكم بل أن البعض من عناصر الحزب ذاته قد دفع ضريبة نقد الحكم الفردي للرئيس الحبيب بورقيبة. كما تراجع عدد الجمعيات والمنظمات وتم اختراق ما تبقى منها والسيطرة عليها وأصبحت جزءَ لا يتجزّأ من جهاز الحزب ولم تُستثن من ذلك عمادة المحامين التي تم حلّها في جوان 1958 ثم احتوائها. كما كان الشأن بالنسبة إلى الأحزاب السياسية التي اندثر البعض منها إما خوفا أو بعد تحجير نشاطها ووسائل إعلامها بأمر من السلطة.

فالنظام البورقيبي قام قبل اكتماله بتصفية معارضيه خاصة التيار "اليوسفي" بكل عنف وقسوة عن طريق مؤسسات الحزب والدولة وبتحالف ضمني مع الإدارة الفرنسية بتونس. وبعد الاستقلال انتصبت محكمة القضاء العليا بهدف محاكمة "اليوسفيين" و"المتعاملين" سابقا مع الاستعمار وبعض أفراد العائلة الحاكمة وأصدرت بين تاريخ تأسيسها إلى تاريخ إلغائها أواخر أكتوبر 1959 أحكاما قاسية جدا على مئات المتهمين ومن بينهم المناضلين "اليوسفيين" وغيرهم من المعارضين. لينتهي الأمر باغتيال صالح بن يوسف في سويسرا عن طريق أحد أبرز المقرّبين لبورقيبة.

اعتبر الرئيس الحبيب بورقيبة أن الأمن قد استتب وسادت الديمقراطية بالبلاد، بعد القضاء على الحركة "اليوسفية" ودليله على ذلك هو وجود الحزب الشيوعي التونسي الذي يعمل في إطار القانون بكل حرية رغم أنه " أصغر حزب شيوعي في العالم..".

واعتبر بورقيبة، في هذه المرحلة، أن وجود معارضة يمثّل شرطا أساسيّا لضمان الحرية والديمقراطية إذ يقول: "..ونحن نقبل مبدأ المعارضة ونعترف بما لها من حقّ"، بل يعتبرها "شرطا أساسيا لضمان الحرية والديمقراطية..." ولكن دون القبول بمعارضة أخرى غير الحزب الشيوعي التونسي وخاصة بقايا الحركة اليوسفية واللجنة التنفيذية إذ يؤكد أن "..الذي لا نقبل به إطلاقا هو أن يستغل بعض الناس هذه المعارضة لإرضاء عواطفهم الحقودة فيحرضون على التقتيل ويبثون التفرقة في صفوف الشعب الذي استقبلني في غرة جوان 1955". أما المعارضة التي يحبّذها بورقيبة فهي المعارضة المُطيعة لقرارات الحكومة وغير ذلك النوع من المعارضة هو تجسيد لتأخّر الشعب وتخلّفه.

والأمر كان غير ذلك إذ سريعا ما تمّ تحجير نشاط هذا الحزب المعارض سنة 1963 ومنذ سنة 1964 انضوت جميع المنظمات النقابية المهنية والاجتماعية تحت سلطة الحزب الحاكم وطال الأمر الحزب الحاكم (والوحيد) نفسه إذ تم إدخال تحويرات على نظامه الداخلي باتجاه مركزة التنظيم والتسيير وانحسرت نتيجة لذلك الممارسات الديمقراطية، الجزئية، التي كانت تجري في مستوى بعض الهياكل الوسطى والدنيا. وتدرّج الأمر إلى اندماج الحزب والدولة بقيادة بورقيبة صاحب القرار الأول والأخير في الحزب والدولة وهو ما أدى، بالإضافة إلى أسباب أخرى، إلى تناسل التنظيمات السياسية السريّة المعارضة للنظام سواء من خارج الحزب أو من داخله والتصادم معه. مما أدى إلى كثرة المحاكمات والتي استهدفت بعض المعارضة الدستورية وخاصة المعارضة الماركسية والقومية (البعثيون والناصريون). ومنذ أواخر الستينات بدأت الجماعات ذات المرجعية الإسلامية في النشاط والبروز كما بدأت تبرز من داخل الحزب الحاكم شخصيات معارضة لسياسات الدولة والحزب الحاكم عبرت عن نفسها خلال مؤتمر الحزب سنتي 1971 و1974 وصولا لبروز جماعة "الرأي" ومنها حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بقيادة احمد المستيري وقبلها حركة الوحدة الشعبية بقيادة أحمد بن صالح.

المرحلة الثانية بين 1981-1986

تم تعيين محمد مزالي في رئاسة الحكومة في 8 أفريل 1980 إلى 8 جويلية 1986، وتميزت فترة هذه الحكومة بالارتباك في أدائها والتضارب في مواقفها. إذ عرفت البلاد انفتاحا سياسيا وإعلاميا واسعا مقارنة بالعهود السابقة. فتم الاعتراف بعدد من الأحزاب السياسية والسماح بهامش واسع نسبيّ من حرية الصحافة وإطلاق سراح عدد كبير من المساجين السياسيين. لكن "ربيع تونس" هذا سريعا ما غَرُبَ بعد تزييف الانتخابات التشريعية لسنة 1981 وانتهجت الحكومة من جديد أسلوب التشدد إزاء القوى الديمقراطية المعارضة. ولمواجهة انسداد الآفاق الاقتصادية، ضاعفت الحكومة في أسعار الخبز فانطلقت انتفاضة شعبية عفوية في كامل البلاد بدت للكثير من الملاحظين أنها انتفاضة جياع، غير أنها لم تكن كذلك في الواقع، بل مثلت احد أشكال التعبير العنيف عن المرارة والإحباط الذي تلظت بهما كافة شرائح المجتمع التونسي. ومما ضاعف من تواصل الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (البطالة والنزوح وتكاثر الإجرام...) وتدهور علاقة الحكومة التونسية بالاتحاد العام التونسي للشغل من جهة ومع دول الجوار من جهة ثانية وخاصة مع ليبيا التي أقدمت على طرد آلاف العمال التونسيين العاملين في أراضيها. وفي سنة 1981 بعد أن أعلن الرئيس السابق الحبيب بورقيبة السماح بتعددية سياسية لكنها كانت محدودة اذ تم الاعتراف بالحزب الشيوعي التونسي سنة 1984.

 

زمن حكم الاستبداد السياسي(1987-2010 )

وبعد 7 نوفمبر 1987 توسعت خارطة الأحزاب بالبلاد إلى أن وصل عددها قبل الثورة إلى تسع أحزاب تعمل بشكل قانوني. يمكن تصنيف هذه الأحزاب إلى صنفين:

أ- أحزاب الموالاة: تُوصف عادة تلك الأحزاب بأحزاب الـ Vitrine " الواجهة " أو أحزاب الديكور والأحزاب الإدارية وغيرها من الصفات التحقيرية.. وهي الأحزاب المتحالفة سياسيا مع حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" مثل حزب الوحدة الشعبية الذي تأسس في جانفي 1981 والاتحاد الديمقراطي الوحدوي تأسس في 26 نوفمبر 1988 والحزب الاجتماعي التحرري   تأسس في 12 سبتمبر 1988 وحزب الخضر للتقدم تأسس في 3 مارس 2006

بـ/ أحزاب معارضة قانونية غير المتحالفة مع الحكومة: حركة التجديد، الحزب الديمقراطي التقدمي، التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات.

الأحزاب غير القانونية: ونعني بذلك تلك الأحزاب التي لم تتمكن من الحصول على تأشيرة للنشاط العلني تبعا للقانون الأساسي الذي يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية في تونس الذي يستند على فصول غير متينة من الناحية القانونية والإجرائية. ومن بين أهم تلك الأحزاب التي قدمت للحصول على تأشيرة التواجد القانوني ولم يُعترف بها نذكر: حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحركة الناصرية التقدمية، حزب النهضة، حزب العمل الوطني الديمقراطي، حزب البعث، حزب العمال الشيوعي، حزب الخضر، الحزب الاشتراكي اليساري.

الأحزاب ما بعد الثورة: يمكن تصنيف الأحزاب بعد الثورة إلى 4 أصناف:

-   أحزاب ذات شرعية نضالية وتاريخية

-   أحزاب تأسست ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي وهي على نوعين: نوع برز على خلفية الانشقاق عن أحزاب ممثلة في المجلس التشريعي او بعد 2014

-أحزاب افتراضية لا وجود لقاعدة اجتماعية لها.

-أحزاب سجلت حضورها بواسطة إمكانيات مؤسسيها للمال (حزب الاتحاد الوطني الحرّ).

كما عرفت الساحة الحزبية ظواهر ومشاكل لا حدَّ لها أثَّرت أحيانًا بعمق على المشهد السياسي، من ذلك:

نخبوية التأسيس والنشاط ومحدودية تمددها الجغرافي والاجتماعي

أحزاب عائلية أو جهوية أو قبلية

غياب الديمقراطية الداخلية

تشابه البرامج وضعف البنية التنظيمية

هشاشة وضعف الأحزاب ومرورها بأزمات منعتها من القيام بدورها.

تواصل ظاهرة السياحة الحزبية والبرلمانية، من ذلك أن انتقال النواب بين الكتل البرلمانية خلال الدورات البرلمانية الأربع تجاوز ثلث النواب حيث تنقَّل 74 نائبًا (من إجمالي 217 نائبًا) من كتلة إلى أخرى ومن بينهم نواب انتقلوا أربع مرات في أربع سنوات.

ظاهرة الاستقالات من الأحزاب والانشقاقات: كما هي الحال بالنسبة إلى "حزب نداء تونس وآفاق تونس، والاتحاد الوطني الحر وحزب مشروع تونس، وحزب حراك تونس الإرادة" وحزب النهضة وغيرها من الأحزاب.

ولا يمكن الحديث عن معارضة سياسية واضحة وثابتة بين 2011-2019 الا جزئيا خاصة في فترة حكم الترويكا وبعد سقوطها عرفت المعارضة تنوعا وتشتتا تحكمت فيه عدة عوامل داخل الأحزاب خاصة أو حجم الكتل في البرلمان.

محمد الكيلاني لـ"الصباح"الشارع لن يصنع من أحزاب المتسلقين والانتهازيين معارضة وازنة

أفاد محمد الكيلاني، مؤسس الحزب الاشتراكي اليساري (الحزب الاشتراكي)، وأحد مؤسسي وقياديي حزب العمال الشيوعي التونسي سابقا، أن هناك حقيقة تاريخية وهي أن المعارضة نشأت قبل الاستقلال من خلال وجود توجهات وخيارات مختلفة عن اختيارات الحركة الوطنية التي كان يمثلها الحزب الحر الدستوري التونسي. فالحزب الشيوعي تأسس سنة 1920 وترجع نواتاته الأولى إلى 1909 الاشتراكية في أوساط الشباب التلمذي من أبناء الفرنسيين والإيطاليين. وكان العديد من العناصر البارزة من الفرع الفيدرالي للأممية الشيوعية أو الحزب الشيوعي من رفاق محمد علي الحامي في تأسيس الجامعة النقابية الأولى في عشرينية القرن الماضي، مثل بودمغة والعياري وبن ميلاد. وظل الحزب الشيوعي شريكا في النضال الاجتماعي والوطني من مواقع متقدمة أحيانا ومترددة أحيانا أخرى، إلى أن استقلت تونس ليأخذ موقع المعارضة لنظام الحكم في الدولة الحديثة، متبعا سياسة المعارضة النقدية حينا والمتباينة مع خيارات السلطة أحيانا أخرى. ومنذ الإعلان عن الاستقلال الداخلي وظهور الخلاف البورقيبي اليوسفي، أصبحت الساحة السياسية تضم أيضا معارضة راديكالية، ممثلة في الشق اليوسفي، للنظام البورقيبي. وبحكم أن المواجهة كانت عنيفة بين الجناحين انتهت بإنهاء وجود الثاني، واتجهت السلطة إلى دعم وجودها بإعداد دستور تمت المصادقة عليه في 1959 وتنظيم انتخابات تشريعية خاضها الحزب الدستوري في إطار الجبهة القومية وقمع الحزب الشيوعي ولم يترك له التواجد كمعارضة مجلس الأمة.

ويذهب الكيلاني إلى أن المعارضة اليسارية الجديدة بدأت تظهر منذ 1959 بخروج بعض العناصر من الحزب الشيوعي واتجهت إلى تأسيس تنظيم سياسي ذي توجهات تروتسكية. لكن ومنذ مطلع الستينات بدأ الشباب الطالبي، الذي كان يتابع دراسته في فرنسا، ناقدا لاحتكار "الدساترة" للسلطة وانعدام الديمقراطية. فكانت مناسبة لتجمع هذا الطيف الشبابي من بعثيين واشتراكيين وشيوعيين ومستقلين في إطار "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" الهدف المباشر في التصدي لانقلاب الطلبة الدساترة والقيام بدراسات لبورة تصور جامع بديل معارض للسلطة القائمة. لتسفر عن تأسيس اليسار الجديد. وبصورة خاصة بعد أن غادر البعثيون والطلبة الشيوعيون هذا التجمع.

ومنذ 1966 ـ 1967 وارتقاء أبناء مدرسة الجمهورية من الجيل الأول لدولة الاستقلال تحوّل "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" إلى تنظيم ماركسي يتبنى الاشتراكية العلمية وبصورة خاصة بعد أن تبين له أن تجربة التعاضد التي قادها بن صالح كانت تجربة بيروقراطية وليست اشتراكية. وعلى هذا الأساس أصبحت معارضته للسلطة أكثر راديكالية، تجسّدت في الخطاب والشعارات التي كانت تنادي بالإطاحة بالنظام وإقامة دكتاتورية البروليتاريا وبصورة خاصة في 1968 مع انتفاضة الشباب الطلابي في مارس 68 التي سبقت انتفاضة الشباب الفرنسي والعالمي في ماي 68. فواجه النظام الحاكم تلك الحركة بالقمع والسجن الذي طال "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" ـ برسبيكتيف أساسا والشيوعيين والبعثيين.

واصل اليسار معارضته للسلطة حتى بعد أن أطلق سراح قادته من السجن في عام 1970. وفي النصف الأول من السبعينات تعززت الجامعة بمنتمين جدد لها متخرجين منها التحقوا بالتدريس في المعاهد والمدارس، الشيء أحدث تغييرا في عموم الحركة على مستويين: الأول كان في الحركة الطلابية التي شهدت قفزة كبرى، والثاني يتمثل في التأثير الحاصل في الحركة النقابية التي أجبرت على أن تصبح أكثر احتجاجية، بتكثيف الإضرابات وتغير خطاب المركزية النقابية وخطاب جريدة الشعب وظهور المطلب العام باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل عن الحزب الحاكم وعن السلطة القائمة، لتنتهي بالإضراب العام في 26 جانفي 1978.

ولمواجهة الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية والسياسية المطالبة بالحريات والعدل الاجتماعي اتبعت السلطة سياسة قمعية فقامت بحملة اعتقالات واسعة في أوساط اليسار "برسبكتيف ـ العامل التونسي" من نوفمبر 1973 إلى ديسمبر 1974 وجانفي فيفري 1975، وتنظيم محاكمات أمن الدولة في جويلية ـ أكتوبر 1975. وفي نفس الوقت تعرّض مناضلو "التجمع الماركسي الليليني" للإيقاف والمحاكمة. وكذلك الشأن "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" وهي مجموعة قومية قذافية ـ ناصرية، التي كانت وراء عملية قفصة 1980 مع مجموعات أخرى مدعومة من معمر القذافي.

وبعد إطلاق سراح مناضلي "آفاق ـ العامل التونسي" في 1980، حاول التنظيم إعادة بناء صفوفه، لكن اختلفت التوجهات بشكل لم يعد من الممكن أن يواصل سيره كما في السابق فانقسم إلى ثلاثة توجهات: الأول، يضم الآباء المؤسسين الذين توجهوا إلى العمل الثقافي والحقوقي، والثاني كان قاده أحمد نجيب الشابي لتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي، والثالث تكوين حلقة الشيوعي التي كانت وراء تأسيس حزب العمال الشيوعي في ديسمبر 1985 وتمّ الإعلان عن تأسيسه في 3 جانفي 1986.

لم يتوقف وجود المعارضة على هذه القوى، بل شمل المعارضة البنصالحية، التي تشكلت في حركة الوحدة الشعبية التي تفرع عنها حزب الوحدة الشعبية المتوافقة مع السلطة، فيما مالت الحركة في اتجاه التحالف مع اليسار. وظلّ هذان التوجهان قائمان إلى 14جانفي.

أما بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين فبعد أن شاركوا في تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمعية اليسار شاركوا في الانتخابات التشريعية في 1981 وفازوا فيها لولا التدليس الشامل الذي نفذته وزارة الداخلية والحزب الحاكم. ثم انقسمت هي الأخرى إلى 3 مجموعات رئيسية ظلت عموما قريبة من السلطة وحاولت إيجاد اتفاقات مع بن علي غير أنه لم يقبل بطلبات أحمد المستيري.

ونزل محمد الكيلاني الوضع في ثمانينات القرن الماضي في أطار الصراع على الخلافة بين مختلف كتل النظام وبصورة خاصة في في إطار طموحات مزالي لخلافة بورقيبة. ممّا جعله يتبع سياسة مالية إنفاقية جعلت الدولة تدخل في عجز مالي صريح مما دعاه إلى اتخاذ إجراءات تقشفية يطلبها صندوق النقد الدولي منها رفع الدعم عن الخبر. فكانت انتفاضة الخبزة في جانفي 1984، التي تمّ إخمادها عن طريق الجيش وبإعلان بورقيبة التراجع عن تلك الزيادة. وللتخلص من مزاحميه على الخلافة توجه لضرب الاتحاد في 1985 ـ 1986، بتكوين "الشرفاء" ومحاكمة القيادة النقابية. وبدأ يعد لانقلاب "طبي"، انكشف أمره، فهرب. وعوضه البشير صفر الذي أتى بمشروع الإصلاح الهيكلي المملى من قبل صندوق النقد الدولي. وفي 1987 عوضه زين العابدين بن علي الذي كان وزيرا للداخلية.

لكن الجديد في الساحة السياسية هو بروز المعارضة الإسلامية التي تشكلت منذ مطلع السبعينات في ما كان يسمى بـ"الجماعة الإسلامية" ثم تأسس الاتجاه الإسلامي الذي يطبع منشوراته في دار "الساجيب" مطبعة الحزب الحاكم بداره في القصبة وأقنع محمد الصياح بأنه يمثل تيارا لقطع الطريق أمام اليسار. وقد دخل أبناء هذا الاتجاه في صدام مع أبناء اليسار في الجامعات. ووجد الدعم من محمد مزالي منذ أن تولى الوزارة الأولى، لكن موقف بوقيبة تغيّر منذ الندوة الصحفية التي عقدها الاتجاه الإسلامي وأعلن فيها على ضرورة تغيير مجلة الأحوال الشخصية التي يعتبرها مشروعه المميز، فأمر بإيقافهم ومحاكمتهم.

لكن تطور الأوضاع في الثمانينات جعلت الاتجاه الإسلامي يرى بأن السلطة أصبحت قاب قوسين أو أدنى منه، خاصة مع تحالفها مع محمد مزالي. لكن بورقيبة عاد مطالبا بإيقاف القيادة وتنفيذ أقصى الأحكام. فساهمت العمليات الإرهابية و"الماء الحارق" والاعتداءات العنيفة على الأفراد والمجموعات مثل عملية باب سويقة، الكرم.

كانت فترة حكم زين العابدين بن علي مختلفة عن حكم بورقيبة، حتى وإن كانا يتفقان في القمع، لكن بن على كان راديكالي في قمعه حتى مع من اتفق معهم على تنحية بورقيبة، إذ انقلب عليهم وأوقف المجموعة الأمنية وكذلك مجموعة براكة الساحل. ثم بدأ في أعادة ترتيب البيت الداخلي للدولة في محاولة التقرب من الأحزاب السياسية التي في المعارضة أيام بورقيبة وتشريكها في النقاش حول الميثاق الوطني الذي أمضت عليه جميعها بما ذلك حركة النهضة التي أمضى عليه نورالدين البحيري باسمها، وباستثناء حزب العمال الذي رفض الامضاء لعدم وجود قوانين حامية للحريات ومنظمة للحياة السياسية.

ويعتبر الكيلاني أن بن علي عمل على إيجاد مصالحة مع الاتحاد العام التونسي للشغل وقبل بأن ينتظم المؤتمر 18 الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس. وفتح مشاورات مع جل الأحزاب حول الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها للمشاركة فيها.

وبعد أن تعرّف على كل المكونات اختار الأحزاب التي ستكون شريكة له في البرلمان وأعلن الحرب على البقية وفرض إملاءاته على اتحاد الشغل ووجد من يسير في ركاب السلطة دون عناء. لينطلق بعد حرب الخليج الثانية في عمليه تصفية للقوى السياسية الراديكالية، كحركة النهضة التي حاول اقتلاعها من جذورها ثم حزب العمال الشيوعي التونسي.

مؤكدا أنه قدم استقالته من حزب العمال الشيوعي رسميا سنة 1994 بسبب خلاف فكري مع قيادة الحزب ولم أعد للنشاط إلا في سنة 1998 بعد أن دخلت المعارضة في سبات عميق ولم تعد قادرة على التحرك واتجهت للعمل مع حركة التجديد وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين والتجمع الاشتراكي التقدمي وكل الديمقراطيين دفاعا عن الحريات والديمقراطية

لذلك باءت كل محاولات عودة الأحزاب للنشاط في المعارضة بالفشل رغم محاولات تجميع القوى الديمقراطية بهدف إعادة بعث الحركة الديمقراطية من جديد عبر منتدى "الموقف" ثم تأسيس الحزب الديمقراطي التقدمي الذي فتح نافذة أمل للقوى المعارضة.

واعتبر إضراب جوع 2005 ثم حركة 18 أكتوبر التي جمعت الأحزاب المعارضة نقطة ضوء. وهو يرى أيضا أن ضعف نظام بن علي في العشرية الأخيرة من حكمه تزامن مع ضعف فادح للمعارضة اليسارية والديمقراطية. وأرجع ذلك إلى عدم إيمانها جميعا بالعمل التشاركي.

فيما يعتبر التاريخ يعيد نفسه في حديثه عن المعارضة اليوم بعد أن ساند حمه الهمامي ونجيب الشابي ومنصف المرزوقي النهضة في تحرك 18 أكتوبر 2005، فيما أقصت النهضة البقية لما مسكت بزمام الحكم بعد الثورة باستثناء المرزوقي، والحقيقة أن تجدد التقاء الهمامي في الشارع ودخول الشابي مع النهضة في جبهة الخلاص مضرّ بالقوى الديمقراطية والجمهورية. واعتبر مقاطعة الناخبين لليسار والأحزاب الديمقراطية والكلاسيكية التي تحالفت مع النهضة أو عارضتها على حد السواء بمثابة عقاب لها. مشددا أن الجميع لم يستوعبوا الدرس بسبب الجمود في التفكير من ناحية والهبة نحو النفعية السياسية واللهث وراء السلطة.  أما بالنسبة لبقية الأحزاب المكونة للمشهد السياسي فيصفها محمد الكيلاني بأحزاب المتسلقين والانتهازيين للانقضاض على السلطة التي أصبحت في "الشارع" لا يمكن أن يصنع منها معارضة وازنة.

الأمين العام المساعد لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين لـ"الصباح": الحركة نجحت في احتضان المعارضة والقوى السياسية الناشئة

أكد الأمين العام المساعد لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، نجيب العياري، أن الحركة لعبت دورا رياديا وغير مسبوق في مسارها السياسي المعارض لنظام الرئيس الحبيب بورقيبة منذ تأسيسها سنة 1978 في احتضان المعارضة والقوى السياسية الناشئة والمدنية وفي مرحلة ثانية ضد نظام زين العابدين بن علي. إذ شكلت حاضنة للقوى والنشطاء السياسيين من مختلف التوجهات اليسارية والتقدمية والليبرالية والإسلامية والقومية وغيرها. الأمر الذي جعلها تدفع ضريبة ذلك في مراحل مختلفة من تاريخ تونس في الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي. معتبرا أن برناج الحركة لسنة 1978 ولوائح الحركة للمؤتمرات الثمانية تكشف مواقف ورؤى وردود فعل الحركة من نظام الحكم حسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. معترفا بتأثير الخلافات الداخلية على الحركة بعد 2011 لتغيب في الزحام.

العجمي الوريمي لـ"الصباح":أغلب مكونات الطبقة السياسية انتهت

المجال اليوم لأصحاب منطق الدولة والبراغماتية

لم ينف العجمي الوريمي القيادي في حركة النهضة، أن نشأة التيار الإسلامي في فترة الحكم البورقيبي كانت من رحم الحزب الدستوري، وأن بعض الفاعلين في النظام البورقيبي كانت تنظر لذلك بارتياح، وذكر من رواده ومؤسسيه الحبيب المستاوي وحميدة ومحمد صالح النيفر، ولكنه نشا باستقلال عن السلطة وفي علاقة نقدية مع اليسار والسلطة. وفسر ذلك، بأنه بعض ثورة فرنسا 1969 وصعود للتيار اليساري ونشاة برسبكتيف وبروز تيارات في المعارضة مستقطبة من جهات أجنبية رأى بعض الأطراف في السلطة أن يكون التيار الاسلامي ليحقق التوازن. خاصة أن اليسار في تك المرحلة كان راديكاليا استئصاليا إيديولوجيا أفيونيا ويرفض النظام.

ووصف الوريمي ما تعرضت له حركة النهضة في فترة حكم بن علي كغيرها من بقية القوى السياسية "حوض سياسي جاف" على حد عبارة حسنين هيكل. وتم تحويلها كلها إلى أحزاب إدارة أو أحزاب شكلية صورية. ليعيش الجميع نوع من الصحوة قبل انتخابات 1999 لكن سرعان ما تم التراجع عن ذلك في سياسته بعد أحداث 11 سبتمبر وأصبح ملف مقاومة الإرهاب على الطاولة من جديد. واعتبر أن قمع نظام بن علي للحريات كان في سياق معكرته مع الإسلاميين.

فيما اعتبر التحول السريع لحركة النهضة من صف المعارضة إلى موقع الحكم والسلطة، في الوقت الذي كانت فيه في مرحلة إعادة البناء والانخراط في الحياة السياسية، كان من العوامل التي أثرت على دورها والمنظومة والمرحلة السياسية ما بعد الثورة على حد السواء. خاصة أن جل قياداته كانت تنشط في السرية والانتقال إلى العلنية لم يكن يسرا. معتبرا أن فوزها في انتخابات أكتوبر 2011 أحدث بدوره نوعا من الصدمة والرجة بالنسبة لبقية القوى السياسية أساسا منها الحداثية واليسارية، فكان ان اختارت كلها أن تكون معارضة للحركة وهو ما دفعها جمعا لتتحد وتؤسس حركة نداء تونس.

إلا أنه اعتبر ذلك من الأخطاء باعتبار أن رغبة النهضة لم يكن تنظيم انتخابات. وإنما الجبهة التي قادها اليسار هي التي طالبت بذلك في اعتصامات القصبة. وهو يعتبر أنه كان الأجدى في الأمر حينها هو البناء على مكونات 18 أكتوبر وتوسيع أفاقه والدخول جميعا في مشروع إصلاحي سياسي اقتصادي واجتماعي تشاركي لان اليسار لم يكن متحمسا لذلك.  لذلك اعتبر في اختيار عدد كبير من اليساريين معارضة نظام الحكم وتحصن البعض الآخر داخل الاتحاد العام التونسي للشغل وتحويله إلى قوة سياسية قادرة على إحداث التوازن مع الأغلبية الحاكمة من العوامل التي أثرت على الوضع مستدلا على ذلك بدعوة بعض الأطراف من الاتحاد بضرورة تطبيق السيناريو المصري في تونس.

كما اعتبر القيادي في حركة النهضة أن ما عرفته الطبقة السياسية برمتها في سنوات ما بعد الثورة من تشتت وتشظ وتشرذم واختلاف وصراع بشكل متكرر كانت نتائجه وخيمة ليس بالنسبة للطبقة السياسية الحاكمة فحسب بل لكل القوى السياسية والمدنية بمختلف توجهاتها وأثر سلبا على الدورة ومقدراتها. ووصف قبول النهضة التوافق مع نداء تونس أحد القوى التي قادت المعارضة بالحكمة السياسية للشيخين الباجي والغنوشي، ودورها في تعطيل توجه ديمقراطي يراهن على ثنائية أغلبية في الحكم وأقلية في المعارضة.

ويرى أيضا أنه بعد حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي إثر الثورة وتوجه أبنائه إلى النشاط المدني في الجمعيات والمنظمات فضلا عن استقطاب المنظمات الحقوقية وغيرها كانت له تداعياته على وضع المعارضة اليوم. خاصة بعد أن تم إفراغ الحركة الحقوقية من رموزها ومحتواها واستقطابها لأحزاب سياسية مقابل اختيار بعض السياسيين العودة إلى المنظمات والهياكل المدنية. وأن أغلب الأحزاب الناشئة حديثا كان هدفها السلطة فيما يعتبر الدستوري الحر حزب غير ديمقراطي ولا يؤمن بالشعب.

لذلك يرى أن أغلب الطبقة السياسية لم تستوعب الدرس بعد  ولم تقم بالمراجعات المطلوبة وهو يعتبر أسماء من قبيل راشد الغنوشي وحمة الهمامي ونجيب الشابي وغيرهم تجاوزهم الزمن السياسي اليوم، لأنه في حاجة إلى جيل له منطق الدولة والبراغماتية ويملك خطط إصلاحية وقريب من مشاغل وواقع المشعب. معتبرا النزعة الفردية للأحزاب والسياسيين وعدم القيام بوقفة تأمل ومراجعة للأخطاء تأكيد مرة أخرى على نهاية وعدم جدوى القوى السياسية في المعارضة كانت أم في السلطة. لأن الجميع اليوم يفكر ويتحرك بمنطق مراعاة القواعد الشعبية شان ما يقوم به قيس سعيد اليوم حسب تقديره.

من حكم بورقيبة إلى سعيد  |  المعارضة التونسية.. "شعلة" ثم "كرتونية" فانتهازية غنائمية

 

المعارضة فشلت في تحقيق أهدافها بسبب تركيز نشاطها وتفكيرها في "السلطة" والكرسي دون اهتمام بالبرامج الإصلاحية

 

إعداد: نزيهة الغضباني

تونس – الصباح

الحديث عن المعارضة السياسية في تاريخ تونس القريب أي منذ فترة ما بعد الاستقلال إلى الآن، بدءا بفترة حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة مرورا بفترة حكم الراحل زين العابدين بن علي ففترة ما بعد ثورة 2011 وصولا إلى فترة حكم الرئيس الحالي قيس سعيد، يبدو مشابها ومكررا من فترة لأخرى، رغم اختلاف السياقات الحافة بكل مرحلة. وقد تناول عديد المؤرخين والسياسيين هذه المسألة في سياقات سياسية وتاريخية ومناسبات إعلامية مختلفة ومتعددة خاصة أن عددا كبيرا ممن عاشوا وعايشوا هذه المراحل لا يزالون فاعلين ويواصلون نفس الدور إلى اليوم. وبعد المرور من مرحلة التأسيس و"النضال" من أجل الوجود ووضع لبنات الاختلاف عبر تعددية حزبية تقطع مع ثقافة ومبدأ الحزب الواحد، دفع ضريبتها عدد كبير من السياسيين والفئات التي انخرطت في تلك المشاريع السياسية القائمة على الاختلاف مع منظومة الحكم سواء في عد بورقيبة أو بن علي الديكتاتورية لاسيما بالنسبة لليسار أو القوى التقدمية والمدنية التي خرجت من رحم الحزب الدستوري، تجد القوى السياسية نفسها، بعد ثورة 2011 تتخبط في دائرة ضيقة بحثا عن مخارج ورؤى وصور وتوجهات عملية تنأى بها عن وضعها السابق وتضعها في حضرة مناخ سياسي ديمقراطي بشكل مفاجئ لم تكن مهيأة للتعاطي مع طقوسه. فتداخلت جملة من العوامل التي "كيّفت" الوضع بالنسبة للحكم والمعارضة على حد السواء، اختلط فيها اختلط فيها الذاتي والموضوعي وكان للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية وتداعيات السياقات الإقليمية والدولية دور في ذلك. لتعود المعارضة في هذه الفترة المربع الأول في رحلة البحث عن "الذات" والصراع من أجل إعادة التشكل والتموضع من جديد.

بالعودة إلى بعض المراجع والإصدارات التاريخية، التي تناولت الإرهاصات الأولى للممارسة السياسية والحزبية في تونس وما تم نتداوله إعلاميا حول المسألة، خاصة بعد الخروج من مرحلة الاستعمار وبداية بناء الجمهورية بما تتطلبه من مؤسسات وتغييرات قانونية وهيكلية وثقافية وفكرية والقطع مع منظومة حكم البايات، تتقاطع النتائج المتعلقة بدور الطبقة السياسية الناشئة مع شهادات أغلب الفاعلين في تلك المرحلة سواء داخل أجهزة ومؤسسات الدولة أو من الطبقة الفكرية والثقافية أو السياسية والحزبية والمدنية، حول نفس المعطيات المحددة للمرحلة السياسية في الجمهورية الأولى الناشئة. خاصة أن الجهة السياسية المهيمنة في مرحلة ما بعد الاستقلال اقتصرت على الحزب الحر الدستوري كسليل للحركة الوطنية. وذلك بعد أن انتهج بورقيبة رئيس الجمهورية والحزب سياسة التفرد بالحكم والقرار والتعيينات على رأس الحزب والاتحاد العام التونسي للشغل وغيرها من المنظمات والهياكل الوطنية الموجودة آنذاك على غرار اتحاد الفلاحين والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والحرف اليدوية، ومن ثمة تكريس وجود وحكم الحزب الواحد.

 

الاختلاف الذي مهد الطريق

عرف الحزب الحر الدستوري الجديد خلافات عديدة بين قياداته، تفاقمت في بداية الستينات خاصة بسبب الانتقادات الموجهة لبعض خيارات بورقيبة مثل حرب الجلاء ببنزرت سنة 1962 أو غيرها من الخيارات، أدت إلى انقسام الحزب إلى شقين الأول منتصر لبورقيبة والثاني لصالح بن يوسف، فتحت الطريق لأصوات أخرى مختلفة عن الرأي الواحد داخل الحزب، لتشهد في مرحلة لاحقة صعود اليسار الذي خرج من رحم اليسار الجامعي. وشكل حاضنة لجانب من المبادرات الشبابية الفكرية والسياسية التي ما انفكت تنتشر وتنشط في مختلف الأوساط الجامعية وغيرها. كما كان لتعرض بورقيبة إلى محاولة انقلابية تورطت فيها مجموعة من العسكريين والمدنيين حكم على اغلبهم بالإعدام، دورها في حظر نشاط الحزب الشيوعي التونسي وحلّ ما تبقى من الحزب الدستوري القديم وأصبحت المعارضة تقتصر في الستينات على بعض الشخصيات في الخارج وبعض التنظيمات اليسارية والقومية الصغيرة. لتعدد الاتجاهات داخل الحزب الحاكم بما في ذلك التيار الإسلامي الذي بدأ يظهر بعد نكسة 1967 العربية وتوجه البعض للتجربة الإسلامية بعد فشل الاشتراكية والقومية مثلما أكد ذلك المفكر عبدالله العروي. فكانت مجلة "المعرفة" في تونس رافدا للأفكار الخادمة لهذه التجربة التي نشأت وخرجت من رحم الحزب الحاكم.

"برسبكتيف"

تعود نشأة حركة برسبكتيف في أوساط الطلبة التونسيين بالعاصمة الفرنسية باريس الذين كانوا يتلقون تعليمهم في الجامعات الفرنسية في بداية الستينات من القرن الماضي. وضمت في تشكيلتها عناصر ذات مرجعيات سياسية مختلفة من قومين وشيوعيين من تروتسكيين ومستقلين. وبعد سلسلة من الاجتماعات عقدتها اللجان المنظمة للحركة منذ عام 1963 توصلوا إلى اتفاق على تأسيس تجمع للطلبة اليساريين بمختلف مرجعياتهم وتوجهاتهم العقائدية، وأطلقت على التجمع اسم "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" مما يعني تبنيها الفكر الاشتراكي. وهو التوجه ذاته الذي كان النظام التونسي يعتزم التوجه نحوه خاصة بعد خروج المعمر الفرنسي ومغادرة الرأسماليين لتونس وتأثير ذلك السلبي على الاقتصاد الوطني، إلا أن المجموعة عرفت أكثر باسم برسبكتيف  أو "آفاق". وبعد انتقالها إلى تونس عام 1964 ساهمت التغيرات التي شهدتها التركيبة الاجتماعية للطلبة التونسيين بحكم توسع الجامعات والتزايد الكبير الذي شهدته أعداد الطلبة فيها، في تجذر الحركة ودفعتها إلى التوجه نحو الفكر الراديكالي. ويمكن القول إن ذلك العامل كان له دور في تحديد مسار تلك الحركة التي تم القضاء عليها وسجن أغلب رموزها من بينهم الراجل جلبار النقاش.

حركة الديموقراطيين الاشتراكيين

كان لتأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سنة بشكل رسمي سنة 1978  برئاسة أحمد المستيري، دور كبير في تعزيز دور المعارضة السياسية في تونس في أواخر السبعينات، واحتضان ودعم المجتمع المدني وتأسيس هياكل مدنية وحقوقية على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الأعلى للحريات، بمشاركة شخصيات وطنية وتقدمية من بينهم الدالي الجازي وحمودة بن سلامة وسعدون الزمرلي. فأصبحت بذلك الحركة تتحرك في فضاء تنظيمي واسع ليتعزز ذلك ببعث وإصدار صحفية "الرأي" ثم الميثاق القومي. وكان منطلقا لنشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة والدفاع عن الحريات. وقد تزامن ذلك مع توسع الصراعات من أجل موازين القوى والشقوق في أوساط الحكم  بعد بداية تدهور الحالة الصحية لبورقيبة إضافة إلى تواتر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي عزز موقع الحركة في صف المعارضة لتحظى بقبول القواعد الشعبية لمرشحيها في انتخابات سنة 1981، وهو ما دفع الجهات الرسمية لتغيير نتائجها، وفق ما أكده في مراحل لاحقة كل من محمد مزالي، الوزير الأول، وإدريس قيقة الذي كان يشغل خطة وزيرا للداخلية، آنذاك.

واستطاع زين العابدين بن علي بسط يده على الأجهزة الأمنية ليجد نفسه في موقع الرجل القوي في ظل تصاعد الصدام مع حركة الاتجاه الإسلامي، إذ تم تعيينه في 2 أكتوبر 1987  وزيرا أولا وأمينا عاما للحزب مع إبقائه على رأس الداخلية. وفي ليلة 7 نوفمبر 1987 أعلن اضطلاعه بالرئاسة، لتدخل البلاد منعرجا سياسيا جديدا، بعد أن رحبت القوى المعارضة بهذا التغيير، وانخرطت كلها في النقاش الذي فتحه معه حول الميثاق الوطني الذي وافقت كل القوى في الإمضاء عليه باستثناء حزب العمال الشيوعي.

 

المعارضة في البرلمان

تمكنت المعارضة من دخول البرلمان بعد 40 سنة من الاستقلال وذلك بعد فوز حركة الديمقراطيين لاشتراكيين بمقاعد في مجلس النواب في انتخابات 1994، لكن وبعد سجن أمين عام الحزب محمد مواعدة بعد عام من ذلك التاريخ وسجن عدد من قياداته أصبحت الحركة تتحرك في فلك النظام الحاكم. خاصة أن بعض قيادييها يعترف أن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين لم تقطع منذ ذلك التاريخ شعرة معاوية مع السلطة. وهو الأمر نفسه تقريبا بالنسبة لعدد من الأحزاب المحسوبة على المعارضة. وظل دورها "شكليا" في المشهد السياسي بعد أن تمكنت آلية الحكم القمعية لبن علي من تطويعها والتحكم في مسارات تحركها وإدخالها "بيت الطاعة" قسرا وتحويلها إل معارضة وموالية فيما اختار البعض النشاط في السرية. لينجح الشارع التونسي بعد اندلاع تحركات احتجاجية في أغلب جهات الجمهورية منذ ديسمبر 2010 في إسقاط منظومة حكم بن علي لتحقق بذلك ما عجزت عنه قوى المعارضة المهيكلة والمنظمة على امتداد سنوات وعقود.

 

تغير موزاين القوى

أسفرت ثورة 2011 في تغيير المشهد السياسي والحزبي برمته في تونس بعد تغير موازين القوى، وصعود بعض الأحزاب التي كانت في المعارضة إلى موقع القرار والحكم بقيادة حركة النهضة، إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في نهاية نفس السنة. وتداخلت الأوراق بالنسبة للتنظيمات الحزبية باختلاف توجهاتها باعتبار أن انتظارات الجميع كانت موجهة لتكريس نظام ديمقراطي والحريات ولم يكن الحديث عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وفرض العدالة بين الجهات وفي التشغيل الذي يضمن العيش الكريم لكل أبناء تونس لاسيما بالنسبة للشباب الحامل للشهائد العليا والعاطل عن العمل. لذلك عادت بعض القوى الديمقراطية والتقدمية واليسارية والمجتمع المدني إلى ممارسة دورها في المعارضة والتصدي لمحاولة الحكام الجدد الانحراف بالثورة عن مطالبها الإصلاحية الحقيقية مقابل تكريس مشروع ظلامي يهدف في أبعاده لتغيير نمط المجتمع التونسي وتكريس مظاهر وثقافة وأنماط دخيلة والهروب عن أهداف الثورة. خاصة أن حزبي التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية شريكا حركة النهضة في الحكم شكلا صمام أمان في الدفاع عن المشروع الذي انتفضت قوى مختلفة في معارضته والتصدي له.

معارضة "غنائمية"

لذلك دفعت القوى المعارضة لمنظومة الحكم التي تقودها حركة النهضة في أوائل العشرية الماضية الضربة غالية، وذلك بعد تسجيل عدد من الاغتيالات السياسية من أبرزها الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي إضافة إلى سقوط عدد كبير من أبناء المؤسستين الأمنية والعسكرية شهداء وجرحى فضلا عن أحداث العنف والاعتداءات التي أضرت بالاقتصاد الوطني مثل حادثة الاعتداء على سياح أجانب في متحف باردو 2015 والهجوم المسلح على أحد النزل بسوسة في صائفة نفس السنة.

وقد كان لتبادل الأدوار في صفوف المعارضة وعدم استقرار بعض القوى على موقف من السلطة من العوامل التي ساهمت في توسيع الأزمة السياسية خاصة بعد "حالة الإسهال" الحزبي التي عرفتها الساحة السياسية بعد الثورة وسرعة بعث واندثار الأحزاب وارتباط وجودها ومواقفها بما تكسبه وتحققه من السلطة.

لذلك ذهبت عديد القراءات إلى أن المعارضة التي برزت في العشرية الماضية كانت غنائمية بامتياز، اختزلت في نشاطها ومواقفها طبيعة الطبقة السياسية التي برزت بعد سقوط منظومة بن علي ونزعتها إلى تحقيق المكاسب والتعاطي مع الدولة بمنطق الغنية دون أي مبادرة للإصلاح والتأسيس. إذ سريعا ما تحقق الانسجام بين نداء تونس والنهضة بمجرد التوافق حول تقاسم مغانم السلطة وهي السبب الذي أدى إلى انقسام النداء واندثاره بعد رفض بعض قيادييه قبول رئيسه الباجي قائد السبسي الدخول في تحالف مع النهضة. وهو تقريبا نفس السبب الذي كان وراء معاقبة القواعد الشعبية لطرفي حزب "الترويكا" واليسار وغيرها من الأحزاب التقليدية إثر مقاطعتها في انتخابات 2014 بعد انخراطها تقريبا في نفس توجه الحزب الحاكم في الحوار الوطني أو الحوار الموسع الذي سبقه مع كل الأطياف السياسية.

لذلك برزت قوى المجتمع المدني في دور المعارضة بشكل غيب الأحزاب السياسية، لكن نجاح سلطة الإشراف والأحزاب الشريكة في الحكم في استقطاب أغلب رموز المجتمع المدني ساهم في تراجع صوت المعارضة في النصف الأخير من العشرية الماضية، الأمر الذي عمق الهوة بين القواعد الشعبية والطبقة السياسية دون مبالاة الجانب الثاني بخطورة ذلك. ليتعزز الصراع على السلطة خاصة بعد تأسيس وظهور أحزاب جديدة وسرعة صعودها وفوزها بمقاعد في البرلمان على غرار التيار الديمقراطي وحزب الدستوري الحر وتحيا تونس وائتلاف الكرامة وقلب تونس وغيرها. يأتي ذلك في الوقت الذي تضاعفت فيها أزمات البلاد على مستويات مختلفة لاسيما تداعيات أزمة الجائحة الصحية العالمية التي عرفها العالم في 2019 وارتفاع قائمة الديون التونسية للمانحين الدوليين مقل غياب أي مبادرة إصلاحية الأمر الذي عمق الأزمات الاجتماعية. واكتفت المعارضة بالصراع والدفاع عن مكاسبها وربط نضالاتها وتحركاتها بما يخدم مصالحها الحزبية الضيقة. فضلا عن تكرر مشاهد ترذيل العمل السياسي داخل البرلمان أو في الصراع على الصلاحيات بين قصر قرطاج والقصبة وباردو التي قاد لها دستور 2014.

فكان هذا العامل سببا لترحيب طبقات شعبية ومدنية واسعة بقرارات 25 جويلية 2021 القاضية بإيقاف عجلة منظومة الحكم التي تقودها النهضة، وما نجم عنها من تحييد وتجميد للطبقة السياسية، رغم المحاولات المتكررة للمعارضة للمسار الذي يقوده قيس سعيد اليوم للتحرك والعودة إلى مواقع الفعل والقرار.

وأرجعت بعض القراءات سبب فشل المعارضة اليوم في تحقيق أهدافها وعجزها عن تكوين قوة قادرة على فرض نسقها في المشهد العام رغم أخطاء السلطة، هو تركيز نشاطها وتفكيرها على "السلطة" والكرسي دون اهتمام بالبرامج الإصلاحية والبناء والتأسيس من ناحية وعدم قيامها كلها بمراجعات ونقد ذاتي وجمود تفكيرها وعدم تجديد نفسها وهياكلها. لتعود بذلك المعارضة مرة أخرى إلى النقطة الصفر. وقد كان لتعاطيها مع ما تم تداوله منذ أيام حول غياب رئيس الجمهورية عن المشهد العام، والهبة الجماعية لاقتناص "صدفة" وهمية للبحث عن آليات خلافة قيس سعيد والوصول إلى السلطة، تأكيد على خلو وفاضها من أي مشروع عملي ديمقراطي. وهو ما من شأنه أن يعزز المخاوف من  هذه القوى ويدفع إلى ترقب "بديل" في هذه المهمة التي لا تستقيم الأنظمة الديمقراطية دون وجود معارضة فاعلة وقوية.

عبد اللطيف الحناشي لـ"الصباح": أدوار غير مستقرة ومعارضة منقوصةالساحة الحزبية عرفت ظواهر ومشاكل لا حدَّ لها أثَّرت أحيانًا بعمق على المشهد السياسي

فيما يتعلق بتاريخ المعارضة في تونس، فقد تم بعد الاستقلال القضاء على الصحافة التونسية شيئا فشيئا ولم تبق إلا الصحافة الموالية للحزب الحاكم بل أن البعض من عناصر الحزب ذاته قد دفع ضريبة نقد الحكم الفردي للرئيس الحبيب بورقيبة. كما تراجع عدد الجمعيات والمنظمات وتم اختراق ما تبقى منها والسيطرة عليها وأصبحت جزءَ لا يتجزّأ من جهاز الحزب ولم تُستثن من ذلك عمادة المحامين التي تم حلّها في جوان 1958 ثم احتوائها. كما كان الشأن بالنسبة إلى الأحزاب السياسية التي اندثر البعض منها إما خوفا أو بعد تحجير نشاطها ووسائل إعلامها بأمر من السلطة.

فالنظام البورقيبي قام قبل اكتماله بتصفية معارضيه خاصة التيار "اليوسفي" بكل عنف وقسوة عن طريق مؤسسات الحزب والدولة وبتحالف ضمني مع الإدارة الفرنسية بتونس. وبعد الاستقلال انتصبت محكمة القضاء العليا بهدف محاكمة "اليوسفيين" و"المتعاملين" سابقا مع الاستعمار وبعض أفراد العائلة الحاكمة وأصدرت بين تاريخ تأسيسها إلى تاريخ إلغائها أواخر أكتوبر 1959 أحكاما قاسية جدا على مئات المتهمين ومن بينهم المناضلين "اليوسفيين" وغيرهم من المعارضين. لينتهي الأمر باغتيال صالح بن يوسف في سويسرا عن طريق أحد أبرز المقرّبين لبورقيبة.

اعتبر الرئيس الحبيب بورقيبة أن الأمن قد استتب وسادت الديمقراطية بالبلاد، بعد القضاء على الحركة "اليوسفية" ودليله على ذلك هو وجود الحزب الشيوعي التونسي الذي يعمل في إطار القانون بكل حرية رغم أنه " أصغر حزب شيوعي في العالم..".

واعتبر بورقيبة، في هذه المرحلة، أن وجود معارضة يمثّل شرطا أساسيّا لضمان الحرية والديمقراطية إذ يقول: "..ونحن نقبل مبدأ المعارضة ونعترف بما لها من حقّ"، بل يعتبرها "شرطا أساسيا لضمان الحرية والديمقراطية..." ولكن دون القبول بمعارضة أخرى غير الحزب الشيوعي التونسي وخاصة بقايا الحركة اليوسفية واللجنة التنفيذية إذ يؤكد أن "..الذي لا نقبل به إطلاقا هو أن يستغل بعض الناس هذه المعارضة لإرضاء عواطفهم الحقودة فيحرضون على التقتيل ويبثون التفرقة في صفوف الشعب الذي استقبلني في غرة جوان 1955". أما المعارضة التي يحبّذها بورقيبة فهي المعارضة المُطيعة لقرارات الحكومة وغير ذلك النوع من المعارضة هو تجسيد لتأخّر الشعب وتخلّفه.

والأمر كان غير ذلك إذ سريعا ما تمّ تحجير نشاط هذا الحزب المعارض سنة 1963 ومنذ سنة 1964 انضوت جميع المنظمات النقابية المهنية والاجتماعية تحت سلطة الحزب الحاكم وطال الأمر الحزب الحاكم (والوحيد) نفسه إذ تم إدخال تحويرات على نظامه الداخلي باتجاه مركزة التنظيم والتسيير وانحسرت نتيجة لذلك الممارسات الديمقراطية، الجزئية، التي كانت تجري في مستوى بعض الهياكل الوسطى والدنيا. وتدرّج الأمر إلى اندماج الحزب والدولة بقيادة بورقيبة صاحب القرار الأول والأخير في الحزب والدولة وهو ما أدى، بالإضافة إلى أسباب أخرى، إلى تناسل التنظيمات السياسية السريّة المعارضة للنظام سواء من خارج الحزب أو من داخله والتصادم معه. مما أدى إلى كثرة المحاكمات والتي استهدفت بعض المعارضة الدستورية وخاصة المعارضة الماركسية والقومية (البعثيون والناصريون). ومنذ أواخر الستينات بدأت الجماعات ذات المرجعية الإسلامية في النشاط والبروز كما بدأت تبرز من داخل الحزب الحاكم شخصيات معارضة لسياسات الدولة والحزب الحاكم عبرت عن نفسها خلال مؤتمر الحزب سنتي 1971 و1974 وصولا لبروز جماعة "الرأي" ومنها حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بقيادة احمد المستيري وقبلها حركة الوحدة الشعبية بقيادة أحمد بن صالح.

المرحلة الثانية بين 1981-1986

تم تعيين محمد مزالي في رئاسة الحكومة في 8 أفريل 1980 إلى 8 جويلية 1986، وتميزت فترة هذه الحكومة بالارتباك في أدائها والتضارب في مواقفها. إذ عرفت البلاد انفتاحا سياسيا وإعلاميا واسعا مقارنة بالعهود السابقة. فتم الاعتراف بعدد من الأحزاب السياسية والسماح بهامش واسع نسبيّ من حرية الصحافة وإطلاق سراح عدد كبير من المساجين السياسيين. لكن "ربيع تونس" هذا سريعا ما غَرُبَ بعد تزييف الانتخابات التشريعية لسنة 1981 وانتهجت الحكومة من جديد أسلوب التشدد إزاء القوى الديمقراطية المعارضة. ولمواجهة انسداد الآفاق الاقتصادية، ضاعفت الحكومة في أسعار الخبز فانطلقت انتفاضة شعبية عفوية في كامل البلاد بدت للكثير من الملاحظين أنها انتفاضة جياع، غير أنها لم تكن كذلك في الواقع، بل مثلت احد أشكال التعبير العنيف عن المرارة والإحباط الذي تلظت بهما كافة شرائح المجتمع التونسي. ومما ضاعف من تواصل الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (البطالة والنزوح وتكاثر الإجرام...) وتدهور علاقة الحكومة التونسية بالاتحاد العام التونسي للشغل من جهة ومع دول الجوار من جهة ثانية وخاصة مع ليبيا التي أقدمت على طرد آلاف العمال التونسيين العاملين في أراضيها. وفي سنة 1981 بعد أن أعلن الرئيس السابق الحبيب بورقيبة السماح بتعددية سياسية لكنها كانت محدودة اذ تم الاعتراف بالحزب الشيوعي التونسي سنة 1984.

 

زمن حكم الاستبداد السياسي(1987-2010 )

وبعد 7 نوفمبر 1987 توسعت خارطة الأحزاب بالبلاد إلى أن وصل عددها قبل الثورة إلى تسع أحزاب تعمل بشكل قانوني. يمكن تصنيف هذه الأحزاب إلى صنفين:

أ- أحزاب الموالاة: تُوصف عادة تلك الأحزاب بأحزاب الـ Vitrine " الواجهة " أو أحزاب الديكور والأحزاب الإدارية وغيرها من الصفات التحقيرية.. وهي الأحزاب المتحالفة سياسيا مع حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" مثل حزب الوحدة الشعبية الذي تأسس في جانفي 1981 والاتحاد الديمقراطي الوحدوي تأسس في 26 نوفمبر 1988 والحزب الاجتماعي التحرري   تأسس في 12 سبتمبر 1988 وحزب الخضر للتقدم تأسس في 3 مارس 2006

بـ/ أحزاب معارضة قانونية غير المتحالفة مع الحكومة: حركة التجديد، الحزب الديمقراطي التقدمي، التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات.

الأحزاب غير القانونية: ونعني بذلك تلك الأحزاب التي لم تتمكن من الحصول على تأشيرة للنشاط العلني تبعا للقانون الأساسي الذي يتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية في تونس الذي يستند على فصول غير متينة من الناحية القانونية والإجرائية. ومن بين أهم تلك الأحزاب التي قدمت للحصول على تأشيرة التواجد القانوني ولم يُعترف بها نذكر: حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الحركة الناصرية التقدمية، حزب النهضة، حزب العمل الوطني الديمقراطي، حزب البعث، حزب العمال الشيوعي، حزب الخضر، الحزب الاشتراكي اليساري.

الأحزاب ما بعد الثورة: يمكن تصنيف الأحزاب بعد الثورة إلى 4 أصناف:

-   أحزاب ذات شرعية نضالية وتاريخية

-   أحزاب تأسست ما بعد انتخابات المجلس التأسيسي وهي على نوعين: نوع برز على خلفية الانشقاق عن أحزاب ممثلة في المجلس التشريعي او بعد 2014

-أحزاب افتراضية لا وجود لقاعدة اجتماعية لها.

-أحزاب سجلت حضورها بواسطة إمكانيات مؤسسيها للمال (حزب الاتحاد الوطني الحرّ).

كما عرفت الساحة الحزبية ظواهر ومشاكل لا حدَّ لها أثَّرت أحيانًا بعمق على المشهد السياسي، من ذلك:

نخبوية التأسيس والنشاط ومحدودية تمددها الجغرافي والاجتماعي

أحزاب عائلية أو جهوية أو قبلية

غياب الديمقراطية الداخلية

تشابه البرامج وضعف البنية التنظيمية

هشاشة وضعف الأحزاب ومرورها بأزمات منعتها من القيام بدورها.

تواصل ظاهرة السياحة الحزبية والبرلمانية، من ذلك أن انتقال النواب بين الكتل البرلمانية خلال الدورات البرلمانية الأربع تجاوز ثلث النواب حيث تنقَّل 74 نائبًا (من إجمالي 217 نائبًا) من كتلة إلى أخرى ومن بينهم نواب انتقلوا أربع مرات في أربع سنوات.

ظاهرة الاستقالات من الأحزاب والانشقاقات: كما هي الحال بالنسبة إلى "حزب نداء تونس وآفاق تونس، والاتحاد الوطني الحر وحزب مشروع تونس، وحزب حراك تونس الإرادة" وحزب النهضة وغيرها من الأحزاب.

ولا يمكن الحديث عن معارضة سياسية واضحة وثابتة بين 2011-2019 الا جزئيا خاصة في فترة حكم الترويكا وبعد سقوطها عرفت المعارضة تنوعا وتشتتا تحكمت فيه عدة عوامل داخل الأحزاب خاصة أو حجم الكتل في البرلمان.

محمد الكيلاني لـ"الصباح"الشارع لن يصنع من أحزاب المتسلقين والانتهازيين معارضة وازنة

أفاد محمد الكيلاني، مؤسس الحزب الاشتراكي اليساري (الحزب الاشتراكي)، وأحد مؤسسي وقياديي حزب العمال الشيوعي التونسي سابقا، أن هناك حقيقة تاريخية وهي أن المعارضة نشأت قبل الاستقلال من خلال وجود توجهات وخيارات مختلفة عن اختيارات الحركة الوطنية التي كان يمثلها الحزب الحر الدستوري التونسي. فالحزب الشيوعي تأسس سنة 1920 وترجع نواتاته الأولى إلى 1909 الاشتراكية في أوساط الشباب التلمذي من أبناء الفرنسيين والإيطاليين. وكان العديد من العناصر البارزة من الفرع الفيدرالي للأممية الشيوعية أو الحزب الشيوعي من رفاق محمد علي الحامي في تأسيس الجامعة النقابية الأولى في عشرينية القرن الماضي، مثل بودمغة والعياري وبن ميلاد. وظل الحزب الشيوعي شريكا في النضال الاجتماعي والوطني من مواقع متقدمة أحيانا ومترددة أحيانا أخرى، إلى أن استقلت تونس ليأخذ موقع المعارضة لنظام الحكم في الدولة الحديثة، متبعا سياسة المعارضة النقدية حينا والمتباينة مع خيارات السلطة أحيانا أخرى. ومنذ الإعلان عن الاستقلال الداخلي وظهور الخلاف البورقيبي اليوسفي، أصبحت الساحة السياسية تضم أيضا معارضة راديكالية، ممثلة في الشق اليوسفي، للنظام البورقيبي. وبحكم أن المواجهة كانت عنيفة بين الجناحين انتهت بإنهاء وجود الثاني، واتجهت السلطة إلى دعم وجودها بإعداد دستور تمت المصادقة عليه في 1959 وتنظيم انتخابات تشريعية خاضها الحزب الدستوري في إطار الجبهة القومية وقمع الحزب الشيوعي ولم يترك له التواجد كمعارضة مجلس الأمة.

ويذهب الكيلاني إلى أن المعارضة اليسارية الجديدة بدأت تظهر منذ 1959 بخروج بعض العناصر من الحزب الشيوعي واتجهت إلى تأسيس تنظيم سياسي ذي توجهات تروتسكية. لكن ومنذ مطلع الستينات بدأ الشباب الطالبي، الذي كان يتابع دراسته في فرنسا، ناقدا لاحتكار "الدساترة" للسلطة وانعدام الديمقراطية. فكانت مناسبة لتجمع هذا الطيف الشبابي من بعثيين واشتراكيين وشيوعيين ومستقلين في إطار "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" الهدف المباشر في التصدي لانقلاب الطلبة الدساترة والقيام بدراسات لبورة تصور جامع بديل معارض للسلطة القائمة. لتسفر عن تأسيس اليسار الجديد. وبصورة خاصة بعد أن غادر البعثيون والطلبة الشيوعيون هذا التجمع.

ومنذ 1966 ـ 1967 وارتقاء أبناء مدرسة الجمهورية من الجيل الأول لدولة الاستقلال تحوّل "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" إلى تنظيم ماركسي يتبنى الاشتراكية العلمية وبصورة خاصة بعد أن تبين له أن تجربة التعاضد التي قادها بن صالح كانت تجربة بيروقراطية وليست اشتراكية. وعلى هذا الأساس أصبحت معارضته للسلطة أكثر راديكالية، تجسّدت في الخطاب والشعارات التي كانت تنادي بالإطاحة بالنظام وإقامة دكتاتورية البروليتاريا وبصورة خاصة في 1968 مع انتفاضة الشباب الطلابي في مارس 68 التي سبقت انتفاضة الشباب الفرنسي والعالمي في ماي 68. فواجه النظام الحاكم تلك الحركة بالقمع والسجن الذي طال "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي" ـ برسبيكتيف أساسا والشيوعيين والبعثيين.

واصل اليسار معارضته للسلطة حتى بعد أن أطلق سراح قادته من السجن في عام 1970. وفي النصف الأول من السبعينات تعززت الجامعة بمنتمين جدد لها متخرجين منها التحقوا بالتدريس في المعاهد والمدارس، الشيء أحدث تغييرا في عموم الحركة على مستويين: الأول كان في الحركة الطلابية التي شهدت قفزة كبرى، والثاني يتمثل في التأثير الحاصل في الحركة النقابية التي أجبرت على أن تصبح أكثر احتجاجية، بتكثيف الإضرابات وتغير خطاب المركزية النقابية وخطاب جريدة الشعب وظهور المطلب العام باستقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل عن الحزب الحاكم وعن السلطة القائمة، لتنتهي بالإضراب العام في 26 جانفي 1978.

ولمواجهة الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية والسياسية المطالبة بالحريات والعدل الاجتماعي اتبعت السلطة سياسة قمعية فقامت بحملة اعتقالات واسعة في أوساط اليسار "برسبكتيف ـ العامل التونسي" من نوفمبر 1973 إلى ديسمبر 1974 وجانفي فيفري 1975، وتنظيم محاكمات أمن الدولة في جويلية ـ أكتوبر 1975. وفي نفس الوقت تعرّض مناضلو "التجمع الماركسي الليليني" للإيقاف والمحاكمة. وكذلك الشأن "الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس" وهي مجموعة قومية قذافية ـ ناصرية، التي كانت وراء عملية قفصة 1980 مع مجموعات أخرى مدعومة من معمر القذافي.

وبعد إطلاق سراح مناضلي "آفاق ـ العامل التونسي" في 1980، حاول التنظيم إعادة بناء صفوفه، لكن اختلفت التوجهات بشكل لم يعد من الممكن أن يواصل سيره كما في السابق فانقسم إلى ثلاثة توجهات: الأول، يضم الآباء المؤسسين الذين توجهوا إلى العمل الثقافي والحقوقي، والثاني كان قاده أحمد نجيب الشابي لتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي، والثالث تكوين حلقة الشيوعي التي كانت وراء تأسيس حزب العمال الشيوعي في ديسمبر 1985 وتمّ الإعلان عن تأسيسه في 3 جانفي 1986.

لم يتوقف وجود المعارضة على هذه القوى، بل شمل المعارضة البنصالحية، التي تشكلت في حركة الوحدة الشعبية التي تفرع عنها حزب الوحدة الشعبية المتوافقة مع السلطة، فيما مالت الحركة في اتجاه التحالف مع اليسار. وظلّ هذان التوجهان قائمان إلى 14جانفي.

أما بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين فبعد أن شاركوا في تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمعية اليسار شاركوا في الانتخابات التشريعية في 1981 وفازوا فيها لولا التدليس الشامل الذي نفذته وزارة الداخلية والحزب الحاكم. ثم انقسمت هي الأخرى إلى 3 مجموعات رئيسية ظلت عموما قريبة من السلطة وحاولت إيجاد اتفاقات مع بن علي غير أنه لم يقبل بطلبات أحمد المستيري.

ونزل محمد الكيلاني الوضع في ثمانينات القرن الماضي في أطار الصراع على الخلافة بين مختلف كتل النظام وبصورة خاصة في في إطار طموحات مزالي لخلافة بورقيبة. ممّا جعله يتبع سياسة مالية إنفاقية جعلت الدولة تدخل في عجز مالي صريح مما دعاه إلى اتخاذ إجراءات تقشفية يطلبها صندوق النقد الدولي منها رفع الدعم عن الخبر. فكانت انتفاضة الخبزة في جانفي 1984، التي تمّ إخمادها عن طريق الجيش وبإعلان بورقيبة التراجع عن تلك الزيادة. وللتخلص من مزاحميه على الخلافة توجه لضرب الاتحاد في 1985 ـ 1986، بتكوين "الشرفاء" ومحاكمة القيادة النقابية. وبدأ يعد لانقلاب "طبي"، انكشف أمره، فهرب. وعوضه البشير صفر الذي أتى بمشروع الإصلاح الهيكلي المملى من قبل صندوق النقد الدولي. وفي 1987 عوضه زين العابدين بن علي الذي كان وزيرا للداخلية.

لكن الجديد في الساحة السياسية هو بروز المعارضة الإسلامية التي تشكلت منذ مطلع السبعينات في ما كان يسمى بـ"الجماعة الإسلامية" ثم تأسس الاتجاه الإسلامي الذي يطبع منشوراته في دار "الساجيب" مطبعة الحزب الحاكم بداره في القصبة وأقنع محمد الصياح بأنه يمثل تيارا لقطع الطريق أمام اليسار. وقد دخل أبناء هذا الاتجاه في صدام مع أبناء اليسار في الجامعات. ووجد الدعم من محمد مزالي منذ أن تولى الوزارة الأولى، لكن موقف بوقيبة تغيّر منذ الندوة الصحفية التي عقدها الاتجاه الإسلامي وأعلن فيها على ضرورة تغيير مجلة الأحوال الشخصية التي يعتبرها مشروعه المميز، فأمر بإيقافهم ومحاكمتهم.

لكن تطور الأوضاع في الثمانينات جعلت الاتجاه الإسلامي يرى بأن السلطة أصبحت قاب قوسين أو أدنى منه، خاصة مع تحالفها مع محمد مزالي. لكن بورقيبة عاد مطالبا بإيقاف القيادة وتنفيذ أقصى الأحكام. فساهمت العمليات الإرهابية و"الماء الحارق" والاعتداءات العنيفة على الأفراد والمجموعات مثل عملية باب سويقة، الكرم.

كانت فترة حكم زين العابدين بن علي مختلفة عن حكم بورقيبة، حتى وإن كانا يتفقان في القمع، لكن بن على كان راديكالي في قمعه حتى مع من اتفق معهم على تنحية بورقيبة، إذ انقلب عليهم وأوقف المجموعة الأمنية وكذلك مجموعة براكة الساحل. ثم بدأ في أعادة ترتيب البيت الداخلي للدولة في محاولة التقرب من الأحزاب السياسية التي في المعارضة أيام بورقيبة وتشريكها في النقاش حول الميثاق الوطني الذي أمضت عليه جميعها بما ذلك حركة النهضة التي أمضى عليه نورالدين البحيري باسمها، وباستثناء حزب العمال الذي رفض الامضاء لعدم وجود قوانين حامية للحريات ومنظمة للحياة السياسية.

ويعتبر الكيلاني أن بن علي عمل على إيجاد مصالحة مع الاتحاد العام التونسي للشغل وقبل بأن ينتظم المؤتمر 18 الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس. وفتح مشاورات مع جل الأحزاب حول الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها للمشاركة فيها.

وبعد أن تعرّف على كل المكونات اختار الأحزاب التي ستكون شريكة له في البرلمان وأعلن الحرب على البقية وفرض إملاءاته على اتحاد الشغل ووجد من يسير في ركاب السلطة دون عناء. لينطلق بعد حرب الخليج الثانية في عمليه تصفية للقوى السياسية الراديكالية، كحركة النهضة التي حاول اقتلاعها من جذورها ثم حزب العمال الشيوعي التونسي.

مؤكدا أنه قدم استقالته من حزب العمال الشيوعي رسميا سنة 1994 بسبب خلاف فكري مع قيادة الحزب ولم أعد للنشاط إلا في سنة 1998 بعد أن دخلت المعارضة في سبات عميق ولم تعد قادرة على التحرك واتجهت للعمل مع حركة التجديد وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين والتجمع الاشتراكي التقدمي وكل الديمقراطيين دفاعا عن الحريات والديمقراطية

لذلك باءت كل محاولات عودة الأحزاب للنشاط في المعارضة بالفشل رغم محاولات تجميع القوى الديمقراطية بهدف إعادة بعث الحركة الديمقراطية من جديد عبر منتدى "الموقف" ثم تأسيس الحزب الديمقراطي التقدمي الذي فتح نافذة أمل للقوى المعارضة.

واعتبر إضراب جوع 2005 ثم حركة 18 أكتوبر التي جمعت الأحزاب المعارضة نقطة ضوء. وهو يرى أيضا أن ضعف نظام بن علي في العشرية الأخيرة من حكمه تزامن مع ضعف فادح للمعارضة اليسارية والديمقراطية. وأرجع ذلك إلى عدم إيمانها جميعا بالعمل التشاركي.

فيما يعتبر التاريخ يعيد نفسه في حديثه عن المعارضة اليوم بعد أن ساند حمه الهمامي ونجيب الشابي ومنصف المرزوقي النهضة في تحرك 18 أكتوبر 2005، فيما أقصت النهضة البقية لما مسكت بزمام الحكم بعد الثورة باستثناء المرزوقي، والحقيقة أن تجدد التقاء الهمامي في الشارع ودخول الشابي مع النهضة في جبهة الخلاص مضرّ بالقوى الديمقراطية والجمهورية. واعتبر مقاطعة الناخبين لليسار والأحزاب الديمقراطية والكلاسيكية التي تحالفت مع النهضة أو عارضتها على حد السواء بمثابة عقاب لها. مشددا أن الجميع لم يستوعبوا الدرس بسبب الجمود في التفكير من ناحية والهبة نحو النفعية السياسية واللهث وراء السلطة.  أما بالنسبة لبقية الأحزاب المكونة للمشهد السياسي فيصفها محمد الكيلاني بأحزاب المتسلقين والانتهازيين للانقضاض على السلطة التي أصبحت في "الشارع" لا يمكن أن يصنع منها معارضة وازنة.

الأمين العام المساعد لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين لـ"الصباح": الحركة نجحت في احتضان المعارضة والقوى السياسية الناشئة

أكد الأمين العام المساعد لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، نجيب العياري، أن الحركة لعبت دورا رياديا وغير مسبوق في مسارها السياسي المعارض لنظام الرئيس الحبيب بورقيبة منذ تأسيسها سنة 1978 في احتضان المعارضة والقوى السياسية الناشئة والمدنية وفي مرحلة ثانية ضد نظام زين العابدين بن علي. إذ شكلت حاضنة للقوى والنشطاء السياسيين من مختلف التوجهات اليسارية والتقدمية والليبرالية والإسلامية والقومية وغيرها. الأمر الذي جعلها تدفع ضريبة ذلك في مراحل مختلفة من تاريخ تونس في الثمانيات والتسعينات من القرن الماضي. معتبرا أن برناج الحركة لسنة 1978 ولوائح الحركة للمؤتمرات الثمانية تكشف مواقف ورؤى وردود فعل الحركة من نظام الحكم حسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. معترفا بتأثير الخلافات الداخلية على الحركة بعد 2011 لتغيب في الزحام.

العجمي الوريمي لـ"الصباح":أغلب مكونات الطبقة السياسية انتهت

المجال اليوم لأصحاب منطق الدولة والبراغماتية

لم ينف العجمي الوريمي القيادي في حركة النهضة، أن نشأة التيار الإسلامي في فترة الحكم البورقيبي كانت من رحم الحزب الدستوري، وأن بعض الفاعلين في النظام البورقيبي كانت تنظر لذلك بارتياح، وذكر من رواده ومؤسسيه الحبيب المستاوي وحميدة ومحمد صالح النيفر، ولكنه نشا باستقلال عن السلطة وفي علاقة نقدية مع اليسار والسلطة. وفسر ذلك، بأنه بعض ثورة فرنسا 1969 وصعود للتيار اليساري ونشاة برسبكتيف وبروز تيارات في المعارضة مستقطبة من جهات أجنبية رأى بعض الأطراف في السلطة أن يكون التيار الاسلامي ليحقق التوازن. خاصة أن اليسار في تك المرحلة كان راديكاليا استئصاليا إيديولوجيا أفيونيا ويرفض النظام.

ووصف الوريمي ما تعرضت له حركة النهضة في فترة حكم بن علي كغيرها من بقية القوى السياسية "حوض سياسي جاف" على حد عبارة حسنين هيكل. وتم تحويلها كلها إلى أحزاب إدارة أو أحزاب شكلية صورية. ليعيش الجميع نوع من الصحوة قبل انتخابات 1999 لكن سرعان ما تم التراجع عن ذلك في سياسته بعد أحداث 11 سبتمبر وأصبح ملف مقاومة الإرهاب على الطاولة من جديد. واعتبر أن قمع نظام بن علي للحريات كان في سياق معكرته مع الإسلاميين.

فيما اعتبر التحول السريع لحركة النهضة من صف المعارضة إلى موقع الحكم والسلطة، في الوقت الذي كانت فيه في مرحلة إعادة البناء والانخراط في الحياة السياسية، كان من العوامل التي أثرت على دورها والمنظومة والمرحلة السياسية ما بعد الثورة على حد السواء. خاصة أن جل قياداته كانت تنشط في السرية والانتقال إلى العلنية لم يكن يسرا. معتبرا أن فوزها في انتخابات أكتوبر 2011 أحدث بدوره نوعا من الصدمة والرجة بالنسبة لبقية القوى السياسية أساسا منها الحداثية واليسارية، فكان ان اختارت كلها أن تكون معارضة للحركة وهو ما دفعها جمعا لتتحد وتؤسس حركة نداء تونس.

إلا أنه اعتبر ذلك من الأخطاء باعتبار أن رغبة النهضة لم يكن تنظيم انتخابات. وإنما الجبهة التي قادها اليسار هي التي طالبت بذلك في اعتصامات القصبة. وهو يعتبر أنه كان الأجدى في الأمر حينها هو البناء على مكونات 18 أكتوبر وتوسيع أفاقه والدخول جميعا في مشروع إصلاحي سياسي اقتصادي واجتماعي تشاركي لان اليسار لم يكن متحمسا لذلك.  لذلك اعتبر في اختيار عدد كبير من اليساريين معارضة نظام الحكم وتحصن البعض الآخر داخل الاتحاد العام التونسي للشغل وتحويله إلى قوة سياسية قادرة على إحداث التوازن مع الأغلبية الحاكمة من العوامل التي أثرت على الوضع مستدلا على ذلك بدعوة بعض الأطراف من الاتحاد بضرورة تطبيق السيناريو المصري في تونس.

كما اعتبر القيادي في حركة النهضة أن ما عرفته الطبقة السياسية برمتها في سنوات ما بعد الثورة من تشتت وتشظ وتشرذم واختلاف وصراع بشكل متكرر كانت نتائجه وخيمة ليس بالنسبة للطبقة السياسية الحاكمة فحسب بل لكل القوى السياسية والمدنية بمختلف توجهاتها وأثر سلبا على الدورة ومقدراتها. ووصف قبول النهضة التوافق مع نداء تونس أحد القوى التي قادت المعارضة بالحكمة السياسية للشيخين الباجي والغنوشي، ودورها في تعطيل توجه ديمقراطي يراهن على ثنائية أغلبية في الحكم وأقلية في المعارضة.

ويرى أيضا أنه بعد حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي إثر الثورة وتوجه أبنائه إلى النشاط المدني في الجمعيات والمنظمات فضلا عن استقطاب المنظمات الحقوقية وغيرها كانت له تداعياته على وضع المعارضة اليوم. خاصة بعد أن تم إفراغ الحركة الحقوقية من رموزها ومحتواها واستقطابها لأحزاب سياسية مقابل اختيار بعض السياسيين العودة إلى المنظمات والهياكل المدنية. وأن أغلب الأحزاب الناشئة حديثا كان هدفها السلطة فيما يعتبر الدستوري الحر حزب غير ديمقراطي ولا يؤمن بالشعب.

لذلك يرى أن أغلب الطبقة السياسية لم تستوعب الدرس بعد  ولم تقم بالمراجعات المطلوبة وهو يعتبر أسماء من قبيل راشد الغنوشي وحمة الهمامي ونجيب الشابي وغيرهم تجاوزهم الزمن السياسي اليوم، لأنه في حاجة إلى جيل له منطق الدولة والبراغماتية ويملك خطط إصلاحية وقريب من مشاغل وواقع المشعب. معتبرا النزعة الفردية للأحزاب والسياسيين وعدم القيام بوقفة تأمل ومراجعة للأخطاء تأكيد مرة أخرى على نهاية وعدم جدوى القوى السياسية في المعارضة كانت أم في السلطة. لأن الجميع اليوم يفكر ويتحرك بمنطق مراعاة القواعد الشعبية شان ما يقوم به قيس سعيد اليوم حسب تقديره.