إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الدفاع عن مدنية الدولة ومأزق فهم الإسلام


بقلم: نوفل سلامة (*)
 
*مدنية الدولة لا تعني التعدي وعدم احترام الشعائر الدينية لعموم الشعب المسلم
 
أتابع منذ أيام ما يدور من نقاش حول مفهوم مدنية الدولة في ظل النظام الجمهوري الذي تبنته الدولة التونسية في علاقة بالإسلام ومكانته في الدولة والمجتمع وما يدور من معركة كلامية وقضائية بين المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة وجمعية الأئمة وذلك بمناسبة البيان الذي أصدره المرصد بتاريخ 16 جانفي المنقضي تحت عنوان " لا لدولة الخلافة في الجمهورية التونسية " والذي طالب فيه بغلق الجمعيات والكتاتيب والمدارس المسماة بالقرآنية حسب تعبير البيان والتي تقوم حسب رأي من كتبه بأدلجة أطفالنا وشبابنا بأموال مشبوهة قصد تكوين إرهابيين في المستقبل" ..
بقطع فيما اعتبر خطأ ارتكبه المرصد حينما حشر في بيانه المدارس والجمعيات القرآنية مع الكتاتيب القرآنية التي تشرف عليها الدولة وتخضع لرقابة وزارة الشؤون الدينية والتي كانت ولا تزال أحد معالم التدين التونسي المعتدل وأحد روافد التعليم والمعرفة قراءة وكتابة وحفظا للقرآن الكريم وهي الفضاءات التي لم تكن يوما من الأيام أداة إرهاب أو حاضنة تطرف وتشدد بل على العكس فقد كانت هذه الكتاتيب القرآنية محطة مر بها الكثير من العلماء والمفكرين وقادة الحركة الوطنية الذين تربوا في أحضانها وتشبعوا في ظلها بمعنى الهوية والانتماء إلى الوطن والدين وتخرج منها الكثير من بناة الدولة التونسية العصرية ويعود لها الفضل في التكوين الديني القاعدي الذي مثل الحصن والمناعة التي شكلت أحد أبرز ملامح الشخصية التونسية وهنا تستحضرني شهادة الرئيس الأسبق السيد " فؤاد المبزع " في مذكراته التي ذكر فيها " أن مجاله الحيوي وهو طفل صغير في زمن الاستعمار كان جامع الزيتونة ومحل تجارة والده وما بينهما مراحل الدراسة وتأثير المعلم وقسوة الاحتلال وعنفوان الأطفال والشباب في الوعي بأن التحصين والتحصّن من الاستعمار جملة من المبادئ أولها التعليم والتعلم والمعرفة كمنهل يقي الطفل والمواطن من هول التغريب" .. بما يعني أن إحدى المحطات المؤثرة في تكوين الشخصية الوطنية التونسية كانت محطة الكتاب. 
إذا تركنا جانبا هذا الحشر غير الموفق للكتاتيب القرآنية مع المدارس والجمعيات القرآنية التي لها نظام قانوني وسياق نشأة مختلف عن الكتاتيب وعدنا إلى مفهوم الدولة المدنية كما يروج له اليوم ويتبناه ويدافع عنه جانب من النخبة التونسية ويعمل على اقناع الناس به وتوقفنا قليلا مع مضمون هذا النقاش فإننا نخرج بانطباع أن هناك مأزقا معرفيا في علاقة بفهم الدين الإسلامي ومأزقا آخر في فهم مضمون الإسلام حيث لاحظنا خلطا بين العلمانية والمدنية وبين مفهوم فصل الدين عن الحكم وبين فصله عن السياسة والاهتمام بالشأن العام فما هو متعارف عليه أن مدنية الدولة ليست هي علمانيتها بما يعني أن من يدافع عن المدنية قد تلبس عليه الأمر وتحول إلى مدافع عن العلمانية بالمفهوم اليعقوبي الفرنسي كما جاء بها قانون 1905 الذي فصل الدين عن الحياة وحصر الانجيل الكتاب المقدس عند النصارى بين جدران الكنيسة ومنع عنه التأثير في الحياة العامة وفي تصرفات الأفراد وجعل الدين مسألة فردية وقضية أخلاقية لا غير وعلاقة بين الفرد وخالقه من دون أن يكون له تأثير في السلوك وفي العلاقات داخل المجتمع وفي التشريع وقوانين الدولة وهي رؤية حادة يسميها المفكر عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشمولية في الوقت الذي يتحدث فيه الكثير من علماء الغرب ومفكريه على غرار الفيلسوف الألماني "هيربماس" عن مراجعة هذا التوجه بل والتخلي عنه وعن عودة الدين في المجتمع وتأثيره في الفضاء العام وهو توجه نجده اليوم بكثافة في ألمانيا وأنقلترا وأمريكا.
أما مفهوم الدولة المدنية فهو لا يعني أن الدولة تتكلم باسم الاله كما كان حال أوروبا تحت سطوة الكنسية في العصور الوسطى كما لا يعني أن يكون الحاكم يدير شؤون الدولة باسم الحق الالهي أو نيابة عن الله أو أن الدين يحتكر تفسيره والتحدث به رجال الكنيسة فهذا المفهوم للدولة الثيوقراطية التي تمثل الله في الأرض لا علاقة له بمفهوم الدولة المدنية التي لا تنفي حضور الدين في المجتمع فالمدنية لا تنفي أن يكون الدين حاضرا بين الناس وهذا هو المقصود بالشعار الذي رفع بعد الثورة دولة مدنية لشعب مسلم وتونس منذ أن استقلت كان لها دولة مدنية لشعب مسلم والمقصود بالدولة المدنية بهذا الفهم هو أن يكون العلوية فيها للدستور الذي يضم أحكاما تنص على أن المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وأمام القانون. ومفهوم الدولة المدنية لشعب مسلم يعني أن الدولة تحكمها قوانين تنظم علاقة الأفراد فيما بينهم وتنظم كذلك علاقة السلطة الحاكمة بالشعب وتحدد علاقة الدولة بالمجتمع وهذه الدولة بهذا المفهوم مهمتها توفير الخدمات العامة من نقل وصحة وتعليم والحرص على حماية الحريات واحترام الحقوق ومن مهامها كذلك بناء المساجد والإشراف على إدارتها وتكوين الإطار الديني ويعني كذلك أن تستقي أحكامها وتشريعاتها من مرجعيات مختلفة ومصادر عديدة الدين واحد منها والمدنية لا تتعارض مع العودة إلى أحكام الاسلام وتشريعاته في سن القوانين  طالما اتفقنا على أن شعب الدولة في غالبيته مسلم .
ومدنية الدولة لا تعني التعدي وعدم احترام الشعائر الدينية لعموم الشعب المسلم مع تمتع الأفراد غير المسلمين بحقهم في ممارسة حرياتهم وقناعتهم الايديولوجية من دون تصادم مع دين الشعب فمدنية الدولة لا تعني أن لا يتحدث الفرد المسلم في هذا المجتمع بالقرآن أو أن يستفتح حديثه بالبسملة أو أن يستشهد بشواهد من الثقافة الدينية أو أن يدخل أبناءه إلى الكتاب لتعلم القرآن الكريم فهذا كله جزء من الهوية الدينية والوطنية للتونسيين وهي مسألة لا علاقة لها بمدنية الدولة ولا تتعارض معها بل على العكس فإن من مفهوم الدولة المدنية في مجتمع مسلم أن تكون قوانين الدولة غير متعارضة مع ثوابت الدين وثوابت الهوية وهذا الفهم للمدنية هو الذي نجده مكرسا في دستور 25 جويلية 2022 وروج له الرئيس قيس سعيد حينما اعتبر أن الإسلام هو دين الشعب التونسي ودين الأمة التونسية وهو التصور الذي نجده في الفصل الخامس من الدستور الذي ينص على أن " تونس جزء من الأمة الاسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية " 
فهذا التصور الذي يقدمه الرئيس قيس سعيد في الدستور الجديد يعتبر أنه يمكن في ظل دولة ديمقراطية أن يتعايش الإسلام وأحكامه ومقاصده مع فكرة مدنية الدولة وأنه لا تعارض بين أن يكون للشعب دين وبين أن يكون للدولة المدنية نظام ديمقراطي.
ويزداد الإحراج لمعنى مدنية الدولة  بهذا الفهم الذي يمنع الدين من التواجد في الفضاء والعام وفي حياة الناس وعلاقاتهم حينما نجد الفيلسوف يوسف الصديق يصرح في حوار أجراه على أمواج إذاعة " الديوان أف أم " في حصة يوم السبت 4 فيفري الجاري بأن الإسلام يتميز عن الديانتين المسيحية واليهودية بأنه يقوم على مفهوم الحلال والحرام وبأن الجديد الذي جاء به  واختلف به هو احتوائه على ثنائية " الحلال والحرام " التي تحيل بالضرورة على مفهوم آخر هو "حدود الله" وهي مفهوم أقوى من مفهوم المقدس لأن الخروج عنها - والكلام ليوسف الصديق - يعرض صاحبها إلى العقاب جزاء التنكر للحدود المطلوب احترامها ومن تعداها فقد ظلم نفسه وهذه الحدود يقابلها بالضرورة الجزاء الأخروي فإما  الجنة وإما النار"
ويتوسع الإحراج حينما نسمع أستاذة الفلسفة في الجامعة التونسية ' أم الزين بن شيخة " في حديثها عن الفن والمقدس في برنامج "محاور" على قناه فرانس 24" الفرنسية حينما تعتبر أن دراستها لمائة عام من تناول المفكرين لفكرة المقدس قد انتهت الى أن فكرة المقدس غير ثابتة وهي متغيرة وقد حصل لها تحيين مستمر عبر الزمن وأن المقدس في ثقافتنا العربية والإسلامية في حاجة إلى تحيين بما يعني أن دراستها لمائة عام من تاريخ المقدس فإنه لا يمكن  نفي حضوره في مختلف الثقافات والحضارات وإنما الذي حصل هو تغيير في مضمونه ومفهومه ومكانته وهي تعتبر أن المجتمع هو المصدر الوحيد للمقدس بما يعنى أن لكل مجتمع مقدساته الخاصة به وهذه نظرية دوركايم . ويفهم من كلامها أنه بما أن المجتمع هو الذي ينتج المقدسات التي يجلبها من ثقافته ومعتقداته وممارساته اليومية فإن المجتمع التونسي المسلم هو الذي يحدد مقدساته التي يتفق عليها أفراده يستلهمها من مصادر كثيرة من بينها المصدر الديني الإيماني.
والسؤال الحرج الذي يطرح نفسه هو: كيف نتصرف مع خطاب من ذكرناهم ؟ وهل نعتبر حديثهم منافيا لمعنى مدنية الدولة إذا كانت تعني نفي حضور الدين في الحياة ؟  وهل يتعارض ما قالوه مع الفهم الذي يعتبر أن الدولة المدنية تعني أنه لا مكان فيها للإيمان ولا للعقيدة ولا للمقدس ؟
 
 الدفاع عن مدنية الدولة ومأزق فهم الإسلام

بقلم: نوفل سلامة (*)
 
*مدنية الدولة لا تعني التعدي وعدم احترام الشعائر الدينية لعموم الشعب المسلم
 
أتابع منذ أيام ما يدور من نقاش حول مفهوم مدنية الدولة في ظل النظام الجمهوري الذي تبنته الدولة التونسية في علاقة بالإسلام ومكانته في الدولة والمجتمع وما يدور من معركة كلامية وقضائية بين المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة وجمعية الأئمة وذلك بمناسبة البيان الذي أصدره المرصد بتاريخ 16 جانفي المنقضي تحت عنوان " لا لدولة الخلافة في الجمهورية التونسية " والذي طالب فيه بغلق الجمعيات والكتاتيب والمدارس المسماة بالقرآنية حسب تعبير البيان والتي تقوم حسب رأي من كتبه بأدلجة أطفالنا وشبابنا بأموال مشبوهة قصد تكوين إرهابيين في المستقبل" ..
بقطع فيما اعتبر خطأ ارتكبه المرصد حينما حشر في بيانه المدارس والجمعيات القرآنية مع الكتاتيب القرآنية التي تشرف عليها الدولة وتخضع لرقابة وزارة الشؤون الدينية والتي كانت ولا تزال أحد معالم التدين التونسي المعتدل وأحد روافد التعليم والمعرفة قراءة وكتابة وحفظا للقرآن الكريم وهي الفضاءات التي لم تكن يوما من الأيام أداة إرهاب أو حاضنة تطرف وتشدد بل على العكس فقد كانت هذه الكتاتيب القرآنية محطة مر بها الكثير من العلماء والمفكرين وقادة الحركة الوطنية الذين تربوا في أحضانها وتشبعوا في ظلها بمعنى الهوية والانتماء إلى الوطن والدين وتخرج منها الكثير من بناة الدولة التونسية العصرية ويعود لها الفضل في التكوين الديني القاعدي الذي مثل الحصن والمناعة التي شكلت أحد أبرز ملامح الشخصية التونسية وهنا تستحضرني شهادة الرئيس الأسبق السيد " فؤاد المبزع " في مذكراته التي ذكر فيها " أن مجاله الحيوي وهو طفل صغير في زمن الاستعمار كان جامع الزيتونة ومحل تجارة والده وما بينهما مراحل الدراسة وتأثير المعلم وقسوة الاحتلال وعنفوان الأطفال والشباب في الوعي بأن التحصين والتحصّن من الاستعمار جملة من المبادئ أولها التعليم والتعلم والمعرفة كمنهل يقي الطفل والمواطن من هول التغريب" .. بما يعني أن إحدى المحطات المؤثرة في تكوين الشخصية الوطنية التونسية كانت محطة الكتاب. 
إذا تركنا جانبا هذا الحشر غير الموفق للكتاتيب القرآنية مع المدارس والجمعيات القرآنية التي لها نظام قانوني وسياق نشأة مختلف عن الكتاتيب وعدنا إلى مفهوم الدولة المدنية كما يروج له اليوم ويتبناه ويدافع عنه جانب من النخبة التونسية ويعمل على اقناع الناس به وتوقفنا قليلا مع مضمون هذا النقاش فإننا نخرج بانطباع أن هناك مأزقا معرفيا في علاقة بفهم الدين الإسلامي ومأزقا آخر في فهم مضمون الإسلام حيث لاحظنا خلطا بين العلمانية والمدنية وبين مفهوم فصل الدين عن الحكم وبين فصله عن السياسة والاهتمام بالشأن العام فما هو متعارف عليه أن مدنية الدولة ليست هي علمانيتها بما يعني أن من يدافع عن المدنية قد تلبس عليه الأمر وتحول إلى مدافع عن العلمانية بالمفهوم اليعقوبي الفرنسي كما جاء بها قانون 1905 الذي فصل الدين عن الحياة وحصر الانجيل الكتاب المقدس عند النصارى بين جدران الكنيسة ومنع عنه التأثير في الحياة العامة وفي تصرفات الأفراد وجعل الدين مسألة فردية وقضية أخلاقية لا غير وعلاقة بين الفرد وخالقه من دون أن يكون له تأثير في السلوك وفي العلاقات داخل المجتمع وفي التشريع وقوانين الدولة وهي رؤية حادة يسميها المفكر عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشمولية في الوقت الذي يتحدث فيه الكثير من علماء الغرب ومفكريه على غرار الفيلسوف الألماني "هيربماس" عن مراجعة هذا التوجه بل والتخلي عنه وعن عودة الدين في المجتمع وتأثيره في الفضاء العام وهو توجه نجده اليوم بكثافة في ألمانيا وأنقلترا وأمريكا.
أما مفهوم الدولة المدنية فهو لا يعني أن الدولة تتكلم باسم الاله كما كان حال أوروبا تحت سطوة الكنسية في العصور الوسطى كما لا يعني أن يكون الحاكم يدير شؤون الدولة باسم الحق الالهي أو نيابة عن الله أو أن الدين يحتكر تفسيره والتحدث به رجال الكنيسة فهذا المفهوم للدولة الثيوقراطية التي تمثل الله في الأرض لا علاقة له بمفهوم الدولة المدنية التي لا تنفي حضور الدين في المجتمع فالمدنية لا تنفي أن يكون الدين حاضرا بين الناس وهذا هو المقصود بالشعار الذي رفع بعد الثورة دولة مدنية لشعب مسلم وتونس منذ أن استقلت كان لها دولة مدنية لشعب مسلم والمقصود بالدولة المدنية بهذا الفهم هو أن يكون العلوية فيها للدستور الذي يضم أحكاما تنص على أن المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وأمام القانون. ومفهوم الدولة المدنية لشعب مسلم يعني أن الدولة تحكمها قوانين تنظم علاقة الأفراد فيما بينهم وتنظم كذلك علاقة السلطة الحاكمة بالشعب وتحدد علاقة الدولة بالمجتمع وهذه الدولة بهذا المفهوم مهمتها توفير الخدمات العامة من نقل وصحة وتعليم والحرص على حماية الحريات واحترام الحقوق ومن مهامها كذلك بناء المساجد والإشراف على إدارتها وتكوين الإطار الديني ويعني كذلك أن تستقي أحكامها وتشريعاتها من مرجعيات مختلفة ومصادر عديدة الدين واحد منها والمدنية لا تتعارض مع العودة إلى أحكام الاسلام وتشريعاته في سن القوانين  طالما اتفقنا على أن شعب الدولة في غالبيته مسلم .
ومدنية الدولة لا تعني التعدي وعدم احترام الشعائر الدينية لعموم الشعب المسلم مع تمتع الأفراد غير المسلمين بحقهم في ممارسة حرياتهم وقناعتهم الايديولوجية من دون تصادم مع دين الشعب فمدنية الدولة لا تعني أن لا يتحدث الفرد المسلم في هذا المجتمع بالقرآن أو أن يستفتح حديثه بالبسملة أو أن يستشهد بشواهد من الثقافة الدينية أو أن يدخل أبناءه إلى الكتاب لتعلم القرآن الكريم فهذا كله جزء من الهوية الدينية والوطنية للتونسيين وهي مسألة لا علاقة لها بمدنية الدولة ولا تتعارض معها بل على العكس فإن من مفهوم الدولة المدنية في مجتمع مسلم أن تكون قوانين الدولة غير متعارضة مع ثوابت الدين وثوابت الهوية وهذا الفهم للمدنية هو الذي نجده مكرسا في دستور 25 جويلية 2022 وروج له الرئيس قيس سعيد حينما اعتبر أن الإسلام هو دين الشعب التونسي ودين الأمة التونسية وهو التصور الذي نجده في الفصل الخامس من الدستور الذي ينص على أن " تونس جزء من الأمة الاسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية " 
فهذا التصور الذي يقدمه الرئيس قيس سعيد في الدستور الجديد يعتبر أنه يمكن في ظل دولة ديمقراطية أن يتعايش الإسلام وأحكامه ومقاصده مع فكرة مدنية الدولة وأنه لا تعارض بين أن يكون للشعب دين وبين أن يكون للدولة المدنية نظام ديمقراطي.
ويزداد الإحراج لمعنى مدنية الدولة  بهذا الفهم الذي يمنع الدين من التواجد في الفضاء والعام وفي حياة الناس وعلاقاتهم حينما نجد الفيلسوف يوسف الصديق يصرح في حوار أجراه على أمواج إذاعة " الديوان أف أم " في حصة يوم السبت 4 فيفري الجاري بأن الإسلام يتميز عن الديانتين المسيحية واليهودية بأنه يقوم على مفهوم الحلال والحرام وبأن الجديد الذي جاء به  واختلف به هو احتوائه على ثنائية " الحلال والحرام " التي تحيل بالضرورة على مفهوم آخر هو "حدود الله" وهي مفهوم أقوى من مفهوم المقدس لأن الخروج عنها - والكلام ليوسف الصديق - يعرض صاحبها إلى العقاب جزاء التنكر للحدود المطلوب احترامها ومن تعداها فقد ظلم نفسه وهذه الحدود يقابلها بالضرورة الجزاء الأخروي فإما  الجنة وإما النار"
ويتوسع الإحراج حينما نسمع أستاذة الفلسفة في الجامعة التونسية ' أم الزين بن شيخة " في حديثها عن الفن والمقدس في برنامج "محاور" على قناه فرانس 24" الفرنسية حينما تعتبر أن دراستها لمائة عام من تناول المفكرين لفكرة المقدس قد انتهت الى أن فكرة المقدس غير ثابتة وهي متغيرة وقد حصل لها تحيين مستمر عبر الزمن وأن المقدس في ثقافتنا العربية والإسلامية في حاجة إلى تحيين بما يعني أن دراستها لمائة عام من تاريخ المقدس فإنه لا يمكن  نفي حضوره في مختلف الثقافات والحضارات وإنما الذي حصل هو تغيير في مضمونه ومفهومه ومكانته وهي تعتبر أن المجتمع هو المصدر الوحيد للمقدس بما يعنى أن لكل مجتمع مقدساته الخاصة به وهذه نظرية دوركايم . ويفهم من كلامها أنه بما أن المجتمع هو الذي ينتج المقدسات التي يجلبها من ثقافته ومعتقداته وممارساته اليومية فإن المجتمع التونسي المسلم هو الذي يحدد مقدساته التي يتفق عليها أفراده يستلهمها من مصادر كثيرة من بينها المصدر الديني الإيماني.
والسؤال الحرج الذي يطرح نفسه هو: كيف نتصرف مع خطاب من ذكرناهم ؟ وهل نعتبر حديثهم منافيا لمعنى مدنية الدولة إذا كانت تعني نفي حضور الدين في الحياة ؟  وهل يتعارض ما قالوه مع الفهم الذي يعتبر أن الدولة المدنية تعني أنه لا مكان فيها للإيمان ولا للعقيدة ولا للمقدس ؟