إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"الفلسفة لا تستحقّ منّا عناء ساعة إن هي لم تعلّمنا كيف نتصرّف في الحياة"

بقلم:مصدّق الشّريف (*)

*إنّ ما يُنذر بالخطر هو شعور المواطن بالفشل والإحباط
... ويزداد وضع البلاد تأزّما... صعوبات اقتصاديّة لم يُعرف مثلها من قبل حتىّ في أواخر فترة حكم بورقيبة سنة 1987 ولا في السّنوات الأخيرة لرئاسة بن علي... منذ عام 2011 الذي استبشر بحلوله التونسيّات والتونسيّون خيرا، لم تأت السّنوات إلاّ بعكس ما كان مؤمّلا. انتظر جميع النّاس تحسين الأوضاع بما يوفّر الحرّية والكرامة والشّغل ليطيب العيش ويعمّ التّفاؤل وتتّسع الآمال. لكنّ ذلك كلّه أصبح مجرّد سراب. لقد أضحى الوضع الاقتصادي مقلقا جدا يهدّد بما لا يُحمد عقباه. وألقت الصّعوبات الاقتصاديّة بظلالها على التّونسيّات والتّونسيّين بدءا من الفرد مرورا بالأسر وصولا إلى المجتمع ككلّ.
وجوه كالحة، توتّر في المزاج متواصل، بل متضاعف، مع طلوع كلّ يوم جديد. افتقد جميع الناس الشّعور بطعم الحياة ولذّة العيش. وأصبحت الرّغبة جامحة في الانطواء والعزلة. كيف لا و أين ما يولّي المواطن وجهه لا يجد إلاّ الأبواب موصدة، فلا يستطيع الوصول إلى قضاء حاجاته الضّروريّة اليوميّة منها والمعيشيّة؟ هذا فضلا عن انسداد الآفاق أمام الشّباب إذ لا ينتظرهم إلاّ الضّياع والمجهول! بالإضافة إلى قلّة ذات اليد وغلاء المعيشة. ولن يؤدّي ذلك إلاّ إلى مزيد انحلال مجتمعنا وتفاقم ظاهرة الهجرة الشّرعية وغير الشّرعية والانتحار والإجرام  والفوضى والبطالة والانقطاع عن الدّراسة.
كُمّمت أفواه التّونسيّين والتّونسيّات ووقعت مصادرة رأيهم وتمّ التّدخل في حرّية الضّمير والمعتقد والأفكار. وأنبأ ذلك بحرب أهليّة كان من الصّعب إيقاف نزيفها ولا يزال. وعايش التّونسيّون والتّونسيّات التّشنّج والخطاب السياسي الذي تُسوّقه الأحزاب والمنظمات الوطنيّة. خطاب لا يهمّ أصحابه إلاّ اعتلاء المناصب وتسجيل النّقاط في مسار لا يخلو من اللّغو ولا يُرجى منه خير. نرى بعضهم يموج في بعض بعيدا عن التّفكير في الوطن ومصالحه الحقيقيّة. أما الجمعيات فقد قام أغلبها، في الظّاهر، على أهداف سامية تخدم المواطن والبلاد. ولكنّ الكثير منها انحرف عن هذه الوجهة وانزلق في متاهات عملت على تأصيل الفكر الظّلامي وتجميد العقل لدى مريديها... 
ولا ننسى أيضا الدّور الطّلائعي الذي كان من المفروض أن يلعبه الإعلام، بشتّى وسائله، في حياة النّاس لا سيما وأنّه يدخل كلّ البيوت دون استئذان. إنّ السّلطة الرّابعة كانت فاقدة الشّيء، في أغلب الأحيان، ولا تزال. وقد كان التّونسيّون والتّونسيّات في أمسّ حاجة إليها فلم تعمّق لديهم سوى الفكر الخرافي، عبر كثير من البرامج والمحتويات، ولم تقدّم لهم، في كثير من المناسبات، غير الميوعة والتّهريج. هذا فضلا عن وجود بعض الاعلاميّات والإعلاميين المأجورين الذين يتمنّون تواصل الاحتقان والفوضى على الدّوام. 
إنّ ما يُنذر بالخطر هو شعور المواطن بالفشل والإحباط. فالتّربية التي تلقّاها في بيته وفي المدارس والكلّيّات لا تحصّنه، غالبا، وتجعله لقمة سائغة تلتهمه أولى العراقيل وتبعث فيه أيّة عثرة الشّعور بالانكسار. مدارسنا قد حشت أدمغة التلاميذ والطّلاب بشتّى المعلومات من صالحة وطالحة دون أن تعلّمه قيمته كإنسان فأصبح لا فرق بينها وبين السّجن.
حين قامت الثّورة الصّناعيّة في أوروبا اعتقد الكثير من العمال أنّ الآلة والتّطور قد قضيا على مصدر قوتهم واعتبروها سبب آلامهم وأوجاعهم فحطّموا الآلات وخرّبوا المصانع. ولكنّ ذلك لم يدم كثيرا بفضل رجال الفكر والفلسفة الذين بثّوا الوعي والشّعور بالمسؤوليّة في صفوف العمال ووقفوا إلى جانبهم في سبيل تحقيق مطالبهم المشروعة وحقهم في العيش الكريم. فلاسفة التّنوير أمثال روسّو، منتسكيو وفولتير لعبوا أدوارا كبيرة في النّهوض بمجتمعاتهم على مستوى الفكر والدّفع بهم إلى اعمال العقل والأخذ بالأسباب في معالجة القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة. وبيّنوا لشعوبهم أنّ أصل الصّراع هو صراعهم مع الطّبقة الرّأسماليّة المهيمنة التي تمتصّ كدّهم وجدّهم. ونحن اليوم بحاجة إلى التّقييم العلمي والمطارحات الفكريّة الجيّدة للخروج من الأزمة التي تعيشها بلادنا. 
في ترجمته لكتاب "دروس في السّعادة" للفيلسوف هنري بينا- رويز، تحدّث الأستاذ محمّد نجيب عبد المولى، رحمه الله، قائلا:
"هذه الدّروس هي دعوة إلى النّظر في الأشياء، لكن بعيون تبصر التّفاصيل وتضفي على ما هو مألوف معنى وقيمة. هي تنبيه يشير إلى تهافت الموقف الباحث عن سعادة لا تأتي، إذ السّعادة هي في هذا الإحساس بثراء أشياء العالم وتفاعلنا معها. إحساس بقيمة الماء، وقيمة الهواء، وجمال الزّهور، وبهاء طلعة الشّمس، وعذوبة هبّة نسيم عليل، وفسحة مع صديق، ولقاء بحبيب. ثروات وثروات لا ننتبه إليها إلاّ عند فقدان القدرة على الإحساس بها... دروس في السّعادة مدارات تفكير، في كلّ مدار قضيّة وحكمة. وفي كلّ حكمة وعد بالفعل. وفي كلّ فعل إنشاء لقاعدة سلوك تنير التّجربة الانسانيّة وتغنيها. وتوسّع من كونيّة الإنسانيّ، لكي يكون منبعا غزيرا تنهل منه الفرديّات. الحديث عن السّعادة هو حديث عن الانسان والعالم وما ينتجه اللّقاء بينهما من أفكار وقيم ومشاعر ومعتقدات. هو حديث عن شواغل الإنسان، وعن ضروب الحيل في دفع الأحزان، أملا في الرّضا والطّمأنينة، وسعيا إلى بناء عالم من الفرح، هو عالم الإنسان"(1).
(1) هنري بينا- رويز، دروس في السعادة، ترجمة محمّد نجيب عبد المولى، مراجعة عبد العزيز العيّادي، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للتّرجمة، تونس، 2010، سلسلة: ديوان الفلسفة، ص.6-7. 
• عنوان المقال قول للفيلسوف هنري بينا- رويز.
• هنري بينا- رويز: فيلسوف وكاتب فرنسي، عرف بالدّفاع عن قيم التّضامن والحريّة. أصبح مختصّا في مسألة اللاّئكيّة بما هي أساس للفكر الكوني. هو من بين الحكماء العشرين الذين كوّنوا لجنة اللاّئكيّة بفرنسا سنة 2003. قاوم في كتاباته التّوظيف السّياسيّ للدّين واعتبر المعتقد شأنا شخصيّا، وجعل من الالتزام بقيم الجمهوريّة سبيلا لتحقيق حياة كريمة للانسان.
• محمّد نجيب عبد المولى: متفقّد عام للتّربية، درّس الفلسفة في المعاهد الثانوية، وفلسفة التّربية وحقوق الانسان في المعاهد العليا لترشيح المعلّمين. ساهم في تأليف الكتب الفلسفية المدرسيّة.
 
* أستاذ متقاعد
 
"الفلسفة لا تستحقّ منّا عناء ساعة إن هي لم تعلّمنا كيف نتصرّف في الحياة"

بقلم:مصدّق الشّريف (*)

*إنّ ما يُنذر بالخطر هو شعور المواطن بالفشل والإحباط
... ويزداد وضع البلاد تأزّما... صعوبات اقتصاديّة لم يُعرف مثلها من قبل حتىّ في أواخر فترة حكم بورقيبة سنة 1987 ولا في السّنوات الأخيرة لرئاسة بن علي... منذ عام 2011 الذي استبشر بحلوله التونسيّات والتونسيّون خيرا، لم تأت السّنوات إلاّ بعكس ما كان مؤمّلا. انتظر جميع النّاس تحسين الأوضاع بما يوفّر الحرّية والكرامة والشّغل ليطيب العيش ويعمّ التّفاؤل وتتّسع الآمال. لكنّ ذلك كلّه أصبح مجرّد سراب. لقد أضحى الوضع الاقتصادي مقلقا جدا يهدّد بما لا يُحمد عقباه. وألقت الصّعوبات الاقتصاديّة بظلالها على التّونسيّات والتّونسيّين بدءا من الفرد مرورا بالأسر وصولا إلى المجتمع ككلّ.
وجوه كالحة، توتّر في المزاج متواصل، بل متضاعف، مع طلوع كلّ يوم جديد. افتقد جميع الناس الشّعور بطعم الحياة ولذّة العيش. وأصبحت الرّغبة جامحة في الانطواء والعزلة. كيف لا و أين ما يولّي المواطن وجهه لا يجد إلاّ الأبواب موصدة، فلا يستطيع الوصول إلى قضاء حاجاته الضّروريّة اليوميّة منها والمعيشيّة؟ هذا فضلا عن انسداد الآفاق أمام الشّباب إذ لا ينتظرهم إلاّ الضّياع والمجهول! بالإضافة إلى قلّة ذات اليد وغلاء المعيشة. ولن يؤدّي ذلك إلاّ إلى مزيد انحلال مجتمعنا وتفاقم ظاهرة الهجرة الشّرعية وغير الشّرعية والانتحار والإجرام  والفوضى والبطالة والانقطاع عن الدّراسة.
كُمّمت أفواه التّونسيّين والتّونسيّات ووقعت مصادرة رأيهم وتمّ التّدخل في حرّية الضّمير والمعتقد والأفكار. وأنبأ ذلك بحرب أهليّة كان من الصّعب إيقاف نزيفها ولا يزال. وعايش التّونسيّون والتّونسيّات التّشنّج والخطاب السياسي الذي تُسوّقه الأحزاب والمنظمات الوطنيّة. خطاب لا يهمّ أصحابه إلاّ اعتلاء المناصب وتسجيل النّقاط في مسار لا يخلو من اللّغو ولا يُرجى منه خير. نرى بعضهم يموج في بعض بعيدا عن التّفكير في الوطن ومصالحه الحقيقيّة. أما الجمعيات فقد قام أغلبها، في الظّاهر، على أهداف سامية تخدم المواطن والبلاد. ولكنّ الكثير منها انحرف عن هذه الوجهة وانزلق في متاهات عملت على تأصيل الفكر الظّلامي وتجميد العقل لدى مريديها... 
ولا ننسى أيضا الدّور الطّلائعي الذي كان من المفروض أن يلعبه الإعلام، بشتّى وسائله، في حياة النّاس لا سيما وأنّه يدخل كلّ البيوت دون استئذان. إنّ السّلطة الرّابعة كانت فاقدة الشّيء، في أغلب الأحيان، ولا تزال. وقد كان التّونسيّون والتّونسيّات في أمسّ حاجة إليها فلم تعمّق لديهم سوى الفكر الخرافي، عبر كثير من البرامج والمحتويات، ولم تقدّم لهم، في كثير من المناسبات، غير الميوعة والتّهريج. هذا فضلا عن وجود بعض الاعلاميّات والإعلاميين المأجورين الذين يتمنّون تواصل الاحتقان والفوضى على الدّوام. 
إنّ ما يُنذر بالخطر هو شعور المواطن بالفشل والإحباط. فالتّربية التي تلقّاها في بيته وفي المدارس والكلّيّات لا تحصّنه، غالبا، وتجعله لقمة سائغة تلتهمه أولى العراقيل وتبعث فيه أيّة عثرة الشّعور بالانكسار. مدارسنا قد حشت أدمغة التلاميذ والطّلاب بشتّى المعلومات من صالحة وطالحة دون أن تعلّمه قيمته كإنسان فأصبح لا فرق بينها وبين السّجن.
حين قامت الثّورة الصّناعيّة في أوروبا اعتقد الكثير من العمال أنّ الآلة والتّطور قد قضيا على مصدر قوتهم واعتبروها سبب آلامهم وأوجاعهم فحطّموا الآلات وخرّبوا المصانع. ولكنّ ذلك لم يدم كثيرا بفضل رجال الفكر والفلسفة الذين بثّوا الوعي والشّعور بالمسؤوليّة في صفوف العمال ووقفوا إلى جانبهم في سبيل تحقيق مطالبهم المشروعة وحقهم في العيش الكريم. فلاسفة التّنوير أمثال روسّو، منتسكيو وفولتير لعبوا أدوارا كبيرة في النّهوض بمجتمعاتهم على مستوى الفكر والدّفع بهم إلى اعمال العقل والأخذ بالأسباب في معالجة القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة. وبيّنوا لشعوبهم أنّ أصل الصّراع هو صراعهم مع الطّبقة الرّأسماليّة المهيمنة التي تمتصّ كدّهم وجدّهم. ونحن اليوم بحاجة إلى التّقييم العلمي والمطارحات الفكريّة الجيّدة للخروج من الأزمة التي تعيشها بلادنا. 
في ترجمته لكتاب "دروس في السّعادة" للفيلسوف هنري بينا- رويز، تحدّث الأستاذ محمّد نجيب عبد المولى، رحمه الله، قائلا:
"هذه الدّروس هي دعوة إلى النّظر في الأشياء، لكن بعيون تبصر التّفاصيل وتضفي على ما هو مألوف معنى وقيمة. هي تنبيه يشير إلى تهافت الموقف الباحث عن سعادة لا تأتي، إذ السّعادة هي في هذا الإحساس بثراء أشياء العالم وتفاعلنا معها. إحساس بقيمة الماء، وقيمة الهواء، وجمال الزّهور، وبهاء طلعة الشّمس، وعذوبة هبّة نسيم عليل، وفسحة مع صديق، ولقاء بحبيب. ثروات وثروات لا ننتبه إليها إلاّ عند فقدان القدرة على الإحساس بها... دروس في السّعادة مدارات تفكير، في كلّ مدار قضيّة وحكمة. وفي كلّ حكمة وعد بالفعل. وفي كلّ فعل إنشاء لقاعدة سلوك تنير التّجربة الانسانيّة وتغنيها. وتوسّع من كونيّة الإنسانيّ، لكي يكون منبعا غزيرا تنهل منه الفرديّات. الحديث عن السّعادة هو حديث عن الانسان والعالم وما ينتجه اللّقاء بينهما من أفكار وقيم ومشاعر ومعتقدات. هو حديث عن شواغل الإنسان، وعن ضروب الحيل في دفع الأحزان، أملا في الرّضا والطّمأنينة، وسعيا إلى بناء عالم من الفرح، هو عالم الإنسان"(1).
(1) هنري بينا- رويز، دروس في السعادة، ترجمة محمّد نجيب عبد المولى، مراجعة عبد العزيز العيّادي، منشورات دار سيناترا، المركز الوطني للتّرجمة، تونس، 2010، سلسلة: ديوان الفلسفة، ص.6-7. 
• عنوان المقال قول للفيلسوف هنري بينا- رويز.
• هنري بينا- رويز: فيلسوف وكاتب فرنسي، عرف بالدّفاع عن قيم التّضامن والحريّة. أصبح مختصّا في مسألة اللاّئكيّة بما هي أساس للفكر الكوني. هو من بين الحكماء العشرين الذين كوّنوا لجنة اللاّئكيّة بفرنسا سنة 2003. قاوم في كتاباته التّوظيف السّياسيّ للدّين واعتبر المعتقد شأنا شخصيّا، وجعل من الالتزام بقيم الجمهوريّة سبيلا لتحقيق حياة كريمة للانسان.
• محمّد نجيب عبد المولى: متفقّد عام للتّربية، درّس الفلسفة في المعاهد الثانوية، وفلسفة التّربية وحقوق الانسان في المعاهد العليا لترشيح المعلّمين. ساهم في تأليف الكتب الفلسفية المدرسيّة.
 
* أستاذ متقاعد