تونس بإمكانها أن تكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر إلى أوروبا
رفع الدعم عن المحروقات والمساس من كلفة الإنتاج بالنسبة للفلاح والصناعي سيخلق أزمة مضاعفة
الاقتصاد التونسي تأثر بشكل كبير جراء الصدمة النفطية للحرب الروسية-الأوكرانية
لا يوجد أي منشأ في تونس لم تنته مدة صلوحيته وبات في حاجة إلى التجديد
لم لا الانطلاق ببرنامج "جربة جزيرة خضراء" في التحول نحو الاقتصاد الأخضر
تونس-الصباح
تمر تونس اليوم بفترة صعبة للغاية اقتصاديا حيث توسع عجز الميزانية وارتفعت الأسعار وافتقدت الأسواق لجل المنتوجات الأساسية مع صعوبات في توفير السيولة وصعوبة الاقتراض داخليا وخارجيا..، هذا الوضع زادته الحرب الروسية الأوكرانية تعقيدا حيث انعدمت رؤى الإصلاح في ظل غياب مخططات وفي ظل التأخر الكبير في الذهاب إلى ما يمكن أن يعالج النقائص ويدعم الموارد ويحد من العجز.
حول هذا الوضع والبدائل الاقتصادية خاصة في مجال الطاقة كان لـ"الصباح" هذا اللقاء مع الخبير الاقتصادي المختص في الطاقة عماد درويش الذي وضع إصبعه على مكامن الداء وقدم الحلول والتي نطالعها في حوارنا التالي.
حاوره: سفيان رجب
يبدو أن أثار الحرب الروسية-الأوكرانية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد التونسي؟
-ليست تونس فقط بل كل دول العالم تأثرت بهذه الحرب باستثناء الدول المنتجة للنفط بما فيها روسيا فالأرقام تقول آن تونس تنتج 44 ألف برميل وتحتاج إلى 100 ألف في حين تستورد 60 بالمائة من حاجياتها للغاز من الجزائر. وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية، شهدت أسعار النفط ارتفاعا غير مسبوق بلغ 140 دولارا للبرميل في الوقت الذي اعتمدت الحكومة التونسية في صياغتها لقانون المالية لسنة 2022 على فرضية 75 دولارا لبرميل النفط، وهذه تعد صدمة نفطية لم يشهدها العالم منذ سنة 2008 حين وصل سعر البرميل إلى حدود 147 دولارا. وسجل سعر الغاز هو الآخر أرقاما قياسية ويرجح أن يصل إلى 4000 دولار لكل 1000 متر مكعب. وقد تكون الجزائر أكبر المستفيدين من أزمة الغاز كونها رابع مصدر لهذه المادة وذلك بالنظر إلى العقوبات التي سلطت على روسيا التي تنتج 16 بالمائة من الإنتاج العالمي، فالشركة الجزائرية "سوناطراك" تعتبر ثاني مصدّر للغاز إلى إيطاليا، عبر خط الأنابيب العابر لبلادنا، بعد "غازبروم" الروسية. وتونس استفادت من خط الأنابيب الجزائري حيث تتحصل على إتاوة تحدد تقدر بـ 5.25 بالمائة من كمية الغاز المنقول، وتمكن هذه الحصة إلى جانب الشراء من تغطية 66 بالمائة من الاستهلاك الوطني التونسي وهو ما يمكن أن يخفف نوعا ما من وطأة وتأثيرات صاعقة الحرب التي ضربت كل دول العالم.
وضعت تونس منذ مدة خطة لرفع الدعم تدريجيا عن المحروقات وذلك تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي..، فما رأيكم في ذلك خاصة أن البعض يشتكي من الارتفاع المتواصل لسعر البنزين؟
- كلفة اللتر الواحد من المحروقات تتكلف 6000 مليم وهو ما يحيل إلى أن الدولة تواجه إشكاليات على مستوى دعم المحروقات بالدينار، وزيادة أسعار المحروقات أو تخفيضها يدخل ضمن باب الإصلاحات الحكومية لرفع الدعم.
لكن لا يمكن المرور نحو رفع الدعم عن المحروقات بقرار فوري، بل أن ذلك يستدعي وضع برنامج خماسي يمتد على 5 سنوات، حيث أن المساس من كلفة الإنتاج بالنسبة للفلاح والصناعي سيخلق أزمة مضاعفة وسيرفع الأسعار قي كل المواد وسيزيد من حدة التضخمّ.
يمكن للدولة تحويل الدعم من المحروقات إلى الطاقات النظيفة، حتى يقبل المواطن على استعمال المعدات والآليات الكهربائية المتأتية من الطاقات المتجددة، وبالتالي يتم الحد من دفوعات العملة الصعبة لتوفير المحروقات.
عديد الشركات التي تستعمل الطاقة في بعض البلدان كفرنسا وألمانيا أغلقت أبوابها بسبب الأزمة الطاقية. وبالنسبة للتأثيرات على تونس فان انعكاسات الحرب وتأثيرها على أوروبا سنشهد انعكاساته بعد سنتين من الآن بسبب الركود في القارة الأوروبية وعلاقتنا الوطيدة بهذه القارة اقتصاديا.
تمر تونس اليوم بأحلك فتراتها اقتصاديا..، فأي حلول ترونها للخروج من هذه الأزمة؟
-من الضروري أن يصل النمو على الأقل إلى 5 في المائة في تونس. اليوم النمو في حدود 2 فاصل إلى 3 نقاط وبالتالي من الضروري إضافة 2 نقاط نمو توجه إلى الجانب الاجتماعي أي لمقاومة الفقر وضعف المقدرة الشرائية.. نقطتا النمو لن تتأتيا إلا من الإنتاج والفائض.. اليوم الدولة لم تجد الحل إلا في الاقتراض لدعم العائلات الفقيرة وهو ما حصل في قرض الـ300 مليون دولار من البنك العالمي ثم الـ140 مليون دولار ثم أموال الكوفيد. وإرجاع تلك القروض لن يكون إلا بإنتاجها، وإنتاجها إما يكون باكتشاف كبير لحقل نفط وغاز وهو ما سيمكّن من التخفيض من ميزان الطاقة السلبي وهو في حدود إلا 60 بالمائة ليصل على الأقل إلى صفر بالمائة وبيع الفائض ليكون له مردود على الاقتصاد الوطني..، لكن هل هذا موجود اليوم الأكيد لا..، كانت هناك إشكاليات قانونية وإدارية وقع حلها اليوم لتطوير هذا يلزم إمكانيات كبيرة بترول وغاز والدولة اليوم ليس لها إمكانيات و"الايتاب" ليس لها كذلك الإمكانيات ومن الضروري إيجاد الطرف الذي بإمكانه تطوير هذه الحقول ومن الضروري أن نشجع الكفاءات للعودة للعمل في هذا القطاع وإنقاذه مما تردى فيه خاصة أن الإمكانيات موجودة.
في 2011 كانت تونس تنتج يوميا 80 ألف برميل واليوم الإنتاج في حدود 37 ألف برميل وهو ما يعني أن تونس خسرت نصف إنتاجها دون أي رد فعل واضح.
تتحدث عن الكفاءات، فهل أن المنظومة التعليمية اليوم قادرة على خلق كفاءات وطنية وهل نخبنا المتواجدة في الخارج تقبل اليوم بالعودة للبلاد للمساهمة في نموها ودفع اقتصادها؟
-المنظومة التعليمية في موت سريري منذ 20 سنة..، فالعالم تغير والتعليم في كل الدول تغير لكن تونس محافظة على منظومة تعليمية أثبتت فشلها ولم تخلق سوى أجيال ضعيفة وفارغة. النظر إلى حالة مدارسنا وبنيتها التحتية يغني عن كل تعليق..، من الضروري طي صفحة المنظومة التعليمية الحالية والاستلهام من التجارب الخارجية الرائدة والأفضل الاعتماد على مكتب استشارات دولي كبير مثل شركة ماكنزي او بيزا ومنحه 3 أو 4 سنوات ليقدم لنا برنامجا تعليميا واضحا وكل الدول قامت بذلك دون إشكال فالسعودية مثلا تدفع سنويا 17 مليار دولار لمكاتب استشارات. فأي برنامج إصلاح مع الواقع الإداري لتونس اعتبره ولد ميتا. والى جانب التعليم اعتبر أن المنظومة الصحية كذلك انتهت مدة صلوحيتها ونفس الشيء بالنسبة لمنظومة الطرقات فلا يوجد أي منشأ في تونس لم تنته مدة صلوحيته وبات في حاجة إلى التجديد وفق رؤى جديدة تتلاءم مع التطور العالمي.
ما قلته في التعليم والصحة ينطبق على قطاع الطاقة وأكثر حيث أن هذا القطاع تضرر بشكل رهيب وتعرض لتهديم ممنهج من قبل أطراف لا تفقه شيئا في الطاقة تهجمت على الشركات والكفاءات واتهمتهم بالفساد والنتيجة المغادرة وتقلص الإنتاج والمردودية...
لكن هل تعتقدون أن لتونس اليوم الإمكانيات للحد من عجزها الطاقي الذي ضرب اقتصادها ودمر نموها؟
-نعم بالإمكان ذلك إذا نجحنا في تحديين اثنين أولها انه بإمكان تونس في ظرف 3 سنوات أن تعيد ميزان التجاري الطاقي إلى نقطة الصفر وهو اليوم سلبي (-60) ونحن نعلم جيدا أن انهيار الاقتصاد في تونس اليوم سببه اختلال الميزان الطاقي..، فكل محركات الاقتصاد مرتبطة بالطاقة على غرار النقل والصناعة والفلاحة ودون امن طاقي لا أمان لأي دولة.
التحدي الثاني الذي أعلنت عنه سابقا وأؤكده مجددا وهو أن تونس بإمكانها أن تكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر إلى أوروبا التي تتنافس عليها عديد الدول ومنها الشيلي الدولة البعيدة آلاف الكيلومترات عن القارة الأوروبية ونحن على بعد كيلومترات لم نتحرك لبيع هذا المنتوج الذي يقارن اليوم بالذهب فبحكم موقعنا وكفاءاتنا بإمكاننا أن نكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر وهو طاقة جديدة لأوروبا التي تعد اكبر مستهلك لهذه المادة في العالم هذان التحديان فقط يمكنان من زيادة نقطتين في النمو.
لقد كنت من بين أكثر الداعين لاستغلال غاز الشيست في تونس واعتباره الحل الأمثل للحد من العجز الطاقي واليوم تركزون على الهيدروجين الأخضر؟
-لا علاقة بين الشيست والهيدروجين الأخضر، من المؤكد والموثق والثابت أن غاز الشيست موجود في الجنوب التونسي بكميات كبيرة تساوي 20 مليار قدم مكعب من الغاز بسعر اليوم 190 مليار دولار وهو ما يمكن أن يغير وجه تونس كليا وهذا لا شك فيه ولا اختلاف. لكن ما لا تستغله اليوم لا تستطيع استغلاله غدا وغاز الشيست أصبح صعب التطوير في الوقت الراهن والعالم توجه نحو اقتصاد جديد وهو خفض البصمة الكربونية والهيدروجين الأخضر فرصة بدوره أرجو أن لا نضيعها كسابقاتها. ففي سنة 2013 أكدت أن الجنوب التونسي يكتنز على غاز الشيست وجب استغلاله ولو تم ذلك لكنا اليوم نعيش في تونس أخرى بعيدا عن أكذوبة البيئة والإضرار بالبيئة. اليوم هناك اقتصاد جديد وهو الاقتصاد الأخضر تدعو إليه قرارات الأمم المتحدة هناك وعي بارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض بسبب ثاني أكسيد الكربون والانحباس الحراري ومن الضروري تخفيض تلك الانبعاثات عبر مهاجمة كل الصناعات المتسببة في ذلك وأولها الكهرباء وبعدها النقل ثم الفلاحة وهي اكبر القطاعات المنتجة لثاني أكسيد الكربون.
اليوم هناك اقتصاد كامل مبني على تخفيض الكربون وهو اقتصاد ستخصص له استثمارات من هنا إلى غاية سنة 2050 بما قيمته 5 تريليون دولار كل بلاد عليها أن تثبت أنها خفضت من الانبعاثات الكربونية وما خفضته يمكن أن تبيعه في بعض الأسواق وبالتالي من كان ينتج في الكهرباء عبر الغاز والفيول سيعمل على تغيير ذلك عبر الطاقات المتجددة الخضراء ومنها الطاقة الشمسية والرياح والنووي كل حسب ما يتوفر لديه. تونس لديها الشمس والرياح وعدد سكانها ليس بالكبير وصناعتها موجهة للتصدير والتصدير سيواجه صعوبات إذا لم نثبت أننا خفضنا من ثاني أكسيد الكربون في منتوجاتنا. فالاتحاد الأوروبي وضع ما يعرف بالحدود الكربونية لنفسه واشترط على من يريد تصدير أي منتوج إلى أوروبا بأن يثبت أنه خفض من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون بـ 50 بالمائة في إنتاجه وإلا فإنه سيكون مطالبا بدفع ضريبة في مرحلة أولى وسيمنع من التصدير في مرحلة ثانية. وكل المصنعين التونسيين وخصوصا المصدرين لأوروبا سيكونون بحلول 2025 في مواجهة هذا التحدي.
وهذا كله اقتصاد جديد ويمكن أن يكون الاقتصاد المنقذ لتونس خاصة انه يمكّن من مساعدات كبيرة.
لكن هذا يتطلب برامج وخطط ومشاريع لم نر حكومتنا اليوم تحركت من أجلها؟
-بالفعل فمنذ سنتين تقريبا ونحن نتحدث عن قرض الـ 4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي ولو اعددنا برنامجا خاصا بالاقتصاد الأخضر وتخفيض ثاني أكسيد الكربون بنسبة 50 بالمائة لغاية سنة 2030 وقدمناه للصندوق لمنحنا على الفور ما لا يقل عن 5 مليار دولار وهو ما يمكن من إنتاج الثروة وتحقيق النمو والقيام بالإصلاحات الكبرى...
علينا العمل وإقناع المانحين بان تونس ستعمل على استغلال واستخراج مخزونها النفطي والغازي بالطرق الخضراء الجديدة دون انبعاثات وإنجاز محطات ضخمة للطاقة الشمسية تنتج الكهرباء والحافز الكربوني استغله في استثمارات ومشاريع تنموية وهو ما يسمى بالاقتصاد الدائري. ومثل هذه المشاريع يوافق عليها أي طرف مانح في ظرف أيام.
الهيدروجين الأخضر كيف يمكن إنتاجه؟
-إنتاج الهيدروجين الأخضر يكون من خلال استخدام الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقات المتجددة مثل الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة المائية بعد عملية تقسيم الماء إلى مكونات "الهيدروجين والأوكسجين"، ثم إنتاج الهيدروجين بتقنية خالية من الكربون ومن ملوثات الهواء.
وعملية إنتاج الهيدروجين تمر عبر تحويل للطاقة الكهربائية الخضراء المتولدة من الطاقات المتجددة من طاقة الرياح أو طاقة المياه العذبة أو مياه البحر المحلاة وهي تقنيات مستحدثة في كامل العالم حتى أن مختلف المشاريع الدولية المتعلقة بإنتاج لهيدروجين الأخضر مازالت في بدايتها.
وإنتاج الهيدروجين الأخضر سيسمح بتوفير بديل طاقي للصناعة في تونس ويمكن ضخه في أنابيب الغاز الطبيعي في حدود نسبة معينة ليستغل كغاز طبيعي أو طاقة حرارية كبرى فضلا عن إمكانية تحويله إلى أمونيا وميثانول أو غاز طبيعي ليقع استغلال هذه المواد في وسائل النقل الثقيلة وفي المؤسسات الصناعية المستهلكة للطاقة وفي إنتاج الأسمدة لفائدة الزراعة.
هذا إضافة إلى الفرص الكبيرة لتصدير الهيدروجين الأخضر، فأوروبا جارتنا القريبة هي أكبر منطقة متطلبة للهيدروجين الأخضر وعلينا أن نستثمر في هذا الأمر عبر الانفتاح وتحرير الاقتصاد والحد من العقبات الإدارية. فشخص واحد في وزارة الصناعة يمكنه أن يعطل مشروع إنقاذ البلاد. الحل اليوم في فتح الاقتصاد خاصة في الطاقة والصناعة وخصوصا الفلاحة عبر استغلال الأراضي الفلاحية ومنحها للشباب والخواص للاستثمار فيها ضمن مبدأ "دعه يعمل اتركه يمر" والدولة تكتفي بوضع قانون واستخلاص الجباية والاستثمار في التعليم والصحة.
على الدولة أن تضع برنامجا خماسيا وتستخرج شهادات ملكية للأراضي الدولية وتوزع هذه الأراضي على الشباب العاطل من أصحاب الشهادات العليا لاستصلاحها وغراستها والاستثمار فيها.. وقتها سنرى بالفعل دولة أخرى واقتصاد آخر.
كذلك لماذا لا نستغل الاقتصاد الأخضر في القطاع السياحي مثال ذلك وضع برنامج تصبح بمقتضاه جميع فنادق ونزل جربة تعمل بالطاقة الشمسية والترويج لجربة جزيرة خضراء دون غاز ودون بترول. فالسائح ووكالات الأسفار الدولية ستشترط في السنوات القادمة الإقامة في فنادق تعتمد الطاقات النظيفة وستكون هناك معايير دولية في استعمال المياه والطاقة واليوم بالإمكان الاطلاع على ذلك في جل منصات الحجوزات السياحية لنرى إشارة بان هذا الفندق يحترم مواصفات البيئة المستديمة.
تونس بإمكانها أن تكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر إلى أوروبا
رفع الدعم عن المحروقات والمساس من كلفة الإنتاج بالنسبة للفلاح والصناعي سيخلق أزمة مضاعفة
الاقتصاد التونسي تأثر بشكل كبير جراء الصدمة النفطية للحرب الروسية-الأوكرانية
لا يوجد أي منشأ في تونس لم تنته مدة صلوحيته وبات في حاجة إلى التجديد
لم لا الانطلاق ببرنامج "جربة جزيرة خضراء" في التحول نحو الاقتصاد الأخضر
تونس-الصباح
تمر تونس اليوم بفترة صعبة للغاية اقتصاديا حيث توسع عجز الميزانية وارتفعت الأسعار وافتقدت الأسواق لجل المنتوجات الأساسية مع صعوبات في توفير السيولة وصعوبة الاقتراض داخليا وخارجيا..، هذا الوضع زادته الحرب الروسية الأوكرانية تعقيدا حيث انعدمت رؤى الإصلاح في ظل غياب مخططات وفي ظل التأخر الكبير في الذهاب إلى ما يمكن أن يعالج النقائص ويدعم الموارد ويحد من العجز.
حول هذا الوضع والبدائل الاقتصادية خاصة في مجال الطاقة كان لـ"الصباح" هذا اللقاء مع الخبير الاقتصادي المختص في الطاقة عماد درويش الذي وضع إصبعه على مكامن الداء وقدم الحلول والتي نطالعها في حوارنا التالي.
حاوره: سفيان رجب
يبدو أن أثار الحرب الروسية-الأوكرانية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد التونسي؟
-ليست تونس فقط بل كل دول العالم تأثرت بهذه الحرب باستثناء الدول المنتجة للنفط بما فيها روسيا فالأرقام تقول آن تونس تنتج 44 ألف برميل وتحتاج إلى 100 ألف في حين تستورد 60 بالمائة من حاجياتها للغاز من الجزائر. وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية، شهدت أسعار النفط ارتفاعا غير مسبوق بلغ 140 دولارا للبرميل في الوقت الذي اعتمدت الحكومة التونسية في صياغتها لقانون المالية لسنة 2022 على فرضية 75 دولارا لبرميل النفط، وهذه تعد صدمة نفطية لم يشهدها العالم منذ سنة 2008 حين وصل سعر البرميل إلى حدود 147 دولارا. وسجل سعر الغاز هو الآخر أرقاما قياسية ويرجح أن يصل إلى 4000 دولار لكل 1000 متر مكعب. وقد تكون الجزائر أكبر المستفيدين من أزمة الغاز كونها رابع مصدر لهذه المادة وذلك بالنظر إلى العقوبات التي سلطت على روسيا التي تنتج 16 بالمائة من الإنتاج العالمي، فالشركة الجزائرية "سوناطراك" تعتبر ثاني مصدّر للغاز إلى إيطاليا، عبر خط الأنابيب العابر لبلادنا، بعد "غازبروم" الروسية. وتونس استفادت من خط الأنابيب الجزائري حيث تتحصل على إتاوة تحدد تقدر بـ 5.25 بالمائة من كمية الغاز المنقول، وتمكن هذه الحصة إلى جانب الشراء من تغطية 66 بالمائة من الاستهلاك الوطني التونسي وهو ما يمكن أن يخفف نوعا ما من وطأة وتأثيرات صاعقة الحرب التي ضربت كل دول العالم.
وضعت تونس منذ مدة خطة لرفع الدعم تدريجيا عن المحروقات وذلك تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولي..، فما رأيكم في ذلك خاصة أن البعض يشتكي من الارتفاع المتواصل لسعر البنزين؟
- كلفة اللتر الواحد من المحروقات تتكلف 6000 مليم وهو ما يحيل إلى أن الدولة تواجه إشكاليات على مستوى دعم المحروقات بالدينار، وزيادة أسعار المحروقات أو تخفيضها يدخل ضمن باب الإصلاحات الحكومية لرفع الدعم.
لكن لا يمكن المرور نحو رفع الدعم عن المحروقات بقرار فوري، بل أن ذلك يستدعي وضع برنامج خماسي يمتد على 5 سنوات، حيث أن المساس من كلفة الإنتاج بالنسبة للفلاح والصناعي سيخلق أزمة مضاعفة وسيرفع الأسعار قي كل المواد وسيزيد من حدة التضخمّ.
يمكن للدولة تحويل الدعم من المحروقات إلى الطاقات النظيفة، حتى يقبل المواطن على استعمال المعدات والآليات الكهربائية المتأتية من الطاقات المتجددة، وبالتالي يتم الحد من دفوعات العملة الصعبة لتوفير المحروقات.
عديد الشركات التي تستعمل الطاقة في بعض البلدان كفرنسا وألمانيا أغلقت أبوابها بسبب الأزمة الطاقية. وبالنسبة للتأثيرات على تونس فان انعكاسات الحرب وتأثيرها على أوروبا سنشهد انعكاساته بعد سنتين من الآن بسبب الركود في القارة الأوروبية وعلاقتنا الوطيدة بهذه القارة اقتصاديا.
تمر تونس اليوم بأحلك فتراتها اقتصاديا..، فأي حلول ترونها للخروج من هذه الأزمة؟
-من الضروري أن يصل النمو على الأقل إلى 5 في المائة في تونس. اليوم النمو في حدود 2 فاصل إلى 3 نقاط وبالتالي من الضروري إضافة 2 نقاط نمو توجه إلى الجانب الاجتماعي أي لمقاومة الفقر وضعف المقدرة الشرائية.. نقطتا النمو لن تتأتيا إلا من الإنتاج والفائض.. اليوم الدولة لم تجد الحل إلا في الاقتراض لدعم العائلات الفقيرة وهو ما حصل في قرض الـ300 مليون دولار من البنك العالمي ثم الـ140 مليون دولار ثم أموال الكوفيد. وإرجاع تلك القروض لن يكون إلا بإنتاجها، وإنتاجها إما يكون باكتشاف كبير لحقل نفط وغاز وهو ما سيمكّن من التخفيض من ميزان الطاقة السلبي وهو في حدود إلا 60 بالمائة ليصل على الأقل إلى صفر بالمائة وبيع الفائض ليكون له مردود على الاقتصاد الوطني..، لكن هل هذا موجود اليوم الأكيد لا..، كانت هناك إشكاليات قانونية وإدارية وقع حلها اليوم لتطوير هذا يلزم إمكانيات كبيرة بترول وغاز والدولة اليوم ليس لها إمكانيات و"الايتاب" ليس لها كذلك الإمكانيات ومن الضروري إيجاد الطرف الذي بإمكانه تطوير هذه الحقول ومن الضروري أن نشجع الكفاءات للعودة للعمل في هذا القطاع وإنقاذه مما تردى فيه خاصة أن الإمكانيات موجودة.
في 2011 كانت تونس تنتج يوميا 80 ألف برميل واليوم الإنتاج في حدود 37 ألف برميل وهو ما يعني أن تونس خسرت نصف إنتاجها دون أي رد فعل واضح.
تتحدث عن الكفاءات، فهل أن المنظومة التعليمية اليوم قادرة على خلق كفاءات وطنية وهل نخبنا المتواجدة في الخارج تقبل اليوم بالعودة للبلاد للمساهمة في نموها ودفع اقتصادها؟
-المنظومة التعليمية في موت سريري منذ 20 سنة..، فالعالم تغير والتعليم في كل الدول تغير لكن تونس محافظة على منظومة تعليمية أثبتت فشلها ولم تخلق سوى أجيال ضعيفة وفارغة. النظر إلى حالة مدارسنا وبنيتها التحتية يغني عن كل تعليق..، من الضروري طي صفحة المنظومة التعليمية الحالية والاستلهام من التجارب الخارجية الرائدة والأفضل الاعتماد على مكتب استشارات دولي كبير مثل شركة ماكنزي او بيزا ومنحه 3 أو 4 سنوات ليقدم لنا برنامجا تعليميا واضحا وكل الدول قامت بذلك دون إشكال فالسعودية مثلا تدفع سنويا 17 مليار دولار لمكاتب استشارات. فأي برنامج إصلاح مع الواقع الإداري لتونس اعتبره ولد ميتا. والى جانب التعليم اعتبر أن المنظومة الصحية كذلك انتهت مدة صلوحيتها ونفس الشيء بالنسبة لمنظومة الطرقات فلا يوجد أي منشأ في تونس لم تنته مدة صلوحيته وبات في حاجة إلى التجديد وفق رؤى جديدة تتلاءم مع التطور العالمي.
ما قلته في التعليم والصحة ينطبق على قطاع الطاقة وأكثر حيث أن هذا القطاع تضرر بشكل رهيب وتعرض لتهديم ممنهج من قبل أطراف لا تفقه شيئا في الطاقة تهجمت على الشركات والكفاءات واتهمتهم بالفساد والنتيجة المغادرة وتقلص الإنتاج والمردودية...
لكن هل تعتقدون أن لتونس اليوم الإمكانيات للحد من عجزها الطاقي الذي ضرب اقتصادها ودمر نموها؟
-نعم بالإمكان ذلك إذا نجحنا في تحديين اثنين أولها انه بإمكان تونس في ظرف 3 سنوات أن تعيد ميزان التجاري الطاقي إلى نقطة الصفر وهو اليوم سلبي (-60) ونحن نعلم جيدا أن انهيار الاقتصاد في تونس اليوم سببه اختلال الميزان الطاقي..، فكل محركات الاقتصاد مرتبطة بالطاقة على غرار النقل والصناعة والفلاحة ودون امن طاقي لا أمان لأي دولة.
التحدي الثاني الذي أعلنت عنه سابقا وأؤكده مجددا وهو أن تونس بإمكانها أن تكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر إلى أوروبا التي تتنافس عليها عديد الدول ومنها الشيلي الدولة البعيدة آلاف الكيلومترات عن القارة الأوروبية ونحن على بعد كيلومترات لم نتحرك لبيع هذا المنتوج الذي يقارن اليوم بالذهب فبحكم موقعنا وكفاءاتنا بإمكاننا أن نكون أول مصدر للهيدروجين الأخضر وهو طاقة جديدة لأوروبا التي تعد اكبر مستهلك لهذه المادة في العالم هذان التحديان فقط يمكنان من زيادة نقطتين في النمو.
لقد كنت من بين أكثر الداعين لاستغلال غاز الشيست في تونس واعتباره الحل الأمثل للحد من العجز الطاقي واليوم تركزون على الهيدروجين الأخضر؟
-لا علاقة بين الشيست والهيدروجين الأخضر، من المؤكد والموثق والثابت أن غاز الشيست موجود في الجنوب التونسي بكميات كبيرة تساوي 20 مليار قدم مكعب من الغاز بسعر اليوم 190 مليار دولار وهو ما يمكن أن يغير وجه تونس كليا وهذا لا شك فيه ولا اختلاف. لكن ما لا تستغله اليوم لا تستطيع استغلاله غدا وغاز الشيست أصبح صعب التطوير في الوقت الراهن والعالم توجه نحو اقتصاد جديد وهو خفض البصمة الكربونية والهيدروجين الأخضر فرصة بدوره أرجو أن لا نضيعها كسابقاتها. ففي سنة 2013 أكدت أن الجنوب التونسي يكتنز على غاز الشيست وجب استغلاله ولو تم ذلك لكنا اليوم نعيش في تونس أخرى بعيدا عن أكذوبة البيئة والإضرار بالبيئة. اليوم هناك اقتصاد جديد وهو الاقتصاد الأخضر تدعو إليه قرارات الأمم المتحدة هناك وعي بارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض بسبب ثاني أكسيد الكربون والانحباس الحراري ومن الضروري تخفيض تلك الانبعاثات عبر مهاجمة كل الصناعات المتسببة في ذلك وأولها الكهرباء وبعدها النقل ثم الفلاحة وهي اكبر القطاعات المنتجة لثاني أكسيد الكربون.
اليوم هناك اقتصاد كامل مبني على تخفيض الكربون وهو اقتصاد ستخصص له استثمارات من هنا إلى غاية سنة 2050 بما قيمته 5 تريليون دولار كل بلاد عليها أن تثبت أنها خفضت من الانبعاثات الكربونية وما خفضته يمكن أن تبيعه في بعض الأسواق وبالتالي من كان ينتج في الكهرباء عبر الغاز والفيول سيعمل على تغيير ذلك عبر الطاقات المتجددة الخضراء ومنها الطاقة الشمسية والرياح والنووي كل حسب ما يتوفر لديه. تونس لديها الشمس والرياح وعدد سكانها ليس بالكبير وصناعتها موجهة للتصدير والتصدير سيواجه صعوبات إذا لم نثبت أننا خفضنا من ثاني أكسيد الكربون في منتوجاتنا. فالاتحاد الأوروبي وضع ما يعرف بالحدود الكربونية لنفسه واشترط على من يريد تصدير أي منتوج إلى أوروبا بأن يثبت أنه خفض من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون بـ 50 بالمائة في إنتاجه وإلا فإنه سيكون مطالبا بدفع ضريبة في مرحلة أولى وسيمنع من التصدير في مرحلة ثانية. وكل المصنعين التونسيين وخصوصا المصدرين لأوروبا سيكونون بحلول 2025 في مواجهة هذا التحدي.
وهذا كله اقتصاد جديد ويمكن أن يكون الاقتصاد المنقذ لتونس خاصة انه يمكّن من مساعدات كبيرة.
لكن هذا يتطلب برامج وخطط ومشاريع لم نر حكومتنا اليوم تحركت من أجلها؟
-بالفعل فمنذ سنتين تقريبا ونحن نتحدث عن قرض الـ 4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي ولو اعددنا برنامجا خاصا بالاقتصاد الأخضر وتخفيض ثاني أكسيد الكربون بنسبة 50 بالمائة لغاية سنة 2030 وقدمناه للصندوق لمنحنا على الفور ما لا يقل عن 5 مليار دولار وهو ما يمكن من إنتاج الثروة وتحقيق النمو والقيام بالإصلاحات الكبرى...
علينا العمل وإقناع المانحين بان تونس ستعمل على استغلال واستخراج مخزونها النفطي والغازي بالطرق الخضراء الجديدة دون انبعاثات وإنجاز محطات ضخمة للطاقة الشمسية تنتج الكهرباء والحافز الكربوني استغله في استثمارات ومشاريع تنموية وهو ما يسمى بالاقتصاد الدائري. ومثل هذه المشاريع يوافق عليها أي طرف مانح في ظرف أيام.
الهيدروجين الأخضر كيف يمكن إنتاجه؟
-إنتاج الهيدروجين الأخضر يكون من خلال استخدام الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقات المتجددة مثل الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة المائية بعد عملية تقسيم الماء إلى مكونات "الهيدروجين والأوكسجين"، ثم إنتاج الهيدروجين بتقنية خالية من الكربون ومن ملوثات الهواء.
وعملية إنتاج الهيدروجين تمر عبر تحويل للطاقة الكهربائية الخضراء المتولدة من الطاقات المتجددة من طاقة الرياح أو طاقة المياه العذبة أو مياه البحر المحلاة وهي تقنيات مستحدثة في كامل العالم حتى أن مختلف المشاريع الدولية المتعلقة بإنتاج لهيدروجين الأخضر مازالت في بدايتها.
وإنتاج الهيدروجين الأخضر سيسمح بتوفير بديل طاقي للصناعة في تونس ويمكن ضخه في أنابيب الغاز الطبيعي في حدود نسبة معينة ليستغل كغاز طبيعي أو طاقة حرارية كبرى فضلا عن إمكانية تحويله إلى أمونيا وميثانول أو غاز طبيعي ليقع استغلال هذه المواد في وسائل النقل الثقيلة وفي المؤسسات الصناعية المستهلكة للطاقة وفي إنتاج الأسمدة لفائدة الزراعة.
هذا إضافة إلى الفرص الكبيرة لتصدير الهيدروجين الأخضر، فأوروبا جارتنا القريبة هي أكبر منطقة متطلبة للهيدروجين الأخضر وعلينا أن نستثمر في هذا الأمر عبر الانفتاح وتحرير الاقتصاد والحد من العقبات الإدارية. فشخص واحد في وزارة الصناعة يمكنه أن يعطل مشروع إنقاذ البلاد. الحل اليوم في فتح الاقتصاد خاصة في الطاقة والصناعة وخصوصا الفلاحة عبر استغلال الأراضي الفلاحية ومنحها للشباب والخواص للاستثمار فيها ضمن مبدأ "دعه يعمل اتركه يمر" والدولة تكتفي بوضع قانون واستخلاص الجباية والاستثمار في التعليم والصحة.
على الدولة أن تضع برنامجا خماسيا وتستخرج شهادات ملكية للأراضي الدولية وتوزع هذه الأراضي على الشباب العاطل من أصحاب الشهادات العليا لاستصلاحها وغراستها والاستثمار فيها.. وقتها سنرى بالفعل دولة أخرى واقتصاد آخر.
كذلك لماذا لا نستغل الاقتصاد الأخضر في القطاع السياحي مثال ذلك وضع برنامج تصبح بمقتضاه جميع فنادق ونزل جربة تعمل بالطاقة الشمسية والترويج لجربة جزيرة خضراء دون غاز ودون بترول. فالسائح ووكالات الأسفار الدولية ستشترط في السنوات القادمة الإقامة في فنادق تعتمد الطاقات النظيفة وستكون هناك معايير دولية في استعمال المياه والطاقة واليوم بالإمكان الاطلاع على ذلك في جل منصات الحجوزات السياحية لنرى إشارة بان هذا الفندق يحترم مواصفات البيئة المستديمة.