إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

صباح الجمعة .. في تسفير التسفير

يكتبها: محمد معمري

حظي التحقيق القضائي حول مسألة تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر طيلة هذا الأسبوع بالكثير من الاهتمام والمتابعة من قبل الرأي العام، ولن أخوض في ملف التسفير في بعده الجزائي فهذا شأن يتولاه القضاء الذي يفترض أن يبرأ من يستحق البراءة ويعاقب ويحاكم من كان مدانا في هذه القضية فلنترك الوقت للوقت ونترك القضاء يقوم بعمله، لكن سأتحدث عن دور المثقفين والنخب في مثل هذه القضايا.

فتسفير التونسيين وأغلبهم من الشبان إناثا وذكورا إلى مناطق التوتر كان تحت شعار أساسي هو نصرة الإسلام ومحاربة "الكفار" أي أن المنطلق الأساس فيه هو تقسيم الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين يستدعى الأمر محاربتهم والقضاء عليهم وهنا في اعتقادي مكمن الخطر الآن وفى المستقبل إذا لم يقم المثقفون بدورهم في القيام بقراءة نقدية جدية للموروث الفكري الذي يشكل شخصيتنا.

فنحن نعلم أن التكفير ليس بالأمر الجديد بل تعود ربما بداياته إلى الفتنة الكبرى والصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول خلافة عثمان بن عفان ولن أخوض في هذه المسألة فالكتابات حولها كثيرة لعل من أهمها كتاب "الفتنة الكبرى" للمؤرخ والمفكر التونسي الراحل هشام جعيط، لكن سأذكر فقط أن هذه الفتنة الكبرى برزت معها الاختلافات حول من يكون المؤمن الحق؟ حتى أن الخوارج وكانوا من أبرز الفاعلين في هذه الفتنة وفقا لما تذكره كتب التراث كانوا يعترضون كل من يصادفهم في تنقلهم في الصحراء العربية ويضعون ذؤابة السيف في عنقه ويسألونه ما رأيك في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فإن أقر بأنهم خرجوا عن الملة منحوه الحياة وإن أجاب بأنهم خلفاء الرسول قاموا بقتله، وهذه البدايات الأولى في التكفير العنيف في اعتقادي. لتترعرع بعد ذلك هذه النزعة التكفيرية وتقوم بتغذيتها الخلافات السياسية من أجل الوصول إلى السلطة.

في القرن العشرين بدأت ملامح التكفير تبرز مع أبي الأعلى المودودي(1903/1975) في كتاباته العديدة وأهمها كتابه "الجهاد في الإسلام" وكتاب "المصطلحات الأربعة" حيث دعا إلى ضرورة قيام نظام إسلامي يعتمد الشريعة أساسا له وقسم الناس بين مؤمنين وغير مؤمنين تجب محاربتهم، وقد برر الكثيرون هذا التوجه لأبي الأعلى المودودي بالسياق الجغرافي الذي ولد وعاش فيه حيث ولد وعاش جزءا هاما من حياته في شبه القارة الهندية حيث يدين أغلب السكان بالديانة الهندوسية قبل قيام دولة باكستان سنة 1947التى تضم أغلبية مسلمة، أفكار أبي الأعلى المودودي تأثر بها ونقلها إلى العالم العربي المصري سيد قطب (1906/1966) في كتاباته العديدة حيث نادي بالحاكمية ونظّر لجاهلية المجتمعات المعاصرة وتكوين العصبة المؤمنة المطالبة بالجهاد ضد العصبة الكافرة، وهو تقسيم كانت له تبعاته العملية من خلال ولادة جماعات تكفيرية من أهمها جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى وقامت بعديد العمليات الإرهابية. رغم أن البعض يذهب إلى أن الأمر سابق لذلك فقد تزامن ظهور التكفير مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا سنة 1928 وطُرح السؤال حينها عند تعريف الجماعة هل هم جماعة من المسلمين؟ أم هم جماعة المسلمين؟ بما يعني إقصاء كل من لا ينتمي إلى الجماعة.

الخوض في تاريخية التكفير يستدعي أكثر من مقال لكن حاولنا اختصار الإتيان على أهم مفاصله حتى نبين أن المسألة بالأساس ثقافية تستدعي عملا ثقافيا لتسفير التسفير، فتسفير (تجليد الكتب) التسفير (بمعنى السفر) يتطلب نشر فكر نقدي يبدأ من المدارس الابتدائية وصولا إلى التعليم العالي حتى نمكّن أبناءنا من آليات التفكير النقدي التي تحصنهم أمام هذه التيارات الهدامة لأن المعالجة الأمنية أو القضائية لا تكفي فهي تتعامل مع نتائج الظاهرة بينما يعمل المثقفون على تناولها من الأسس ومحاولة تفكيكها وإعادة تركيبها بشكل نقدي يخلصها من كل الشوائب الضارة.         

صباح الجمعة .. في تسفير التسفير

يكتبها: محمد معمري

حظي التحقيق القضائي حول مسألة تسفير التونسيين إلى بؤر التوتر طيلة هذا الأسبوع بالكثير من الاهتمام والمتابعة من قبل الرأي العام، ولن أخوض في ملف التسفير في بعده الجزائي فهذا شأن يتولاه القضاء الذي يفترض أن يبرأ من يستحق البراءة ويعاقب ويحاكم من كان مدانا في هذه القضية فلنترك الوقت للوقت ونترك القضاء يقوم بعمله، لكن سأتحدث عن دور المثقفين والنخب في مثل هذه القضايا.

فتسفير التونسيين وأغلبهم من الشبان إناثا وذكورا إلى مناطق التوتر كان تحت شعار أساسي هو نصرة الإسلام ومحاربة "الكفار" أي أن المنطلق الأساس فيه هو تقسيم الناس إلى مؤمنين وغير مؤمنين يستدعى الأمر محاربتهم والقضاء عليهم وهنا في اعتقادي مكمن الخطر الآن وفى المستقبل إذا لم يقم المثقفون بدورهم في القيام بقراءة نقدية جدية للموروث الفكري الذي يشكل شخصيتنا.

فنحن نعلم أن التكفير ليس بالأمر الجديد بل تعود ربما بداياته إلى الفتنة الكبرى والصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان حول خلافة عثمان بن عفان ولن أخوض في هذه المسألة فالكتابات حولها كثيرة لعل من أهمها كتاب "الفتنة الكبرى" للمؤرخ والمفكر التونسي الراحل هشام جعيط، لكن سأذكر فقط أن هذه الفتنة الكبرى برزت معها الاختلافات حول من يكون المؤمن الحق؟ حتى أن الخوارج وكانوا من أبرز الفاعلين في هذه الفتنة وفقا لما تذكره كتب التراث كانوا يعترضون كل من يصادفهم في تنقلهم في الصحراء العربية ويضعون ذؤابة السيف في عنقه ويسألونه ما رأيك في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فإن أقر بأنهم خرجوا عن الملة منحوه الحياة وإن أجاب بأنهم خلفاء الرسول قاموا بقتله، وهذه البدايات الأولى في التكفير العنيف في اعتقادي. لتترعرع بعد ذلك هذه النزعة التكفيرية وتقوم بتغذيتها الخلافات السياسية من أجل الوصول إلى السلطة.

في القرن العشرين بدأت ملامح التكفير تبرز مع أبي الأعلى المودودي(1903/1975) في كتاباته العديدة وأهمها كتابه "الجهاد في الإسلام" وكتاب "المصطلحات الأربعة" حيث دعا إلى ضرورة قيام نظام إسلامي يعتمد الشريعة أساسا له وقسم الناس بين مؤمنين وغير مؤمنين تجب محاربتهم، وقد برر الكثيرون هذا التوجه لأبي الأعلى المودودي بالسياق الجغرافي الذي ولد وعاش فيه حيث ولد وعاش جزءا هاما من حياته في شبه القارة الهندية حيث يدين أغلب السكان بالديانة الهندوسية قبل قيام دولة باكستان سنة 1947التى تضم أغلبية مسلمة، أفكار أبي الأعلى المودودي تأثر بها ونقلها إلى العالم العربي المصري سيد قطب (1906/1966) في كتاباته العديدة حيث نادي بالحاكمية ونظّر لجاهلية المجتمعات المعاصرة وتكوين العصبة المؤمنة المطالبة بالجهاد ضد العصبة الكافرة، وهو تقسيم كانت له تبعاته العملية من خلال ولادة جماعات تكفيرية من أهمها جماعة التكفير والهجرة التي أسسها شكري مصطفى وقامت بعديد العمليات الإرهابية. رغم أن البعض يذهب إلى أن الأمر سابق لذلك فقد تزامن ظهور التكفير مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا سنة 1928 وطُرح السؤال حينها عند تعريف الجماعة هل هم جماعة من المسلمين؟ أم هم جماعة المسلمين؟ بما يعني إقصاء كل من لا ينتمي إلى الجماعة.

الخوض في تاريخية التكفير يستدعي أكثر من مقال لكن حاولنا اختصار الإتيان على أهم مفاصله حتى نبين أن المسألة بالأساس ثقافية تستدعي عملا ثقافيا لتسفير التسفير، فتسفير (تجليد الكتب) التسفير (بمعنى السفر) يتطلب نشر فكر نقدي يبدأ من المدارس الابتدائية وصولا إلى التعليم العالي حتى نمكّن أبناءنا من آليات التفكير النقدي التي تحصنهم أمام هذه التيارات الهدامة لأن المعالجة الأمنية أو القضائية لا تكفي فهي تتعامل مع نتائج الظاهرة بينما يعمل المثقفون على تناولها من الأسس ومحاولة تفكيكها وإعادة تركيبها بشكل نقدي يخلصها من كل الشوائب الضارة.