إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

في مواكبة «الصباح» للدورة الـ40 للمعرض الدولي بجاكرتا.. رحلة الجزر الثلاث.. واستكشاف الفرص الاقتصادية في قلب إندونيسيا

- سفير إندونيسيا بتونس لـ«الصباح»: نأمل في حضور تونسي أوسع وتعزيز الشراكات الاقتصادية الثنائية

في قلب جاكرتا النابضة بالحياة، يتقاطع صخب المدينة مع نبض الاقتصاد العالمي، حيث انعقدت فعاليات الحدث الاقتصادي الأبرز الذي يجمع المستثمرين وصنّاع القرار من مختلف القارات. لم يكن حضور هذا الحدث مجرّد متابعة، بل فرصة لاكتشاف تحوّل الطموح الاقتصادي الإندونيسي إلى واقعٍ ملموس يلفت أنظار العالم.

تشكل الدورة الأربعون للمعرض الدولي للتجارة بإندونيسيا أحد أبرز الأحداث الاقتصادية في آسيا، إذ تُعدّ منصة استراتيجية للتبادل التجاري وتوسيع الشراكات بين الدول، بمشاركة مئات العارضين من مختلف القطاعات الصناعية، إلى جانب وفود رسمية ورجال أعمال من أنحاء العالم. وتركّزت الدورة الأخيرة على تعزيز الاستثمارات ودعم الصادرات الإندونيسية، وفتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي.

محور تجاري آسيوي

أُقيم المعرض الدولي للتجارة في دورته الأربعين بمركز المعارض والمؤتمرات الإندونيسي في منطقة (BSD City) بمحافظة «تانغيرانغ – بانتين»، على أطراف العاصمة جاكرتا، من 15 إلى 19 أكتوبر 2025، تحت شعار: «اكتشف تميز إندونيسيا.. التجارة تتجاوز الحدود».

ويُعدّ المعرض منصة رئيسية لترويج الصادرات الإندونيسية وربط المنتجين بالمشترين الدوليين. وقد نظّمته وزارة التجارة الإندونيسية، مع حرص المنظّمين في هذه الدورة على توسيع نطاق المشاركة وتقديم منتجات مبتكرة تواكب التحديات الاقتصادية العالمية.

وكانت مواكبة «الصباح» لفعاليات هذا المعرض الهام فرصة ثمينة للاطلاع على أحدث الابتكارات والمشاريع الاستثمارية، والتعرّف على تجارب ناجحة تعكس حيوية الاقتصاد الإندونيسي وديناميكيته في جذب الشركاء وتعزيز التعاون الدولي.

وشهد المعرض مشاركة مميّزة لعدد من رجال الأعمال التونسيين، في خطوة تعكس الاهتمام المتزايد لتعزيز التعاون التجاري بين تونس وإندونيسيا.

وأكد سفير إندونيسيا بتونس، «زهير مصراوي»، أن المعرض يشكل منصة مثالية للترويج للمنتجات الإندونيسية عالميًا، مضيفًا أن التحضير لمشاركة عدد من رجال الأعمال التونسيين انطلق منذ جانفي الماضي، بهدف تعزيز التعاون بين رجال الأعمال من البلدين بما يسهم في رفع مستوى التجارة الثنائية.

وأشار السفير إلى أن المشاركة التونسية ليست جديدة، إذ شارك 10 رجال أعمال تونسيين في نسخة 2023 من المعرض لاستكشاف فرص اقتناء المنتجات الإندونيسية، وأبدوا إعجابهم واستعدادهم للتعامل مع المؤسسات الإندونيسية، معتبرًا أن تونس تمثل بوابة مهمة لدخول الأسواق الأوروبية والإفريقية.

وأضاف السفير في تصريحه لـ«الصباح» أن المعرض الإندونيسي الدولي سجّل خلال دورته السابقة نحو 20 مليار دولار من المعاملات التجارية والتبادل الاقتصادي بين الدول المشاركة، وذلك في ظرف خمسة أيام فقط، ما يعكس حجم الديناميكية الاقتصادية التي يشهدها هذا الحدث السنوي وأهميته كمنصة لتعزيز الشراكات الدولية.

وأعرب عن أمله في أن يشهد المعرض خلال الدورات القادمة حضورًا تونسيًا أوسع ومشاركة أكبر من المؤسسات الاقتصادية التونسية، بما يفتح آفاقًا جديدة للتعاون التجاري والاستثماري بين البلدين.

دفع الاستثمارات الإندونيسية في تونس

وفي سياق متصل، أفاد السفير بأن بلاده تسعى إلى دفع الاستثمارات الإندونيسية في تونس وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، مؤكدًا أن تونس تُعدّ وجهة واعدة بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي وانفتاحها على الأسواق الإفريقية والأوروبية.

وأوضح السفير أن الحكومة الإندونيسية تشجّع رجال الأعمال والمستثمرين الإندونيسيين على استكشاف فرص الشراكة في مجالات الصناعة، والفلاحة، والسياحة، والطاقات المتجددة في تونس.

كما أشار إلى أهمية تطوير آليات التعاون وتبادل الخبرات بين الغرف التجارية والمؤسسات الاقتصادية في البلدين، بما يساهم في خلق فرص عمل جديدة ودعم التنمية المستدامة. وأعرب عن ثقته في أن المرحلة القادمة ستشهد نقلة نوعية في مستوى الاستثمارات والعلاقات الاقتصادية الثنائية.

وأشار السفير إلى أن بلاده تُعدّ من بين الاقتصاديات الصاعدة الأكثر استقرارًا ونموًا في منطقة جنوب شرق آسيا، بفضل السياسات الاقتصادية الحكيمة والإصلاحات البنيوية التي انتهجتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة.

وأوضح أن إندونيسيا استطاعت تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، مما جعلها تحتل مكانة متقدمة ضمن أكبر اقتصاديات العالم.

كما بيّن أن بلاده تعتمد على تنويع مصادر الدخل وتشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية، وهو ما ساهم في خلق فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة.

وأعرب السفير عن أمله في تعزيز التعاون الاقتصادي بين تونس وإندونيسيا، وتبادل الخبرات في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة لتحقيق المنفعة المشتركة.

فرصة للشركات التونسية

يُعدّ هذا المعرض فرصة فريدة للشركات التونسية للتعرّف على أحدث المنتجات الإندونيسية وفتح قنوات جديدة للشراكات التجارية، في إطار تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.  وقد افتتح وزير التجارة الإندونيسي «بودي سانتوسو» فعاليات الدورة الأربعين للمعرض التجاري (Trade Expo Indonesia TEI 2025)، مؤكدًا في كلمته أن نسخة هذا العام تشهد مشاركة 1619 عارضًا من 130 دولة، ما يعكس مكانة إندونيسيا كمركز تجاري إقليمي ودولي.

وأضاف أن المعرض لا يقتصر على العروض التجارية فحسب، بل يشمل أيضًا عقد شراكات وتنظيم منتديات اقتصادية وبحث فرص التعاون والاستثمار.

وأكد الوزير أن تنظيم الدورة الأربعين يجسد رؤية بلاده لتعزيز التصنيع ودفع القيمة المضافة للمنتجات المحلية، وتوسيع دور إندونيسيا في سلاسل التوريد العالمية ضمن مسار تحقيق رؤية إندونيسيا الذهبية 2045.

واعتبر أن تجاوز المعرض لأهدافه يعكس نجاح إندونيسيا في تعزيز صادراتها وفتح أسواق جديدة، مما يعزّز مكانتها ضمن سلاسل الإمداد العالمية. فتنوع الدول المشاركة يدل على مدى تأثيره واستهدافه لشرائح واسعة من السوق الدولي.

وفي ختام الدورة، أعلن وزير التجارة الإندونيسي عن تحقيق إنجاز قياسي جديد، حيث بلغت قيمة المعاملات الإجمالية 22.8 مليار دولار أمريكي، معتبرًا أن هذا النجاح يبرهن على أن المنتجات الإندونيسية لا تنافس فقط في الأسواق العالمية، بل أصبحت من بين الخيارات المفضلة لدى المتعاملين الاقتصاديين الدوليين.

وأضاف أن الدورة الأربعين سلطت الضوء على قوة الموارد الطبيعية والبشرية لإندونيسيا في إنتاج منتجات تصديرية عالية الجودة ومستدامة.

وشهد هذا الحدث الاقتصادي مشاركة أكثر من 1600 شركة، واستقبل المعرض أكثر من 34 ألف زائر من 131 دولة، من أبرزها ماليزيا، الصين، والهند.

فتح بوابة التجارة والاستثمار في شرق إفريقيا

كما شهد المعرض انعقاد ندوة هامة بعنوان: «فتح بوابة التجارة والاستثمار في شرق إفريقيا»، شارك فيها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال والمستثمرين من مختلف الدول.

وتهدف الندوة إلى استعراض الفرص الاقتصادية الواعدة التي تزخر بها منطقة شرق إفريقيا، وتعزيز الشراكات التجارية بين دول آسيا وإفريقيا، خاصة في مجالات البنية التحتية، والزراعة، والطاقة، والصناعات التحويلية. وناقش المشاركون سبل تسهيل التبادل التجاري وتذليل العقبات أمام الاستثمارات المشتركة، مؤكدين أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به إندونيسيا كجسر للتعاون الاقتصادي بين القارتين. وقد شكلت الندوة فرصة لتبادل الخبرات وبلورة مشاريع عملية تعزز التكامل الاقتصادي الإقليمي والدولي.

«موناس».. رمز الكبرياء

وصلتُ إلى جاكرتا قبل يومين من انطلاق المعرض، حيث استقبلتني عاصمة إندونيسيا النابضة بالحياة بمزيجٍ من الحداثة والتقاليد.

من نافذة الطائرة، بدت ناطحات السحاب تتلألأ تحت شمسٍ استوائية مشرقة، فيما ينساب بين الشوارع صخب الحياة اليومية. في المطار يلمس الزائر منذ اللحظة الأولى روح الضيافة الإندونيسية بابتسامة العاملين ورائحة القهوة المحلية التي تعبق في الأجواء.

وبين حرارة الطقس ونبض المدينة، تدرك أنك أمام عاصمة آسيوية لا تنام، تجمع بين تنوّع الثقافات وتفتح ذراعيها لكل من يسعى لاكتشاف سحر الأرخبيل الإندونيسي.

جاكرتا ليست فقط أكبر مدن إندونيسيا، بل هي مرآة لطموحها؛ ناطحات السحاب تتجاور مع الأحياء الشعبية، والمراكز التجارية الحديثة تلاصق الأسواق القديمة، وكل شارع فيها يروي قصة نهوضٍ من الفوضى إلى النظام.

في البلدة القديمة، لا تزال آثار الاستعمار الهولندي حاضرة في مبانيها الكلاسيكية وساحاتها الأوروبية الطراز. واليوم تحوّلت هذه المنطقة إلى فضاءٍ للفنانين والمقاهي الثقافية، حيث يُعاد تعريف التاريخ بروحٍ معاصرة.

وسط المدينة ينتصب نصب «موناس» بارتفاع 132 متراً تتوجه شعلة مذهّبة. ومن أعلاه يمكن مشاهدة امتداد المدينة حتى البحر، في مشهدٍ يلخّص قصة كفاحٍ طويل نحو الحرية والازدهار.

رحلة عبر «ثلاثة وجوه» لإندونيسيا

في بلدٍ يتكوّن من أكثر من 17 ألف جزيرة لا تشبه جزيرةٌ أختَها، قررت أن أبدأ رحلة عبر ثلاثة وجوه لإندونيسيا: من بالي الساحرة، إلى جوجاكرتا الثقافية، وصولاً إلى جاكرتا العاصمة التي لا تنام. كل محطة في الرحلة كانت عالماً جديداً داخل الوطن نفسه.

تُعدّ بالي أكثر من وجهة سياحية؛ إنها لوحة حيّة ترسمها الطبيعة والروح. هناك، يختلط عبير البخور مع صوت الأمواج في مشهدٍ لا يُنسى. شواطئ، وغابات أوبود الهادئة التي تشتهر بفنون اليوغا والعلاج بالأعشاب... تمنحك الجزيرة مزيجاً من السكون والاحتفال في آنٍ واحد. هناك تفهم أن الجمال في بالي ليس مجرد طبيعة، بل عبادة يومية للجمال نفسه.

«تانا لوت».. لقاء الإيمان بجمال البحر

في زيارتي إلى معبد البحر «تانا لوت» في بالي، شعرت وكأنني أسافر عبر الزمن إلى عالمٍ من السحر والسكينة. يقع المعبد على صخرة ضخمة تتوسط أمواج المحيط الهندي، فيبدو وكأنه يطفو فوق البحر عند ارتفاع المدّ. كان صوت الأمواج المتكسّرة على الصخور يمتزج مع نسمات البحر المعبقة برائحة الملح والبخور، فيرسم لوحةً حسية آسرة.

أثناء غروب الشمس، تلون الأفق بدرجات مذهلة من الذهبي والبرتقالي، لتنعكس على مياه البحر في مشهدٍ يبعث على الدهشة والتأمل. رأيت الكهنة المحليين يؤدون طقوسهم التقليدية بملابسهم البيضاء، يقدمون الزهور والبخور للآلهة في طقسٍ يجسد عمق الروحانية البالية.

كانت التجربة مزيجاً من الجمال الطبيعي والقداسة الإنسانية، تركت في نفسي أثراً لا يُمحى وشعوراً بالسلام والاتصال العميق بالطبيعة والروح.

يستقبل المعبد أكثر من مليوني زائر سنوياً (بحسب إحصاءات عام 2023)، ليصبح من أكثر المعالم جذباً للسياح في بالي.

يأتي الزوار من مختلف أنحاء العالم ليستمتعوا بمشهد الغروب الساحر، حين يغمر الضوء الذهبي المعبد ويعانق الأفق في لوحةٍ طبيعية تبعث على التأمل والسكينة.

يبقى معبد البحر في بالي أكثر من مجرد وجهة سياحية؛ إنه تجربة روحانية وجمالية متكاملة تذكّر الزائر بأن في كل موجةٍ حكاية، وفي كل صخرةٍ صلاة، وفي كل غروبٍ وعدٌ بأن الجمال الحقيقي لا يزول مهما تغيّر الزمن.

رحلة ساحرة في قلب «قصر المياه» ببالي

انتقلنا إلى شرق جزيرة بالي الإندونيسية الهادئة، حيث يتربّع قصر المياه «تيرتا جانجا» كجوهرةٍ معمارية تنبض بالحياة. إنه ليس مجرد قصر، بل أسطورة من ماءٍ وحجر تروي قصة مملكةٍ عرفت كيف تجعل من الجمال فلسفة للحياة.

يمتد القصر على مساحةٍ واسعة تتخللها أحواض سباحة طبيعية، ونوافير أنيقة، وجسور حجرية صغيرة تصطف على جانبيها تماثيل الآلهة والمحاربين، بينما تسبح أسماك الزينة الملوّنة في المياه الصافية لتضفي على المشهد سحراً لا يوصف. وفي الصباح الباكر، حين تنعكس أشعة الشمس على سطح المياه، يبدو المكان وكأنه لوحة حيّة رسمتها يد فنانٍ إلهي.

ورغم مرور أكثر من سبعة عقود على تشييده، ما زال «تيرتا جانجا» يحتفظ بسحره الأصلي، فقد أُعيد ترميمه بعناية بعد أن دمّره ثوران بركان جبل أغونغ عام 1963، ليعود أكثر بهاءً، شاهداً على إصرار سكان بالي على حماية تراثهم الروحي والجمالي.

«باب الجنة».. رحلة عبر الغابات والغيوم

يقف «باب الجنة» شامخاً كمدخلٍ أسطوري إلى عالمٍ من السكون والجلال. هذا الباب المعروف باسم (Lempuyang Temple Gate أو Pura Lempuyang Luhur) ليس مجرد بوابة حجرية فخمة، بل رمزٌ عميق للإيمان والجمال والانسجام بين الإنسان والطبيعة.

قبل أن نصل إلى المعبد، مررنا عبر طريقٍ متعرّج يخترق الغابات والقرى الريفية، حتى وجدنا أنفسنا أمام مشهدٍ يكاد يكون خيالياً.. بوابتان حجريتان متقابلتان ترتفعان بفخامة نحو السماء، تفصل بينهما فسحة مفتوحة تطل مباشرة على جبل أغونغ.

يُعد هذا الموقع واحداً من أقدس المعابد الهندوسية في بالي، حيث يؤمن السكان المحليون أن تسلّق الدرج الطويل المؤدي إليه هو رحلة تطهيرٍ روحية قبل الوصول إلى المعبد الأعلى. ومع مرور السنوات، تحوّل «باب الجنة» من موقعٍ تعبّدي إلى أيقونةٍ عالمية للسياحة الروحية والتصوير الفوتوغرافي، إذ يصطف الزوار من كل مكان لالتقاط صورةٍ تُظهر انعكاسهم في مرآة الماء أمام البوابة، في مشهدٍ يوحي بأنهم يقفون بين السماء والأرض.

كما كانت زيارتنا إلى قرية «بنغليبوران» (Penglipuran) في بالي تجربةً ساحرة لا تُنسى. فعند دخولي القرية، شعرت وكأنني انتقلت إلى زمنٍ آخر، حيث الشوارع النظيفة والمنازل التقليدية المصنوعة من الخشب والقصب تنبض بالهدوء والجمال.

تجوّلنا بين المنازل وحدائقها الصغيرة وتأملنا الزخارف الخشبية والحجرية التي تحكي قصص الأساطير البالية. وكان أكثر ما أسعد وفد الصحفيين التونسيين التواصل مع السكان المحليين الذين استقبلونا بابتسامةٍ دافئة.

تحافظ القرية على نظامٍ اجتماعي متماسك يعتمد على الروابط الأسرية والعادات المجتمعية التي توارثها السكان عبر الأجيال. وما يميز (Penglipuran) أيضاً هو التركيز على الحفاظ على البيئة؛ فالقرية خالية من المباني الحديثة، ويُحظر على السيارات السير في شوارعها الضيقة، مما يضمن للزوار تجربة هادئة تحاكي حياة بالي القديمة.

إنها مثالٌ حي على التناغم بين الإنسان والطبيعة، حيث يعيش السكان في انسجام مع الغابات والمزارع المحيطة، مستفيدين من الموارد الطبيعية دون الإضرار بها.

جوجاكرتا.. بوابة السياحة الثقافية لتعزيز الاقتصاد المحلي

تُعدّ مقاطعة جوجاكرتا واحدة من أبرز الوجهات الثقافية والتاريخية في إندونيسيا، وتقع في جزيرة جاوة الوسطى. تشتهر بتراثها الغني الذي يشمل المعابد الهندوسية والبوذية القديمة مثل بوروبودور وبرامبانان، مما يجعلها مركزاً سياحياً وثقافياً واقتصادياً مهماً.

كما تحتضن المقاطعة جامعاتٍ ومعاهد بحثية بارزة، مما يعزز الابتكار وريادة الأعمال في المنطقة ويجعلها نقطة التقاء بين التراث العريق والتنمية الاقتصادية الحديثة. وفي رحلةٍ عبر شوارعها وأسواقها التقليدية، تلاحظ كيف يندمج التاريخ مع الحياة اليومية، حيث تُعدّ الثقافة والفنون والحرف القديمة جزءاً من النشاط الاقتصادي المحلي. وتُعدّ جوجاكرتا نموذجاً حياً للتنوّع الديني والتعايش السلمي، حيث تتلاقى الحضارات والثقافات المختلفة في فسيفساء متكاملة من المعتقدات.

الغالبية الساحقة من سكان المقاطعة - حوالي 93٪ - يعتنقون الإسلام، في حين توجد جاليات هندوسية صغيرة تحتفظ بمعابدها وتُقيم احتفالاتها الدينية والثقافية الخاصة، مما يعكس غنى التراث الديني والتاريخي للمنطقة.

«بوروبودور».. أعظم المعابد البوذية في العالم

يُعدّ معبد بوروبودور واحداً من أعظم المعابد البوذية في العالم، ويقع بالقرب من مدينة جوجاكرتا في جزيرة جاوة الوسطى.

بُني المعبد في القرن التاسع، ويتميز بتصميمه المعماري الفريد على شكل هرمٍ متدرج مكوّن من تسعة مستويات، مزين بأكثر من 2600 لوحة حجرية ونحو 500 تمثال لبوذا. ولا يُعد بوروبودور مجرد موقعٍ ديني، بل يمثل رمزاً للتراث الثقافي والتاريخي لإندونيسيا، ويجذب ملايين السياح والباحثين سنوياً، مما يسهم بشكلٍ كبير في الاقتصاد المحلي.

كما يُستخدم المعبد لإقامة المهرجانات والاحتفالات الروحية، ليجمع بين الأهمية التاريخية والثقافية والأثر الاقتصادي في آنٍ واحد.

الجمعية المحمدية.. امتداد للحركة الإصلاحية الإسلامية

في جوجاكرتا تأسست الجمعية المحمدية كامتدادٍ للحركة الإصلاحية الإسلامية التي انطلقت في إندونيسيا في أوائل القرن العشرين بقيادة أحمد دحلان عام 1912.

جاء تأسيس الجمعية استجابةً للحاجة إلى نهضةٍ تعليمية واجتماعية ودينية تهدف إلى تجديد الفكر الإسلامي وربطه بخدمة المجتمع المحلي.

ركزت الجمعية منذ بدايتها على إنشاء المدارس والمعاهد التعليمية، إضافةً إلى تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية، لتصبح نموذجاً للتنمية المستدامة المبنية على القيم الإسلامية.

ومنذ تأسيسها، لعبت الجمعية المحمدية دوراً محورياً في تعزيز التعليم والإصلاح الاجتماعي في جوجاكرتا، مما جعلها إحدى أبرز الحركات الإسلامية المؤثرة في المنطقة.

ترسيخ القيم الوطنية

خلال تواجدنا في جوجاكرتا، أتيحت لنا الفرصة لزيارة مقر الحزب الديمقراطي الإندونيسي، أحد أكبر الأحزاب السياسية في البلاد وأكثرها تأثيراً في الحياة العامة.

تأسس الحزب عام 1973 بعد دمج عدة أحزاب وطنية، ويتميز بخطابه الوطني الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يُعرف بارتباطه الوثيق بالزعيمة السياسية ميغاواتي سوكارنو بوتري، ابنة الرئيس الراحل سوكارنو.

يُركز الحزب على تعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والحفاظ على الهوية الإندونيسية.

وفي تصريحٍ أدلى به لوفد الصحفيين التونسيين، أكد ممثل الحزب نيوريادي أن الدور السياسي للحزب في إندونيسيا ليس مجرد مشاركة انتخابية، بل التزام دائم بخدمة الأمة وترسيخ القيم الوطنية «بانكاسيلا» في كل مستويات الحكم.

وأضاف أن الحزب يرى نفسه أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنوع الاقتصادي وتعزيز الحضور الجماهيري داخل الولاية وخارجها.

وأشار نيوريادي إلى أن الحزب في جوجاكرتا يبني قاعدة حزبية متينة من خلال تنظيم الكوادر وتعميق الاتصال بالمواطنين، خصوصاً عبر دعم المشاريع المحلية والمشاركة الفاعلة في الحياة المجتمعية، مضيفاً:

«كلما كان الحزب أقرب إلى الناس، كانت رسالته السياسية أكثر وضوحاً، وتحققت أهداف التنمية المنشودة».

هذا التصريح يعكس رؤية الحزب لدوره في المشهد السياسي الإندونيسي كمحورٍ للتغيير والتنمية، مع تركيزه ليس فقط على الفوز في الانتخابات، بل أيضاً على تعزيز الحوكمة والمشاركة الشعبية والخدمة المجتمعية اليومية.

ختام الرحلة

رحلتنا من بالي إلى جوجاكرتا إلى جاكرتا لم تكن مجرد تنقّلٍ بين المدن، بل عبوراً عبر ثلاث مراحل من الروح الإندونيسية:بالي تمثل الجمال والروحانية، وجوجاكرتا تجسّد الأصالة والثقافة، وجاكرتا ترمز إلى الطموح والحداثة.

من السكون إلى الضجيج، ومن البخور إلى ناطحات السحاب، تبقى إندونيسيا في جوهرها بلداً يؤمن بأن الجمال ليس ترفاً بل أسلوب حياة.

في آخر ليلة قبل العودة، جلست في المطار أتأمل وجوه المسافرين، وكل وجه منها يحمل قصة جزيرة، ولغة، وذاكرة.

أدركت عندها أن إندونيسيا ليست مكاناً يُزار مرة واحدة، بل رحلة تُعاش مراراً، لأنك في كل مرة تزور بلداً جديداً داخل البلد ذاته. من جزيرةٍ إلى أخرى، تعلّمت أن الوطن لا يُقاس بالمسافة، بل بالدهشة التي يتركها في القلب.

جهاد الكلبوسي

في مواكبة «الصباح» للدورة الـ40 للمعرض الدولي بجاكرتا..   رحلة الجزر الثلاث.. واستكشاف الفرص الاقتصادية في قلب إندونيسيا

- سفير إندونيسيا بتونس لـ«الصباح»: نأمل في حضور تونسي أوسع وتعزيز الشراكات الاقتصادية الثنائية

في قلب جاكرتا النابضة بالحياة، يتقاطع صخب المدينة مع نبض الاقتصاد العالمي، حيث انعقدت فعاليات الحدث الاقتصادي الأبرز الذي يجمع المستثمرين وصنّاع القرار من مختلف القارات. لم يكن حضور هذا الحدث مجرّد متابعة، بل فرصة لاكتشاف تحوّل الطموح الاقتصادي الإندونيسي إلى واقعٍ ملموس يلفت أنظار العالم.

تشكل الدورة الأربعون للمعرض الدولي للتجارة بإندونيسيا أحد أبرز الأحداث الاقتصادية في آسيا، إذ تُعدّ منصة استراتيجية للتبادل التجاري وتوسيع الشراكات بين الدول، بمشاركة مئات العارضين من مختلف القطاعات الصناعية، إلى جانب وفود رسمية ورجال أعمال من أنحاء العالم. وتركّزت الدورة الأخيرة على تعزيز الاستثمارات ودعم الصادرات الإندونيسية، وفتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي.

محور تجاري آسيوي

أُقيم المعرض الدولي للتجارة في دورته الأربعين بمركز المعارض والمؤتمرات الإندونيسي في منطقة (BSD City) بمحافظة «تانغيرانغ – بانتين»، على أطراف العاصمة جاكرتا، من 15 إلى 19 أكتوبر 2025، تحت شعار: «اكتشف تميز إندونيسيا.. التجارة تتجاوز الحدود».

ويُعدّ المعرض منصة رئيسية لترويج الصادرات الإندونيسية وربط المنتجين بالمشترين الدوليين. وقد نظّمته وزارة التجارة الإندونيسية، مع حرص المنظّمين في هذه الدورة على توسيع نطاق المشاركة وتقديم منتجات مبتكرة تواكب التحديات الاقتصادية العالمية.

وكانت مواكبة «الصباح» لفعاليات هذا المعرض الهام فرصة ثمينة للاطلاع على أحدث الابتكارات والمشاريع الاستثمارية، والتعرّف على تجارب ناجحة تعكس حيوية الاقتصاد الإندونيسي وديناميكيته في جذب الشركاء وتعزيز التعاون الدولي.

وشهد المعرض مشاركة مميّزة لعدد من رجال الأعمال التونسيين، في خطوة تعكس الاهتمام المتزايد لتعزيز التعاون التجاري بين تونس وإندونيسيا.

وأكد سفير إندونيسيا بتونس، «زهير مصراوي»، أن المعرض يشكل منصة مثالية للترويج للمنتجات الإندونيسية عالميًا، مضيفًا أن التحضير لمشاركة عدد من رجال الأعمال التونسيين انطلق منذ جانفي الماضي، بهدف تعزيز التعاون بين رجال الأعمال من البلدين بما يسهم في رفع مستوى التجارة الثنائية.

وأشار السفير إلى أن المشاركة التونسية ليست جديدة، إذ شارك 10 رجال أعمال تونسيين في نسخة 2023 من المعرض لاستكشاف فرص اقتناء المنتجات الإندونيسية، وأبدوا إعجابهم واستعدادهم للتعامل مع المؤسسات الإندونيسية، معتبرًا أن تونس تمثل بوابة مهمة لدخول الأسواق الأوروبية والإفريقية.

وأضاف السفير في تصريحه لـ«الصباح» أن المعرض الإندونيسي الدولي سجّل خلال دورته السابقة نحو 20 مليار دولار من المعاملات التجارية والتبادل الاقتصادي بين الدول المشاركة، وذلك في ظرف خمسة أيام فقط، ما يعكس حجم الديناميكية الاقتصادية التي يشهدها هذا الحدث السنوي وأهميته كمنصة لتعزيز الشراكات الدولية.

وأعرب عن أمله في أن يشهد المعرض خلال الدورات القادمة حضورًا تونسيًا أوسع ومشاركة أكبر من المؤسسات الاقتصادية التونسية، بما يفتح آفاقًا جديدة للتعاون التجاري والاستثماري بين البلدين.

دفع الاستثمارات الإندونيسية في تونس

وفي سياق متصل، أفاد السفير بأن بلاده تسعى إلى دفع الاستثمارات الإندونيسية في تونس وتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، مؤكدًا أن تونس تُعدّ وجهة واعدة بفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي وانفتاحها على الأسواق الإفريقية والأوروبية.

وأوضح السفير أن الحكومة الإندونيسية تشجّع رجال الأعمال والمستثمرين الإندونيسيين على استكشاف فرص الشراكة في مجالات الصناعة، والفلاحة، والسياحة، والطاقات المتجددة في تونس.

كما أشار إلى أهمية تطوير آليات التعاون وتبادل الخبرات بين الغرف التجارية والمؤسسات الاقتصادية في البلدين، بما يساهم في خلق فرص عمل جديدة ودعم التنمية المستدامة. وأعرب عن ثقته في أن المرحلة القادمة ستشهد نقلة نوعية في مستوى الاستثمارات والعلاقات الاقتصادية الثنائية.

وأشار السفير إلى أن بلاده تُعدّ من بين الاقتصاديات الصاعدة الأكثر استقرارًا ونموًا في منطقة جنوب شرق آسيا، بفضل السياسات الاقتصادية الحكيمة والإصلاحات البنيوية التي انتهجتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة.

وأوضح أن إندونيسيا استطاعت تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، مما جعلها تحتل مكانة متقدمة ضمن أكبر اقتصاديات العالم.

كما بيّن أن بلاده تعتمد على تنويع مصادر الدخل وتشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية، وهو ما ساهم في خلق فرص عمل وتحسين مستوى المعيشة.

وأعرب السفير عن أمله في تعزيز التعاون الاقتصادي بين تونس وإندونيسيا، وتبادل الخبرات في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة لتحقيق المنفعة المشتركة.

فرصة للشركات التونسية

يُعدّ هذا المعرض فرصة فريدة للشركات التونسية للتعرّف على أحدث المنتجات الإندونيسية وفتح قنوات جديدة للشراكات التجارية، في إطار تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.  وقد افتتح وزير التجارة الإندونيسي «بودي سانتوسو» فعاليات الدورة الأربعين للمعرض التجاري (Trade Expo Indonesia TEI 2025)، مؤكدًا في كلمته أن نسخة هذا العام تشهد مشاركة 1619 عارضًا من 130 دولة، ما يعكس مكانة إندونيسيا كمركز تجاري إقليمي ودولي.

وأضاف أن المعرض لا يقتصر على العروض التجارية فحسب، بل يشمل أيضًا عقد شراكات وتنظيم منتديات اقتصادية وبحث فرص التعاون والاستثمار.

وأكد الوزير أن تنظيم الدورة الأربعين يجسد رؤية بلاده لتعزيز التصنيع ودفع القيمة المضافة للمنتجات المحلية، وتوسيع دور إندونيسيا في سلاسل التوريد العالمية ضمن مسار تحقيق رؤية إندونيسيا الذهبية 2045.

واعتبر أن تجاوز المعرض لأهدافه يعكس نجاح إندونيسيا في تعزيز صادراتها وفتح أسواق جديدة، مما يعزّز مكانتها ضمن سلاسل الإمداد العالمية. فتنوع الدول المشاركة يدل على مدى تأثيره واستهدافه لشرائح واسعة من السوق الدولي.

وفي ختام الدورة، أعلن وزير التجارة الإندونيسي عن تحقيق إنجاز قياسي جديد، حيث بلغت قيمة المعاملات الإجمالية 22.8 مليار دولار أمريكي، معتبرًا أن هذا النجاح يبرهن على أن المنتجات الإندونيسية لا تنافس فقط في الأسواق العالمية، بل أصبحت من بين الخيارات المفضلة لدى المتعاملين الاقتصاديين الدوليين.

وأضاف أن الدورة الأربعين سلطت الضوء على قوة الموارد الطبيعية والبشرية لإندونيسيا في إنتاج منتجات تصديرية عالية الجودة ومستدامة.

وشهد هذا الحدث الاقتصادي مشاركة أكثر من 1600 شركة، واستقبل المعرض أكثر من 34 ألف زائر من 131 دولة، من أبرزها ماليزيا، الصين، والهند.

فتح بوابة التجارة والاستثمار في شرق إفريقيا

كما شهد المعرض انعقاد ندوة هامة بعنوان: «فتح بوابة التجارة والاستثمار في شرق إفريقيا»، شارك فيها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال والمستثمرين من مختلف الدول.

وتهدف الندوة إلى استعراض الفرص الاقتصادية الواعدة التي تزخر بها منطقة شرق إفريقيا، وتعزيز الشراكات التجارية بين دول آسيا وإفريقيا، خاصة في مجالات البنية التحتية، والزراعة، والطاقة، والصناعات التحويلية. وناقش المشاركون سبل تسهيل التبادل التجاري وتذليل العقبات أمام الاستثمارات المشتركة، مؤكدين أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به إندونيسيا كجسر للتعاون الاقتصادي بين القارتين. وقد شكلت الندوة فرصة لتبادل الخبرات وبلورة مشاريع عملية تعزز التكامل الاقتصادي الإقليمي والدولي.

«موناس».. رمز الكبرياء

وصلتُ إلى جاكرتا قبل يومين من انطلاق المعرض، حيث استقبلتني عاصمة إندونيسيا النابضة بالحياة بمزيجٍ من الحداثة والتقاليد.

من نافذة الطائرة، بدت ناطحات السحاب تتلألأ تحت شمسٍ استوائية مشرقة، فيما ينساب بين الشوارع صخب الحياة اليومية. في المطار يلمس الزائر منذ اللحظة الأولى روح الضيافة الإندونيسية بابتسامة العاملين ورائحة القهوة المحلية التي تعبق في الأجواء.

وبين حرارة الطقس ونبض المدينة، تدرك أنك أمام عاصمة آسيوية لا تنام، تجمع بين تنوّع الثقافات وتفتح ذراعيها لكل من يسعى لاكتشاف سحر الأرخبيل الإندونيسي.

جاكرتا ليست فقط أكبر مدن إندونيسيا، بل هي مرآة لطموحها؛ ناطحات السحاب تتجاور مع الأحياء الشعبية، والمراكز التجارية الحديثة تلاصق الأسواق القديمة، وكل شارع فيها يروي قصة نهوضٍ من الفوضى إلى النظام.

في البلدة القديمة، لا تزال آثار الاستعمار الهولندي حاضرة في مبانيها الكلاسيكية وساحاتها الأوروبية الطراز. واليوم تحوّلت هذه المنطقة إلى فضاءٍ للفنانين والمقاهي الثقافية، حيث يُعاد تعريف التاريخ بروحٍ معاصرة.

وسط المدينة ينتصب نصب «موناس» بارتفاع 132 متراً تتوجه شعلة مذهّبة. ومن أعلاه يمكن مشاهدة امتداد المدينة حتى البحر، في مشهدٍ يلخّص قصة كفاحٍ طويل نحو الحرية والازدهار.

رحلة عبر «ثلاثة وجوه» لإندونيسيا

في بلدٍ يتكوّن من أكثر من 17 ألف جزيرة لا تشبه جزيرةٌ أختَها، قررت أن أبدأ رحلة عبر ثلاثة وجوه لإندونيسيا: من بالي الساحرة، إلى جوجاكرتا الثقافية، وصولاً إلى جاكرتا العاصمة التي لا تنام. كل محطة في الرحلة كانت عالماً جديداً داخل الوطن نفسه.

تُعدّ بالي أكثر من وجهة سياحية؛ إنها لوحة حيّة ترسمها الطبيعة والروح. هناك، يختلط عبير البخور مع صوت الأمواج في مشهدٍ لا يُنسى. شواطئ، وغابات أوبود الهادئة التي تشتهر بفنون اليوغا والعلاج بالأعشاب... تمنحك الجزيرة مزيجاً من السكون والاحتفال في آنٍ واحد. هناك تفهم أن الجمال في بالي ليس مجرد طبيعة، بل عبادة يومية للجمال نفسه.

«تانا لوت».. لقاء الإيمان بجمال البحر

في زيارتي إلى معبد البحر «تانا لوت» في بالي، شعرت وكأنني أسافر عبر الزمن إلى عالمٍ من السحر والسكينة. يقع المعبد على صخرة ضخمة تتوسط أمواج المحيط الهندي، فيبدو وكأنه يطفو فوق البحر عند ارتفاع المدّ. كان صوت الأمواج المتكسّرة على الصخور يمتزج مع نسمات البحر المعبقة برائحة الملح والبخور، فيرسم لوحةً حسية آسرة.

أثناء غروب الشمس، تلون الأفق بدرجات مذهلة من الذهبي والبرتقالي، لتنعكس على مياه البحر في مشهدٍ يبعث على الدهشة والتأمل. رأيت الكهنة المحليين يؤدون طقوسهم التقليدية بملابسهم البيضاء، يقدمون الزهور والبخور للآلهة في طقسٍ يجسد عمق الروحانية البالية.

كانت التجربة مزيجاً من الجمال الطبيعي والقداسة الإنسانية، تركت في نفسي أثراً لا يُمحى وشعوراً بالسلام والاتصال العميق بالطبيعة والروح.

يستقبل المعبد أكثر من مليوني زائر سنوياً (بحسب إحصاءات عام 2023)، ليصبح من أكثر المعالم جذباً للسياح في بالي.

يأتي الزوار من مختلف أنحاء العالم ليستمتعوا بمشهد الغروب الساحر، حين يغمر الضوء الذهبي المعبد ويعانق الأفق في لوحةٍ طبيعية تبعث على التأمل والسكينة.

يبقى معبد البحر في بالي أكثر من مجرد وجهة سياحية؛ إنه تجربة روحانية وجمالية متكاملة تذكّر الزائر بأن في كل موجةٍ حكاية، وفي كل صخرةٍ صلاة، وفي كل غروبٍ وعدٌ بأن الجمال الحقيقي لا يزول مهما تغيّر الزمن.

رحلة ساحرة في قلب «قصر المياه» ببالي

انتقلنا إلى شرق جزيرة بالي الإندونيسية الهادئة، حيث يتربّع قصر المياه «تيرتا جانجا» كجوهرةٍ معمارية تنبض بالحياة. إنه ليس مجرد قصر، بل أسطورة من ماءٍ وحجر تروي قصة مملكةٍ عرفت كيف تجعل من الجمال فلسفة للحياة.

يمتد القصر على مساحةٍ واسعة تتخللها أحواض سباحة طبيعية، ونوافير أنيقة، وجسور حجرية صغيرة تصطف على جانبيها تماثيل الآلهة والمحاربين، بينما تسبح أسماك الزينة الملوّنة في المياه الصافية لتضفي على المشهد سحراً لا يوصف. وفي الصباح الباكر، حين تنعكس أشعة الشمس على سطح المياه، يبدو المكان وكأنه لوحة حيّة رسمتها يد فنانٍ إلهي.

ورغم مرور أكثر من سبعة عقود على تشييده، ما زال «تيرتا جانجا» يحتفظ بسحره الأصلي، فقد أُعيد ترميمه بعناية بعد أن دمّره ثوران بركان جبل أغونغ عام 1963، ليعود أكثر بهاءً، شاهداً على إصرار سكان بالي على حماية تراثهم الروحي والجمالي.

«باب الجنة».. رحلة عبر الغابات والغيوم

يقف «باب الجنة» شامخاً كمدخلٍ أسطوري إلى عالمٍ من السكون والجلال. هذا الباب المعروف باسم (Lempuyang Temple Gate أو Pura Lempuyang Luhur) ليس مجرد بوابة حجرية فخمة، بل رمزٌ عميق للإيمان والجمال والانسجام بين الإنسان والطبيعة.

قبل أن نصل إلى المعبد، مررنا عبر طريقٍ متعرّج يخترق الغابات والقرى الريفية، حتى وجدنا أنفسنا أمام مشهدٍ يكاد يكون خيالياً.. بوابتان حجريتان متقابلتان ترتفعان بفخامة نحو السماء، تفصل بينهما فسحة مفتوحة تطل مباشرة على جبل أغونغ.

يُعد هذا الموقع واحداً من أقدس المعابد الهندوسية في بالي، حيث يؤمن السكان المحليون أن تسلّق الدرج الطويل المؤدي إليه هو رحلة تطهيرٍ روحية قبل الوصول إلى المعبد الأعلى. ومع مرور السنوات، تحوّل «باب الجنة» من موقعٍ تعبّدي إلى أيقونةٍ عالمية للسياحة الروحية والتصوير الفوتوغرافي، إذ يصطف الزوار من كل مكان لالتقاط صورةٍ تُظهر انعكاسهم في مرآة الماء أمام البوابة، في مشهدٍ يوحي بأنهم يقفون بين السماء والأرض.

كما كانت زيارتنا إلى قرية «بنغليبوران» (Penglipuran) في بالي تجربةً ساحرة لا تُنسى. فعند دخولي القرية، شعرت وكأنني انتقلت إلى زمنٍ آخر، حيث الشوارع النظيفة والمنازل التقليدية المصنوعة من الخشب والقصب تنبض بالهدوء والجمال.

تجوّلنا بين المنازل وحدائقها الصغيرة وتأملنا الزخارف الخشبية والحجرية التي تحكي قصص الأساطير البالية. وكان أكثر ما أسعد وفد الصحفيين التونسيين التواصل مع السكان المحليين الذين استقبلونا بابتسامةٍ دافئة.

تحافظ القرية على نظامٍ اجتماعي متماسك يعتمد على الروابط الأسرية والعادات المجتمعية التي توارثها السكان عبر الأجيال. وما يميز (Penglipuran) أيضاً هو التركيز على الحفاظ على البيئة؛ فالقرية خالية من المباني الحديثة، ويُحظر على السيارات السير في شوارعها الضيقة، مما يضمن للزوار تجربة هادئة تحاكي حياة بالي القديمة.

إنها مثالٌ حي على التناغم بين الإنسان والطبيعة، حيث يعيش السكان في انسجام مع الغابات والمزارع المحيطة، مستفيدين من الموارد الطبيعية دون الإضرار بها.

جوجاكرتا.. بوابة السياحة الثقافية لتعزيز الاقتصاد المحلي

تُعدّ مقاطعة جوجاكرتا واحدة من أبرز الوجهات الثقافية والتاريخية في إندونيسيا، وتقع في جزيرة جاوة الوسطى. تشتهر بتراثها الغني الذي يشمل المعابد الهندوسية والبوذية القديمة مثل بوروبودور وبرامبانان، مما يجعلها مركزاً سياحياً وثقافياً واقتصادياً مهماً.

كما تحتضن المقاطعة جامعاتٍ ومعاهد بحثية بارزة، مما يعزز الابتكار وريادة الأعمال في المنطقة ويجعلها نقطة التقاء بين التراث العريق والتنمية الاقتصادية الحديثة. وفي رحلةٍ عبر شوارعها وأسواقها التقليدية، تلاحظ كيف يندمج التاريخ مع الحياة اليومية، حيث تُعدّ الثقافة والفنون والحرف القديمة جزءاً من النشاط الاقتصادي المحلي. وتُعدّ جوجاكرتا نموذجاً حياً للتنوّع الديني والتعايش السلمي، حيث تتلاقى الحضارات والثقافات المختلفة في فسيفساء متكاملة من المعتقدات.

الغالبية الساحقة من سكان المقاطعة - حوالي 93٪ - يعتنقون الإسلام، في حين توجد جاليات هندوسية صغيرة تحتفظ بمعابدها وتُقيم احتفالاتها الدينية والثقافية الخاصة، مما يعكس غنى التراث الديني والتاريخي للمنطقة.

«بوروبودور».. أعظم المعابد البوذية في العالم

يُعدّ معبد بوروبودور واحداً من أعظم المعابد البوذية في العالم، ويقع بالقرب من مدينة جوجاكرتا في جزيرة جاوة الوسطى.

بُني المعبد في القرن التاسع، ويتميز بتصميمه المعماري الفريد على شكل هرمٍ متدرج مكوّن من تسعة مستويات، مزين بأكثر من 2600 لوحة حجرية ونحو 500 تمثال لبوذا. ولا يُعد بوروبودور مجرد موقعٍ ديني، بل يمثل رمزاً للتراث الثقافي والتاريخي لإندونيسيا، ويجذب ملايين السياح والباحثين سنوياً، مما يسهم بشكلٍ كبير في الاقتصاد المحلي.

كما يُستخدم المعبد لإقامة المهرجانات والاحتفالات الروحية، ليجمع بين الأهمية التاريخية والثقافية والأثر الاقتصادي في آنٍ واحد.

الجمعية المحمدية.. امتداد للحركة الإصلاحية الإسلامية

في جوجاكرتا تأسست الجمعية المحمدية كامتدادٍ للحركة الإصلاحية الإسلامية التي انطلقت في إندونيسيا في أوائل القرن العشرين بقيادة أحمد دحلان عام 1912.

جاء تأسيس الجمعية استجابةً للحاجة إلى نهضةٍ تعليمية واجتماعية ودينية تهدف إلى تجديد الفكر الإسلامي وربطه بخدمة المجتمع المحلي.

ركزت الجمعية منذ بدايتها على إنشاء المدارس والمعاهد التعليمية، إضافةً إلى تقديم الخدمات الاجتماعية والصحية، لتصبح نموذجاً للتنمية المستدامة المبنية على القيم الإسلامية.

ومنذ تأسيسها، لعبت الجمعية المحمدية دوراً محورياً في تعزيز التعليم والإصلاح الاجتماعي في جوجاكرتا، مما جعلها إحدى أبرز الحركات الإسلامية المؤثرة في المنطقة.

ترسيخ القيم الوطنية

خلال تواجدنا في جوجاكرتا، أتيحت لنا الفرصة لزيارة مقر الحزب الديمقراطي الإندونيسي، أحد أكبر الأحزاب السياسية في البلاد وأكثرها تأثيراً في الحياة العامة.

تأسس الحزب عام 1973 بعد دمج عدة أحزاب وطنية، ويتميز بخطابه الوطني الداعم للديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يُعرف بارتباطه الوثيق بالزعيمة السياسية ميغاواتي سوكارنو بوتري، ابنة الرئيس الراحل سوكارنو.

يُركز الحزب على تعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والحفاظ على الهوية الإندونيسية.

وفي تصريحٍ أدلى به لوفد الصحفيين التونسيين، أكد ممثل الحزب نيوريادي أن الدور السياسي للحزب في إندونيسيا ليس مجرد مشاركة انتخابية، بل التزام دائم بخدمة الأمة وترسيخ القيم الوطنية «بانكاسيلا» في كل مستويات الحكم.

وأضاف أن الحزب يرى نفسه أداة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنوع الاقتصادي وتعزيز الحضور الجماهيري داخل الولاية وخارجها.

وأشار نيوريادي إلى أن الحزب في جوجاكرتا يبني قاعدة حزبية متينة من خلال تنظيم الكوادر وتعميق الاتصال بالمواطنين، خصوصاً عبر دعم المشاريع المحلية والمشاركة الفاعلة في الحياة المجتمعية، مضيفاً:

«كلما كان الحزب أقرب إلى الناس، كانت رسالته السياسية أكثر وضوحاً، وتحققت أهداف التنمية المنشودة».

هذا التصريح يعكس رؤية الحزب لدوره في المشهد السياسي الإندونيسي كمحورٍ للتغيير والتنمية، مع تركيزه ليس فقط على الفوز في الانتخابات، بل أيضاً على تعزيز الحوكمة والمشاركة الشعبية والخدمة المجتمعية اليومية.

ختام الرحلة

رحلتنا من بالي إلى جوجاكرتا إلى جاكرتا لم تكن مجرد تنقّلٍ بين المدن، بل عبوراً عبر ثلاث مراحل من الروح الإندونيسية:بالي تمثل الجمال والروحانية، وجوجاكرتا تجسّد الأصالة والثقافة، وجاكرتا ترمز إلى الطموح والحداثة.

من السكون إلى الضجيج، ومن البخور إلى ناطحات السحاب، تبقى إندونيسيا في جوهرها بلداً يؤمن بأن الجمال ليس ترفاً بل أسلوب حياة.

في آخر ليلة قبل العودة، جلست في المطار أتأمل وجوه المسافرين، وكل وجه منها يحمل قصة جزيرة، ولغة، وذاكرة.

أدركت عندها أن إندونيسيا ليست مكاناً يُزار مرة واحدة، بل رحلة تُعاش مراراً، لأنك في كل مرة تزور بلداً جديداً داخل البلد ذاته. من جزيرةٍ إلى أخرى، تعلّمت أن الوطن لا يُقاس بالمسافة، بل بالدهشة التي يتركها في القلب.

جهاد الكلبوسي