إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

على ركح مسرح الحمامات الأثري.. "عربون" عرض عن الحياة.. البيت.. الوطن.. والجسد الذي يضيق بما لا يُقال

 

  • عماد جمعة في تصريح إعلامي: «هذا المشروع ليس وليد اللحظة بل بمثابة عربون وفاء لذاكرة عائلية وموسيقية وثقافية»

  • الإضاءة لم تكن مجرد عنصر تقني، بل عنصرًا مهمًّا في السرد.. أضاءت على الجسد حينًا، وأخفته حينًا آخر.

لم يكن العرض الكوريغرافي «عربون» لعماد جمعة، الذي احتضنه مسرح الهواء الطلق بالحمامات مساء الخميس 6 أوت 2025، عرضًا للرقص فقط. لقد كان عرضًا عن الحياة، عن البيت، عن الوطن، عن الجسد الذي يضيق بما لا يُقال. كل تفصيلة على الركح كانت تقول شيئًا، توحي بشيء، تبوح بما عجز اللسان عن النطق به، وهو صرخة من أعماق معاناة الفنان التونسي وتجسيد بصري لواقع اجتماعي خانق يثقل كاهل العائلات المتوسطة والطبقة الفنية المهمّشة في تونس ما بعد جائحة كوفيد- 19.

تدور أحداث «عربون» داخل منزل جاء في العرض كفضاء مغلق، حيث كان الديكور بسيطًا، ولكن رمزيته قوية. انفتح الركح على غرفة تونسية عادية: أريكة، كراسي، طاولة، بضع قطع من الطوب مرمية كأنها بقايا حلم ببناء لم يكتمل. لكن هذه الغرفة، برغم بساطتها، كانت مشحونة بالمعاني. لم تكن ديكورًا، بل حالة نفسية مجسّدة. بيت بلا جدران، كأنه انكشاف داخلي، بيت ينهار بصمت، أو كما يتهالك الفنان حين يُترك وحيدًا في مواجهة الأزمات.

فعماد جمعة استوحى عنوان عرضه من المصطلح الشعبي التونسي «عربون» الذي يشير إلى مبلغ يُدفع كضمان أو بداية لاتفاق مالي أو تعاقدي لتقديم عرض. لكن في سياق هذا العمل، تحوّل «عربون» إلى رمز لثمن باهظ يدفعه الفنان والمواطن على حدّ سواء مقابل البقاء في مجتمع اختلّت فيه الموازين، وضاعت فيه الحقوق، وتلاشت فيه الآفاق.

الإضاءة لم تكن بدورها مجرد عنصر تقني، بل شريكة في السرد. أضاءت الجسد حينًا، وأخفته حينًا آخر. رسمت على الأرض دوائر وظلالًا، وكأنها بصمات من مرّوا من هنا ثم اختفوا. الضوء لم يكن للزينة، بل قد يكون كاشفًا لحقيقة موجعة: البيت ضيّق، النفس مضغوطة، والزمن ثقيل.

من البداية، يتحرك الراقصون داخل هذا الفضاء المغلق، أجسادهم منكمشة، حركاتهم مكرّرة، تتسلل منها نوبات عنف قصيرة، ثم تعود للهدوء. الرقص هنا ليس استعراضًا، بل مقاومة... مقاومة للخوف، للضغط، للوضع المعيشي الخانق. كل جسد كان يحمل وجعًا، وكل حركة كانت تنطق بحكاية. لم يكن هناك بطل واحد، بل كل جسد هو شهادة حيّة.

التكرار في العرض لم يكن عبثيًا، بل بدا مقصودًا: نعيش كل يوم نفس اليوم، نفس الأزمة، نفس الوجع. كأن الفنان أراد أن يقول إننا نُعيد تدوير خيباتنا، نحاول الصمود، لكن لا شيء يتغيّر. حتى محاولات الرقص تبدو كأنها تتحول تدريجيًا إلى صراخ داخلي، لا أحد يسمعه.

كان لعماد جمعة حضور خاص، ليس لأنه المخرج والمصمم فقط، بل لأنه كان يحمل ذاكرة شخصية على الخشبة. هذا العمل هو عربون لوالده الراحل، موسيقيّ لم يأخذ نصيبه من التقدير. هو عربون لرفاقه الفنانين الذين يواصلون الإبداع دون سند، دون دعم، فقط بقوة الأمل. هو عربون لفن الرقص في تونس، الذي يعيش رغم كل شيء.

المشهد الذي يجلس فيه عماد جمعة على الأريكة، متأمّلًا أو متعبًا، بدا وكأنه لحظة اعتراف. ليس فقط أمام الجمهور، بل أمام الذات. حتى في لحظات الرقص الجماعي، لم يكن هناك فرح. فقط تناغم هشّ، يحاول أن يصمد أمام التفكك. كل راقص بدا كمن يحمل أعباءه على جسده. العرض كلّه بدا مثل نداء استغاثة ناعم، لكنه عميق.

شارك في العرض ثمانية راقصين، هم: رانية الجديدي، وأماني الشطي، وحسام الدين عاشوري، وشكري جمعة، وعبد القادر دريحلي، وعمر عباس، وقيس بولعراس، وعماد جمعة نفسه. وقد بدا الانسجام واضحًا بينهم، مع حضور كاريزماتي لافت للمخرج الراقص، الذي وظف تجربته الطويلة لتقديم عرض متماسك أداءً وتعبيرًا وشكلًا ومضمونًا، رغم قلّة الإمكانيات.

عن عرض «عربون»، أكّد عماد جمعة أنّ «العمل تمّ تقديمه لوزارة الشؤون الثقافية منذ ما يزيد عن السنتين، ولكنه يتم سحبه كلما تتم دعوته لرئاسة لجنة فرز العروض».

«عربون»: مشروع تأخر ظهوره وانبعث من ذاكرة شخصية وجماعية

وكشف جمعة، خلال الندوة الصحفية التي تلت عرضه «عربون»، أن هذا العمل ظل في الأدراج منذ أكثر من ثلاث سنوات. وقد تقدّم به في مرحلة أولى إلى وزارة الشؤون الثقافية، لكنه قام بسحبه بعد أن تم اقتراحه ليترأس لجنة الدعم، ما جعله يتردد في المضي قدمًا في تقديم مشروعه لتجنّب تضارب المصالح.

وأضاف أن كثافة الملفات وطول الانتظار دفعاه لاحقًا إلى إعادة تقديم «عربون» كمقترح للخلق والإنتاج، ونجح أخيرًا في إغلاق المسار الإداري وبدأ الاشتغال العملي. وأكّد أنّ هذا المشروع ليس وليد اللحظة. هو بمثابة عربون وفاء لذاكرة عائلية وموسيقية وثقافية... وبالنسبة له، هو جديد من حيث الرؤية، لكنه متجذّر في تجربة طويلة.

وأوضح أن فكرة «عربون» وُلدت من تأملات شخصية في علاقة الجسد بالموسيقى، ومن سؤال ظل يراوده: هل يمكن أن تُروى الحكايات العائلية والتاريخية من خلال الجسد؟ واستعاد في هذا السياق إلى الذاكرة فرقة نحاسية أسسها والده منذ أكثر من نصف قرن في منطقة باب جديد، وكانت من أقدم الفرق الموسيقية الشعبية في تونس، فقال: «كان والدي يعزف على آلة «الترومبات»، وكنت أتأمل صورته وأتخيله في زمن الكورونا، حين أُغلقت الدنيا، وتوقفت الحياة فجأة… كيف كان سيتصرف؟ هل كان سيسترجع العربون؟ هل كنا سنرده نحن؟».

جوهر العمل..

واعتبر عماد جمعة أن تلك التساؤلات تحوّلت إلى جوهر العمل، حيث امتزجت الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، واشتغل على استعادة لحظات من الغياب والمحو من خلال الكوريغرافيا، لا باعتبارها حركات راقصة فحسب، بل بوصفها لغة جسدية لها قدرة على قول ما لا يُقال بالكلمات.

وأشار إلى أن تجربته الفنية، رغم الصعوبات، تظل مشروطة بالأمل في الخلق واللقاء والعمل مع المغرمين الحقيقيين، مؤكدًا أن الكوريغرافيا ليست للجميع. يجب أن تُفهم وتُعاش، لأنها تعبير عميق يصلنا عبر الجسد والإحساس، ونحن نواصل البحث لأننا نؤمن بأن الفن الحقيقي يولد من السؤال والمخاطرة، لا من الراحة والتكرار.

إيمان عبد اللطيف

على ركح مسرح الحمامات الأثري..   "عربون" عرض عن الحياة.. البيت.. الوطن.. والجسد الذي يضيق بما لا يُقال

 

  • عماد جمعة في تصريح إعلامي: «هذا المشروع ليس وليد اللحظة بل بمثابة عربون وفاء لذاكرة عائلية وموسيقية وثقافية»

  • الإضاءة لم تكن مجرد عنصر تقني، بل عنصرًا مهمًّا في السرد.. أضاءت على الجسد حينًا، وأخفته حينًا آخر.

لم يكن العرض الكوريغرافي «عربون» لعماد جمعة، الذي احتضنه مسرح الهواء الطلق بالحمامات مساء الخميس 6 أوت 2025، عرضًا للرقص فقط. لقد كان عرضًا عن الحياة، عن البيت، عن الوطن، عن الجسد الذي يضيق بما لا يُقال. كل تفصيلة على الركح كانت تقول شيئًا، توحي بشيء، تبوح بما عجز اللسان عن النطق به، وهو صرخة من أعماق معاناة الفنان التونسي وتجسيد بصري لواقع اجتماعي خانق يثقل كاهل العائلات المتوسطة والطبقة الفنية المهمّشة في تونس ما بعد جائحة كوفيد- 19.

تدور أحداث «عربون» داخل منزل جاء في العرض كفضاء مغلق، حيث كان الديكور بسيطًا، ولكن رمزيته قوية. انفتح الركح على غرفة تونسية عادية: أريكة، كراسي، طاولة، بضع قطع من الطوب مرمية كأنها بقايا حلم ببناء لم يكتمل. لكن هذه الغرفة، برغم بساطتها، كانت مشحونة بالمعاني. لم تكن ديكورًا، بل حالة نفسية مجسّدة. بيت بلا جدران، كأنه انكشاف داخلي، بيت ينهار بصمت، أو كما يتهالك الفنان حين يُترك وحيدًا في مواجهة الأزمات.

فعماد جمعة استوحى عنوان عرضه من المصطلح الشعبي التونسي «عربون» الذي يشير إلى مبلغ يُدفع كضمان أو بداية لاتفاق مالي أو تعاقدي لتقديم عرض. لكن في سياق هذا العمل، تحوّل «عربون» إلى رمز لثمن باهظ يدفعه الفنان والمواطن على حدّ سواء مقابل البقاء في مجتمع اختلّت فيه الموازين، وضاعت فيه الحقوق، وتلاشت فيه الآفاق.

الإضاءة لم تكن بدورها مجرد عنصر تقني، بل شريكة في السرد. أضاءت الجسد حينًا، وأخفته حينًا آخر. رسمت على الأرض دوائر وظلالًا، وكأنها بصمات من مرّوا من هنا ثم اختفوا. الضوء لم يكن للزينة، بل قد يكون كاشفًا لحقيقة موجعة: البيت ضيّق، النفس مضغوطة، والزمن ثقيل.

من البداية، يتحرك الراقصون داخل هذا الفضاء المغلق، أجسادهم منكمشة، حركاتهم مكرّرة، تتسلل منها نوبات عنف قصيرة، ثم تعود للهدوء. الرقص هنا ليس استعراضًا، بل مقاومة... مقاومة للخوف، للضغط، للوضع المعيشي الخانق. كل جسد كان يحمل وجعًا، وكل حركة كانت تنطق بحكاية. لم يكن هناك بطل واحد، بل كل جسد هو شهادة حيّة.

التكرار في العرض لم يكن عبثيًا، بل بدا مقصودًا: نعيش كل يوم نفس اليوم، نفس الأزمة، نفس الوجع. كأن الفنان أراد أن يقول إننا نُعيد تدوير خيباتنا، نحاول الصمود، لكن لا شيء يتغيّر. حتى محاولات الرقص تبدو كأنها تتحول تدريجيًا إلى صراخ داخلي، لا أحد يسمعه.

كان لعماد جمعة حضور خاص، ليس لأنه المخرج والمصمم فقط، بل لأنه كان يحمل ذاكرة شخصية على الخشبة. هذا العمل هو عربون لوالده الراحل، موسيقيّ لم يأخذ نصيبه من التقدير. هو عربون لرفاقه الفنانين الذين يواصلون الإبداع دون سند، دون دعم، فقط بقوة الأمل. هو عربون لفن الرقص في تونس، الذي يعيش رغم كل شيء.

المشهد الذي يجلس فيه عماد جمعة على الأريكة، متأمّلًا أو متعبًا، بدا وكأنه لحظة اعتراف. ليس فقط أمام الجمهور، بل أمام الذات. حتى في لحظات الرقص الجماعي، لم يكن هناك فرح. فقط تناغم هشّ، يحاول أن يصمد أمام التفكك. كل راقص بدا كمن يحمل أعباءه على جسده. العرض كلّه بدا مثل نداء استغاثة ناعم، لكنه عميق.

شارك في العرض ثمانية راقصين، هم: رانية الجديدي، وأماني الشطي، وحسام الدين عاشوري، وشكري جمعة، وعبد القادر دريحلي، وعمر عباس، وقيس بولعراس، وعماد جمعة نفسه. وقد بدا الانسجام واضحًا بينهم، مع حضور كاريزماتي لافت للمخرج الراقص، الذي وظف تجربته الطويلة لتقديم عرض متماسك أداءً وتعبيرًا وشكلًا ومضمونًا، رغم قلّة الإمكانيات.

عن عرض «عربون»، أكّد عماد جمعة أنّ «العمل تمّ تقديمه لوزارة الشؤون الثقافية منذ ما يزيد عن السنتين، ولكنه يتم سحبه كلما تتم دعوته لرئاسة لجنة فرز العروض».

«عربون»: مشروع تأخر ظهوره وانبعث من ذاكرة شخصية وجماعية

وكشف جمعة، خلال الندوة الصحفية التي تلت عرضه «عربون»، أن هذا العمل ظل في الأدراج منذ أكثر من ثلاث سنوات. وقد تقدّم به في مرحلة أولى إلى وزارة الشؤون الثقافية، لكنه قام بسحبه بعد أن تم اقتراحه ليترأس لجنة الدعم، ما جعله يتردد في المضي قدمًا في تقديم مشروعه لتجنّب تضارب المصالح.

وأضاف أن كثافة الملفات وطول الانتظار دفعاه لاحقًا إلى إعادة تقديم «عربون» كمقترح للخلق والإنتاج، ونجح أخيرًا في إغلاق المسار الإداري وبدأ الاشتغال العملي. وأكّد أنّ هذا المشروع ليس وليد اللحظة. هو بمثابة عربون وفاء لذاكرة عائلية وموسيقية وثقافية... وبالنسبة له، هو جديد من حيث الرؤية، لكنه متجذّر في تجربة طويلة.

وأوضح أن فكرة «عربون» وُلدت من تأملات شخصية في علاقة الجسد بالموسيقى، ومن سؤال ظل يراوده: هل يمكن أن تُروى الحكايات العائلية والتاريخية من خلال الجسد؟ واستعاد في هذا السياق إلى الذاكرة فرقة نحاسية أسسها والده منذ أكثر من نصف قرن في منطقة باب جديد، وكانت من أقدم الفرق الموسيقية الشعبية في تونس، فقال: «كان والدي يعزف على آلة «الترومبات»، وكنت أتأمل صورته وأتخيله في زمن الكورونا، حين أُغلقت الدنيا، وتوقفت الحياة فجأة… كيف كان سيتصرف؟ هل كان سيسترجع العربون؟ هل كنا سنرده نحن؟».

جوهر العمل..

واعتبر عماد جمعة أن تلك التساؤلات تحوّلت إلى جوهر العمل، حيث امتزجت الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، واشتغل على استعادة لحظات من الغياب والمحو من خلال الكوريغرافيا، لا باعتبارها حركات راقصة فحسب، بل بوصفها لغة جسدية لها قدرة على قول ما لا يُقال بالكلمات.

وأشار إلى أن تجربته الفنية، رغم الصعوبات، تظل مشروطة بالأمل في الخلق واللقاء والعمل مع المغرمين الحقيقيين، مؤكدًا أن الكوريغرافيا ليست للجميع. يجب أن تُفهم وتُعاش، لأنها تعبير عميق يصلنا عبر الجسد والإحساس، ونحن نواصل البحث لأننا نؤمن بأن الفن الحقيقي يولد من السؤال والمخاطرة، لا من الراحة والتكرار.

إيمان عبد اللطيف