إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعر سويلمي بوجمعة لـ"الصباح": لا قيمة للكتاب ما لم يوزع عبر المكتبات ويكون له حضور لائق في معارض الكتب الوطنية وفي الخارج

 

*الكثير من الإصدارات الشعرية اليوم أنيقة في شكلها بمحتوى فيه كثير من الرياء اللغوي والنشاز الإيقاعي.

*على الشعراء اليوم أن يكونوا هم من يحدد قبول المشاركة من عدمها في المهرجانات الشعرية.

*الفنان الراحل توفيق الناصر عبّد لي طريق تأليف الشعر الغنائي.

*الأنشطة الثقافية المتنوعة اليوم منعدمة في الفضاءات الجامعية وقليلة في دور الثقافة.

*فخور بالرصيد الذي حققه اتحاد الكتاب زمن الراحل الميداني بن صالح والذي كنت مساهماً فيه.

حوار محسن بن أحمد

هو واحد من الذين صاغوا صفحات ناصعة في المدونة الأدبية والفكرية والفنية التونسية على امتداد أكثر من أربعين سنة.

سويلمي بوجمعة الشاعر والإعلامي ورجل التوافق الثقافي خط مسيرة استثنائية جمع فيها بين مختلف فنون الثقافة والإبداع، وهو لا يزال على العهد وفياً لأفكاره وأطروحاته الشعرية والإبداعية التي ينتصر فيها لتشكيل اللغة وإنتاج الصورة الاستثنائية العابقة بأريج التجلي والطموح في كل قصيدة يبوح بها.

مع هذا الشاعر المبدع الاستثنائي كان لنا هذا اللقاء الذي تحدث فيه وكشف عن الكثير من الأسرار في علاقته بالكتابة الشعرية والبعض من المحطات في مسيرته وعلاقته بالساحة الأدبية وهذه الحصيلة:

*ماذا بقي في الذاكرة من بداية الرحلة مع القصيد؟

-بقي في الذاكرة ذلك الطفل الغريب بين أترابه لأنه يبدو أحياناً مختلفاً عنهم. يحبون المرح واللعب واللهو، ويحب الانزواء. تحيط به أشباح الفرسان، الفرسان الذين خرجوا له من تلك الملاحم الخرافية لأبطال لا يقهرون. ملاحم تزخر بها تلك الكتب الصفراء التي لا نكاد نجد غيرها في قريتنا النائية. وعندما عثر على نسخ من كتب جرجي زيدان، أحس ذلك الطفل أنه تحرر من سطوة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة.

في هذه المرحلة بدأ مخاض أبجديات القصيدة، خاصة وأن الطفل بدأ يسجل تميزاً لغوياً لافتاً في نصوص الإنشاء... فكانت بداية البدايات مع بزوغ نصوص محفوظات الشابي التي تفعل فعلها في الوجدان. ومعها جاءت متفرقات بأسماء أغلبها مشرقية: صلاح عبد الصبور، نزار قباني والمنفلوطي. وفي المذياع عثر الطفل على نافذة أتاحت له سماع أصوات شعراء من رحم الوطن: نورالدين صمود، جعفر ماجد، ابن الواحة، زبيدة بشير وغيرهم. واكتشف برنامج "هواة الأدب" بإشراف الشاعر أحمد اللغماني، فراودته فكرة المغامرة، لماذا لا يغامر بإرسال نصوصه؟ إنها فرصة قد تكون المنعرج في مسار الطفل الذي بدأ يكبر ويحلم بأجنحة أحياناً تجعله يتطاوس تحت سماء قرية المتلوي التي بدأت تضيق، منذ أن سمع اسمه في المذياع بصوت ناعم يقرأ شعره. وقد أثلجت صدره كلمات التشجيع التي مهدت لبدايات أخرى في تونس العاصمة ثم في الخارج.

*كيف تنظر اليوم إلى "غرباء" أول ديوان شعري صدر سنة 1978؟

-فعلاً "غرباء" هو باكورة إنتاجي الشعري، وطبعت في بغداد ضمن سلسلة "كتابات جديدة" سنة 1978. ولا أدري إلى حد اليوم لماذا تم اختيار سويلمي بوجمعة من تونس ليكون ضمن تلك السلسلة التي ضمت أسماء معروفة مثل محمد زفزاف وكاظم جهاد وشاكر عاشور. وأذكر جيداً تلك اللحظة الفارقة عندما فاجأني الشاعر الكبير الراحل محيي الدين خريف بخبر صدور المجموعة، إذ قرأ الخبر في مجلة تصدر في بيروت. وبعد أيام خاطبني مدير المركز الثقافي العراقي لتهنئتي بصدور المجموعة ويدعوني لاستلام نسخ منها... لا أنكر أن الإخراج كان جيداً ولكن ما أثار غضبي تغيير العنوان والتحويرات على بعض المقاطع. ومع ذلك، شكل صدورها محطة هامة في تجربتي المتواضعة. وحالياً أفكر في إعادة نشرها ضمن إصدار جديد "الأعمال غير الكاملة" الذي أحسبه جاهزاً للطبع حالياً.

*هل يمكن الحديث عن تقنيات خاصة ينفرد بها سويلمي بوجمعة لحظة البوح الشعري؟

-ليست هناك تقنيات خاصة تحديدا. هناك محاولة لإيجاد صورة دافقة متعددة الأبعاد. فالقصيدة بالنسبة لي صور وإيحاءات وتداعيات تتشكل فيها الأحداث والأزمنة، وتتصالح المتناقضات والمفارقات لتؤلف لوحات غير مألوفة، لأن المألوف لا يجوز في القصيدة المختلفة. وهذا ما تفطن له الناقد الراحل محمد صالح بن عمر، إذ انتبه لحضور الصورة وقال تحديداً: "إن شعري يمتاز بالنزوع إلى العدول التام عن النثرية دون الوقوع في الإغراب. ففي كل بيت أو مقطع قصير، انزياح حي يفاجئ القارئ ويدهشه. وهذا الأسلوب قار لديه - لدى الشاعر - منذ بداياته في نهاية الستينات. وهو ينم عن حساسية جمالية مرهفة ورؤية فنية انتقائية تلتقط الموحي الرائق وتنصرف عن العادي المبتذل".

*أي شروط يجب توفرها في القصيد حتى نقول إن هذا شعر؟

-القصيدة عمارة يحدد شكلها الشاعر، ويحدث أن تتمرد فكرة القصيدة على التصور الهندسي الذي يرسمه الشاعر لمشروع القصيدة. فشرارة البدء - الجملة الأولى، العتبة، هي التي تحدد طبيعة المشروع شكلاً ومضموناً. وهنا تأتي خبرة الشاعر وسلطته على تشكيل اللغة وإنتاج الصور وضبط إيقاعها. ومعلوم أن أغلب النصوص تبقى غير مكتملة ما لم تبح بعنوانها الذي يقتنع به صاحبها بعد قراءات متأنية لها، وإخضاعها أحياناً لإعادة الكتابة. وهنا تكمن المعاناة الجميلة والمكابدة التي تصقل الموهبة وتراكم التجربة.

*برزت بندرة إصداراتك الشعرية، أي سر وراء هذا الأمر؟

-صحيح، أقر أنني مقصر إلى حد كبير... لقد أتيحت لي فرص كثيرة للنشر وأجلتها، ربما لأن تجربة النشر الأولى في بغداد تركت بعض الندوب في خاطري بسبب التغييرات التي مست بعض النصوص. ثم إن الكتاب لم يوزع في تونس باستثناء المائة نسخة التي وصلتني ولم أحسن التصرف فيها... ثم إنني عشت خيبة أخرى بعد أن أتيحت لي فرصة لنشر مجموعتي الثانية "قيض في صحراء الثلج". كتب مقدمتها الأديب الليبي المرحوم عبد الله القويري الذي كان مقيماً في تونس في الثمانينات، بعد اتفاقه مع ناشر كتبه في طرابلس ليتولى طبعها في بيروت وتوزيعها في ليبيا وكذلك تونس، إلا أنها كانت ضحية الحرب الأهلية في لبنان وضاعت مع كتب أخرى في إحدى المطابع التي دمرتها الحرب. ثم إن فترة الثمانينات وما تلاها حاصرتني فيها ظروف العمل في الحقل الإعلامي في جريدة "بلادي" والإنتاج في الإذاعة، إلى جانب مهامي في جمعية الصحفيين التونسيين ثم في اتحاد الكتاب التونسيين ومشاركات كثيرة في الداخل والخارج. علماً أنني بعثت دار نشر "بيدباء" التي أصدرت روايات ودواوين لكتاب تونسيين منهم الشاعر الراحل محمد عمار شعابنية والروائي والشاعر حافظ محفوظ وغيرهم. ومع ذلك، لم أنشر لسويلمي بوجمعة. وبعد أن فشلت هذه التجربة، أقدمت على نشر مجموعتي الشعرية "أنا من تراب السماء" على نفقتي الخاصة. وأعترف أن مردودها المادي كان محترماً لكن المعظلة تكمن في سوء التوزيع، لأن الكتاب مهما كانت قيمته بلا فائدة إذا لم يوزع عبر المكتبات ولم يكن له حضور لائق في معارض الكتب الوطنية وفي الخارج. ومهما يكن من أمر، فأنا مقتنع جداً بأنني كنت مقصراً إلى حد كبير. وأتمنى أن تسعفني الأقدار لاغتنام فرصة التدارك الممكن.

*خضت تجربة كتابة الأغاني، هل في ذلك هروب من القصيد وقيوده أم بحثاً عن جمهور جديد؟

-الصدفة وحدها قادتني إلى مجال الأغنية. فأنا بحكم ترددي على دار الإذاعة واقترابي من الوسط الفني داخلها وفي محيطها، وجدتني أردد في سري بعض نصوص الأغاني التي أعجبتني وبدأت أصغي باهتمام لنصوص الأغاني القادمة من الشرق لكبار المطربين والمؤلفين، فوجدتها عالماً ساحراً أخاذاً. فراودتني فكرة ركوب الموجة وكتبت محاولاتي الأولى وقدمتها لقسم الموسيقى في الإذاعة. ولم يمض وقت طويل حتى قرأت خبراً في جريدة يومية يعلن أن توفيق الناصر يستعد لدخول الاستوديو لتسجيل أغنية "وداعاً لست لأهواك" من كلمات سويلمي بوجمعة. وكان هذا الخبر هو المنعرج الذي قادني إلى عالم آخر، وقد تطورت التجربة مع "فرقة 71" مع المايسترو محمد القرفي ورفاقه من الملحنين، إذ مهدت لي هذه التجربة فرصاً أخرى هامة مثل دعوتي للمشاركة في لجان اختيار نصوص الأغاني في قسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية أو مهرجان الأغنية ضمن لجنتي انتقاء النصوص الغنائية أو لجنة التحكيم. وما زلت أحتفظ بكثير من نصوص الأغاني غير المكتملة ولا أدري ماذا سيكون مصيرها.

*ما الذي تغير في سويلمي بوجمعة بين الأمس واليوم؟

-يفعل تعاقب سنوات العمر ما يفعله تراكم الصدأ الكثير في الحديد. ثم إن أحوالنا على امتداد الخارطة لا توحي بأننا سنتعافى من همومنا الثقيلة وأوجاعنا القاتلة. تتداعى الأسئلة المرعبة، والصورة تزداد قتامة كل يوم، واللغة أصبحت عاجزة، خارج المعنى، خارج الخدمة.

*ما هي قراءتك للمشهد الشعري اليوم؟

-يبدو أن المشهد مكتظ بالشعراء الشبان القادمين على عجل. شخصياً، لست ضد فكرة الكثرة، فالغربال سيفرز الأجدر بالبقاء مهما كثرت الإصدارات التي يبدو بعضها أنيقاً على مستوى الإخراج شكلاً، ولكن محتواها فيه كثير من الرياء اللغوي والنشاز الإيقاعي، ويشي بفقر مدقع على مستوى الصور الشعرية. وهذا لا يعني مطلقاً أن الساحة خالية من الشعراء الشبان الجيدين. فالرحم التونسية تبقى معطاءة ولاّدة دائماً مهما قست الطبيعة وتوحشت المناخات وعمت المتناقضات. ويبقى المشهد الإبداعي ثرياً نسبياً على قلة الأنشطة الثقافية بسبب انعدامها تقريباً في الفضاءات الجامعية وقلتها في دور الثقافة والهياكل المعنية عموماً. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كتاب الرواية هم الذين استأثروا بالريادة هذه الأيام. وهذا يعني أيضاً أن الساحة الإبداعية الوطنية صامدة وتنبض بالحياة.

*برزت ظاهرة نشر الإنتاج الشعري على وسائل التواصل الاجتماعي، ألا يعد ذلك تهديداً جدياً للكتاب الورقي؟

-النشر في هذه الوسائل الحديثة ليس بديلاً عن الكتاب في المطلق. فهذه الوسائل تعد نافذة جديدة للتواصل مع الآخر في كل مكان من الجغرافيا في وقت قياسي وبلا مقابل يذكر. وهذا معلوم، ولكنها لا تفي بالغرض الذي يضمنه الكتاب، الذي يبقى ملكية خاصة له ولأبنائه وأحفاده وقرائه. ومعلوم أن القارئ المولع بالقراءة المتأنية لن تشفى غليله إلا عملية تصفح ورقات الكتاب بالليل والنهار وفي كل الأوقات. لذلك يقصد المكتبات لاقتناء الإصدارات الجديدة ويدفع عن طيب خاطر مهما غلت أثمانها على الرغم من أنه كان يمكن له أن يتبعها ويقتنصها من هذه الوسائل القابلة للانفجار.

*المهرجانات الشعرية المنتشرة في بلادنا بشكل لافت، ضرورة أم ترف من وجهة نظرك؟

-المهرجانات الشعرية ظاهرة قديمة جديدة. بعضها يتسم بالجدية من حيث الإعداد واختيار الضيوف، وبعضها الآخر، وهو الغالب حالياً، يخضع لحسابات ضيقة يعرفها الجميع والتي تتجلى في هوامش المهرجان قبل وبعد الفعاليات. وأعتقد أنه على الشعراء أن يكونوا هم من يحدد قبول المشاركة من عدمها على ضوء المعطيات المتعلقة بالتظاهرة وبالمشاركين فيها في انتظار أن يتخلص بعض المنظمين من عقدة انتقاء المشاركين وفقاً لحسابات ضيقة لا تحقق الإضافات المنشودة لإثراء مضامين هذه الاحتفاليات.

*مثل اتحاد الكتاب التونسيين محطة هامة في مسيرتك وكنت إلى جانب الراحل الميداني بن صالح... اليوم كيف تنظر إلى فترة رئاسته للاتحاد والتي كنت أنت طرفاً فاعلاً فيها؟

-أجل، اتحاد الكتاب مثل محطة هامة في مسيرتي منذ التأسيس، وقد عملت ضمن الهيئات المديرة برئاسة المرحوم الأديب محمد العروسي المطوي بعد عودتي النهائية من فرنسا إلى أرض الوطن. ثم عملت رفقة هيئات أخرى مع المرحوم الشاعر الميداني بن صالح وكانت تجربة مختلفة معه شخصياً كرئيس للاتحاد وكإنسان. ويمكن تلخيصها في التالي:

الرجل كان مسكوناً بالاتحاد إلى درجة افتعل معارك مع أصدقائه أو فرضت عليه بعض المعارك أحياناً مع أقرب الناس إليه شخصياً. وأنا شخصياً دخلت في خلافات معه وهو الذي اعتبرني خامس أبنائه في فترة ما. وهذه الطبيعة الحادة العالية في سلوك الرجل ساهمت في خلق أجواء مشحونة أثرت سلباً على العلاقات داخل الاتحاد وفي محيطه. وكنت رفقة آخرين نحاول بشتى الطرق تلطيف هذه الأجواء المتوترة، وقد أفلحت هذه المحاولات إلى حد كبير في تطويقها ولو نسبياً أحياناً.

ومهما يكن من أمر، فإن الجانب الناصع في هذه التجربة – وهو ما يقره الجميع – هو ثراء المنجز الذي حققته الهيئات المتعاقبة للاتحاد آنذاك على مستوى المركز وأيضاً على مستوى الفروع في الجهات وكذلك على مستوى العلاقات الخارجية. كما أن مجلة "المسار" تطور محتواها إلى حد كبير وانتظم صدورها وكانت مفتوحة لمشاركات جميع الأعضاء وحتى من غير أعضاء الاتحاد. وقد تحقق هذا الرصيد الهام إلى حد كبير بفضل جهود الأستاذ الميداني بن صالح وحرصه اليومي على ديمومة الديناميكية وطنياً وجهوياً وإثرائها بالأفكار والبرامج التي كنت فاعلاً فيها. وأعتز بالرصيد الذي تحقق زمن الأستاذ الميداني بن صالح، رغم الكثير من الأخطاء المشتركة في أحيان كثيرة بين الرجل وبعض الأعضاء.

*ماذا عن علاقتك اليوم بهذا الهيكل الأدبي؟

-علاقة تقدير واحترام مع الجميع. فأنا بعد التقاعد توزعت جغرافياً بين أرجاء تونس المحروسة وخارجها، وكل ما أتمناه أن يتصالح الاتحاد مع أعضائه الذين غادروه وأن يسعى إلى إعادة جسور التواصل معهم ويدعوهم إلى ترميم العلاقات مهما كانت الأسباب، وقد حدث ذلك في الماضي.

*أحيت تونس في أكتوبر الماضي ذكرى رحيل -تسعينية- الشابي. من وجهة نظرك، هل تعتقد أن منجزه الشعري ما زال قادراً على تمثل الحاضر؟

-يظل الشابي شاعراً كبيراً مهما تباينت بشأنه الرؤى واختلفت التقييمات. فقد طبع عصره الذي نحن امتداد له. أثر في أجيال كثيرة بعده ولست أدري لماذا يشكك بعضهم في قيمة الشابي شاعراً وناثراً.

يمكن اعتبار بعض نصوصه لا ترقى إلى قيمة نصوص أخرى، وهذا ما تفطن له فكان أن حذف بعض هذه النصوص من مخطوط ديوانه "إرادة الحياة" لأنه لم يكن مقتنعاً بها، فلماذا نعتمدها ذريعة لطمس قيمة الرجل كما فعل بعضهم مع قامات أخرى في تاريخنا القديم والمعاصر؟ سيبقى الشابي نخلة شامخة في وجداننا دائماً مهما عصفت بها رياح السموم.

الشاعر سويلمي بوجمعة لـ"الصباح":  لا قيمة للكتاب  ما لم يوزع عبر المكتبات ويكون له حضور لائق في معارض الكتب الوطنية وفي الخارج

 

*الكثير من الإصدارات الشعرية اليوم أنيقة في شكلها بمحتوى فيه كثير من الرياء اللغوي والنشاز الإيقاعي.

*على الشعراء اليوم أن يكونوا هم من يحدد قبول المشاركة من عدمها في المهرجانات الشعرية.

*الفنان الراحل توفيق الناصر عبّد لي طريق تأليف الشعر الغنائي.

*الأنشطة الثقافية المتنوعة اليوم منعدمة في الفضاءات الجامعية وقليلة في دور الثقافة.

*فخور بالرصيد الذي حققه اتحاد الكتاب زمن الراحل الميداني بن صالح والذي كنت مساهماً فيه.

حوار محسن بن أحمد

هو واحد من الذين صاغوا صفحات ناصعة في المدونة الأدبية والفكرية والفنية التونسية على امتداد أكثر من أربعين سنة.

سويلمي بوجمعة الشاعر والإعلامي ورجل التوافق الثقافي خط مسيرة استثنائية جمع فيها بين مختلف فنون الثقافة والإبداع، وهو لا يزال على العهد وفياً لأفكاره وأطروحاته الشعرية والإبداعية التي ينتصر فيها لتشكيل اللغة وإنتاج الصورة الاستثنائية العابقة بأريج التجلي والطموح في كل قصيدة يبوح بها.

مع هذا الشاعر المبدع الاستثنائي كان لنا هذا اللقاء الذي تحدث فيه وكشف عن الكثير من الأسرار في علاقته بالكتابة الشعرية والبعض من المحطات في مسيرته وعلاقته بالساحة الأدبية وهذه الحصيلة:

*ماذا بقي في الذاكرة من بداية الرحلة مع القصيد؟

-بقي في الذاكرة ذلك الطفل الغريب بين أترابه لأنه يبدو أحياناً مختلفاً عنهم. يحبون المرح واللعب واللهو، ويحب الانزواء. تحيط به أشباح الفرسان، الفرسان الذين خرجوا له من تلك الملاحم الخرافية لأبطال لا يقهرون. ملاحم تزخر بها تلك الكتب الصفراء التي لا نكاد نجد غيرها في قريتنا النائية. وعندما عثر على نسخ من كتب جرجي زيدان، أحس ذلك الطفل أنه تحرر من سطوة عنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة.

في هذه المرحلة بدأ مخاض أبجديات القصيدة، خاصة وأن الطفل بدأ يسجل تميزاً لغوياً لافتاً في نصوص الإنشاء... فكانت بداية البدايات مع بزوغ نصوص محفوظات الشابي التي تفعل فعلها في الوجدان. ومعها جاءت متفرقات بأسماء أغلبها مشرقية: صلاح عبد الصبور، نزار قباني والمنفلوطي. وفي المذياع عثر الطفل على نافذة أتاحت له سماع أصوات شعراء من رحم الوطن: نورالدين صمود، جعفر ماجد، ابن الواحة، زبيدة بشير وغيرهم. واكتشف برنامج "هواة الأدب" بإشراف الشاعر أحمد اللغماني، فراودته فكرة المغامرة، لماذا لا يغامر بإرسال نصوصه؟ إنها فرصة قد تكون المنعرج في مسار الطفل الذي بدأ يكبر ويحلم بأجنحة أحياناً تجعله يتطاوس تحت سماء قرية المتلوي التي بدأت تضيق، منذ أن سمع اسمه في المذياع بصوت ناعم يقرأ شعره. وقد أثلجت صدره كلمات التشجيع التي مهدت لبدايات أخرى في تونس العاصمة ثم في الخارج.

*كيف تنظر اليوم إلى "غرباء" أول ديوان شعري صدر سنة 1978؟

-فعلاً "غرباء" هو باكورة إنتاجي الشعري، وطبعت في بغداد ضمن سلسلة "كتابات جديدة" سنة 1978. ولا أدري إلى حد اليوم لماذا تم اختيار سويلمي بوجمعة من تونس ليكون ضمن تلك السلسلة التي ضمت أسماء معروفة مثل محمد زفزاف وكاظم جهاد وشاكر عاشور. وأذكر جيداً تلك اللحظة الفارقة عندما فاجأني الشاعر الكبير الراحل محيي الدين خريف بخبر صدور المجموعة، إذ قرأ الخبر في مجلة تصدر في بيروت. وبعد أيام خاطبني مدير المركز الثقافي العراقي لتهنئتي بصدور المجموعة ويدعوني لاستلام نسخ منها... لا أنكر أن الإخراج كان جيداً ولكن ما أثار غضبي تغيير العنوان والتحويرات على بعض المقاطع. ومع ذلك، شكل صدورها محطة هامة في تجربتي المتواضعة. وحالياً أفكر في إعادة نشرها ضمن إصدار جديد "الأعمال غير الكاملة" الذي أحسبه جاهزاً للطبع حالياً.

*هل يمكن الحديث عن تقنيات خاصة ينفرد بها سويلمي بوجمعة لحظة البوح الشعري؟

-ليست هناك تقنيات خاصة تحديدا. هناك محاولة لإيجاد صورة دافقة متعددة الأبعاد. فالقصيدة بالنسبة لي صور وإيحاءات وتداعيات تتشكل فيها الأحداث والأزمنة، وتتصالح المتناقضات والمفارقات لتؤلف لوحات غير مألوفة، لأن المألوف لا يجوز في القصيدة المختلفة. وهذا ما تفطن له الناقد الراحل محمد صالح بن عمر، إذ انتبه لحضور الصورة وقال تحديداً: "إن شعري يمتاز بالنزوع إلى العدول التام عن النثرية دون الوقوع في الإغراب. ففي كل بيت أو مقطع قصير، انزياح حي يفاجئ القارئ ويدهشه. وهذا الأسلوب قار لديه - لدى الشاعر - منذ بداياته في نهاية الستينات. وهو ينم عن حساسية جمالية مرهفة ورؤية فنية انتقائية تلتقط الموحي الرائق وتنصرف عن العادي المبتذل".

*أي شروط يجب توفرها في القصيد حتى نقول إن هذا شعر؟

-القصيدة عمارة يحدد شكلها الشاعر، ويحدث أن تتمرد فكرة القصيدة على التصور الهندسي الذي يرسمه الشاعر لمشروع القصيدة. فشرارة البدء - الجملة الأولى، العتبة، هي التي تحدد طبيعة المشروع شكلاً ومضموناً. وهنا تأتي خبرة الشاعر وسلطته على تشكيل اللغة وإنتاج الصور وضبط إيقاعها. ومعلوم أن أغلب النصوص تبقى غير مكتملة ما لم تبح بعنوانها الذي يقتنع به صاحبها بعد قراءات متأنية لها، وإخضاعها أحياناً لإعادة الكتابة. وهنا تكمن المعاناة الجميلة والمكابدة التي تصقل الموهبة وتراكم التجربة.

*برزت بندرة إصداراتك الشعرية، أي سر وراء هذا الأمر؟

-صحيح، أقر أنني مقصر إلى حد كبير... لقد أتيحت لي فرص كثيرة للنشر وأجلتها، ربما لأن تجربة النشر الأولى في بغداد تركت بعض الندوب في خاطري بسبب التغييرات التي مست بعض النصوص. ثم إن الكتاب لم يوزع في تونس باستثناء المائة نسخة التي وصلتني ولم أحسن التصرف فيها... ثم إنني عشت خيبة أخرى بعد أن أتيحت لي فرصة لنشر مجموعتي الثانية "قيض في صحراء الثلج". كتب مقدمتها الأديب الليبي المرحوم عبد الله القويري الذي كان مقيماً في تونس في الثمانينات، بعد اتفاقه مع ناشر كتبه في طرابلس ليتولى طبعها في بيروت وتوزيعها في ليبيا وكذلك تونس، إلا أنها كانت ضحية الحرب الأهلية في لبنان وضاعت مع كتب أخرى في إحدى المطابع التي دمرتها الحرب. ثم إن فترة الثمانينات وما تلاها حاصرتني فيها ظروف العمل في الحقل الإعلامي في جريدة "بلادي" والإنتاج في الإذاعة، إلى جانب مهامي في جمعية الصحفيين التونسيين ثم في اتحاد الكتاب التونسيين ومشاركات كثيرة في الداخل والخارج. علماً أنني بعثت دار نشر "بيدباء" التي أصدرت روايات ودواوين لكتاب تونسيين منهم الشاعر الراحل محمد عمار شعابنية والروائي والشاعر حافظ محفوظ وغيرهم. ومع ذلك، لم أنشر لسويلمي بوجمعة. وبعد أن فشلت هذه التجربة، أقدمت على نشر مجموعتي الشعرية "أنا من تراب السماء" على نفقتي الخاصة. وأعترف أن مردودها المادي كان محترماً لكن المعظلة تكمن في سوء التوزيع، لأن الكتاب مهما كانت قيمته بلا فائدة إذا لم يوزع عبر المكتبات ولم يكن له حضور لائق في معارض الكتب الوطنية وفي الخارج. ومهما يكن من أمر، فأنا مقتنع جداً بأنني كنت مقصراً إلى حد كبير. وأتمنى أن تسعفني الأقدار لاغتنام فرصة التدارك الممكن.

*خضت تجربة كتابة الأغاني، هل في ذلك هروب من القصيد وقيوده أم بحثاً عن جمهور جديد؟

-الصدفة وحدها قادتني إلى مجال الأغنية. فأنا بحكم ترددي على دار الإذاعة واقترابي من الوسط الفني داخلها وفي محيطها، وجدتني أردد في سري بعض نصوص الأغاني التي أعجبتني وبدأت أصغي باهتمام لنصوص الأغاني القادمة من الشرق لكبار المطربين والمؤلفين، فوجدتها عالماً ساحراً أخاذاً. فراودتني فكرة ركوب الموجة وكتبت محاولاتي الأولى وقدمتها لقسم الموسيقى في الإذاعة. ولم يمض وقت طويل حتى قرأت خبراً في جريدة يومية يعلن أن توفيق الناصر يستعد لدخول الاستوديو لتسجيل أغنية "وداعاً لست لأهواك" من كلمات سويلمي بوجمعة. وكان هذا الخبر هو المنعرج الذي قادني إلى عالم آخر، وقد تطورت التجربة مع "فرقة 71" مع المايسترو محمد القرفي ورفاقه من الملحنين، إذ مهدت لي هذه التجربة فرصاً أخرى هامة مثل دعوتي للمشاركة في لجان اختيار نصوص الأغاني في قسم الموسيقى بالإذاعة الوطنية أو مهرجان الأغنية ضمن لجنتي انتقاء النصوص الغنائية أو لجنة التحكيم. وما زلت أحتفظ بكثير من نصوص الأغاني غير المكتملة ولا أدري ماذا سيكون مصيرها.

*ما الذي تغير في سويلمي بوجمعة بين الأمس واليوم؟

-يفعل تعاقب سنوات العمر ما يفعله تراكم الصدأ الكثير في الحديد. ثم إن أحوالنا على امتداد الخارطة لا توحي بأننا سنتعافى من همومنا الثقيلة وأوجاعنا القاتلة. تتداعى الأسئلة المرعبة، والصورة تزداد قتامة كل يوم، واللغة أصبحت عاجزة، خارج المعنى، خارج الخدمة.

*ما هي قراءتك للمشهد الشعري اليوم؟

-يبدو أن المشهد مكتظ بالشعراء الشبان القادمين على عجل. شخصياً، لست ضد فكرة الكثرة، فالغربال سيفرز الأجدر بالبقاء مهما كثرت الإصدارات التي يبدو بعضها أنيقاً على مستوى الإخراج شكلاً، ولكن محتواها فيه كثير من الرياء اللغوي والنشاز الإيقاعي، ويشي بفقر مدقع على مستوى الصور الشعرية. وهذا لا يعني مطلقاً أن الساحة خالية من الشعراء الشبان الجيدين. فالرحم التونسية تبقى معطاءة ولاّدة دائماً مهما قست الطبيعة وتوحشت المناخات وعمت المتناقضات. ويبقى المشهد الإبداعي ثرياً نسبياً على قلة الأنشطة الثقافية بسبب انعدامها تقريباً في الفضاءات الجامعية وقلتها في دور الثقافة والهياكل المعنية عموماً. وهنا لابد من الإشارة إلى أن كتاب الرواية هم الذين استأثروا بالريادة هذه الأيام. وهذا يعني أيضاً أن الساحة الإبداعية الوطنية صامدة وتنبض بالحياة.

*برزت ظاهرة نشر الإنتاج الشعري على وسائل التواصل الاجتماعي، ألا يعد ذلك تهديداً جدياً للكتاب الورقي؟

-النشر في هذه الوسائل الحديثة ليس بديلاً عن الكتاب في المطلق. فهذه الوسائل تعد نافذة جديدة للتواصل مع الآخر في كل مكان من الجغرافيا في وقت قياسي وبلا مقابل يذكر. وهذا معلوم، ولكنها لا تفي بالغرض الذي يضمنه الكتاب، الذي يبقى ملكية خاصة له ولأبنائه وأحفاده وقرائه. ومعلوم أن القارئ المولع بالقراءة المتأنية لن تشفى غليله إلا عملية تصفح ورقات الكتاب بالليل والنهار وفي كل الأوقات. لذلك يقصد المكتبات لاقتناء الإصدارات الجديدة ويدفع عن طيب خاطر مهما غلت أثمانها على الرغم من أنه كان يمكن له أن يتبعها ويقتنصها من هذه الوسائل القابلة للانفجار.

*المهرجانات الشعرية المنتشرة في بلادنا بشكل لافت، ضرورة أم ترف من وجهة نظرك؟

-المهرجانات الشعرية ظاهرة قديمة جديدة. بعضها يتسم بالجدية من حيث الإعداد واختيار الضيوف، وبعضها الآخر، وهو الغالب حالياً، يخضع لحسابات ضيقة يعرفها الجميع والتي تتجلى في هوامش المهرجان قبل وبعد الفعاليات. وأعتقد أنه على الشعراء أن يكونوا هم من يحدد قبول المشاركة من عدمها على ضوء المعطيات المتعلقة بالتظاهرة وبالمشاركين فيها في انتظار أن يتخلص بعض المنظمين من عقدة انتقاء المشاركين وفقاً لحسابات ضيقة لا تحقق الإضافات المنشودة لإثراء مضامين هذه الاحتفاليات.

*مثل اتحاد الكتاب التونسيين محطة هامة في مسيرتك وكنت إلى جانب الراحل الميداني بن صالح... اليوم كيف تنظر إلى فترة رئاسته للاتحاد والتي كنت أنت طرفاً فاعلاً فيها؟

-أجل، اتحاد الكتاب مثل محطة هامة في مسيرتي منذ التأسيس، وقد عملت ضمن الهيئات المديرة برئاسة المرحوم الأديب محمد العروسي المطوي بعد عودتي النهائية من فرنسا إلى أرض الوطن. ثم عملت رفقة هيئات أخرى مع المرحوم الشاعر الميداني بن صالح وكانت تجربة مختلفة معه شخصياً كرئيس للاتحاد وكإنسان. ويمكن تلخيصها في التالي:

الرجل كان مسكوناً بالاتحاد إلى درجة افتعل معارك مع أصدقائه أو فرضت عليه بعض المعارك أحياناً مع أقرب الناس إليه شخصياً. وأنا شخصياً دخلت في خلافات معه وهو الذي اعتبرني خامس أبنائه في فترة ما. وهذه الطبيعة الحادة العالية في سلوك الرجل ساهمت في خلق أجواء مشحونة أثرت سلباً على العلاقات داخل الاتحاد وفي محيطه. وكنت رفقة آخرين نحاول بشتى الطرق تلطيف هذه الأجواء المتوترة، وقد أفلحت هذه المحاولات إلى حد كبير في تطويقها ولو نسبياً أحياناً.

ومهما يكن من أمر، فإن الجانب الناصع في هذه التجربة – وهو ما يقره الجميع – هو ثراء المنجز الذي حققته الهيئات المتعاقبة للاتحاد آنذاك على مستوى المركز وأيضاً على مستوى الفروع في الجهات وكذلك على مستوى العلاقات الخارجية. كما أن مجلة "المسار" تطور محتواها إلى حد كبير وانتظم صدورها وكانت مفتوحة لمشاركات جميع الأعضاء وحتى من غير أعضاء الاتحاد. وقد تحقق هذا الرصيد الهام إلى حد كبير بفضل جهود الأستاذ الميداني بن صالح وحرصه اليومي على ديمومة الديناميكية وطنياً وجهوياً وإثرائها بالأفكار والبرامج التي كنت فاعلاً فيها. وأعتز بالرصيد الذي تحقق زمن الأستاذ الميداني بن صالح، رغم الكثير من الأخطاء المشتركة في أحيان كثيرة بين الرجل وبعض الأعضاء.

*ماذا عن علاقتك اليوم بهذا الهيكل الأدبي؟

-علاقة تقدير واحترام مع الجميع. فأنا بعد التقاعد توزعت جغرافياً بين أرجاء تونس المحروسة وخارجها، وكل ما أتمناه أن يتصالح الاتحاد مع أعضائه الذين غادروه وأن يسعى إلى إعادة جسور التواصل معهم ويدعوهم إلى ترميم العلاقات مهما كانت الأسباب، وقد حدث ذلك في الماضي.

*أحيت تونس في أكتوبر الماضي ذكرى رحيل -تسعينية- الشابي. من وجهة نظرك، هل تعتقد أن منجزه الشعري ما زال قادراً على تمثل الحاضر؟

-يظل الشابي شاعراً كبيراً مهما تباينت بشأنه الرؤى واختلفت التقييمات. فقد طبع عصره الذي نحن امتداد له. أثر في أجيال كثيرة بعده ولست أدري لماذا يشكك بعضهم في قيمة الشابي شاعراً وناثراً.

يمكن اعتبار بعض نصوصه لا ترقى إلى قيمة نصوص أخرى، وهذا ما تفطن له فكان أن حذف بعض هذه النصوص من مخطوط ديوانه "إرادة الحياة" لأنه لم يكن مقتنعاً بها، فلماذا نعتمدها ذريعة لطمس قيمة الرجل كما فعل بعضهم مع قامات أخرى في تاريخنا القديم والمعاصر؟ سيبقى الشابي نخلة شامخة في وجداننا دائماً مهما عصفت بها رياح السموم.