في سياق متسارع من التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي، يأتي حديث رئيس الحكومة التونسية، السيد كمال المدّوري، خلال افتتاح الدورة الـ38 لأيّام المؤسّسة، ليُسلّط الضوء على ضرورة التحوّل نحو الاقتصاد القائم على الذات وتطوير القدرات الوطنية من خلال استثمار الموارد الذاتية. وهو حديث يكتسب أهمية خاصة في ظل التحدّيات الكبرى التي تواجهها تونس اليوم، والتغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر. إنّ هذا الخطاب لا يعكس فقط استشرافًا مستقبليًا اقتصاديًا بقدر ما يشكل دعوة إلى إعادة تقييم المنظومة الاقتصادية برمتها وتعميق الوعي بأهمية استقلالية القرار الاقتصادي الوطني.
التحولات الكبرى وتأثيراتها على الاقتصاد الوطني
في عالم اليوم، تعيش الأمم في ظل تحوّلات استراتيجية تؤثر بشكل مباشر على هوياتها الاقتصادية والسياسية. التحولات الجيوسياسية الكبيرة، سواء على مستوى إعادة تشكيل موازين القوى الدولية أو تحولات السوق العالمية، تفرض على الدول أن تتخذ إجراءات إستراتيجية لمواكبة هذه التغيرات. ومع تزايد الترابط بين الأسواق العالمية، تحوّل الاقتصاد العالمي إلى شبكة معقدة من التفاعلات التي يصعب على أيّة دولة التحكم فيها بشكل كامل. لكن، كما يشير العديد من الباحثين في حقل السياسة والاقتصاد، فإن الدول التي تمتلك إستراتيجية مرنة وقادرة على التأقلم مع هذه التحولات يمكنها أن تخلق فرصًا جديدة لنمو اقتصادها.
الباحث الاجتماعي الأمريكي، جوزيف ستيغليتز، في دراساته حول الاقتصاد العالمي، يشير إلى أهمية تبني "النمو القائم على المعرفة" كسبيل للتفوق في عصر العولمة. وهذا ما يتطلب من الدول الاستثمار في قدراتها الذاتية عبر تنمية الابتكار، وتعزيز التعليم، وتحسين بيئة الأعمال المحلية.
الاقتصاد القائم على الاعتماد على الذات: خيار استراتيجي ومسؤول
ما يلفت النظر في خطاب رئيس الحكومة هو تأكيده على "الاقتصاد القائم على الذات" كخيار استراتيجي مسؤول. هذا الخيار لا يمثل مجرد حل ظاهري لمواجهة الأزمات الاقتصادية، بل يشكل رؤية متكاملة تهدف إلى تحويل التحدّيات إلى فرص من خلال دعم وتحفيز الاقتصاد المحلي. في هذا السياق، يبرز ماكس فيبر في كتاباته حول الدولة الاقتصادية، حيث يوضح ضرورة أن تمتلك الدولة "مؤسسات قوية قادرة على أداء وظائفها الاقتصادية والاجتماعية" حتى تحقق تطورًا حقيقيًا في مواجهة الأزمات العالمية. وبذلك، فإنّ تونس بحاجة إلى تعزيز المؤسسات الاقتصادية المحلية التي هي الركيزة الأساسية لبناء اقتصاد مستديم.
إنّ تعزيز قدرة الدولة على الاستثمار في مواردها الذاتية ليس مجرد دعوة لتقليص الاعتماد على الخارج، بل هو دعوة لتأسيس استراتيجيات اقتصادية مبتكرة تمكّن البلاد من اكتساب مرونة اقتصادية أكبر. ويعني ذلك تعزيز الإبداع المحلي، وتطوير المنتجات الوطنية، وتنويع الصناعات بما يتناسب مع التحولات العالمية.
الحديث عن ضرورة تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص يكتسب أهمية بالغة في هذا السياق. إنّ تحسين البيئة الاقتصادية يتطلب أن يعمل القطاعان جنبًا إلى جنب لتحقيق تنمية شاملة تلامس احتياجات كل الفئات الاجتماعية. من خلال الدعم الحكومي الفعّال، يمكن تحفيز القطاعات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل عماد الاقتصاد الوطني في كثير من البلدان، خاصة تلك التي تسعى لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، يشير جان بودريار إلى أن التنسيق بين القطاعين العام والخاص يعكس "الاندماج الديناميكي بين الحكومة والأسواق"، وهو ما يعد أمرًا حيويًا في تحقيق النمو المستديم. لذلك، فإنّ تونس بحاجة إلى تقوية شراكاتها الإستراتيجية مع القطاع الخاص من خلال حوافز اقتصادية وتشريعات مرنة تساهم في جذب الاستثمارات، خاصة في القطاعات الواعدة التي تُعد أساسية لمستقبل الاقتصاد.
إنّ الرقمنة والابتكار في مختلف المجالات الاقتصادية والإدارية تعدّ من العوامل الأساسية التي ستمكّن تونس من تخطي التحديات الاقتصادية التي تواجهها. فكما أشار رئيس الحكومة، تُعتبر الرقمنة والذكاء الاصطناعي من الأدوات القوية التي يمكن أن تعزز من كفاءة الإدارة وتحسن من أداء المؤسسات العامة والخاصة. وفي هذا السياق، فإنّ ميشيل فوكو في مقاربته حول "التنظيم الاجتماعي" يعتقد أن الرقمنة هي أداة فعّالة في تحسين الأداء المؤسساتي وتوسيع آفاق التعاون بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.
من خلال التحول الرقمي، يمكن لتونس أن تطوّر نظامًا إداريًا قادرًا على مواكبة المتغيرات، ويمكن أيضًا لهذه الرقمنة أن تسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة عبر تحسين بيئة الأعمال وزيادة الشفافية وتقليص البيروقراطية.
الاستثمار في الشباب والمناطق الداخلية: طريق جديد للنمو
لا تقتصر التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني على القطاعات الكبرى، بل تشمل أيضًا فئات الشباب والمناطق الداخلية التي تحتاج إلى دعم قوي لضمان تكافؤ الفرص الاقتصادية. إنّ تمكين الشباب في المناطق الداخلية من الحصول على فرص عمل ومبادرات اقتصادية يعدّ شرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية المتوازنة.
كما يشير إيمانويل ووتير في كتابه "العدالة الاجتماعية والتنمية المستديمة"، فإنّ العمل على دعم الفئات المهمشة وتوفير الفرص الاقتصادية لهم يعد أحد الأسس لتحقيق العدالة الاجتماعية التي تؤدي إلى تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
إنّ ما تطرحه الحكومة التونسية من تطوير للقدرات الوطنية والتوجه نحو الاستثمار في الموارد الذاتية يتطلب رؤية إستراتيجية بعيدة المدى. إنّ مواجهة التحديات الاقتصادية لا تكون من خلال حلول قصيرة الأمد، بل من خلال بناء اقتصاد يعتمد على الابتكار والإنتاج المحلي وتوظيف الإمكانيات الذاتية. لذلك، فإنّ ما يشهده العالم اليوم من تحولات إستراتيجية يعكس ضرورة أن تتخذ تونس مسارًا جديدًا يتجاوز التفكير التقليدي في الاقتصاد.
في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي فرضت تحديات جديدة ومعقدة على الاقتصادات العالمية، تجد تونس نفسها في مفترق طرق حاسم. تتجسد هذه التحولات في تزايد المنافسة العالمية، والأزمات الاقتصادية العالمية المتسارعة، والتقلبات المناخية، وظهور تقنيات جديدة في الذكاء الاصطناعي والرقمنة، وهي عوامل تتطلب من تونس تبني سياسات إستراتيجية مرنة قادرة على استيعاب هذه المتغيرات ومواكبتها، بما يعزز من قدرة الاقتصاد التونسي على الصمود والابتكار. إن هذه التحديات لا ينبغي أن تُنظر إليها كمصاعب فقط، بل كفرص حقيقية لتحويل الاقتصاد الوطني نحو مسارات جديدة تعتمد على الابتكار والإنتاج المحلي، وتزيد من تنافسيته على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إن الرؤية الوطنية التي تتبناها الدولة التونسية تحت إشراف رئيس الجمهورية ليست مجرد رد فعل على هذه التحولات، بل هي إستراتيجية شاملة وطموحة تهدف إلى تحويل هذه التحديات إلى فرص. ففي إطار هذه الرؤية، لا تقتصر الدولة التونسية على التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تسعى إلى بناء اقتصاد وطني قوي، مرن، ومستديم يعتمد على أسس علمية، ويستفيد من مواردنا الذاتية ويعزز من قدرتنا على الابتكار والتطوير. هذه الرؤية تعكس الحاجة إلى خطة عمل بعيدة المدى لا تتوقف عند الحلول الظرفية والتدابير المؤقتة، بل تسعى إلى معالجة الأزمات الهيكلية بشكل جذري وتجاوزها إلى نماذج تنموية تواكب متطلبات العصر.
تعزيز بيئة الأعمال وتحفيز الابتكار
يعتبر تحسين بيئة الأعمال وتطوير المؤسسات أحد الأهداف الإستراتيجية التي تضعها تونس في مقدمة أولوياتها خلال المرحلة الحالية. إن إصلاح القطاع الخاص ودعمه، خصوصًا المؤسسات الصغرى والمتوسطة، يمثل حجر الزاوية في تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل. ومن خلال مشروع قانون المالية لسنة 2025، الذي يتضمن تدابير هامة لدعم هذه المؤسسات، مثل تسهيل الإجراءات الإدارية الخاصة بالتراخيص وتوفير الحوافز الضريبية، تسعى تونس إلى تعزيز القدرة التنافسية لهذه المؤسسات على الصعيدين المحلي والدولي.
يتفق العديد من المفكرين الاقتصاديين على أن الابتكار هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون السياسات الاقتصادية في تونس موجهة نحو تحفيز الابتكار من خلال دعم المشاريع الناشئة، تشجيع البحث العلمي، وتسهيل الوصول إلى التمويل. كما أن هذا التحول لا يمكن أن يتم دون تفعيل مبدأ التحول الرقمي في مختلف القطاعات الاقتصادية. فمن خلال الرقمنة يمكننا تحسين الكفاءة الاقتصادية وتقليل التكاليف، وكذلك تمكين القطاع الخاص من الاستفادة من أحدث التقنيات في مجالات التصنيع، الخدمات، والتجارة الإلكترونية. ويمكننا الاستفادة من التجارب الناجحة في دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، حيث أظهرت البيانات أن التحول الرقمي أدى إلى تعزيز الابتكار وزيادة الإنتاجية في قطاعات عديدة.
العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة
ومع السعي إلى تحفيز النمو الاقتصادي، لا يمكن إغفال أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية، التي تعد أحد الأهداف الأساسية لإستراتيجية تونس التنموية. إن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يتوقف فقط على توزيع عوائد النمو بشكل عادل، بل يشمل أيضًا توفير فرص متساوية لجميع المواطنين، في مختلف المناطق، ولا سيما في المناطق الداخلية التي عانت طويلًا من التهميش. لذلك، تأتي أهمية تخصيص ميزانيات ضخمة لتأهيل هذه المناطق من خلال مشاريع تنموية شاملة، تهدف إلى خلق فرص عمل، تحسين البنية التحتية، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية.
في هذا السياق، ينبغي للدولة التونسية أن تركز على استراتيجيات فعّالة لضمان الاندماج الاجتماعي وتنمية المناطق الداخلية. يجب على الدولة أن تتبنى آليات مبتكرة لإشراك المجتمع المحلي في صنع القرار التنموي، ما يسهم في تفعيل دور المجتمعات المحلية في تعزيز التنمية المستديمة.
كما أن تعزيز فرص العمل للشباب، وخاصة في المناطق النائية، يعد من أولوية السياسة الاقتصادية الوطنية. يمكن لذلك أن يتحقق من خلال برامج تدريب مهني متخصصة وتقديم حوافز للمؤسسات الخاصة لاستثمار في هذه المناطق.
إن النمو الاقتصادي المستديم في تونس لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص. إن تحقيق التنمية الحقيقية يعتمد على قدرة المؤسسات الحكومية على خلق بيئة مواتية للاستثمار، في حين يتوجب على القطاع الخاص أن يلعب دورًا محوريًا في دفع عجلة الابتكار والنمو. ومن خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، يمكن للدولة التونسية أن تعزز من مشاريع البنية التحتية الكبرى، كما يمكنها أن تخلق آليات لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ومع ذلك، لا يجب أن يكون التعاون بين القطاعين مجرد شعار، بل يتطلب بناء آليات حوكمة رشيدة وشفافة تضمن التوازن بين المصالح العامة والخاصة، وتمنع أي شكل من أشكال الاحتكار أو التسلط الذي قد يضر بمصالح المواطن التونسي. في هذا الإطار، يتعين على الدولة تعزيز الشفافية والمساءلة، من خلال تنظيم المشهد الاقتصادي وإرساء بيئة قانونية تضمن حقوق جميع الأطراف.
التحول الهيكلي في المؤسسات
من أجل مواجهة تحديات العولمة والتغيرات الاقتصادية السريعة، يجب على تونس أن تسعى إلى تحقيق تحول هيكلي في مؤسساتها الاقتصادية والإدارية. إن تطوير هذه المؤسسات ليصبح أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع التغيرات السريعة يعد أمرًا بالغ الأهمية. وهذا يشمل تحديث القطاعات التقليدية، مثل الزراعة والصناعة، وتعزيز القطاعات الجديدة، مثل التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة، التي تساهم بشكل كبير في تحقيق التنمية المستديمة.
ويجب أن تكون هذه التحولات موجهة أيضًا نحو تعزيز الكفاءات الوطنية في القطاع العام، حيث يظل القطاع الحكومي هو المحرك الأساسي للعديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن إصلاح النظام الإداري والمالي في تونس يمثل ضرورة ملحة. يتطلب هذا الإصلاح تعزيز الكفاءة والشفافية في اتخاذ القرارات الحكومية، وذلك من خلال دمج التكنولوجيا الحديثة وتطوير النظم الرقمية التي تساعد في تسريع الإجراءات وتحسين الخدمات العامة.
إن الرؤية الوطنية التي تتبناها تونس اليوم تعكس ضرورة الانتقال من نموذج اقتصادي يعتمد على القطاعات التقليدية إلى نموذج اقتصاد المعرفة والابتكار. إن هذا التحول يتطلب استثمارًا حقيقيًا في التعليم العالي، البحث العلمي، والتكنولوجيا الرقمية، وذلك لضمان قدرة الشباب التونسي على المنافسة في سوق العمل العالمي. ويتطلب ذلك أيضًا تعزيز التعاون بين الجامعات، مراكز البحث، والمؤسسات الاقتصادية لتطوير حلول مبتكرة تستجيب لتحديات المستقبل.
مقترحات عملية لبناء مستقبل مستديم
1. إصلاح النظام التعليمي: يجب العمل على تحديث المناهج التعليمية لتواكب متطلبات الاقتصاد الرقمي والابتكار، مع التركيز على تنمية مهارات الشباب في مجالات تكنولوجيا المعلومات والبرمجة والذكاء الاصطناعي.
2. تعزيز التمويل للابتكار: ينبغي تشجيع البنوك والمؤسسات المالية على تقديم قروض ميسرة للمشاريع الناشئة، وكذلك دعم إنشاء حاضنات أعمال تديرها الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص.
3. الاستثمار في الطاقة المتجددة: يجب أن تحتل الطاقة المتجددة مكانة مركزية في الإستراتيجية الوطنية لتحقيق تنمية مستديمة، مع الاستفادة من موقع تونس الجغرافي لتطوير مشاريع طاقة شمسية وطاقة الرياح.
إن تونس اليوم أمام فرصة تاريخية للتحول نحو نموذج اقتصادي جديد يعتمد على الابتكار، العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية. ومن خلال تبني هذه الاستراتيجيات الشاملة، يمكن لتونس أن تضع نفسها على طريق النمو المستديم الذي يضمن رفاهية جميع مواطنيها على المدى الطويل.إنّ الاستشراف المستقبلي الذي يتبناه اليوم رئيس الحكومة يمثل دعوة واضحة نحو اقتصاد أكثر استدامة، وأكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية. إنّ خلق بيئة اقتصادية قادرة على تحفيز الابتكار، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتركيز الجهود على الرقمنة والتكنولوجيا، سيمكّن تونس من تحقيق النمو المستديم وبناء اقتصاد يعتمد على الذات ويتواكب مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية.
بقلم الدكتور منذر عافي
باحث في علم الاجتماع
في سياق متسارع من التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي، يأتي حديث رئيس الحكومة التونسية، السيد كمال المدّوري، خلال افتتاح الدورة الـ38 لأيّام المؤسّسة، ليُسلّط الضوء على ضرورة التحوّل نحو الاقتصاد القائم على الذات وتطوير القدرات الوطنية من خلال استثمار الموارد الذاتية. وهو حديث يكتسب أهمية خاصة في ظل التحدّيات الكبرى التي تواجهها تونس اليوم، والتغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر. إنّ هذا الخطاب لا يعكس فقط استشرافًا مستقبليًا اقتصاديًا بقدر ما يشكل دعوة إلى إعادة تقييم المنظومة الاقتصادية برمتها وتعميق الوعي بأهمية استقلالية القرار الاقتصادي الوطني.
التحولات الكبرى وتأثيراتها على الاقتصاد الوطني
في عالم اليوم، تعيش الأمم في ظل تحوّلات استراتيجية تؤثر بشكل مباشر على هوياتها الاقتصادية والسياسية. التحولات الجيوسياسية الكبيرة، سواء على مستوى إعادة تشكيل موازين القوى الدولية أو تحولات السوق العالمية، تفرض على الدول أن تتخذ إجراءات إستراتيجية لمواكبة هذه التغيرات. ومع تزايد الترابط بين الأسواق العالمية، تحوّل الاقتصاد العالمي إلى شبكة معقدة من التفاعلات التي يصعب على أيّة دولة التحكم فيها بشكل كامل. لكن، كما يشير العديد من الباحثين في حقل السياسة والاقتصاد، فإن الدول التي تمتلك إستراتيجية مرنة وقادرة على التأقلم مع هذه التحولات يمكنها أن تخلق فرصًا جديدة لنمو اقتصادها.
الباحث الاجتماعي الأمريكي، جوزيف ستيغليتز، في دراساته حول الاقتصاد العالمي، يشير إلى أهمية تبني "النمو القائم على المعرفة" كسبيل للتفوق في عصر العولمة. وهذا ما يتطلب من الدول الاستثمار في قدراتها الذاتية عبر تنمية الابتكار، وتعزيز التعليم، وتحسين بيئة الأعمال المحلية.
الاقتصاد القائم على الاعتماد على الذات: خيار استراتيجي ومسؤول
ما يلفت النظر في خطاب رئيس الحكومة هو تأكيده على "الاقتصاد القائم على الذات" كخيار استراتيجي مسؤول. هذا الخيار لا يمثل مجرد حل ظاهري لمواجهة الأزمات الاقتصادية، بل يشكل رؤية متكاملة تهدف إلى تحويل التحدّيات إلى فرص من خلال دعم وتحفيز الاقتصاد المحلي. في هذا السياق، يبرز ماكس فيبر في كتاباته حول الدولة الاقتصادية، حيث يوضح ضرورة أن تمتلك الدولة "مؤسسات قوية قادرة على أداء وظائفها الاقتصادية والاجتماعية" حتى تحقق تطورًا حقيقيًا في مواجهة الأزمات العالمية. وبذلك، فإنّ تونس بحاجة إلى تعزيز المؤسسات الاقتصادية المحلية التي هي الركيزة الأساسية لبناء اقتصاد مستديم.
إنّ تعزيز قدرة الدولة على الاستثمار في مواردها الذاتية ليس مجرد دعوة لتقليص الاعتماد على الخارج، بل هو دعوة لتأسيس استراتيجيات اقتصادية مبتكرة تمكّن البلاد من اكتساب مرونة اقتصادية أكبر. ويعني ذلك تعزيز الإبداع المحلي، وتطوير المنتجات الوطنية، وتنويع الصناعات بما يتناسب مع التحولات العالمية.
الحديث عن ضرورة تعزيز التكامل بين القطاعين العام والخاص يكتسب أهمية بالغة في هذا السياق. إنّ تحسين البيئة الاقتصادية يتطلب أن يعمل القطاعان جنبًا إلى جنب لتحقيق تنمية شاملة تلامس احتياجات كل الفئات الاجتماعية. من خلال الدعم الحكومي الفعّال، يمكن تحفيز القطاعات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل عماد الاقتصاد الوطني في كثير من البلدان، خاصة تلك التي تسعى لتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، يشير جان بودريار إلى أن التنسيق بين القطاعين العام والخاص يعكس "الاندماج الديناميكي بين الحكومة والأسواق"، وهو ما يعد أمرًا حيويًا في تحقيق النمو المستديم. لذلك، فإنّ تونس بحاجة إلى تقوية شراكاتها الإستراتيجية مع القطاع الخاص من خلال حوافز اقتصادية وتشريعات مرنة تساهم في جذب الاستثمارات، خاصة في القطاعات الواعدة التي تُعد أساسية لمستقبل الاقتصاد.
إنّ الرقمنة والابتكار في مختلف المجالات الاقتصادية والإدارية تعدّ من العوامل الأساسية التي ستمكّن تونس من تخطي التحديات الاقتصادية التي تواجهها. فكما أشار رئيس الحكومة، تُعتبر الرقمنة والذكاء الاصطناعي من الأدوات القوية التي يمكن أن تعزز من كفاءة الإدارة وتحسن من أداء المؤسسات العامة والخاصة. وفي هذا السياق، فإنّ ميشيل فوكو في مقاربته حول "التنظيم الاجتماعي" يعتقد أن الرقمنة هي أداة فعّالة في تحسين الأداء المؤسساتي وتوسيع آفاق التعاون بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.
من خلال التحول الرقمي، يمكن لتونس أن تطوّر نظامًا إداريًا قادرًا على مواكبة المتغيرات، ويمكن أيضًا لهذه الرقمنة أن تسهم في خلق فرص اقتصادية جديدة عبر تحسين بيئة الأعمال وزيادة الشفافية وتقليص البيروقراطية.
الاستثمار في الشباب والمناطق الداخلية: طريق جديد للنمو
لا تقتصر التحديات التي تواجه الاقتصاد الوطني على القطاعات الكبرى، بل تشمل أيضًا فئات الشباب والمناطق الداخلية التي تحتاج إلى دعم قوي لضمان تكافؤ الفرص الاقتصادية. إنّ تمكين الشباب في المناطق الداخلية من الحصول على فرص عمل ومبادرات اقتصادية يعدّ شرطًا أساسيًا لتحقيق التنمية المتوازنة.
كما يشير إيمانويل ووتير في كتابه "العدالة الاجتماعية والتنمية المستديمة"، فإنّ العمل على دعم الفئات المهمشة وتوفير الفرص الاقتصادية لهم يعد أحد الأسس لتحقيق العدالة الاجتماعية التي تؤدي إلى تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد.
إنّ ما تطرحه الحكومة التونسية من تطوير للقدرات الوطنية والتوجه نحو الاستثمار في الموارد الذاتية يتطلب رؤية إستراتيجية بعيدة المدى. إنّ مواجهة التحديات الاقتصادية لا تكون من خلال حلول قصيرة الأمد، بل من خلال بناء اقتصاد يعتمد على الابتكار والإنتاج المحلي وتوظيف الإمكانيات الذاتية. لذلك، فإنّ ما يشهده العالم اليوم من تحولات إستراتيجية يعكس ضرورة أن تتخذ تونس مسارًا جديدًا يتجاوز التفكير التقليدي في الاقتصاد.
في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي فرضت تحديات جديدة ومعقدة على الاقتصادات العالمية، تجد تونس نفسها في مفترق طرق حاسم. تتجسد هذه التحولات في تزايد المنافسة العالمية، والأزمات الاقتصادية العالمية المتسارعة، والتقلبات المناخية، وظهور تقنيات جديدة في الذكاء الاصطناعي والرقمنة، وهي عوامل تتطلب من تونس تبني سياسات إستراتيجية مرنة قادرة على استيعاب هذه المتغيرات ومواكبتها، بما يعزز من قدرة الاقتصاد التونسي على الصمود والابتكار. إن هذه التحديات لا ينبغي أن تُنظر إليها كمصاعب فقط، بل كفرص حقيقية لتحويل الاقتصاد الوطني نحو مسارات جديدة تعتمد على الابتكار والإنتاج المحلي، وتزيد من تنافسيته على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إن الرؤية الوطنية التي تتبناها الدولة التونسية تحت إشراف رئيس الجمهورية ليست مجرد رد فعل على هذه التحولات، بل هي إستراتيجية شاملة وطموحة تهدف إلى تحويل هذه التحديات إلى فرص. ففي إطار هذه الرؤية، لا تقتصر الدولة التونسية على التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل تسعى إلى بناء اقتصاد وطني قوي، مرن، ومستديم يعتمد على أسس علمية، ويستفيد من مواردنا الذاتية ويعزز من قدرتنا على الابتكار والتطوير. هذه الرؤية تعكس الحاجة إلى خطة عمل بعيدة المدى لا تتوقف عند الحلول الظرفية والتدابير المؤقتة، بل تسعى إلى معالجة الأزمات الهيكلية بشكل جذري وتجاوزها إلى نماذج تنموية تواكب متطلبات العصر.
تعزيز بيئة الأعمال وتحفيز الابتكار
يعتبر تحسين بيئة الأعمال وتطوير المؤسسات أحد الأهداف الإستراتيجية التي تضعها تونس في مقدمة أولوياتها خلال المرحلة الحالية. إن إصلاح القطاع الخاص ودعمه، خصوصًا المؤسسات الصغرى والمتوسطة، يمثل حجر الزاوية في تحفيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل. ومن خلال مشروع قانون المالية لسنة 2025، الذي يتضمن تدابير هامة لدعم هذه المؤسسات، مثل تسهيل الإجراءات الإدارية الخاصة بالتراخيص وتوفير الحوافز الضريبية، تسعى تونس إلى تعزيز القدرة التنافسية لهذه المؤسسات على الصعيدين المحلي والدولي.
يتفق العديد من المفكرين الاقتصاديين على أن الابتكار هو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون السياسات الاقتصادية في تونس موجهة نحو تحفيز الابتكار من خلال دعم المشاريع الناشئة، تشجيع البحث العلمي، وتسهيل الوصول إلى التمويل. كما أن هذا التحول لا يمكن أن يتم دون تفعيل مبدأ التحول الرقمي في مختلف القطاعات الاقتصادية. فمن خلال الرقمنة يمكننا تحسين الكفاءة الاقتصادية وتقليل التكاليف، وكذلك تمكين القطاع الخاص من الاستفادة من أحدث التقنيات في مجالات التصنيع، الخدمات، والتجارة الإلكترونية. ويمكننا الاستفادة من التجارب الناجحة في دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية، حيث أظهرت البيانات أن التحول الرقمي أدى إلى تعزيز الابتكار وزيادة الإنتاجية في قطاعات عديدة.
العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة
ومع السعي إلى تحفيز النمو الاقتصادي، لا يمكن إغفال أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية، التي تعد أحد الأهداف الأساسية لإستراتيجية تونس التنموية. إن تحقيق العدالة الاجتماعية لا يتوقف فقط على توزيع عوائد النمو بشكل عادل، بل يشمل أيضًا توفير فرص متساوية لجميع المواطنين، في مختلف المناطق، ولا سيما في المناطق الداخلية التي عانت طويلًا من التهميش. لذلك، تأتي أهمية تخصيص ميزانيات ضخمة لتأهيل هذه المناطق من خلال مشاريع تنموية شاملة، تهدف إلى خلق فرص عمل، تحسين البنية التحتية، وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية.
في هذا السياق، ينبغي للدولة التونسية أن تركز على استراتيجيات فعّالة لضمان الاندماج الاجتماعي وتنمية المناطق الداخلية. يجب على الدولة أن تتبنى آليات مبتكرة لإشراك المجتمع المحلي في صنع القرار التنموي، ما يسهم في تفعيل دور المجتمعات المحلية في تعزيز التنمية المستديمة.
كما أن تعزيز فرص العمل للشباب، وخاصة في المناطق النائية، يعد من أولوية السياسة الاقتصادية الوطنية. يمكن لذلك أن يتحقق من خلال برامج تدريب مهني متخصصة وتقديم حوافز للمؤسسات الخاصة لاستثمار في هذه المناطق.
إن النمو الاقتصادي المستديم في تونس لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن التعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص. إن تحقيق التنمية الحقيقية يعتمد على قدرة المؤسسات الحكومية على خلق بيئة مواتية للاستثمار، في حين يتوجب على القطاع الخاص أن يلعب دورًا محوريًا في دفع عجلة الابتكار والنمو. ومن خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، يمكن للدولة التونسية أن تعزز من مشاريع البنية التحتية الكبرى، كما يمكنها أن تخلق آليات لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ومع ذلك، لا يجب أن يكون التعاون بين القطاعين مجرد شعار، بل يتطلب بناء آليات حوكمة رشيدة وشفافة تضمن التوازن بين المصالح العامة والخاصة، وتمنع أي شكل من أشكال الاحتكار أو التسلط الذي قد يضر بمصالح المواطن التونسي. في هذا الإطار، يتعين على الدولة تعزيز الشفافية والمساءلة، من خلال تنظيم المشهد الاقتصادي وإرساء بيئة قانونية تضمن حقوق جميع الأطراف.
التحول الهيكلي في المؤسسات
من أجل مواجهة تحديات العولمة والتغيرات الاقتصادية السريعة، يجب على تونس أن تسعى إلى تحقيق تحول هيكلي في مؤسساتها الاقتصادية والإدارية. إن تطوير هذه المؤسسات ليصبح أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع التغيرات السريعة يعد أمرًا بالغ الأهمية. وهذا يشمل تحديث القطاعات التقليدية، مثل الزراعة والصناعة، وتعزيز القطاعات الجديدة، مثل التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة، التي تساهم بشكل كبير في تحقيق التنمية المستديمة.
ويجب أن تكون هذه التحولات موجهة أيضًا نحو تعزيز الكفاءات الوطنية في القطاع العام، حيث يظل القطاع الحكومي هو المحرك الأساسي للعديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن إصلاح النظام الإداري والمالي في تونس يمثل ضرورة ملحة. يتطلب هذا الإصلاح تعزيز الكفاءة والشفافية في اتخاذ القرارات الحكومية، وذلك من خلال دمج التكنولوجيا الحديثة وتطوير النظم الرقمية التي تساعد في تسريع الإجراءات وتحسين الخدمات العامة.
إن الرؤية الوطنية التي تتبناها تونس اليوم تعكس ضرورة الانتقال من نموذج اقتصادي يعتمد على القطاعات التقليدية إلى نموذج اقتصاد المعرفة والابتكار. إن هذا التحول يتطلب استثمارًا حقيقيًا في التعليم العالي، البحث العلمي، والتكنولوجيا الرقمية، وذلك لضمان قدرة الشباب التونسي على المنافسة في سوق العمل العالمي. ويتطلب ذلك أيضًا تعزيز التعاون بين الجامعات، مراكز البحث، والمؤسسات الاقتصادية لتطوير حلول مبتكرة تستجيب لتحديات المستقبل.
مقترحات عملية لبناء مستقبل مستديم
1. إصلاح النظام التعليمي: يجب العمل على تحديث المناهج التعليمية لتواكب متطلبات الاقتصاد الرقمي والابتكار، مع التركيز على تنمية مهارات الشباب في مجالات تكنولوجيا المعلومات والبرمجة والذكاء الاصطناعي.
2. تعزيز التمويل للابتكار: ينبغي تشجيع البنوك والمؤسسات المالية على تقديم قروض ميسرة للمشاريع الناشئة، وكذلك دعم إنشاء حاضنات أعمال تديرها الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص.
3. الاستثمار في الطاقة المتجددة: يجب أن تحتل الطاقة المتجددة مكانة مركزية في الإستراتيجية الوطنية لتحقيق تنمية مستديمة، مع الاستفادة من موقع تونس الجغرافي لتطوير مشاريع طاقة شمسية وطاقة الرياح.
إن تونس اليوم أمام فرصة تاريخية للتحول نحو نموذج اقتصادي جديد يعتمد على الابتكار، العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية. ومن خلال تبني هذه الاستراتيجيات الشاملة، يمكن لتونس أن تضع نفسها على طريق النمو المستديم الذي يضمن رفاهية جميع مواطنيها على المدى الطويل.إنّ الاستشراف المستقبلي الذي يتبناه اليوم رئيس الحكومة يمثل دعوة واضحة نحو اقتصاد أكثر استدامة، وأكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية. إنّ خلق بيئة اقتصادية قادرة على تحفيز الابتكار، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتركيز الجهود على الرقمنة والتكنولوجيا، سيمكّن تونس من تحقيق النمو المستديم وبناء اقتصاد يعتمد على الذات ويتواكب مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية.