إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قراءة في كتاب "الثورة التونسية"

بقلم: رشيد خشانة*

أصدر المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" كتابًا جديدًا لرئيسه الدكتور محمود بن رمضان، بعنوان "الثورة التونسية"، مع العنوان الفرعي التالي: "تونس من 1574 إلى 2023". وتم تقديم الكتاب في شكل محاضرة ألقاها المؤلف في مقر بيت الحكمة يوم 15 نوفمبر الجاري. يتضمن الكتاب قراءة للمسار التاريخي للثورة التونسية، باعتبارها أولى الثورات الديمقراطية و"آخرها حتى الآن"، بحسب المؤلف.

في هذا السياق، تعرض الكاتب لسيطرة الأتراك العثمانيين في عام 1574 على تونس، التي حولوها إلى ولاية عثمانية، مرورا بالحفصيين والمراديين والحسينيين، وختمها بالصراع في صلب الحركة الوطنية المنقسمة بين بورقيبيين ويوسفيين، وصولًا إلى دولة الاستقلال.

ملاحظات منهجية

قبل الخوض في مضامين الكتاب، لا بد من إبداء الملاحظات المنهجية التالية:

أولًا، هل يجوز للباحث، حين يكون مسؤولًا إداريًا، أن يستخدم الإمكانات اللوجستية والبشرية للمؤسسة التي يُديرها لإصدار منشوراته، مع أنها تعكس وجهة نظره الشخصية، ولا يشاطرها بالضرورة أعضاء المجمع؟

ثانيًا، تمنيت لو أن المحاضرة والكتاب وردا باللغة العربية، بحكم أن جميع الذين تابعوا المحاضرة هم من التونسيين (قيل لنا إن الكتاب قيد الترجمة إلى العربية). وليس ذلك بعسير على المؤلف، وهو الضليع بالفرنسية والعربية والإنقليزية.

ثالثًا، تناول الكاتب المسارات الكبرى التي عرفتها تونس من خلال ثلاث حقب، تحوّل التونسي بعدها من مجتمع تقليدي أبوي إلى عالم الأفراد الأحرار، المندمجين في دولة/أمة. واعتبر المؤلف أن الثورة هي تجسيد مرحلي لبناء المؤسسات، وقد استعان في هذا الصدد بكتب المؤرخين التونسيين الذين درسوا فترة العصر الوسيط، بداية من العهد العثماني، إلى دولة الاستقلال.

ثلاثة كتب

غير أن توزيع الكتاب بهذا الشكل جاء غير متوازن، فالأبواب الثلاثة تشكل في الحقيقة ثلاثة كتب، أهمها بالطبع الكتاب الثالث. من هذه الزاوية، لا أعتقد أننا بحاجة اليوم إلى إلقاء مزيد من الأضواء على فترة الدايات أو البايات، أو ما قبلهما، لفهم الدوافع التي أطلقت شرارة الثورة في أواخر 2010. ولدينا طيف واسع من الكتب والأطروحات الجامعية التي أشبعت الحقبتين المذكورتين دراسة، أسوة بالأساتذة عبد الحميد هنية وعبد الجليل التميمي ومحمد الهادي الشريف وأحمد عبد السلام ومحمد البشروش وجان غانياج وبيس سلامة وغيرهم.

ربما كان من الأجدى الاستنارة أكثر بما كُتب عن الدولة الحفصية بالذات، لأن تلك الفترة كانت مرحلة استقرار نسبي على مدى حوالي قرن من الزمان، مما ساهم في إرساء نواة الإدارة، ومن ثم بناء أسس الدولة التونسية الحديثة.

رابعًا: القول بأن الثورة الديمقراطية في تونس كانت الأولى في العالم العربي غير دقيق، إذ أن السودانيين هم الذين أشعلوا أول ثورة شعبية في عام 1964، وأطاحوا فيها بالفريق إبراهيم عبود (1958-1964) وحكمه الاستبدادي.

أول جمهورية

وقبل ذلك، أسس الليبيون في مدينة مسلاتة أول جمهورية ديمقراطية في العالم العربي، سنة 1918، وهي "الجمهورية الطرابلسية"، التي استمر وجودها ثلاث سنوات قبل أن يدمرها الاستعمار الإيطالي.

بعد هذه الملاحظات، يحسن بنا العودة إلى مضامين الكتاب، لنُسجل أن إرهاصات الثورة ومقدماتها لم تنل ما يكفي من التحليل، إذ غلبت عليها الرؤية الاقتصادية، أو على الأصح الاقتصادوية. وهكذا غفل الكاتب عن التعمق في دراسة حركات وظواهر سياسية واجتماعية ذات وزن، على غرار تآكل سلطة الحزب الحاكم، وظهور تيار الاشتراكيين الديمقراطيين واليسار الجديد والحركة الحقوقية والثقافية والنقابية، وجميعها ساهمت، بدرجات متفاوتة، ومن مواقع مختلفة، في صنع الثورة.

إخفاق سياسي

في المقابل، قدم لنا المؤلف حصادًا إيجابيًا لحقبة الستينات، بالرغم من الفشل الذي مُنيت به "تجربة التعاضد"، بعدما سعى أقطابها إلى نوع من التنمية المتحكم فيها من الدولة (الاشتراكية الدستورية)، في ظل نظام الحزب الواحد. ويحتاج هذا الأمر إلى تدقيق، إذ أقيمت فعلاً مؤسسات كبرى، منها مصفاة بنزرت ومصنع عجين الحلفاء بالقصرين ومصنع الحديد والصلب بمنزل بورقيبة. لكن المسار السياسي عرف، على العكس، انحرافات منها عبادة الفرد وتسمية الحبيب بورقيبة رئيسًا مدى الحياة، وعدم اقتناص أزمة 1970 لوضع البلاد على سكة الديمقراطية، بما تعنيه من تداول على الحكم وتعددية سياسية.

أما القسم الاقتصادي من الكتاب، فتضمن معلومات مهمة ودقيقة عن تعطل الاقتصاد الوطني ومُكبلاته، مدعومة بإحصاءات رسمية لا يمكن التهوين منها.

ويجوز القول إجمالًا إن التركيز على المسارات التاريخية التي مرت بها تونس، على مدى قرون، منذ القرطاجيين، ليس أقصر الطرق لفهم دوافع الثورة وسياقاتها ومآلاتها، بل كان من الأجدى اختصار الباب الأول والتركيز على الباب الثالث: "تونس في عهد الثورة". وفي الختام، لا يفوتني التنويه بالفهرس الشامل الذي تضمنه الكتاب، والذي سيكون خير عون للباحثين.

(*)إعلامي وباحث

قراءة في كتاب "الثورة التونسية"

بقلم: رشيد خشانة*

أصدر المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" كتابًا جديدًا لرئيسه الدكتور محمود بن رمضان، بعنوان "الثورة التونسية"، مع العنوان الفرعي التالي: "تونس من 1574 إلى 2023". وتم تقديم الكتاب في شكل محاضرة ألقاها المؤلف في مقر بيت الحكمة يوم 15 نوفمبر الجاري. يتضمن الكتاب قراءة للمسار التاريخي للثورة التونسية، باعتبارها أولى الثورات الديمقراطية و"آخرها حتى الآن"، بحسب المؤلف.

في هذا السياق، تعرض الكاتب لسيطرة الأتراك العثمانيين في عام 1574 على تونس، التي حولوها إلى ولاية عثمانية، مرورا بالحفصيين والمراديين والحسينيين، وختمها بالصراع في صلب الحركة الوطنية المنقسمة بين بورقيبيين ويوسفيين، وصولًا إلى دولة الاستقلال.

ملاحظات منهجية

قبل الخوض في مضامين الكتاب، لا بد من إبداء الملاحظات المنهجية التالية:

أولًا، هل يجوز للباحث، حين يكون مسؤولًا إداريًا، أن يستخدم الإمكانات اللوجستية والبشرية للمؤسسة التي يُديرها لإصدار منشوراته، مع أنها تعكس وجهة نظره الشخصية، ولا يشاطرها بالضرورة أعضاء المجمع؟

ثانيًا، تمنيت لو أن المحاضرة والكتاب وردا باللغة العربية، بحكم أن جميع الذين تابعوا المحاضرة هم من التونسيين (قيل لنا إن الكتاب قيد الترجمة إلى العربية). وليس ذلك بعسير على المؤلف، وهو الضليع بالفرنسية والعربية والإنقليزية.

ثالثًا، تناول الكاتب المسارات الكبرى التي عرفتها تونس من خلال ثلاث حقب، تحوّل التونسي بعدها من مجتمع تقليدي أبوي إلى عالم الأفراد الأحرار، المندمجين في دولة/أمة. واعتبر المؤلف أن الثورة هي تجسيد مرحلي لبناء المؤسسات، وقد استعان في هذا الصدد بكتب المؤرخين التونسيين الذين درسوا فترة العصر الوسيط، بداية من العهد العثماني، إلى دولة الاستقلال.

ثلاثة كتب

غير أن توزيع الكتاب بهذا الشكل جاء غير متوازن، فالأبواب الثلاثة تشكل في الحقيقة ثلاثة كتب، أهمها بالطبع الكتاب الثالث. من هذه الزاوية، لا أعتقد أننا بحاجة اليوم إلى إلقاء مزيد من الأضواء على فترة الدايات أو البايات، أو ما قبلهما، لفهم الدوافع التي أطلقت شرارة الثورة في أواخر 2010. ولدينا طيف واسع من الكتب والأطروحات الجامعية التي أشبعت الحقبتين المذكورتين دراسة، أسوة بالأساتذة عبد الحميد هنية وعبد الجليل التميمي ومحمد الهادي الشريف وأحمد عبد السلام ومحمد البشروش وجان غانياج وبيس سلامة وغيرهم.

ربما كان من الأجدى الاستنارة أكثر بما كُتب عن الدولة الحفصية بالذات، لأن تلك الفترة كانت مرحلة استقرار نسبي على مدى حوالي قرن من الزمان، مما ساهم في إرساء نواة الإدارة، ومن ثم بناء أسس الدولة التونسية الحديثة.

رابعًا: القول بأن الثورة الديمقراطية في تونس كانت الأولى في العالم العربي غير دقيق، إذ أن السودانيين هم الذين أشعلوا أول ثورة شعبية في عام 1964، وأطاحوا فيها بالفريق إبراهيم عبود (1958-1964) وحكمه الاستبدادي.

أول جمهورية

وقبل ذلك، أسس الليبيون في مدينة مسلاتة أول جمهورية ديمقراطية في العالم العربي، سنة 1918، وهي "الجمهورية الطرابلسية"، التي استمر وجودها ثلاث سنوات قبل أن يدمرها الاستعمار الإيطالي.

بعد هذه الملاحظات، يحسن بنا العودة إلى مضامين الكتاب، لنُسجل أن إرهاصات الثورة ومقدماتها لم تنل ما يكفي من التحليل، إذ غلبت عليها الرؤية الاقتصادية، أو على الأصح الاقتصادوية. وهكذا غفل الكاتب عن التعمق في دراسة حركات وظواهر سياسية واجتماعية ذات وزن، على غرار تآكل سلطة الحزب الحاكم، وظهور تيار الاشتراكيين الديمقراطيين واليسار الجديد والحركة الحقوقية والثقافية والنقابية، وجميعها ساهمت، بدرجات متفاوتة، ومن مواقع مختلفة، في صنع الثورة.

إخفاق سياسي

في المقابل، قدم لنا المؤلف حصادًا إيجابيًا لحقبة الستينات، بالرغم من الفشل الذي مُنيت به "تجربة التعاضد"، بعدما سعى أقطابها إلى نوع من التنمية المتحكم فيها من الدولة (الاشتراكية الدستورية)، في ظل نظام الحزب الواحد. ويحتاج هذا الأمر إلى تدقيق، إذ أقيمت فعلاً مؤسسات كبرى، منها مصفاة بنزرت ومصنع عجين الحلفاء بالقصرين ومصنع الحديد والصلب بمنزل بورقيبة. لكن المسار السياسي عرف، على العكس، انحرافات منها عبادة الفرد وتسمية الحبيب بورقيبة رئيسًا مدى الحياة، وعدم اقتناص أزمة 1970 لوضع البلاد على سكة الديمقراطية، بما تعنيه من تداول على الحكم وتعددية سياسية.

أما القسم الاقتصادي من الكتاب، فتضمن معلومات مهمة ودقيقة عن تعطل الاقتصاد الوطني ومُكبلاته، مدعومة بإحصاءات رسمية لا يمكن التهوين منها.

ويجوز القول إجمالًا إن التركيز على المسارات التاريخية التي مرت بها تونس، على مدى قرون، منذ القرطاجيين، ليس أقصر الطرق لفهم دوافع الثورة وسياقاتها ومآلاتها، بل كان من الأجدى اختصار الباب الأول والتركيز على الباب الثالث: "تونس في عهد الثورة". وفي الختام، لا يفوتني التنويه بالفهرس الشامل الذي تضمنه الكتاب، والذي سيكون خير عون للباحثين.

(*)إعلامي وباحث