إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعرة الفلسطينية هند جودة لـ"الصباح": لم ينتهِ الشعر الفلسطيني بعد محمود درويش.. ولم يتوقف عن التطور والنضوج

 

-الشعر هو طريقتي في إعلان الأمل المتجسد في حبي لبلادي في كلماتي ويومياتي ونصوصي وأغنياتي...

-الحرب تكتبنا على هيئة ضحايا، حتى وإن بدونا عنيدين جداً ويصعب كسرنا!

-يقيننا راسخ أنه لا ولن تكون هناك راحة للمحتل فوق حياتنا، ولا حتى فوق جثثنا!

-رغم قسوة الموت، ما زال كثير من الناس يرفضون تكرار تجربة الاستسلام للرحيل.

-زرت تونس سنة 2015 وأحببتها... فرائحتها تشبه رائحة غزة.

حوار محسن بن أحمد

رفعت الشاعرة هند جودة، التي شدت الانتباه بنصوصها الشعرية التي ولدت تحت القصف لتكون شاهداً على فضاعة الجريمة الصهيونية في حق شعب يتوق للحرية والعيش في ظل وطن ينعم بالعيش الكريم، قلمها، بكل شموخ واعتزاز وإيمان بنبل وقضية شعبها الذي يتوق إلى الحرية والعزة. فالكتابة هي فعل للنجاة اللحظية أو التخفف من ثقل الأحداث، وربما الهروب من جحيم مفروض على شعب اختار الدفاع عن حرمة ترابه، يحدوه الأمل لمعانقة الشمس.

تحدثت هند جودة -من قلب غزة الصامدة- لـ"الصباح" عن الشعر والحرب، وهي التي تحمل أجمل الذكريات عن تونس بعد زيارتها لها في 2015، وهذه الحصيلة.

*كيف نشأت علاقتك مع القصيدة؟ وما هي أبرز خصوصياتها؟

-يولد الشعر في القلب أولاً، تجده في نفسك بالولادة، تتأمل به ذاتك وتكتشفها، كائناً بحواسّ فاعلةٍ متأثرةٍ، ثم تنطلق بها لتجرب الحياة!

تبدأ في اكتشاف الكلام فتحكيه، تتعلم القراءة والكتابة، تقع في حب الكتب، فتأخذك من يدك إلى عوالمها، وتبني داخلك مملكة الكلام ومستودعات اللغة، تنبت اللغة في الروح، تطرح ثمارها التي تسقى بماء الحياة العجيب وظروفها التي تعني تجربتك الخاصة، والتي لا تشبه أي تجربة أخرى!

لقد أحببت الشعر ورعيت ميلاده في روحي على طفولتي وطفولته! أعجبني كيف يكبر معي وتتمدد فروعه خارج جسدي فأزداد به ويزيد فيّ دون نقصان، أحببت كيف تتدلّى ثماره بين الناس فيقطفونها ويتلذذون بمذاقتها التي على شكل قصائد وأغنيات ومسرح أو حتى قطع نثرية ونصوص ويوميات!

عرفت أنه نادر وشهي فحرصت على الاعتناء به وصار صفتي ومعرفي بين الناس!

أكتب الشعر كوعود حب للحياة، وحين تصادفني الحرب وكثيراً ما فعلت وتفعل، أكتبها أيضاً، وقد خبرتها وعرفت أنها لا تنتهي في حياة الفلسطيني بكل ما تخلفه وتصنعه من فجائع وويلات، إن الحرب تكتبنا أيضاً على هيئة ضحايا، حتى وإن بدونا عنيدين جداً ويصعب كسرنا!

وصدقني أنه ليس هناك أصعب على نفسي من الكتابة عن بلادي المسروقة وعن أمهات بلادي اللواتي فقدن ويفقدن الأبناء والإخوة والآباء والأزواج والبيوت وكل ما يعني لهن الحياة العادية منذ أكثر من سبعين عاماً وحتى اليوم!

*التاريخ والذاكرة في حياة الإنسان إلى أين تأخذ الشاعرة هند جودة؟

-لم يسمح لنا الاحتلال بنسيان حياتنا القديمة! حياة أجدادنا خصوصاً، لقد أعاد إحياء ماضينا المؤلم وزاد عليه بما طوره من أدوات القتل والقمع والطرد وقوة الحديد وبشاعة الكراهية والطمع البشري والغرور والغطرسة، وليس أخيرا الوحشية غير المبررة ضد كل ما هو فلسطيني قديماً وحديثاً. الآن، حتى وأنا أكتب لك ما أكتب، تصل صرخات النساء والأطفال ونحيب الرجال على أطفالهم وآبائهم إلى سمعي. يكفيك أن تفتح نشرة الأخبار، وسيقفز كل شيء عن حكايتنا ليؤذي سمعك وبصرك، وبالطبع روحك!

وكما ورثنا حياتنا تحت الاحتلال وفي عشوائية المخيمات والفقر ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين والحياة البائسة، المستلبة، ورثنا طرائق الأجداد وأصالتهم في التعامل مع الحياة البدائية وإدارة الموارد. وصدق أو لا تصدق، هذا ما يجعل أهل غزة الآن قادرين على احتمال ما لا يحتمل من فقد لكل ما يمت إلى الحضارة البشرية.

لقد صعّب الاحتلال الإسرائيلي حياة الغزاويين لدرجة لا يمكن أن تتصورها ولا يمكن أن تكفي سطور قليلة لوصفها أبداً. لقد ورثنا من أجدادنا المأساة وأساليب النجاة معاً، إنه شيء ورثناه في الجينات وقد طورناه بسبب قسوة الحياة. ولكن، وعلى الرغم من كل محاولاتنا للنجاة، ما زالت حرب الإبادة والتطهير العرقي والرغبة في محونا وطردنا تضعنا في حالة حرجة. فنحن نعيش هذه المقتلة والتشريد والتجويع والنزوح والتهجير القسري، أو نموت تدريجياً بسبب ذلك كله!

*يقول الكاتب الروسي "دستويفسكي" إن "نعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة". هل الأمل اليوم، وفي ظل ما نعيشه، قادر على مواجهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا؟

-إنها مقولة صادقة ونحن نتمسك بالأمل في الخلاص من الحرب والاحتلال، ونتطلع إلى الحياة التي هي هبة من الله نقدّرها وإن كانت حياتنا منقوصة. فذلك ابتلاء خبرناه وطالما أننا أحياء، نستطيع تطويع التحديات والتعامل معها، ولكن ليس الرضا أو القبول المطلق بها، لأنها حياة مشوهة وغير صحية للنفس أن تكون تحت احتلال يضطهدك وينغص عليك مسعاك وحريتك في كل مناحي الحياة التي خلقت حراً لتحياها كما تختار!

وهذا من المفقودات أو في وصف أكثر واقعية من الصعوبات التي تكلف الفلسطيني الكثير ليجد فرصة للعيش الطبيعي في بلاد بعيدة إذا اختار البحث عن فرص للعمل أو التعليم خارج فلسطين، مثلاً!

في حالتي كان الشعر هو طريقتي في إعلان الأمل المتجسد في حبي لبلادي في كلماتي ويومياتي ونصوصي وحتى أغنيات كتبتها وسأكتبها طالما بقيت على قيد الحياة والكتابة، وستبقى شاهدة عليّ حتى بعد رحيلي! والكلمات التي أكتبها أريد لها أن تكون معبرة عن آلام الضحايا دون أن تفقدهم الأمل وأن تفضح المجرم بشدة، ما تؤثر قسوته وتعدّيه على المشاعر الإنسانية لتجرحها وتترك فيها أثراً بالغاً من الأسى والصدمة!

لقد عاش أهل فلسطين لا كما يستحقون ولا كما يريدون، ولكنهم فعلوا كل ما هو فوق طاقة تحملهم من أجل أن يتمسكوا بحقهم في بلادهم التي نهشها الاحتلال قديماً وما زال يضيّق عليهم معاشهم فيها بداية بالاستحواذ والقضم والتهويد، وصولاً إلى قتلهم بآلة حروبه الوحشية وبلا رحمة!

*ماذا يمكن أن يفعل الأدب الفلسطيني أمام المجزرة؟

-يبكي، يثور غضباً وحزناً، يزغرد مع أمهات الشهداء اللواتي لا يردن إسعاد العدو بحرقتهن وانكسار عمدان قلوبهنّ، يمسح دمعهنّ بعدما يهدأ الزحام ولا يجدن بيتاً يعدنّ إليه! ينوح أيضاً، تؤلمه الفاجعة، يحتضن الأطفال المرتعشين، ويختبئ في نظراتهم المذهولة، يصرخ مع الفاقدين، يصرخ على المفقودين، يجرب أن يمسح دموع الناس فيجد نفسه غاصاً بالدمع قبلهم، يجرب أن يصف صوت القذائف، فيرتجف رعباً ويصيبه الخرس أياماً وأسابيع، يتشظّى ويعيد لملمة أشلاءه، يصلّي بحروفه ولوعته على الشهداء، قبل أن يندفن معهم، ثمّ يعود ليجرّ الحروف جرّاً من تحت الأضرحة والأنقاض والكتب الممزقة والمحابر المطحونة، يفقد الأوراق فيلجأ للهاتف، تعزّ الكهرباء فيقتصد كي يتمكن من البكاء كما الصهيل مع شباب البلاد الضاغطين على الجراح والمتربصين بالعدو الحاملين أرواحهم على أكفهم لملاقاة الميركافا بالقاذفات محلية الصنع، وقنص الجنود بما تيسّر من رصاص، وإيمانهم بأن هذا الظلم لابدّ أن يزول، طال الزمان أو قصر. ورغم عمق الجراح التي يعاني منها الشعب الفلسطيني وما تحطّم حوله، إلا أنه لم يتحطّم فيه اليقين بأنه لا ولن تكون هناك راحة للمحتل فوق حياتنا، ولا حتى فوق جثثنا!"

*هل الكتاب والشعراء في الحرب كتاب مبدعون أم مواطنون عاديون تحت القصف؟

-الكتاب في الحرب، يتأرجحون بين الدورين؛ ينقص كل شيء من حولهم، فيحاولون توفيره. ينقص الماء فيجوعون، ينقص الخبز فينشغلون بتحضيره منزليًا، يتتبعون طوابير الماء وأماكن شحن الهواتف والحواسيب، يبحثون عن الملابس التي لا يُسمح بدخولها والتي أتلفتها الأنقاض وأحرقتها القذائف. يتطوعون في كل ما يمكن أن يساعد لجعل المأساة أقل وطأة وضحكة الأطفال ممكنة. ينخرطون في احتضان صغارهم النابضين بالحياة وهم يتخيلون الوداعات الأخيرة مع جثثهم الباردة، مثلما يحدث في كل يوم فوق أرضية تلطخها دماء لا تتوقف عن الانسكاب فيما تبقى من مستشفيات غزة التي صارت تشبه المقابر أكثر من أي شيء آخر!

ثمّ بعد ذلك وأكثر، يشعرون بالكلمات التي تنقرهم من الداخل راغبة في الخروج، فيفتحون لها الأبواب أمام قباحة القتل وانعدام شرف القتال عند القتلة واستخفاف العالم بدمهم وأوجاعهم وسكوته المشبوه على المجازر، وتفريغ المدن والبيوت من أهلها فيما يشبه إعادة احتلال غزة أو الانتقام الرهيب والمدوّي عبر تدميرها كعقاب جماعي ينتهجه الاحتلال منذ نكبة فلسطين، وكأنه يريد أن يصل إلى إكمال مشروعه بطرد ما تبقى فيها من أهلها عبر جعلها غير قابلة للحياة!

*بهذه الصفة، كيف تحدّدين دور الكاتب زمن الحرب؟

-بالنسبة لي، أشعرُ أنني مسؤولة عن شرح ما يحدث كأنني لسان الضحايا حينًا والمقاتلين من أجل الحرية أحيانًا أخرى. أتمسك بالحق في النجاة من المذبحة وبخيبتي من كل هذا الخذلان. أسجّل ذهولي أمام تمسّك أهلي بالجغرافيا والبيوت حتى لو استحالت ركاما. أتحسس همّ النساء وحسرة الصغار وضعف الشيوخ والجدات ومرارة فقد الحياة الطبيعية تحت زلزلة انفجار القنابل، وقهرنا أمام تجريف الأشجار. أراقب مثلًا حسرة أبي على أشجار الزيتون التي اعتنى بها وكان ينتظر موسمها ليعصر ويخزّن منها كما ورث عن أجداده وعلّمنا أن نفعل! وكيف، رغم قسوة الموت، ما زال كثير من الناس يرفضون تكرار تجربة الاستسلام للرحيل كما حدث مع الأجداد. إنها لعنة لا يريدون تكرارها، وأنا أكتب عن ذلك وأصيح به وأذرفه بحروفي ومثلي كثير بحروفهم أو بدمائهم!

*ما دور اليوميات في توثيق الألم؟

-دورها التوثيق، نعم، وفيها إعلان أننا ما زلنا أحياء ولم نفقد لا إحساسنا بما يحدث ولا يأسنا من توقفه ولا الجدوى من الحديث عنه. وفيها جزء من الإحساس بالمسؤولية تجاه فضح القاتل. كما أن الكتابة فيها إعلاء لصوت الضحايا، وهو مهم وضروري، فقد يحمل الضجيج الإنساني الكافي لإيقاظ ضمير العالم النائم، وقد يؤثر بالطريقة التي لا تقوم بها نشرات الأخبار التي تسلط الضوء على عموم المشهد، ولكنها لا تصوّر ما يحترق في القلوب.

*كيف تقرئين ردة فعل المحتل من الكتابة ومختلف الفنون التي تقاومه وتفضحه؟

-أعتقد أنه يقلق، ولذلك مثلًا، وقبل عقود طويلة، قام باغتيال الشاعر عبد الرحيم محمود، ومن بعده غسان كنفاني. وقتل في هذه الحرب الشاعرة هبة أبو ندى والشاعر وأستاذ الأدب الإنجليزي رفعت العرعير. ولذلك قصف مباني المسارح والمتاحف والمكتبات ومخازن الأرشيف ودور الفنون، وهدم وجرّف النصب التذكارية في الشوارع، وكل ما يمكن أن يشير إلى إبداع شعبنا. وهاجم وما زال يهاجم المبدعين وطريقة تعبيرنا عن حكايتنا.

*ما هي التحديات التي تواجهها الشاعرة هند جودة في كتاباتها تحت القصف والإبادة والتهجير وتدمير المدن في غزة؟

-في الحرب، يكتب الشعراء كي ينجو الكلام الذي هو بعضهم ربما، ولكنه أيضًا قد يشكّل كل ما امتلكوه حقًا في أرواحهم وعقولهم حين فقد كل ما هو ماديّ معناه، وصار من أسباب العذاب والمعاناة اليومية، بداية من المأكل والمشرب، وليس نهاية بفقد المسكن والنزوح والتشرد داخل غزة وخارجها!

لقد أتت هذه الحرب بكل جرأة وقسوة لتقضي على الأخضر واليابس، وعلى الحجر والأجساد، ولم تنجُ منها حتى المقابر!

*ما هو أخطر شيء تهابه الشاعرة هند جودة في هذه اللحظة؟

-أن يتمكن المحتل من احتلال غزة وأن يسلبنا حق البقاء فيها أو الرجوع إليها.

*كيف تنظرين إلى مستقبل الشعر الفلسطيني اليوم بعد محمود درويش؟

-الشعر من صنع الله بالدرجة الأولى، إنه ليس اختراعًا بشريًا كاملًا كما يبدو، ولذلك نقول "إلهامًا" ونقول إنه "هبة" ونقول "موهبة". ولأنه من لمسات الله الواضحة في البشر، فهو في مستوى أعلى من قدرات الإنسان على كبحه أو إيقافه أو منعه مثلًا. ولذا فإن رسالته مهمة بقدر ما يسخّره الشعراء لشحذ الهمم أو وصف الألم أو صياغة الأمل وأحيانًا اختراعه من العدم! إنه مثل المعجزة أحيانًا، يقلب الشعور ويثير الميت منه! ولذلك أؤمن برسالة الشعر ومعناه وقيمته ولا أكفر بها مهما بدا الواقع يائسًا ومحطّمًا، فهو قد يكون مثل الحفر بإبرة، ولكنه أيضًا قد يصبح في لحظة فأسا، وقد يسبب زلزالًا في لحظة ما، وهذا يعتمد بالطبع على قوة وتمكن الشاعر وعلى انتشاره بين الناس ودرجة تأثرهم به!

أما إن كنتِ تريد أسماءً فلسطينية شابة ونشطة، فسأذكر لك مبتدئةً بأشهر الذين شاركوا في برامج مسابقات الشعر العربية: تميم البرغوثي، مصطفى مطر، آلاء القطراوي.

وإن كنتِ تتساءل عن تمثيل الحالة الفلسطينية أدبيًا على مستوى الشعر والسرد واليوميات، فستجدها في صفحات كتاب كثيرين مثل الشاعرة مريم أبو قوش، والشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، والشهيد الشاعر رفعت العرعير، والعشريني المدهش حيدر الغزالي.

القائمة فعلاً طويلة، ولا مجال لذكر الجميع مع أنهم جميعًا يستحقون الذكر وخلود تجربتهم ونضالهم ومقاومتهم بجمالهم لكل ما يحيط بهم من خراب! لم ينتهِ الشعر الفلسطيني إذن بعد محمود درويش ولم يتوقف عن التطور والنضوج. إنها شجرة عميقة الجذور تمتد عميقًا في الأرض كما الروح الفلسطينية، وما زالت تعلو أغصانها المثقلة بالثمر الحلو كما المرّ على حدّ سواء "ثمار حياة وموت". إنها إنما تعكس حيواتنا وتجاربنا التي لا تخلو من الأمل حتى والألم يحاول سحب روحها بكل عنفه وبشاعته.

*ماذا تعرفين عن الشعر التونسي؟

-كنتُ قد دُعيتُ إلى تونس عام 2015 للمشاركة في المهرجان الوطني العربي البشير التلمودي للأدباء الشبان في دورته التاسعة، والتي كانت تحت عنوان: الالتزام في الأدب العربي المعاصر (فلسطين والعراق في النص). وقد كانت أمسيات الشعر على شرف الشاعر التونسي الكبير "الصغير أولاد أحمد" رحمه الله. وقد كان مريضًا في ذلك الوقت فلم يتمكن من حضور الفعاليات مع الأسف ولم نتمكن من لقائه. ولكنني أحب له أشهر ما قاله عن حب البلاد، والتي أجد أنها تنطبق علينا أيضًا في قوله:

"نحب البلاد كما

لا يحب البلاد أحد

صباحًا، مساءً

وقبل الصباح

وبعد المساء

ويوم الأحد"

وقد قابلت السيد بشير الجلجلي، وهو صديق عزيز ما زلنا على تواصل حتى اليوم، وقد كان المضيف والمسؤول عن برنامج الدعوة والفعاليات في ذلك الوقت. وقد أسعدتني الزيارة جدًا، خصوصًا أن لتونس رائحة تشبه رائحة غزة قرب البحر المتوسط، ووقعت في حب مدينة سيدي بوسعيد الساحرة بأبوابها الزرقاء وارتفاعها البديع وهي تكشف البحر والمراكب واليخوت الراسية في أسفل تلتها!

يا إلهي، إنها تبدو لي الآن بعيدة وجميلة مثل حلم! أرجو أن تتاح لي الزيارة من جديد فذلك حظ جميل أصابني، وقد وقعت في حب تونس التي طالما رعت وأحبت فلسطين وأهلها وما زالت.

الشاعرة الفلسطينية هند جودة لـ"الصباح":  لم ينتهِ الشعر الفلسطيني بعد محمود درويش.. ولم يتوقف عن التطور والنضوج

 

-الشعر هو طريقتي في إعلان الأمل المتجسد في حبي لبلادي في كلماتي ويومياتي ونصوصي وأغنياتي...

-الحرب تكتبنا على هيئة ضحايا، حتى وإن بدونا عنيدين جداً ويصعب كسرنا!

-يقيننا راسخ أنه لا ولن تكون هناك راحة للمحتل فوق حياتنا، ولا حتى فوق جثثنا!

-رغم قسوة الموت، ما زال كثير من الناس يرفضون تكرار تجربة الاستسلام للرحيل.

-زرت تونس سنة 2015 وأحببتها... فرائحتها تشبه رائحة غزة.

حوار محسن بن أحمد

رفعت الشاعرة هند جودة، التي شدت الانتباه بنصوصها الشعرية التي ولدت تحت القصف لتكون شاهداً على فضاعة الجريمة الصهيونية في حق شعب يتوق للحرية والعيش في ظل وطن ينعم بالعيش الكريم، قلمها، بكل شموخ واعتزاز وإيمان بنبل وقضية شعبها الذي يتوق إلى الحرية والعزة. فالكتابة هي فعل للنجاة اللحظية أو التخفف من ثقل الأحداث، وربما الهروب من جحيم مفروض على شعب اختار الدفاع عن حرمة ترابه، يحدوه الأمل لمعانقة الشمس.

تحدثت هند جودة -من قلب غزة الصامدة- لـ"الصباح" عن الشعر والحرب، وهي التي تحمل أجمل الذكريات عن تونس بعد زيارتها لها في 2015، وهذه الحصيلة.

*كيف نشأت علاقتك مع القصيدة؟ وما هي أبرز خصوصياتها؟

-يولد الشعر في القلب أولاً، تجده في نفسك بالولادة، تتأمل به ذاتك وتكتشفها، كائناً بحواسّ فاعلةٍ متأثرةٍ، ثم تنطلق بها لتجرب الحياة!

تبدأ في اكتشاف الكلام فتحكيه، تتعلم القراءة والكتابة، تقع في حب الكتب، فتأخذك من يدك إلى عوالمها، وتبني داخلك مملكة الكلام ومستودعات اللغة، تنبت اللغة في الروح، تطرح ثمارها التي تسقى بماء الحياة العجيب وظروفها التي تعني تجربتك الخاصة، والتي لا تشبه أي تجربة أخرى!

لقد أحببت الشعر ورعيت ميلاده في روحي على طفولتي وطفولته! أعجبني كيف يكبر معي وتتمدد فروعه خارج جسدي فأزداد به ويزيد فيّ دون نقصان، أحببت كيف تتدلّى ثماره بين الناس فيقطفونها ويتلذذون بمذاقتها التي على شكل قصائد وأغنيات ومسرح أو حتى قطع نثرية ونصوص ويوميات!

عرفت أنه نادر وشهي فحرصت على الاعتناء به وصار صفتي ومعرفي بين الناس!

أكتب الشعر كوعود حب للحياة، وحين تصادفني الحرب وكثيراً ما فعلت وتفعل، أكتبها أيضاً، وقد خبرتها وعرفت أنها لا تنتهي في حياة الفلسطيني بكل ما تخلفه وتصنعه من فجائع وويلات، إن الحرب تكتبنا أيضاً على هيئة ضحايا، حتى وإن بدونا عنيدين جداً ويصعب كسرنا!

وصدقني أنه ليس هناك أصعب على نفسي من الكتابة عن بلادي المسروقة وعن أمهات بلادي اللواتي فقدن ويفقدن الأبناء والإخوة والآباء والأزواج والبيوت وكل ما يعني لهن الحياة العادية منذ أكثر من سبعين عاماً وحتى اليوم!

*التاريخ والذاكرة في حياة الإنسان إلى أين تأخذ الشاعرة هند جودة؟

-لم يسمح لنا الاحتلال بنسيان حياتنا القديمة! حياة أجدادنا خصوصاً، لقد أعاد إحياء ماضينا المؤلم وزاد عليه بما طوره من أدوات القتل والقمع والطرد وقوة الحديد وبشاعة الكراهية والطمع البشري والغرور والغطرسة، وليس أخيرا الوحشية غير المبررة ضد كل ما هو فلسطيني قديماً وحديثاً. الآن، حتى وأنا أكتب لك ما أكتب، تصل صرخات النساء والأطفال ونحيب الرجال على أطفالهم وآبائهم إلى سمعي. يكفيك أن تفتح نشرة الأخبار، وسيقفز كل شيء عن حكايتنا ليؤذي سمعك وبصرك، وبالطبع روحك!

وكما ورثنا حياتنا تحت الاحتلال وفي عشوائية المخيمات والفقر ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين والحياة البائسة، المستلبة، ورثنا طرائق الأجداد وأصالتهم في التعامل مع الحياة البدائية وإدارة الموارد. وصدق أو لا تصدق، هذا ما يجعل أهل غزة الآن قادرين على احتمال ما لا يحتمل من فقد لكل ما يمت إلى الحضارة البشرية.

لقد صعّب الاحتلال الإسرائيلي حياة الغزاويين لدرجة لا يمكن أن تتصورها ولا يمكن أن تكفي سطور قليلة لوصفها أبداً. لقد ورثنا من أجدادنا المأساة وأساليب النجاة معاً، إنه شيء ورثناه في الجينات وقد طورناه بسبب قسوة الحياة. ولكن، وعلى الرغم من كل محاولاتنا للنجاة، ما زالت حرب الإبادة والتطهير العرقي والرغبة في محونا وطردنا تضعنا في حالة حرجة. فنحن نعيش هذه المقتلة والتشريد والتجويع والنزوح والتهجير القسري، أو نموت تدريجياً بسبب ذلك كله!

*يقول الكاتب الروسي "دستويفسكي" إن "نعيش بدون أمل هو أن تتوقف الحياة". هل الأمل اليوم، وفي ظل ما نعيشه، قادر على مواجهة واقع لطالما تساءلنا عن جنسيته ضمن حدود أحلامنا؟

-إنها مقولة صادقة ونحن نتمسك بالأمل في الخلاص من الحرب والاحتلال، ونتطلع إلى الحياة التي هي هبة من الله نقدّرها وإن كانت حياتنا منقوصة. فذلك ابتلاء خبرناه وطالما أننا أحياء، نستطيع تطويع التحديات والتعامل معها، ولكن ليس الرضا أو القبول المطلق بها، لأنها حياة مشوهة وغير صحية للنفس أن تكون تحت احتلال يضطهدك وينغص عليك مسعاك وحريتك في كل مناحي الحياة التي خلقت حراً لتحياها كما تختار!

وهذا من المفقودات أو في وصف أكثر واقعية من الصعوبات التي تكلف الفلسطيني الكثير ليجد فرصة للعيش الطبيعي في بلاد بعيدة إذا اختار البحث عن فرص للعمل أو التعليم خارج فلسطين، مثلاً!

في حالتي كان الشعر هو طريقتي في إعلان الأمل المتجسد في حبي لبلادي في كلماتي ويومياتي ونصوصي وحتى أغنيات كتبتها وسأكتبها طالما بقيت على قيد الحياة والكتابة، وستبقى شاهدة عليّ حتى بعد رحيلي! والكلمات التي أكتبها أريد لها أن تكون معبرة عن آلام الضحايا دون أن تفقدهم الأمل وأن تفضح المجرم بشدة، ما تؤثر قسوته وتعدّيه على المشاعر الإنسانية لتجرحها وتترك فيها أثراً بالغاً من الأسى والصدمة!

لقد عاش أهل فلسطين لا كما يستحقون ولا كما يريدون، ولكنهم فعلوا كل ما هو فوق طاقة تحملهم من أجل أن يتمسكوا بحقهم في بلادهم التي نهشها الاحتلال قديماً وما زال يضيّق عليهم معاشهم فيها بداية بالاستحواذ والقضم والتهويد، وصولاً إلى قتلهم بآلة حروبه الوحشية وبلا رحمة!

*ماذا يمكن أن يفعل الأدب الفلسطيني أمام المجزرة؟

-يبكي، يثور غضباً وحزناً، يزغرد مع أمهات الشهداء اللواتي لا يردن إسعاد العدو بحرقتهن وانكسار عمدان قلوبهنّ، يمسح دمعهنّ بعدما يهدأ الزحام ولا يجدن بيتاً يعدنّ إليه! ينوح أيضاً، تؤلمه الفاجعة، يحتضن الأطفال المرتعشين، ويختبئ في نظراتهم المذهولة، يصرخ مع الفاقدين، يصرخ على المفقودين، يجرب أن يمسح دموع الناس فيجد نفسه غاصاً بالدمع قبلهم، يجرب أن يصف صوت القذائف، فيرتجف رعباً ويصيبه الخرس أياماً وأسابيع، يتشظّى ويعيد لملمة أشلاءه، يصلّي بحروفه ولوعته على الشهداء، قبل أن يندفن معهم، ثمّ يعود ليجرّ الحروف جرّاً من تحت الأضرحة والأنقاض والكتب الممزقة والمحابر المطحونة، يفقد الأوراق فيلجأ للهاتف، تعزّ الكهرباء فيقتصد كي يتمكن من البكاء كما الصهيل مع شباب البلاد الضاغطين على الجراح والمتربصين بالعدو الحاملين أرواحهم على أكفهم لملاقاة الميركافا بالقاذفات محلية الصنع، وقنص الجنود بما تيسّر من رصاص، وإيمانهم بأن هذا الظلم لابدّ أن يزول، طال الزمان أو قصر. ورغم عمق الجراح التي يعاني منها الشعب الفلسطيني وما تحطّم حوله، إلا أنه لم يتحطّم فيه اليقين بأنه لا ولن تكون هناك راحة للمحتل فوق حياتنا، ولا حتى فوق جثثنا!"

*هل الكتاب والشعراء في الحرب كتاب مبدعون أم مواطنون عاديون تحت القصف؟

-الكتاب في الحرب، يتأرجحون بين الدورين؛ ينقص كل شيء من حولهم، فيحاولون توفيره. ينقص الماء فيجوعون، ينقص الخبز فينشغلون بتحضيره منزليًا، يتتبعون طوابير الماء وأماكن شحن الهواتف والحواسيب، يبحثون عن الملابس التي لا يُسمح بدخولها والتي أتلفتها الأنقاض وأحرقتها القذائف. يتطوعون في كل ما يمكن أن يساعد لجعل المأساة أقل وطأة وضحكة الأطفال ممكنة. ينخرطون في احتضان صغارهم النابضين بالحياة وهم يتخيلون الوداعات الأخيرة مع جثثهم الباردة، مثلما يحدث في كل يوم فوق أرضية تلطخها دماء لا تتوقف عن الانسكاب فيما تبقى من مستشفيات غزة التي صارت تشبه المقابر أكثر من أي شيء آخر!

ثمّ بعد ذلك وأكثر، يشعرون بالكلمات التي تنقرهم من الداخل راغبة في الخروج، فيفتحون لها الأبواب أمام قباحة القتل وانعدام شرف القتال عند القتلة واستخفاف العالم بدمهم وأوجاعهم وسكوته المشبوه على المجازر، وتفريغ المدن والبيوت من أهلها فيما يشبه إعادة احتلال غزة أو الانتقام الرهيب والمدوّي عبر تدميرها كعقاب جماعي ينتهجه الاحتلال منذ نكبة فلسطين، وكأنه يريد أن يصل إلى إكمال مشروعه بطرد ما تبقى فيها من أهلها عبر جعلها غير قابلة للحياة!

*بهذه الصفة، كيف تحدّدين دور الكاتب زمن الحرب؟

-بالنسبة لي، أشعرُ أنني مسؤولة عن شرح ما يحدث كأنني لسان الضحايا حينًا والمقاتلين من أجل الحرية أحيانًا أخرى. أتمسك بالحق في النجاة من المذبحة وبخيبتي من كل هذا الخذلان. أسجّل ذهولي أمام تمسّك أهلي بالجغرافيا والبيوت حتى لو استحالت ركاما. أتحسس همّ النساء وحسرة الصغار وضعف الشيوخ والجدات ومرارة فقد الحياة الطبيعية تحت زلزلة انفجار القنابل، وقهرنا أمام تجريف الأشجار. أراقب مثلًا حسرة أبي على أشجار الزيتون التي اعتنى بها وكان ينتظر موسمها ليعصر ويخزّن منها كما ورث عن أجداده وعلّمنا أن نفعل! وكيف، رغم قسوة الموت، ما زال كثير من الناس يرفضون تكرار تجربة الاستسلام للرحيل كما حدث مع الأجداد. إنها لعنة لا يريدون تكرارها، وأنا أكتب عن ذلك وأصيح به وأذرفه بحروفي ومثلي كثير بحروفهم أو بدمائهم!

*ما دور اليوميات في توثيق الألم؟

-دورها التوثيق، نعم، وفيها إعلان أننا ما زلنا أحياء ولم نفقد لا إحساسنا بما يحدث ولا يأسنا من توقفه ولا الجدوى من الحديث عنه. وفيها جزء من الإحساس بالمسؤولية تجاه فضح القاتل. كما أن الكتابة فيها إعلاء لصوت الضحايا، وهو مهم وضروري، فقد يحمل الضجيج الإنساني الكافي لإيقاظ ضمير العالم النائم، وقد يؤثر بالطريقة التي لا تقوم بها نشرات الأخبار التي تسلط الضوء على عموم المشهد، ولكنها لا تصوّر ما يحترق في القلوب.

*كيف تقرئين ردة فعل المحتل من الكتابة ومختلف الفنون التي تقاومه وتفضحه؟

-أعتقد أنه يقلق، ولذلك مثلًا، وقبل عقود طويلة، قام باغتيال الشاعر عبد الرحيم محمود، ومن بعده غسان كنفاني. وقتل في هذه الحرب الشاعرة هبة أبو ندى والشاعر وأستاذ الأدب الإنجليزي رفعت العرعير. ولذلك قصف مباني المسارح والمتاحف والمكتبات ومخازن الأرشيف ودور الفنون، وهدم وجرّف النصب التذكارية في الشوارع، وكل ما يمكن أن يشير إلى إبداع شعبنا. وهاجم وما زال يهاجم المبدعين وطريقة تعبيرنا عن حكايتنا.

*ما هي التحديات التي تواجهها الشاعرة هند جودة في كتاباتها تحت القصف والإبادة والتهجير وتدمير المدن في غزة؟

-في الحرب، يكتب الشعراء كي ينجو الكلام الذي هو بعضهم ربما، ولكنه أيضًا قد يشكّل كل ما امتلكوه حقًا في أرواحهم وعقولهم حين فقد كل ما هو ماديّ معناه، وصار من أسباب العذاب والمعاناة اليومية، بداية من المأكل والمشرب، وليس نهاية بفقد المسكن والنزوح والتشرد داخل غزة وخارجها!

لقد أتت هذه الحرب بكل جرأة وقسوة لتقضي على الأخضر واليابس، وعلى الحجر والأجساد، ولم تنجُ منها حتى المقابر!

*ما هو أخطر شيء تهابه الشاعرة هند جودة في هذه اللحظة؟

-أن يتمكن المحتل من احتلال غزة وأن يسلبنا حق البقاء فيها أو الرجوع إليها.

*كيف تنظرين إلى مستقبل الشعر الفلسطيني اليوم بعد محمود درويش؟

-الشعر من صنع الله بالدرجة الأولى، إنه ليس اختراعًا بشريًا كاملًا كما يبدو، ولذلك نقول "إلهامًا" ونقول إنه "هبة" ونقول "موهبة". ولأنه من لمسات الله الواضحة في البشر، فهو في مستوى أعلى من قدرات الإنسان على كبحه أو إيقافه أو منعه مثلًا. ولذا فإن رسالته مهمة بقدر ما يسخّره الشعراء لشحذ الهمم أو وصف الألم أو صياغة الأمل وأحيانًا اختراعه من العدم! إنه مثل المعجزة أحيانًا، يقلب الشعور ويثير الميت منه! ولذلك أؤمن برسالة الشعر ومعناه وقيمته ولا أكفر بها مهما بدا الواقع يائسًا ومحطّمًا، فهو قد يكون مثل الحفر بإبرة، ولكنه أيضًا قد يصبح في لحظة فأسا، وقد يسبب زلزالًا في لحظة ما، وهذا يعتمد بالطبع على قوة وتمكن الشاعر وعلى انتشاره بين الناس ودرجة تأثرهم به!

أما إن كنتِ تريد أسماءً فلسطينية شابة ونشطة، فسأذكر لك مبتدئةً بأشهر الذين شاركوا في برامج مسابقات الشعر العربية: تميم البرغوثي، مصطفى مطر، آلاء القطراوي.

وإن كنتِ تتساءل عن تمثيل الحالة الفلسطينية أدبيًا على مستوى الشعر والسرد واليوميات، فستجدها في صفحات كتاب كثيرين مثل الشاعرة مريم أبو قوش، والشاعرة الشهيدة هبة أبو ندى، والشهيد الشاعر رفعت العرعير، والعشريني المدهش حيدر الغزالي.

القائمة فعلاً طويلة، ولا مجال لذكر الجميع مع أنهم جميعًا يستحقون الذكر وخلود تجربتهم ونضالهم ومقاومتهم بجمالهم لكل ما يحيط بهم من خراب! لم ينتهِ الشعر الفلسطيني إذن بعد محمود درويش ولم يتوقف عن التطور والنضوج. إنها شجرة عميقة الجذور تمتد عميقًا في الأرض كما الروح الفلسطينية، وما زالت تعلو أغصانها المثقلة بالثمر الحلو كما المرّ على حدّ سواء "ثمار حياة وموت". إنها إنما تعكس حيواتنا وتجاربنا التي لا تخلو من الأمل حتى والألم يحاول سحب روحها بكل عنفه وبشاعته.

*ماذا تعرفين عن الشعر التونسي؟

-كنتُ قد دُعيتُ إلى تونس عام 2015 للمشاركة في المهرجان الوطني العربي البشير التلمودي للأدباء الشبان في دورته التاسعة، والتي كانت تحت عنوان: الالتزام في الأدب العربي المعاصر (فلسطين والعراق في النص). وقد كانت أمسيات الشعر على شرف الشاعر التونسي الكبير "الصغير أولاد أحمد" رحمه الله. وقد كان مريضًا في ذلك الوقت فلم يتمكن من حضور الفعاليات مع الأسف ولم نتمكن من لقائه. ولكنني أحب له أشهر ما قاله عن حب البلاد، والتي أجد أنها تنطبق علينا أيضًا في قوله:

"نحب البلاد كما

لا يحب البلاد أحد

صباحًا، مساءً

وقبل الصباح

وبعد المساء

ويوم الأحد"

وقد قابلت السيد بشير الجلجلي، وهو صديق عزيز ما زلنا على تواصل حتى اليوم، وقد كان المضيف والمسؤول عن برنامج الدعوة والفعاليات في ذلك الوقت. وقد أسعدتني الزيارة جدًا، خصوصًا أن لتونس رائحة تشبه رائحة غزة قرب البحر المتوسط، ووقعت في حب مدينة سيدي بوسعيد الساحرة بأبوابها الزرقاء وارتفاعها البديع وهي تكشف البحر والمراكب واليخوت الراسية في أسفل تلتها!

يا إلهي، إنها تبدو لي الآن بعيدة وجميلة مثل حلم! أرجو أن تتاح لي الزيارة من جديد فذلك حظ جميل أصابني، وقد وقعت في حب تونس التي طالما رعت وأحبت فلسطين وأهلها وما زالت.