إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فخُّ 'الفَساد الآخر' الْمنيع في المُجتمع التونسي يصطاد الجَميع

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي عالم الاجتماع

القنص المتأخر والناقص لظاهرة الفساد

أبرزت زيارات الرئيس والوزراء الأخيرة إلى بعض المؤسسات والمرافق العمومية عيوبا لا تحصى. وذُكرت تفسيرا ت لذلك من قبيل وجود بعض اللوبيات والفاسدين والمتآمرين الذين لا يبالون بالمشاركة في خراب تلك المؤسسات والمرافق الوطنية. مع الأسف تغفل مثل تلك التفسيرات ذكر عوامل نفسية وثقافية في الشخصية التونسية تدفع التونسيين والتونسيات إلى احتضان عقلية الإهمال واللامبالاة وضُعف الحرص على حماية وصيانة معالم المخزون الوطني. وبالتالي، تتطلب إمكانية إصلاح الأمور إصلاح منظومة الشخصية التونسية نفسها عبر تنشئة اجتماعية وثقافية ونفسية جديدة مختلفة. فتغيير الطين النفسي والاجتماعي لهذه الشخصية هو مربط الفرس للنجاح الحقيقي في مسيرة المجتمع على طول المدى. كثرت وتكثر بعد الثورة المجاهرة باستعمال مفردة الفساد بين التونسيين والتونسيات. ورغم ذلك، فهؤلاء جميعا لا يكادون يذكرون ما نسميه هنا 'الفساد الآخر'. ويعني نعت 'الآخر' في هذا المقال ' الفساد المنسي، المسكوت عنه، المهمل..'. تنخرط في هذا النوع من الفساد الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي لا شريحة اجتماعية ولا أقلية صغيرة فقط من فئات هذا المجتمع. وبعبارة أخرى، فالجميع في هوى هذا الفساد سواء بعد الاستقلال وبعد الثورة يشمل معظم رؤساء البلاد التونسية ووزرائها وشخصياتها السياسية والفكرية وطبقاتها الاجتماعية العليا والمتوسطة والفقيرة. ونظرا لأن ممارسات هذا الفساد هي السلوك العادي اليومي الطاغي على حياة الجميع في المجتمع التونسي، فإن القيام الجماعي بهذا السلوك الفاسد افقد الوعي به لدى معظم التونسيات التونسيين. وكما يُقال فالعادة تبلّد الذهن وتسرق حاسة الإدراك حتى من العقول السليمة.

الفساد اللغوي في المجتمع التونسي

تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة أوضاع المجتمعات النامية بعد رحيل الاستعمار. وهذا ما نود تسليط الضوء عليه في المجتمع التونسي بعد 1956. رغم كثرة الحديث عن ظاهرة الفساد اليوم، فإن هناك صمتا شبه كامل لدى الشعب التونسي حول ما نسميه هنا بالفساد اللغوي منذ الاستقلال في هذا المجتمع. يلاحظ هذا الفساد لدى قادة هذه البلاد منذ بداية الاستقلال. فرجال ونساء حركة التحرير التونسية قد ركزوا على التحرر من الاحتلال المادي للمستعمر الفرنسي: الجلاء العسكري والفلاحي والسياسي. لكنهم رحبوا ببقاء الاستعمار الفرنسي المعنوي/الرمزي متمثلا في اللغة الفرنسية وثقافتها على حساب اللغة العربية وثقافتها. فالصمت عن الاستعمار اللغوي الفرنسي بالأمس واليوم يُشكك في مستوى الوعي الحقيقي للتونسيات والتونسيين بأن الاستعمار اللغوي هو أخطر من بقية أنواع الاستعمار جميعا. فاحتضان أغلبية الشعب التونسي للاستعمار اللغوي هو سلوك فاسد لأنه مضر بعلاقة هذا الشعب باللغة العربية/الوطنية وبعلاقته النفسية والاجتماعية معها. فالفساد اللغوي يعني فقدان علاقة المجتمع التونسي للتطبيع الكامل لعلاقاته مع لغته الوطنية بعد الاستقلال والثورة. ويُقصد بالتطبيع الكامل أن تصبح اللغة العربية في شكليْها (العامية التونسية العربية النقية والعربية الفصحى) هي اللغة الوحيدة للتواصل الشامل كتابة وحديثا بين كل التونسيين والتونسيات وفي كل القطاعات. والأمثلة على الفساد اللغوي من القمة إلى القاعدة في المجتمع التونسي لا تكاد تُحصى. يكفي هنا ذكر عينة من الأمثلة لتوضيح معالم هذا الفساد اللغوي /الاستعمار اللغوي المسكوت عنه:

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء في حضور بورقيبة أو في غيابه لطالما كانت تكتب بالفرنسية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية لغة المستعمر بدلا عن اللغة العربية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة حتى يومنا هذا مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ يتمثل الفساد اللغوي في انتشار موقف جماعي تونسي غير متحمس وغيور ومدافع عن اللغة العربية الأمر الذي يجعل الباحث يشعر وكأن اللغة العربية هي لغة ثانية أو ثالثة لدى الجمهور التونسي العريض وفي طليعتهم كثير من النخب المثقفة التونسية.

5ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.

6ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/ شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف ومتخلف. 21/11

جذور الفساد اللغوي

ترجع ظاهرة الفساد اللغوي بالمجتمع التونسي منذ رحيل الاستعمار الفرنسي إلى عامل رئيسي يتمثل في تدريس المواد باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. إذ هناك فرق بين مجرد تعلُّم اللغات الأجنبية وبين التدريس بها. وهذا الفرق لا يكاد يذكره الباحثون التونسيون. فقد درس معظم أصحاب القرار السياسي والمثقفين والجامعيين في هذا المجتمع المواد الدراسية بلغة المستعمر مما جعلهم يتحيزون أكثر إلى اللغة الفرنسية وثقافتها لا إلى اللغة العربية وثقافتها كرمزين رئيسيين للوطنية والهوية التونسيتين. يفسر هذا السلوك اللغوي قول ابن خلدون : المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب. يشير هذا الواقع التونسي إلى أن التدريس بالفرنسية أفسد/ يُفسد علاقة هؤلاء باللغة العربية وثقافتها. فهم بذلك يختلفون عن بعض النخب القيادية في مجتمعات أخرى كسبت فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عملية التحديث كما هو الحال في اليابان والصين وكوريا الجنوبية ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإيران. بينما ينادي كثير من النخب التونسية بتهميش اللغة العربية والثقافة الإسلامية العربية من عملية التحديث. وبعبارة أخرى، يهيمن على تلك النخب الاغترابُ اللغوي الثقافي الذي يفسد علاقاتهم بالهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي.

آثار الفساد اللغوي على الشخصية التونسية

يجوز القول إن التونسي يتعلم بطريقة غير مباشرة جزءا من سلوكيات الفساد من خلال تعامله مع اللغة العربية/الوطنية. فأغلبية خريجي المدارس والجامعات التونسية يُظهرون سلوكيات تهمش اللغة العربية وتنظر إليها بدونية واحتقار وضُعف في احترامها، كما رأينا. فأنتج مثل هذا الموقف أجيالا تونسية حمّالة للتناقض في صلب شخصيتها القاعدية: فاللغة العربية لغة وطنية، من ناحية، لكن تصرفات معظمهم نحوها تشير وكأنها ليست لغة وطنية، من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك، يمكن القول بأن المجتمع التونسي قد أنشأُ بعد الاستقلال أجيالا تونسية تمارس شيئا من النفاق والكذب على نفسها إزاء هويتها اللغوية وهو أمر يُقلّل من الاحترام المتين لذاتها وانتسابها الحضاري . تؤكد الدراسات بهذا الصدد أن اللغات الوطنية هي البطاقات الأولى للتعريف بهويات الأفراد والشعوب. وهكذا، يرى التحليل النفسي أن التعامل غير الطبيعي مع اللغة الوطنية يزرع بعض بذور الفساد في طيات الشخصية القاعدية لهؤلاء. إذ أن صفات الكذب والنفاق وفقدان احترام الذات/الهوية بسبب العلاقة المشوّشة والمشينة مع اللغة العربية/الوطنية تمثل مؤشرات قوية ترشح أصحابها لممارسة تنوع كبير في السلوكيات الفاسدة. وهذا ما تشير إليه آخر المعطيات حول مدى انتشار ظاهرة الفساد بالمجتمع التونسي، ومن معالمه البارزة أن أغلبية التونسيين والتونسيات لا يتصفون بنظافة اليد وغياب الجشع والطمع والإعراض عن أخذ الرشاوى وامتلاك ما ليس لهم. 20/11

القواعد الثقافية المقلوبة في المجتمع التونسي

يعني هذا المفهوم الجديد عندنا أن المجتمعات البشرية قادرة على إفراز وتبني جماعيا قواعد ثقافية عامة تتعارض، مثلا، مع ثوابت هوياتها اللغوية والثقافية. ونكتفي هنا بذكر مثال واحد من المجتمع التونسي لتوضيح تأثير القواعد الثقافية العامة المقلوبة على سلوكيات ألأفراد والفئات والطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع.

كما ذكرنا، يُلاَحظ اليوم أن الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين تكتب صكوكها المصرفية (شيكاتها البنكية) باللغة الفرنسية وليس باللغة العربية/اللغة الوطنية. ورغم تناقض هذا السلوك الجماعي مع ما تتطلّبه أعراف اللغة الوطنية، فإنه أصبح قاعدة ثقافية عامة في المجتمع التونسي. وكنتيجة لذلك، فلا تُوجد إلا أقلية صغيرة جدا تكتب صكوكها باللغة العربية. وهي تُعتبرُ أقلية منحرفة من طرف الأغلبية المتأثرة بالقواعد الثقافية العامة المقلوبة. يجوز القول إن معظم التونسيات والتونسيين لم ينجحوا بعد في عهد الاستقلال منذ 1956 في تغيير القواعد الثقافية العامة لصالح كتابة الصكوك المصرفية باللغة العربية بحيث تصبح كتابتها باللغة الفرنسية سلوكا منحرفا.. وهكذا، فشل المجتمع التونسي في إنشاء ثقافة وعقلية تونسيتين جماعيتين منبثقتين عن قواعد ثقافية عامة جديدة تقضي على تأثير منظومة القواعد الثقافية العامة المقلوبة لصالح أولوية استعمال اللغة العربية بكل عفوية واعتزاز في كتابة الصكوك المصرفية وعيرها من الوثائق في المجتمع التونسي. وهناك عاملان على الأقل وراء هذا الضُعف في الاعتزاز باللغة العربية في عهد الاستقلال. أولا، تفيد الملاحظة الميدانية أن نظام التعليم التونسي منذ الاستقلال قد فشل إلى حد كبير في غرس ثقافة حب اللغة العربية واحترامها والاعتزاز بها والدفاع عنها والغيرة عليها لدى التلاميذ والطلبة والمعلمين والأساتذة بسبب الاستمرار القوي للقواعد الثقافية المقلوبة في المجتمع التونسي. ثانيا، وبمنظور علم النفس الاجتماعي أدى هذا الوضع في واقع البنية الاجتماعية للمجتمع التونسي إلى إفراز موقف جماعي/مجتمعي شامل جعل اللغة العربية لا تحتل المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين وذلك بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال. وبعبارة أخرى، فالموقف الثقافي الجماعي السائد الفاقد للتحمس والالتزام في المجتمع التونسي الحديث لصالح احترام اللغة العربية هو الذي يفسر أكثر من غيره عدم احتلال اللغة العربية للمكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات معظم التونسيات والتونسيين . وهذا يعني أن للعوامل الاجتماعية وفي طليعتها العوامل الثقافية المقلوبة – وفي طليعتها التدريس باللغة الأجنبية- تأثيرا حتميا على سلوكيات الناس ومجريات الأمور في المجتمع.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فخُّ 'الفَساد الآخر' الْمنيع في المُجتمع التونسي يصطاد الجَميع

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي عالم الاجتماع

القنص المتأخر والناقص لظاهرة الفساد

أبرزت زيارات الرئيس والوزراء الأخيرة إلى بعض المؤسسات والمرافق العمومية عيوبا لا تحصى. وذُكرت تفسيرا ت لذلك من قبيل وجود بعض اللوبيات والفاسدين والمتآمرين الذين لا يبالون بالمشاركة في خراب تلك المؤسسات والمرافق الوطنية. مع الأسف تغفل مثل تلك التفسيرات ذكر عوامل نفسية وثقافية في الشخصية التونسية تدفع التونسيين والتونسيات إلى احتضان عقلية الإهمال واللامبالاة وضُعف الحرص على حماية وصيانة معالم المخزون الوطني. وبالتالي، تتطلب إمكانية إصلاح الأمور إصلاح منظومة الشخصية التونسية نفسها عبر تنشئة اجتماعية وثقافية ونفسية جديدة مختلفة. فتغيير الطين النفسي والاجتماعي لهذه الشخصية هو مربط الفرس للنجاح الحقيقي في مسيرة المجتمع على طول المدى. كثرت وتكثر بعد الثورة المجاهرة باستعمال مفردة الفساد بين التونسيين والتونسيات. ورغم ذلك، فهؤلاء جميعا لا يكادون يذكرون ما نسميه هنا 'الفساد الآخر'. ويعني نعت 'الآخر' في هذا المقال ' الفساد المنسي، المسكوت عنه، المهمل..'. تنخرط في هذا النوع من الفساد الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي لا شريحة اجتماعية ولا أقلية صغيرة فقط من فئات هذا المجتمع. وبعبارة أخرى، فالجميع في هوى هذا الفساد سواء بعد الاستقلال وبعد الثورة يشمل معظم رؤساء البلاد التونسية ووزرائها وشخصياتها السياسية والفكرية وطبقاتها الاجتماعية العليا والمتوسطة والفقيرة. ونظرا لأن ممارسات هذا الفساد هي السلوك العادي اليومي الطاغي على حياة الجميع في المجتمع التونسي، فإن القيام الجماعي بهذا السلوك الفاسد افقد الوعي به لدى معظم التونسيات التونسيين. وكما يُقال فالعادة تبلّد الذهن وتسرق حاسة الإدراك حتى من العقول السليمة.

الفساد اللغوي في المجتمع التونسي

تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة أوضاع المجتمعات النامية بعد رحيل الاستعمار. وهذا ما نود تسليط الضوء عليه في المجتمع التونسي بعد 1956. رغم كثرة الحديث عن ظاهرة الفساد اليوم، فإن هناك صمتا شبه كامل لدى الشعب التونسي حول ما نسميه هنا بالفساد اللغوي منذ الاستقلال في هذا المجتمع. يلاحظ هذا الفساد لدى قادة هذه البلاد منذ بداية الاستقلال. فرجال ونساء حركة التحرير التونسية قد ركزوا على التحرر من الاحتلال المادي للمستعمر الفرنسي: الجلاء العسكري والفلاحي والسياسي. لكنهم رحبوا ببقاء الاستعمار الفرنسي المعنوي/الرمزي متمثلا في اللغة الفرنسية وثقافتها على حساب اللغة العربية وثقافتها. فالصمت عن الاستعمار اللغوي الفرنسي بالأمس واليوم يُشكك في مستوى الوعي الحقيقي للتونسيات والتونسيين بأن الاستعمار اللغوي هو أخطر من بقية أنواع الاستعمار جميعا. فاحتضان أغلبية الشعب التونسي للاستعمار اللغوي هو سلوك فاسد لأنه مضر بعلاقة هذا الشعب باللغة العربية/الوطنية وبعلاقته النفسية والاجتماعية معها. فالفساد اللغوي يعني فقدان علاقة المجتمع التونسي للتطبيع الكامل لعلاقاته مع لغته الوطنية بعد الاستقلال والثورة. ويُقصد بالتطبيع الكامل أن تصبح اللغة العربية في شكليْها (العامية التونسية العربية النقية والعربية الفصحى) هي اللغة الوحيدة للتواصل الشامل كتابة وحديثا بين كل التونسيين والتونسيات وفي كل القطاعات. والأمثلة على الفساد اللغوي من القمة إلى القاعدة في المجتمع التونسي لا تكاد تُحصى. يكفي هنا ذكر عينة من الأمثلة لتوضيح معالم هذا الفساد اللغوي /الاستعمار اللغوي المسكوت عنه:

1ـ عُرف في العهد البورقيبي أن محاضر اجتماعات الوزراء في حضور بورقيبة أو في غيابه لطالما كانت تكتب بالفرنسية.

2-خاطب الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج الحاضرين والحاضرات من التونسيين والأجانب باللغة الفرنسية لغة المستعمر بدلا عن اللغة العربية ، بينما توجه الرئيس النمساوي إلى هؤلاء باللغة الألمانية، لغته الوطنية.

3ـ تتعامل جل البنوك التونسية في الإجراءات المكتوبة حتى يومنا هذا مع حرفائها التونسيين باللغة الفرنسية.

4ـ يتمثل الفساد اللغوي في انتشار موقف جماعي تونسي غير متحمس وغيور ومدافع عن اللغة العربية الأمر الذي يجعل الباحث يشعر وكأن اللغة العربية هي لغة ثانية أو ثالثة لدى الجمهور التونسي العريض وفي طليعتهم كثير من النخب المثقفة التونسية.

5ـ لا تكاد التونسيات تستعمل إلا اللغة الفرنسية في الحديث عن ألوان ومقاييس الملابس.

6ـ لا تكتب الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين صكوكها المصرفية/ شيكاتها إلا باللغة الفرنسية بحيث أصبح يُنظر لمن يكتبها باللغة العربية بأنه منحرف ومتخلف. 21/11

جذور الفساد اللغوي

ترجع ظاهرة الفساد اللغوي بالمجتمع التونسي منذ رحيل الاستعمار الفرنسي إلى عامل رئيسي يتمثل في تدريس المواد باللغة الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. إذ هناك فرق بين مجرد تعلُّم اللغات الأجنبية وبين التدريس بها. وهذا الفرق لا يكاد يذكره الباحثون التونسيون. فقد درس معظم أصحاب القرار السياسي والمثقفين والجامعيين في هذا المجتمع المواد الدراسية بلغة المستعمر مما جعلهم يتحيزون أكثر إلى اللغة الفرنسية وثقافتها لا إلى اللغة العربية وثقافتها كرمزين رئيسيين للوطنية والهوية التونسيتين. يفسر هذا السلوك اللغوي قول ابن خلدون : المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب. يشير هذا الواقع التونسي إلى أن التدريس بالفرنسية أفسد/ يُفسد علاقة هؤلاء باللغة العربية وثقافتها. فهم بذلك يختلفون عن بعض النخب القيادية في مجتمعات أخرى كسبت فعلا رهان الحداثة وذلك بجعل لغاتها الوطنية وهوياتها الثقافية في صلب عملية التحديث كما هو الحال في اليابان والصين وكوريا الجنوبية ومقاطعة كيباك بكندا وتركيا وإيران. بينما ينادي كثير من النخب التونسية بتهميش اللغة العربية والثقافة الإسلامية العربية من عملية التحديث. وبعبارة أخرى، يهيمن على تلك النخب الاغترابُ اللغوي الثقافي الذي يفسد علاقاتهم بالهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي.

آثار الفساد اللغوي على الشخصية التونسية

يجوز القول إن التونسي يتعلم بطريقة غير مباشرة جزءا من سلوكيات الفساد من خلال تعامله مع اللغة العربية/الوطنية. فأغلبية خريجي المدارس والجامعات التونسية يُظهرون سلوكيات تهمش اللغة العربية وتنظر إليها بدونية واحتقار وضُعف في احترامها، كما رأينا. فأنتج مثل هذا الموقف أجيالا تونسية حمّالة للتناقض في صلب شخصيتها القاعدية: فاللغة العربية لغة وطنية، من ناحية، لكن تصرفات معظمهم نحوها تشير وكأنها ليست لغة وطنية، من ناحية أخرى. ونتيجة لذلك، يمكن القول بأن المجتمع التونسي قد أنشأُ بعد الاستقلال أجيالا تونسية تمارس شيئا من النفاق والكذب على نفسها إزاء هويتها اللغوية وهو أمر يُقلّل من الاحترام المتين لذاتها وانتسابها الحضاري . تؤكد الدراسات بهذا الصدد أن اللغات الوطنية هي البطاقات الأولى للتعريف بهويات الأفراد والشعوب. وهكذا، يرى التحليل النفسي أن التعامل غير الطبيعي مع اللغة الوطنية يزرع بعض بذور الفساد في طيات الشخصية القاعدية لهؤلاء. إذ أن صفات الكذب والنفاق وفقدان احترام الذات/الهوية بسبب العلاقة المشوّشة والمشينة مع اللغة العربية/الوطنية تمثل مؤشرات قوية ترشح أصحابها لممارسة تنوع كبير في السلوكيات الفاسدة. وهذا ما تشير إليه آخر المعطيات حول مدى انتشار ظاهرة الفساد بالمجتمع التونسي، ومن معالمه البارزة أن أغلبية التونسيين والتونسيات لا يتصفون بنظافة اليد وغياب الجشع والطمع والإعراض عن أخذ الرشاوى وامتلاك ما ليس لهم. 20/11

القواعد الثقافية المقلوبة في المجتمع التونسي

يعني هذا المفهوم الجديد عندنا أن المجتمعات البشرية قادرة على إفراز وتبني جماعيا قواعد ثقافية عامة تتعارض، مثلا، مع ثوابت هوياتها اللغوية والثقافية. ونكتفي هنا بذكر مثال واحد من المجتمع التونسي لتوضيح تأثير القواعد الثقافية العامة المقلوبة على سلوكيات ألأفراد والفئات والطبقات الاجتماعية في هذا المجتمع.

كما ذكرنا، يُلاَحظ اليوم أن الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين تكتب صكوكها المصرفية (شيكاتها البنكية) باللغة الفرنسية وليس باللغة العربية/اللغة الوطنية. ورغم تناقض هذا السلوك الجماعي مع ما تتطلّبه أعراف اللغة الوطنية، فإنه أصبح قاعدة ثقافية عامة في المجتمع التونسي. وكنتيجة لذلك، فلا تُوجد إلا أقلية صغيرة جدا تكتب صكوكها باللغة العربية. وهي تُعتبرُ أقلية منحرفة من طرف الأغلبية المتأثرة بالقواعد الثقافية العامة المقلوبة. يجوز القول إن معظم التونسيات والتونسيين لم ينجحوا بعد في عهد الاستقلال منذ 1956 في تغيير القواعد الثقافية العامة لصالح كتابة الصكوك المصرفية باللغة العربية بحيث تصبح كتابتها باللغة الفرنسية سلوكا منحرفا.. وهكذا، فشل المجتمع التونسي في إنشاء ثقافة وعقلية تونسيتين جماعيتين منبثقتين عن قواعد ثقافية عامة جديدة تقضي على تأثير منظومة القواعد الثقافية العامة المقلوبة لصالح أولوية استعمال اللغة العربية بكل عفوية واعتزاز في كتابة الصكوك المصرفية وعيرها من الوثائق في المجتمع التونسي. وهناك عاملان على الأقل وراء هذا الضُعف في الاعتزاز باللغة العربية في عهد الاستقلال. أولا، تفيد الملاحظة الميدانية أن نظام التعليم التونسي منذ الاستقلال قد فشل إلى حد كبير في غرس ثقافة حب اللغة العربية واحترامها والاعتزاز بها والدفاع عنها والغيرة عليها لدى التلاميذ والطلبة والمعلمين والأساتذة بسبب الاستمرار القوي للقواعد الثقافية المقلوبة في المجتمع التونسي. ثانيا، وبمنظور علم النفس الاجتماعي أدى هذا الوضع في واقع البنية الاجتماعية للمجتمع التونسي إلى إفراز موقف جماعي/مجتمعي شامل جعل اللغة العربية لا تحتل المكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين وذلك بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال. وبعبارة أخرى، فالموقف الثقافي الجماعي السائد الفاقد للتحمس والالتزام في المجتمع التونسي الحديث لصالح احترام اللغة العربية هو الذي يفسر أكثر من غيره عدم احتلال اللغة العربية للمكانة الأولى في قلوب وعقول واستعمالات معظم التونسيات والتونسيين . وهذا يعني أن للعوامل الاجتماعية وفي طليعتها العوامل الثقافية المقلوبة – وفي طليعتها التدريس باللغة الأجنبية- تأثيرا حتميا على سلوكيات الناس ومجريات الأمور في المجتمع.