"تونس اليوم متمسكة بعدم العبث بسيادتها والتدخل في شؤونها دفاعا عن كرامة مواطنيها".
بقلم : الحبيب الذوادي
تعتبر السيادة من المحددات الأساسية المكرسة للوجود القانوني والسياسي للدولة حيث أن السيادة تعتبر العنصر الأهم الذي يميز الدولة عن الوحدات الأخرى ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية لا تكتسب صفة الدولاتية بحكم افتقارها لعنصر السيادة بذلك فان الدولة ذات السيادة هي الكيان السياسي والاجتماعي الوحيد الذي يحق له القيام بالوظائف الحيوية للدولة كالحفاظ على النظام العام ، والاستقرار في الداخل،وحماية سيادة الدولة ووحدتها الترابية من التهديدات والأطماع الخارجية .
للسيادة عدة خصائص سواء كانت مطلقة بحيث تكون للدولة السلطة على جميع المواطنين ، وشاملة بمعنى تنطبق على جميع المواطنين في الدولة ومن يقيم داخل إقليمها باستثناء ما ورد في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ، وغير قابلة للتنازل، بمعنى أن الدولة لا تستطيع التنازل عن سيادتها وإلا فقدت ذاتيتها ، ومن ثم فان الدولة والسيادة هما في درجة كبيرة من التلازم والتكامل، فاعتبرت بذلك سيادة دائمة وباقية فتغير الحكومات لا تؤدي بالضرورة إلى فقدان سيادة الدولة الباقية .
تتجلى السيادة في مظهرين اثنين الأولى داخلية بمعنى إن الدولة هي صاحبة السلطة داخل إقليمها ولا معقب لقراراتها فهي سيادة داخلية على إقليمها، لتشمل الهواء الحدودي الذي يعلوها ، أما المظهر الثاني من السيادة فيطلق عليه السيادة الخارجية بحيث تتحرر الدولة من كل الضغوطات الخارجية الشيء الذي يجعلها تتخذ قراراتها في السياسة الداخلية والخارجية بشكل حر، وفي إطار ممارسة الدولة لسيادتها الخارجية تكون لها كامل الحرية في إقامة العلاقات الدبلوماسية وإبرام المعاهدات الدولية .
لا بد من التّأكيد بأن مبدأ السيادة يشكل إحدى الركائز الأساسية الذي يقوم عليها القانون الدولي ، باعتباره يعكس الإرادة السيدة للدول، فضلا عن كونه يمثل إحدى القواعد الضرورية لتنظيم العلاقات الدولية ، لكن على الرغم من كون السيادة تعد من المبادئ الراسخة التي يقوم عليها القانون الدولي والميثاق الأممي والذي تم دعمه وتعزيزه بمبدأ عدم التدخل ، وحظر استخدام القوة ، إلا أن الممارسات الدولية تثبت بأن مبدأ السيادة الوطنية بات يواجه تحديات كبرى بعد أن شكلت العولمة أحد المفاهيم الثورية في العلاقات الدولية بحكم نزعتها العدائية للحدود الإقليمية وسعيها الدائم لتحقيق الاندماج على المستوى العالمي من خلال تدويل السلع والأفكار ورؤوس الأموال على المستوى العالمي لتحل محلها ولاءات جديدة عادة ما تكون نفعية براغماتية الشيء الذي ساهم في إحداث تحولات عميقة على مستوى هيكل وموازين القوة في النظام العالمي الذي أدى بدوره إلى إحداث شروخات في مفهوم السيادة الوطنية من خلال إعادة توزيع و تغيير الأوزان النسبية للفاعلين في النظام العالمي لصالح الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية على حساب الدول .
يستخلص مما تقدم تراجع دور الدولة ومكانتها وتجلى ذلك بوضوح عقب أحداث 11 سبتمبر 2011 في الحرب الأمريكية على الإرهاب ساهمت في ابتداع شرعية دولية موازية تقوم على قانون الهيمنة فتحولت من خلال التدخلات الانفرادية الى سياسة حرب شاملة على السيادة الوطنية للدول ،كما تم اليوم إعادة توزيع عناصر القوة في النظام العالمي ، بما يرجح أوزان القوى الاقتصادية والعلمية أو التكنولوجية على حساب القوى التقليدية خاصة العسكرية ،أو الديموغرافية.. وتقدم قضايا جديدة موقع الريادة كقضايا حقوق الإنسان ، ومكافحة الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل... وبما يحمله من مضاعفات خطيرة على السيادة الوطنية ، بعد أن أفرزت العولمة انعكاسات خطيرة على السيادة الوطنية ،ذلك أن قوى العولمة أدت إلى تقويض هيبة الدولة وانتهاك سيادتها تجلى خصوصا بعدم قدرتها على مراقبة حدودها وذلك من خلال الدور الذي تقوم به الأقمار الصناعية اليوم في مجال الجوسسة ، إضافة لقوى أخرى فاعلة في نسق العولمة والتي يقع على عاتقها اليوم إدارة الاقتصاد العالمي كصندوق النقد الدولي ، والمنظمة العالمية للتجارة ، والبنك العالمي بفضل تدخلهم في شؤون دول العالم الثالث خصوصا في إطار ما يعرف ببرنامج التعديل الهيكلي وسياسة المشروطية .
إن العلاقات الدولية أصبحت في عالمنا اليوم لا تحكمها العواطف أو الإعجاب المتبادل بين القادة ، بل تحكمها مصالح الشعوب ومدى تقاربها حيث يكون التقاطع والتقارب تحت بند المصلحة المتبادلة بالأساس ، لكن غياب تلك المصلحة لا يعني التنافر والعداء بقدر ما يفرض احترام سيادة الدول وخيارات شعوبها ، وما نلحظه اليوم في ممارسة هذه العلاقات الدولية نجد بعض القوى تحاول الدفاع عن مصلحتها من خلال توظيف شعارات رنانة ، أو بتصيد الأخطاء حتى تبقى دولا وشعوبا تحت وصايتها ، وتبعيتها واستغلالها .. من ذلك موقف المفوض الأعلى للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي " جوزيب بوريل " الذي أعرب عن قلقله من تقارب تونس اليوم مع إيران والصين وروسيا والذي دعا إلى تقييم هذا التقارب وتطوره بما يتجاوز صلاحياته ، وحدود اللياقة الدبلوماسية ، وجاء في الخصوص الرد التونسي عن طريق السفارة التونسية في بلجيكا مؤكدة "أن الحكومة التونسية تمثل بشكل شرعي تطلعات الشعب وتعبر عن إرادته السيادية " وأضافت " أن تونس تحافظ في علاقاتها مع كافة شركائها بشكل مستقل وتظل ملتزمة بنجاحات شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي مع سعيها إلى تكييف هذه العلاقات مع التحديات والمتغيرات العالمية ."
إن تونس حتى ولو كانت في شراكة إستراتيجية متطورة مع الاتحاد الأوروبي فان ذلك لا يمنح الحق لهذه الدول الأوروبية بمعاملتنا كأننا تحت الوصاية ، ناهيك إن اتفاقية الشراكة اليوم مع الاتحاد الأوروبي، وبعد عقود من الاتفاق تحتاج إلى المراجعة ، وضرورة أن تضمن العدالة والندية وفق مصلحة الشريكين، وليس فقط وفق مصلحة الطرف الأقوى ، بحيث كرست هذه الاتفاقية الانحياز للطرف الأوروبي ولم يستفد الاقتصاد الوطني من هذه الاتفاقية كما يجب ، ولم يبرز رأس مال وطني قوي قادر على المنافسة بجدية في الأسواق الأوروبية .
تبعا لما تقدم توجهت من جديد تونس اليوم وتفطنت بعد سنوات من التراجع في مختلف مناحي التنمية لضرورة الشراكة مع النمور الأسيوية لما توفره من فرص ، ويكفي النظر لما تحقق اليوم في علاقات التعاون بين تونس والصين الشعبية .. مؤكدة في الخصوص عدم التنازل عن سيادتها التي تسمح لها بتنويع الشركاء وليس البقاء تحت وصاية طرف بعينه باسم الشراكة الإستراتيجية وذلك على اثر تعرض مصطلح السيادة الوطنية لانتكاسة كبرى خصوصا خلال العشرية الأخيرة وقبل الإجراءات الاستثنائية ليوم 25/07/2021 حين عوض بمصطلح سياسة المحاور الإقليمية حيث انخرطت تونس حينها في المحور التركي القطري ، وانخرط المعارضون الذين كان من المفروض التمسك بالسيادة الوطنية بالمحور المقابل الإماراتي والمصري والليبي، دفعت بلادنا حينها ثمنا غاليا خصوصا في الفترة الممتدة لسنوات 2012 إلى النصف الأول من 2019 ، من عجز تجاري وتدمير للمؤسسات الوطنية ، بعد غزو المنتوجات التركية حينها بلادنا ...
منذ 25 جويلية 2021 أعاد الخطاب السياسي الرسمي التأكيد على مصطلح السيادة الوطنية، وتم توجيه في الخصوص رسائل مباشرة في الداخل والخارج ، فالمساس بها خط أحمر وهي غير قابلة للمساومة ، وتتلخص هذه الرسائل عبر كلمات تم التأكيد عليها في أكثر من خطاب وكلمة للرئيس قيس سعيد وهي من قبيل "سيادة تونس خط أحمر" و"الأمن القومي فوق كل اعتبار " " تونس ليست مستعمرة " و " لن نتخلى عن سيادتنا" ، تلافيا لضرب الوحدة الوطنية وزعزعة الاستقرار السياسي والأمني لخلق الفتنة والفرقة داخل أبناء الشعب الواحد نتيجة مؤامرات خارجية .
من دون شك ، فعديدة هي مكامن تجسيد السيادة الوطنية على أرض الواقع من خلال آليات وطرق يتم بلورتها في برامج عملية تحول العبارة من مجرد رفع شعار يرفع ويتداول إلى حقيقة وواقع فكيف نحققها ؟
فبما أن مصطلح السيادة الوطنية مطلب شعبي لكل الشعوب ، فعلى مستوى المنافسة يختلف الأمر ، ومدى تحققه يختلف أساسا بمدى قوة الدولة أو ضعفها ، لذا لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية دون قوة تحميها سواء كانت اقتصادية أو عسكرية وحتى حضارية ، فتونس ملزمة اليوم أكثر من أي وقت مضى لامتلاك القوة الاقتصادية بهدف تحقيق سيادتها الوطنية كاملة غير منقوصة بالعمل على توفير الأمن الغذائي لمواطنيها لتكون في متناول إمكانيات الجميع ، تعد سيادة غذائية وكذلك العمل على وضع حد للتبعية في الزراعات الكبرى مقابل توفير البذور التونسية ومشاتل الأشجار...التي تتماشى مع طبيعة الفلاحة والمناخ في بلادنا ، والسعي المتواصل للحد من توريد المنتوجات التي بالإمكان توفيرها محليا مع التشجيع على الإنتاج المحلي ، وإعادة الثقة في المنتوج التونسي ، ولا يتسنى ذلك إلا من خلال القيام بمراجعة للمنوال التنموي ، مع ضرورة إعادة النظر في منظومة التوريد والتصدير لإدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي للقضاء على ظاهرة التهريب، والمراهنة على الرقمنة في المعاملات الاقتصادية الإدارية اليومية ، إلى جانب ضرورة الاعتناء بالقطاعات الواعدة وأهمها صناعة الذكاء مع مزيد حث البنوك على تمويل المشاريع المتوسطة والصغرى ، وإصلاح مجلة الصرف والتحويلات البنكية ... لذا فتكريس السيادة الوطنية وليتحول هذا المفهوم إلى فعل منجز تعود منافعه على الجميع لا بد من إنشاء هيكل مستقل لمقاومة الفساد ورصد الإمكانيات المادية واللوجستية له ، وتوفير كافة الخيارات التشريعية والقانونية ،والإستراتيجية ...ومن دون شك فالممهدات متوفرة في تونس اليوم للشروع في الخيارات الضرورية من أعلى هرم السلطة لتونس قصد تحقيق القفزة المنتظرة التي تلبي انتظارات التونسيين لكسب رهان البناء والتشييد ، لذا فان كانت ذكرى الجلاء للاعتراف والاستلهام من معركة بنزرت الخالدة التي تجسدت فيها معاني التضحية والصمود في ملحمة تاريخية ، فان معارك جلاءات أخرى يتعين مواصلة خوضها أهمها معركة السيادة الوطنية لا سيما في ظل الضغوطات الخارجية ومحاولات التدخل الأجنبي في الشأن الوطني فتونس تؤكد دوما اليوم في خطابها الرسمي، بأنها لن تتنكر لدماء شهدائها الزكية التي سالت من أجل أن تكون بلدا حرا ذات سيادة وصاحبة قرار دائما مستقلا .
باحث و ناشط في الحقل الجمعياتي
بمدينة بنزرت
"تونس اليوم متمسكة بعدم العبث بسيادتها والتدخل في شؤونها دفاعا عن كرامة مواطنيها".
بقلم : الحبيب الذوادي
تعتبر السيادة من المحددات الأساسية المكرسة للوجود القانوني والسياسي للدولة حيث أن السيادة تعتبر العنصر الأهم الذي يميز الدولة عن الوحدات الأخرى ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية لا تكتسب صفة الدولاتية بحكم افتقارها لعنصر السيادة بذلك فان الدولة ذات السيادة هي الكيان السياسي والاجتماعي الوحيد الذي يحق له القيام بالوظائف الحيوية للدولة كالحفاظ على النظام العام ، والاستقرار في الداخل،وحماية سيادة الدولة ووحدتها الترابية من التهديدات والأطماع الخارجية .
للسيادة عدة خصائص سواء كانت مطلقة بحيث تكون للدولة السلطة على جميع المواطنين ، وشاملة بمعنى تنطبق على جميع المواطنين في الدولة ومن يقيم داخل إقليمها باستثناء ما ورد في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ، وغير قابلة للتنازل، بمعنى أن الدولة لا تستطيع التنازل عن سيادتها وإلا فقدت ذاتيتها ، ومن ثم فان الدولة والسيادة هما في درجة كبيرة من التلازم والتكامل، فاعتبرت بذلك سيادة دائمة وباقية فتغير الحكومات لا تؤدي بالضرورة إلى فقدان سيادة الدولة الباقية .
تتجلى السيادة في مظهرين اثنين الأولى داخلية بمعنى إن الدولة هي صاحبة السلطة داخل إقليمها ولا معقب لقراراتها فهي سيادة داخلية على إقليمها، لتشمل الهواء الحدودي الذي يعلوها ، أما المظهر الثاني من السيادة فيطلق عليه السيادة الخارجية بحيث تتحرر الدولة من كل الضغوطات الخارجية الشيء الذي يجعلها تتخذ قراراتها في السياسة الداخلية والخارجية بشكل حر، وفي إطار ممارسة الدولة لسيادتها الخارجية تكون لها كامل الحرية في إقامة العلاقات الدبلوماسية وإبرام المعاهدات الدولية .
لا بد من التّأكيد بأن مبدأ السيادة يشكل إحدى الركائز الأساسية الذي يقوم عليها القانون الدولي ، باعتباره يعكس الإرادة السيدة للدول، فضلا عن كونه يمثل إحدى القواعد الضرورية لتنظيم العلاقات الدولية ، لكن على الرغم من كون السيادة تعد من المبادئ الراسخة التي يقوم عليها القانون الدولي والميثاق الأممي والذي تم دعمه وتعزيزه بمبدأ عدم التدخل ، وحظر استخدام القوة ، إلا أن الممارسات الدولية تثبت بأن مبدأ السيادة الوطنية بات يواجه تحديات كبرى بعد أن شكلت العولمة أحد المفاهيم الثورية في العلاقات الدولية بحكم نزعتها العدائية للحدود الإقليمية وسعيها الدائم لتحقيق الاندماج على المستوى العالمي من خلال تدويل السلع والأفكار ورؤوس الأموال على المستوى العالمي لتحل محلها ولاءات جديدة عادة ما تكون نفعية براغماتية الشيء الذي ساهم في إحداث تحولات عميقة على مستوى هيكل وموازين القوة في النظام العالمي الذي أدى بدوره إلى إحداث شروخات في مفهوم السيادة الوطنية من خلال إعادة توزيع و تغيير الأوزان النسبية للفاعلين في النظام العالمي لصالح الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية على حساب الدول .
يستخلص مما تقدم تراجع دور الدولة ومكانتها وتجلى ذلك بوضوح عقب أحداث 11 سبتمبر 2011 في الحرب الأمريكية على الإرهاب ساهمت في ابتداع شرعية دولية موازية تقوم على قانون الهيمنة فتحولت من خلال التدخلات الانفرادية الى سياسة حرب شاملة على السيادة الوطنية للدول ،كما تم اليوم إعادة توزيع عناصر القوة في النظام العالمي ، بما يرجح أوزان القوى الاقتصادية والعلمية أو التكنولوجية على حساب القوى التقليدية خاصة العسكرية ،أو الديموغرافية.. وتقدم قضايا جديدة موقع الريادة كقضايا حقوق الإنسان ، ومكافحة الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل... وبما يحمله من مضاعفات خطيرة على السيادة الوطنية ، بعد أن أفرزت العولمة انعكاسات خطيرة على السيادة الوطنية ،ذلك أن قوى العولمة أدت إلى تقويض هيبة الدولة وانتهاك سيادتها تجلى خصوصا بعدم قدرتها على مراقبة حدودها وذلك من خلال الدور الذي تقوم به الأقمار الصناعية اليوم في مجال الجوسسة ، إضافة لقوى أخرى فاعلة في نسق العولمة والتي يقع على عاتقها اليوم إدارة الاقتصاد العالمي كصندوق النقد الدولي ، والمنظمة العالمية للتجارة ، والبنك العالمي بفضل تدخلهم في شؤون دول العالم الثالث خصوصا في إطار ما يعرف ببرنامج التعديل الهيكلي وسياسة المشروطية .
إن العلاقات الدولية أصبحت في عالمنا اليوم لا تحكمها العواطف أو الإعجاب المتبادل بين القادة ، بل تحكمها مصالح الشعوب ومدى تقاربها حيث يكون التقاطع والتقارب تحت بند المصلحة المتبادلة بالأساس ، لكن غياب تلك المصلحة لا يعني التنافر والعداء بقدر ما يفرض احترام سيادة الدول وخيارات شعوبها ، وما نلحظه اليوم في ممارسة هذه العلاقات الدولية نجد بعض القوى تحاول الدفاع عن مصلحتها من خلال توظيف شعارات رنانة ، أو بتصيد الأخطاء حتى تبقى دولا وشعوبا تحت وصايتها ، وتبعيتها واستغلالها .. من ذلك موقف المفوض الأعلى للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي " جوزيب بوريل " الذي أعرب عن قلقله من تقارب تونس اليوم مع إيران والصين وروسيا والذي دعا إلى تقييم هذا التقارب وتطوره بما يتجاوز صلاحياته ، وحدود اللياقة الدبلوماسية ، وجاء في الخصوص الرد التونسي عن طريق السفارة التونسية في بلجيكا مؤكدة "أن الحكومة التونسية تمثل بشكل شرعي تطلعات الشعب وتعبر عن إرادته السيادية " وأضافت " أن تونس تحافظ في علاقاتها مع كافة شركائها بشكل مستقل وتظل ملتزمة بنجاحات شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي مع سعيها إلى تكييف هذه العلاقات مع التحديات والمتغيرات العالمية ."
إن تونس حتى ولو كانت في شراكة إستراتيجية متطورة مع الاتحاد الأوروبي فان ذلك لا يمنح الحق لهذه الدول الأوروبية بمعاملتنا كأننا تحت الوصاية ، ناهيك إن اتفاقية الشراكة اليوم مع الاتحاد الأوروبي، وبعد عقود من الاتفاق تحتاج إلى المراجعة ، وضرورة أن تضمن العدالة والندية وفق مصلحة الشريكين، وليس فقط وفق مصلحة الطرف الأقوى ، بحيث كرست هذه الاتفاقية الانحياز للطرف الأوروبي ولم يستفد الاقتصاد الوطني من هذه الاتفاقية كما يجب ، ولم يبرز رأس مال وطني قوي قادر على المنافسة بجدية في الأسواق الأوروبية .
تبعا لما تقدم توجهت من جديد تونس اليوم وتفطنت بعد سنوات من التراجع في مختلف مناحي التنمية لضرورة الشراكة مع النمور الأسيوية لما توفره من فرص ، ويكفي النظر لما تحقق اليوم في علاقات التعاون بين تونس والصين الشعبية .. مؤكدة في الخصوص عدم التنازل عن سيادتها التي تسمح لها بتنويع الشركاء وليس البقاء تحت وصاية طرف بعينه باسم الشراكة الإستراتيجية وذلك على اثر تعرض مصطلح السيادة الوطنية لانتكاسة كبرى خصوصا خلال العشرية الأخيرة وقبل الإجراءات الاستثنائية ليوم 25/07/2021 حين عوض بمصطلح سياسة المحاور الإقليمية حيث انخرطت تونس حينها في المحور التركي القطري ، وانخرط المعارضون الذين كان من المفروض التمسك بالسيادة الوطنية بالمحور المقابل الإماراتي والمصري والليبي، دفعت بلادنا حينها ثمنا غاليا خصوصا في الفترة الممتدة لسنوات 2012 إلى النصف الأول من 2019 ، من عجز تجاري وتدمير للمؤسسات الوطنية ، بعد غزو المنتوجات التركية حينها بلادنا ...
منذ 25 جويلية 2021 أعاد الخطاب السياسي الرسمي التأكيد على مصطلح السيادة الوطنية، وتم توجيه في الخصوص رسائل مباشرة في الداخل والخارج ، فالمساس بها خط أحمر وهي غير قابلة للمساومة ، وتتلخص هذه الرسائل عبر كلمات تم التأكيد عليها في أكثر من خطاب وكلمة للرئيس قيس سعيد وهي من قبيل "سيادة تونس خط أحمر" و"الأمن القومي فوق كل اعتبار " " تونس ليست مستعمرة " و " لن نتخلى عن سيادتنا" ، تلافيا لضرب الوحدة الوطنية وزعزعة الاستقرار السياسي والأمني لخلق الفتنة والفرقة داخل أبناء الشعب الواحد نتيجة مؤامرات خارجية .
من دون شك ، فعديدة هي مكامن تجسيد السيادة الوطنية على أرض الواقع من خلال آليات وطرق يتم بلورتها في برامج عملية تحول العبارة من مجرد رفع شعار يرفع ويتداول إلى حقيقة وواقع فكيف نحققها ؟
فبما أن مصطلح السيادة الوطنية مطلب شعبي لكل الشعوب ، فعلى مستوى المنافسة يختلف الأمر ، ومدى تحققه يختلف أساسا بمدى قوة الدولة أو ضعفها ، لذا لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية دون قوة تحميها سواء كانت اقتصادية أو عسكرية وحتى حضارية ، فتونس ملزمة اليوم أكثر من أي وقت مضى لامتلاك القوة الاقتصادية بهدف تحقيق سيادتها الوطنية كاملة غير منقوصة بالعمل على توفير الأمن الغذائي لمواطنيها لتكون في متناول إمكانيات الجميع ، تعد سيادة غذائية وكذلك العمل على وضع حد للتبعية في الزراعات الكبرى مقابل توفير البذور التونسية ومشاتل الأشجار...التي تتماشى مع طبيعة الفلاحة والمناخ في بلادنا ، والسعي المتواصل للحد من توريد المنتوجات التي بالإمكان توفيرها محليا مع التشجيع على الإنتاج المحلي ، وإعادة الثقة في المنتوج التونسي ، ولا يتسنى ذلك إلا من خلال القيام بمراجعة للمنوال التنموي ، مع ضرورة إعادة النظر في منظومة التوريد والتصدير لإدماج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي للقضاء على ظاهرة التهريب، والمراهنة على الرقمنة في المعاملات الاقتصادية الإدارية اليومية ، إلى جانب ضرورة الاعتناء بالقطاعات الواعدة وأهمها صناعة الذكاء مع مزيد حث البنوك على تمويل المشاريع المتوسطة والصغرى ، وإصلاح مجلة الصرف والتحويلات البنكية ... لذا فتكريس السيادة الوطنية وليتحول هذا المفهوم إلى فعل منجز تعود منافعه على الجميع لا بد من إنشاء هيكل مستقل لمقاومة الفساد ورصد الإمكانيات المادية واللوجستية له ، وتوفير كافة الخيارات التشريعية والقانونية ،والإستراتيجية ...ومن دون شك فالممهدات متوفرة في تونس اليوم للشروع في الخيارات الضرورية من أعلى هرم السلطة لتونس قصد تحقيق القفزة المنتظرة التي تلبي انتظارات التونسيين لكسب رهان البناء والتشييد ، لذا فان كانت ذكرى الجلاء للاعتراف والاستلهام من معركة بنزرت الخالدة التي تجسدت فيها معاني التضحية والصمود في ملحمة تاريخية ، فان معارك جلاءات أخرى يتعين مواصلة خوضها أهمها معركة السيادة الوطنية لا سيما في ظل الضغوطات الخارجية ومحاولات التدخل الأجنبي في الشأن الوطني فتونس تؤكد دوما اليوم في خطابها الرسمي، بأنها لن تتنكر لدماء شهدائها الزكية التي سالت من أجل أن تكون بلدا حرا ذات سيادة وصاحبة قرار دائما مستقلا .