إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الكاتب والشاعر عبد العزيز قاسم لـ"الصباح": الشعر يصبح ملهاة ومُلَح إذا لم يغُص في أعماق مناجم الذات أو يصعد إلى أرفع قممها

 

تونس-الصباح

أصيل مدينة القيروان مدينة التاريخ والحضارة والشعر

الأستاذ عبدالعزيز قاسم رجل استثنائي أينما حل تكون بصمته شعرا واضحة وجلية تنتصر للجدية والواقعية بعيدا عن التهويمات مهما كانت أسبابها .. كانت له مواجهة مع الزعيم الحبيب بورقيبة وقبلها رثا الفقيد المنصف باي لتنطلق رحلته في عالم السياسة التي عبدت له طريق التأسيس ثم التأثيث لمسيرة شعرية متفردة "وهو الذي يدعو الشعراء العرب اليوم " أن يعيدوا للأمة وعيها قبل عزتها وكرامتها". وهو الذي انتصر للشابي الذي لا يعرف اللغة الفرنسية فاتجه إلى الترجمة لعمالقة الشعر الغربي، مطلقا في ذات الوقت تحذيرا مفاده إن اللغة العربية اليوم تتعرض لحملات مشبوهة، أكد انه يعرف فصولها وغاياتها.

حوار: محسن بن احمد

*حوارنا هذا نريده مكرّسا للأدب عموما وللشعر على الخصوص بعيدا عن ترهات السياسة وتقلبات الزمان اعتقادا منا بأن السياسة ما دخلت شيئا إلا أفسدته وبأن الأحداث طارئة زائلة مهما عظمت في حين أن الشعر باق بالمعنى الذي جاء في قصيدة المواكب لخليل جبران:

أعطني الناي وغنِّ فالغنا سرُّ الخلود

وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود؟

نعم يطمح الشعر إلى أن يمهد الطريق إلى الخلود. هذا كلام يستعصي على فهم العامة. الشعر يصبح مجرد ملهاة ومُلَح إذا عجز عن الغوص في أعماق مناجم الذات أو عن الصعود إلى أرفع قممها، إنه تحليق مدوّخ في ملكوت المطلق. وهذه درجة لا يقدر عليها إلا الكبار. هناك بيت لأبي العلاء ما قرأته إلا وأخذتني قشعريرة العبقرية:

جسدي خِرْقةٌ تُخاطُ إلى الأرْضِ أيا خائطَ العوالمِ خِطْني

في هذا البيت منتهى التواضع ومنتهى الكبرياء. يقول : أنا لا شيء، مجرد قطعة ثوب ممزق إلا أنه يتوجه إلى الخائط الأعظم طالبا ضمّه إلى نسيج الكون باعتباره عالمَاً قائم الذات. وإن الشاعر الحقيقي لكذلك.هذا الضرب من الشعر المفتوح على الميتافيزيقا يسمو على ما سواه. وعلى غرار جبران والشابي وغيرهما من الحركة الرومانسية غربا وشرقا يدّعي الشعراء النبوة باستحقاق. ومن قبلهم بألف عام يقول المعري أيضا:

قضى الشخصُ ثمّ الذِّكْرُ فانْقَرَضا معًا وما ماتَ كلَّ الموْتِ منْ عاشَ مِنْهُ اسْمُ

وها هو ما يزال يعيش بيننا ويؤثر فينا.

*ولكن المنزلة البشرية تقتضي أن يصطدم الشاعر مهما علا شأنه بالواقع الأرضي بحلوه ومرّه..؟

صحيح أننا مضطرون إلى التعامل مع الأحداث كبيرها وصغيرها وكثيرا ما يقص هذا الواقع من طويل أجنحتنا. أما السياسة فلا مناص من احتكاكنا بها سلبا أو إيجابا حتى قيل ترْكُ السياسة سياسة ونحن، على سبيل المثال، إذا تأملنا من مسيرة الشعر التونسي منذ ثلاثينات القرن الماضي وأيا كان الغرض والموضوع تفاجئنا السياسة في أعلى مراتبها وفي تكتيكاتها، إن أي متابع للحركة الأدبية في تونس حيثما التفت أو انعرج يتفاجأ ببروز طيف الزعيم الحبيب بورقيبة لما كان له من حضور مكثَّف في هذا المجال.

*قبل أن تشرح لنا ذلك نود أن نعرف كيف نشأت موهبة الشعر في وجدانك؟

كنت طفلا هادئا قليل اللعب مع أقراني، كثيرا ما أخلو إلى نفسي في قرية لا تتوفر فيها وسائل التثقيف والمثاقفة، وكان الكتاب غير المدرسي نادرا. قرأت الكتب القليلة المتوفرة وهي لا تكاد تتجاوز قصص كامل الكيلاني والمنفلوطي وفي الواقع قرأت كل ما وقع بين يدي بما في ذلك "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي. أعدت قراءة هذه الكتب مرات حتى قلت في نفسي لماذا لا أقرأ مما أكتب. من هنا راودتني محنة الإبداع ودندنت في رأسي إرهاصات القريحة. وأشترك في هذه التنشئة مع كثير غيري. ولكن دخول مملكة الشعر والحصول على المواطنة فيها كان وما زال يتطلب قراءة آلاف الأبيات

من الشعر الجيد قديمه وحديثه واستظهار مقاطع كثيرة منها. بدون هذا الرصيد تولد القصائد هزيلة كسيحة.

*هل تذكر قصيدتك الأولى؟

لا، فالبدايات كانت مجرد محاولات تدور في فلك الشابي وجبران وعلي محمود طه.

*القصيدة الأولى التي نشرتها؟

فرص النشر كانت قليلة في تونس وهي شبه مستحيلة بالنسبة إلى شاعر قروي ناشئ. ومن المفارقة أن السياسة كانت وراء ظهوري على الساحة. أول قصيدة نشرت لي سنة 1948 مرثية لفقيد الوطن المنصف باي الذي نكلت به سلطات الحماية وهو القائل لزواره الوطنيين بمنفاه "نعشي أنفع لتونس من عرشي" ولكن القصيدة الثانية التي تسببت في بروز اسمي في الفضاء الأدبي كانت سياسية بامتياز عارضت بها الزعيم بورقيبة في مشروعه القائم على استراتيجية "خذ وطالب" وقرأتها أمامه وعلى منصته خلال اجتماع شعبي كبير فتلقفتها جريدة الإرادة الناطقة باسم الحزب الدستوري القديم. كان ذلك في شهر سبتمبر 1950. بعد ذلك بثلاثة عقود عينت مديرا عاما للإذاعة والتلفزة وهو منصب سيادي قريب جدا من رأس السلطة فتولى "أولاد الحلال" تذكير الزعيم بالحادثة فجرى بيني وبينه حوار مقتضب في الموضوع أنهيته بجملة واحدة استساغها الرئيس وطوي الملف. قلت: "أقوى أنواع الإيمان ما جاء بعد كفر". هذه القصيدة تسببت لي في كثير من المتاعب ولكنها هي التي عرَّفتْ بي على نطاق واسع وفتحت لي أبواب الجرائد والإذاعة التي استقبلت شعري وقد بدأ ينضج بعيدا عن السياسة.

*كيف تعيش لحظة كتابة القصيدة؟

-يبدأ نزول " الوحي " في شكل دوار أو غيبوبة لا تعي إلا ذاتها وأحاول الفرار وغالبا ما يكون المخاض عسيرا: تأتي الكلمات مترنحة ثم تتنزل الصور فلا أستطيع استيعابها فيضيع منها ما يضيع وبعد استفراغ الذات من حملها تبدأ عملية الترتيب والتركيب والتهذيب وإذا كانت القصيدة هي بالأساس محصول ساعة إلهام وليلة من التجلّي فإنها لا تكتمل إلا بمرورها عبر أفران الصناعة وتدوم عملية الصهر عندي أياما وليالي. تلك هي معاناة الإبداع الطويلة. لذلك أصنف نفسي ويصنفني الكثيرون بالشاعر المقلّ.

*دخلت السياسة إذن في وقت مبكر وانتهى بك المطاف في ثمانينات القرن الماضي واحدا من المقربين للرئيس الحبيب بورقيبة "المستمع الأكبر" كما سميته في كتاب لك صدر سنة 2022 ، هذا المنصب الذي توليته على عهدتين كان سياسيا بامتياز. كيف كانت العلاقة بين مسيرتيك السياسية والشعرية ؟

دخلت السياسة مكرها. وحتى عندما توليت مقاليد المكتبة الوطنية وهي فضاء أكاديمي مرموق لاحقتني السياسة. كان الدبلوماسيون الأجانب يزورونني بتعلة الاطلاع على نفائس المخطوطات فيدلون لي ببعض التلميحات والمقترحات خارج مسالك الشؤون الخارجية على أمل أن أنقلها إلى الوزير الأول وكثيرا ما كنت أفعل. والملاحظ أن الفترة التي قضيتها على رأس الإذاعة والتلفزة (ما يربو عن سنوات ثلاث) كانت عقيمة لم أكتب خلالها بيتا شعريا واحدا علما بأن ذلك لم يصدني عن تشجيع البرامج الثقافية ودعم الإبداع الشعري جريا وراء ما اعتادت عليه الإذاعة من احتضان الشعر والشعراء منذ انطلاقها في 15 أكتوبر 1938 . أما المناصب التي شغلتها في وزارة الشؤون الثقافية فكانت تستجيب في الغالب لإلحاح القريحة.

*أي دور للإذاعة في نشر الشعر بين الأمس واليوم؟

- الإذاعة، أعني القسم العربي، منذ نشأته، أيام الحماية، استقطب كل الشعراء وكل الأدباء المعروفين المقيمين بالعاصمة وقد أشاد الشيخ الفاضل ابن عاشور في كتابه "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" (نشر بيت الحكمة، 2009) باحتضان هذه الوسيلة الجليلة لكل المواهب طوال سنوات المخاض المؤدي إلى الاستقلال. ومن أهم ما اعتنت به هو تطوير الأغنية بين دارجة وفصحى بأقلام شعراء متمكنين كأحمد خير الدين وعبد الرزاق كرباكة وجلال الدين النقاش ومحمود بورقيبة. حتى أبو القاسم الشابي الذي عاجلته المنية قبيل ظهور الإذاعة بأربع سنوات ذاع صيته بفضل ما دأبت هذه الأخيرة على تقديمه من روائعه. واستمرت الإذاعة طوال العهد البورقيبي في إحلال الشعر المنزلة التي يستحقها وذلك بفضل ما كان الزعيم يوليه من عناية ومتابعة من خلال اهتمامه المباشر بالناشئين من ناظمي الشعر وكتبة القصة القصيرة ذكورا وإناثا ممن كان يجمعهم برنامج "هواة الأدب" وكذلك بالعكاضيات التي كانت تقام بمناسبة أعياد ميلاده وما كان يستشهد به من أشعار في خطبه. كان هذا بالأمس أما اليوم فلست أدري...

*هناك من يقول إن "العكاضيات " بما تتضمنه من مدائح مجعولة لإشباع عبادة الذات المتضخمة عند الزعيم. ماذا تقول بهذا الخصوص ؟

العكاضيات فكرة جاء بها عبد العزيز العروي مدة اضطلاعه بإدارة الإذاعة بالنيابة إذ توجه يوم الثالث من أوت 1956 إلى مقر إقامة الزعيم مصحوبا بأحمد خير الدين وجلال الدين النقاش اللذين ألقيا بين يديه قصيدتي تهنئة بالمناسبة وأصبح ذلك في ما بعد سنّة في توسع مطرد حتى شمل كل الولايات. طبعا كان الزعيم يطرب لذلك. كان يبرر هذه الاحتفالات بأن الشعراء هم الذين يخلدون الملاحم ويقول : " أنا أشجع الشعراء عسى أن يظهر بتونس متنبي جديد" وفي اعتقادي أنه كان ينظر إلى أحمد اللغماني على أنه نظير شاعر سيف الدولة. وأذكّر الذين يستنكفون من المديح أن هذا الغرض الشعري أصيل متأصل في ديوان العرب وأن الحكم له أو عليه يتطلب مقاييس أدبية محضة ففيه الجيد وفيه الرديء. والكلمة الأولى والأخيرة في هذا السياق تعود للنقاد.

*كيف تنظر إلى الحركة النقدية للشعر في تونس والوطن العربي اليوم ؟

النقد جنس أدبي قائم بذاته له دور وظيفي أساسي فالناقد هو الذي يعطي القارئ مفاتيح النص وهو الذي يصنف الأنواع الأدبية ويكشف مواطن القوة والضعف ويستخرج من الآثار الأدبية ما تستنبطنه من نظريات ومذاهب وباختصار فإن الناقد الأدبي قارئ متميز يساعد النص على شق الطريق وهذا الصنف النشيط والمنشط من الأدباء كان متوفرا في تونس وفي الأقطار العربية وكانوا وراء معارك أدبية شرسة وملهمة استمرت إلى ستينات القرن العشرين ثم انحسر المجال ونكاد لا نجده اليوم إلا في الدراسات الجامعية ولجأ الكتاب إلى الركض وراء الجوائز الأدبية وتحضرني نادرة في الصدد. أول من ابتدع الجوائز هو الإمبراطور نابليون بونابارت أراد أن يشغل بها الكتاب عن سياساته المثيرة للجدل. ذات يوم، سأل أحد مستشاريه عن هذه البادرة الثقافية فقال له: مولاي في الماضي كان رجالات الفكر يتندرون بتصرفات الجهلة والأغبياء أما بعد إحداث الجوائز فقد أصبح أنصاف المتعلمين يتندرون بما يرون من تكالب رجالات الفكر وتملقهم لأعضاء لجان التحكيم.

* عرفت تونس خلال سنوات الاستقلال الأولى حركية شعرية وأدبية متفردة وثرية ومتنوعة .. هل يمكن اليوم الحديث عن امتداد لها ؟

كان ذلك نتيجة لما شهدته تونس المستقلة من نهضة تربوية وتنموية. دخلنا معركة حامية ضد التخلف وتطلع الشباب الجامعي إلى مزيد من التحرر في الوقت الذي كان فيه الزعيم بورقيبة يرى أن الأولوية للأهم قبل المهم أي أن بناء الدولة يقتضي رص الصفوف لا الانشغال بمعارك جانبية. وصحيح أن الديمقراطية كانت تشكو نقصا ملحوظا في الحياة العامة إلا أن الزعيم كان محقا عندما يقول: "حررنا الوطن من مخالب الاستعمار وعلينا الآن تحرير العقول من سلطان الخرافة الدينية". كان يراهن على ما كان يسميه "المادة الشخمة". وكان لإحداث وزارة الشؤون الثقافية دور فعال في تنشيط الحركة الأدبية والفنية وفي التحفيز على الإبداع وهي التي كانت وراء تطوير النشر والإنتاج المسرحي والسينمائي والحفاظ على التراث، ولا ننسى ما قامت به مجلة "الفكر" من فتح الباب أمام الأقلام الناضجة والناشئة طوال ثلاثين سنة متواصلة. وما زالت الحركة الأدبية تشهد حيوية في مجال الرواية على الأخص إلا أنها تكاد لا تحظى بعناية الدولة.

*من وجهة نظرك الشعر في تونس اليوم مدارس ام تيارات؟

الشعر في تونس فاقد للرعاية لم يعد له الحيز الذي كان يشغله في العهد البورقيبي لقد قلّ حضوره في وسائل الإعلام وفي دور النشر فمن أين تأتي المدارس والتيارات؟ وهذا ينطبق على الشعر في المغرب والمشرق أيضا لقد انتهى الزمن الذي كان فيه عمر أبو ريشة يستطيع أن يسقط حكومة بقصيدة واحدة. لقد تلقى الشعر العربي ضربة قاتلة بوفاة نزار قباني. القرن الحادي والعشرون قرن تقنيات بلا ثقافة. أصبحت القصيدة عملا فرديا وضربا من ضروب الصناعات التقليدية... قال لي أحد الأصدقاء مؤخرا: لا تكن متشائما فالشعر حاضر في شبكات التواصل الاجتماعي قلت : صحيح وفي معظمه استشهادات مغلوطة بما يجعل منها مذبحة للنحو والصرف والعروض. إن أزمة الشعر شديدة الارتباط بالوضع اللغوي المتردي. اللغة هي الكلّ.

*كأني بك تحمّل الأجيال الجديدة مسؤولية هذا التردي ...؟

أنا لا أفاضل بين الأجيال وباعتباري من رجال التعليم فإني أتهم نفسي بالتقصير إزاء هذه الأجيال. نحن قرأنا واستفدنا ولم نحسن غراسة الحاجة إلى القراءة في نفوس اللاحقين.

* لنكن متفائلين فالشعر باق ومن وجهة نظرك ما هي القضايا الحارقة التي تشغل أو التي يجب أن تشغل بال الشاعر اليوم والتي من الضروري التفاعل معها؟

الشعر في الغرب يسعى إلى غزو المطلق فهو يحاول استنطاق ما يستعصي عن العبارة أما الشعر العربي فما زال تحت مطرقة "ما لا يقال" وسندان "ما لا يُنْطَق". هناك قضايا حارقة فعلا منها على الساخن ما يجري في غزة حيث يتقرر لا مصير الإنسان الفلسطيني فحسب بل مصير الإنسان العربي عموما. إن نعت وزير الحرب الصهيوني الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" تستحق الإبادة هو يعني العرب كافة رافضين ومطبعين على السواء. الصهيونية تمييز عنصري فلا ينبغي أن نخدع أنفسنا: "أبراهام" لا علاقة له بـ"إبراهيم" وعلى الشعراء العرب أن يعيدوا للأمة وعيها قبل عزتها وكرامتها. الشاعر هو الوحيد القادر على الإحاطة بمنزلة الإنسان في زمن الرداءة وأتساءل أين النهضة العربية العارمة الواعدة الممتدة من رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين؟ إن الربيع العربي طوى البساط بمن فيه.

* تكتب الشعر باللغة الفرنسية أيضا ما هو المحدد لهذا التوجه؟

خلال قراءتي المتأنية لأعمال أبي القاسم الشابي الكاملة استوقفتني منه صيحة تحسّر مدهشة. كان في إحدى رسائله لصديقه محمد الحليوي تعرض إلى ما كان يعتبره نقصا فادحا في تكوينه الزيتوني يعني جهله للغة الفرنسية فانفجر قائلا: "أنا عاجز، عاجز، عاجز ، أطير بجناح واحد منتوف " وبما أني ثنائي اللسان قررت أن أطير بجناحيّ الاثنين. وفي اعتقادي أني بهاتين الملَكتيْن أسديت للثقافة العربية خدمات لا يستهان بها من خلال الشعر وما قمت به من دراسات في مجال الأدب المقارن.

* من خلال ترجمتك إلى الفرنسية لقصائد عربية من مختلف العصور. ما هي التقنيات المعتمدة في اختيار نص على حساب آخر لترجمته؟

لم يكن عملي كمترجم ممنهجا ولقد قمت بنقل مقاطع من الشعر العربي في إطار أعمال جامعية وكانت الترجمات أكاديمية إلا أني ترجمت مقاطع عديدة أخرى مقفاة وبشروط العروض الفرنسي وقد شجعني على ذلك صديقي المستعرب الكبير أندري ميكال، رحمه الله، وعمدت كذلك إلى ترجمة أبيات تُنعت ب"الميدالية" أي صالحة للنقش على وسام. من بين من ترجمت لهم المتنبي والمعري وأبو نواس وأبو تمام والشابي وغيرهم وهذه الترجمات مبثوثة في كتبي ومقالاتي المنشورة. ولكن عملية ترجمة الشعر عملية صعبة تتطلب كثيرا من الوقت والمعاناة ولم يعد لي الكثير من الوقت والصبر ومع ذلك تراودني الرغبة في جمع ما ترجمت في كتاب مستقل...

*هناك جدل قائم بين الفصحى والدارجة. الكثير يرون أن الشعر بالدارجة أكثر أصالة وأشد ارتباطا بالهوية من الشعر الفصيح. ما رأيك؟

أرفض الدخول في هذا الجدل العبثي العقيم. إن اللغة العربية تتعرض لحملات مشبوهة أعرف فصولها وغاياتها. لم يكن هناك أي صدام بين الدارجة والفصحى فهما تتعايشان منذ قرون. صحيح أن الشعر بالدارجة كان يدعى بالملحون أي الخارج عن قواعد الإعراب وفي هذه التسمية غبن رفعه بورقيبة الذي كان يستسيغه بمثل استساغته للفصيح فسماه "الشعر الشعبي". شعراء الأغنية الكبار كتبوا بالفصحى وبالدارجة دون مركبات.

عبدالعزيز قاسم.. سيرة موجزة

مبرز في اللغة والآداب العربية من جامعة السربون،

عمل أستاذا بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار وبدار المعلمين العليا تونس وبكلية الآداب منوبة.

تقلد مناصب عليا في مجال الإعلام والثقافة.

كاتب وباحث باللغتين العربية والفرنسية، نشر وشارك في ما لا يقل عن عشرين كتابا من ضمنها ستة دواوين شعرية. تعنى دراساته وبحوثه بقضايا فكرية و في إطار الأدب المقارن. له مقالات عديدة في الصحف والدوريات التونسية والأجنبية.

حاضر في عدد من الجامعات الفرنسية والبلجيكية

انتخب رئيسا شرفيا لبيت الشعر العالمي ببروكسيل (بلجيكا).

شارك في عدة ملتقيات أوروبية حول حوار الحضارات. ...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الكاتب والشاعر عبد العزيز قاسم لـ"الصباح":  الشعر يصبح ملهاة ومُلَح إذا لم يغُص في أعماق مناجم الذات أو يصعد إلى أرفع قممها

 

تونس-الصباح

أصيل مدينة القيروان مدينة التاريخ والحضارة والشعر

الأستاذ عبدالعزيز قاسم رجل استثنائي أينما حل تكون بصمته شعرا واضحة وجلية تنتصر للجدية والواقعية بعيدا عن التهويمات مهما كانت أسبابها .. كانت له مواجهة مع الزعيم الحبيب بورقيبة وقبلها رثا الفقيد المنصف باي لتنطلق رحلته في عالم السياسة التي عبدت له طريق التأسيس ثم التأثيث لمسيرة شعرية متفردة "وهو الذي يدعو الشعراء العرب اليوم " أن يعيدوا للأمة وعيها قبل عزتها وكرامتها". وهو الذي انتصر للشابي الذي لا يعرف اللغة الفرنسية فاتجه إلى الترجمة لعمالقة الشعر الغربي، مطلقا في ذات الوقت تحذيرا مفاده إن اللغة العربية اليوم تتعرض لحملات مشبوهة، أكد انه يعرف فصولها وغاياتها.

حوار: محسن بن احمد

*حوارنا هذا نريده مكرّسا للأدب عموما وللشعر على الخصوص بعيدا عن ترهات السياسة وتقلبات الزمان اعتقادا منا بأن السياسة ما دخلت شيئا إلا أفسدته وبأن الأحداث طارئة زائلة مهما عظمت في حين أن الشعر باق بالمعنى الذي جاء في قصيدة المواكب لخليل جبران:

أعطني الناي وغنِّ فالغنا سرُّ الخلود

وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود؟

نعم يطمح الشعر إلى أن يمهد الطريق إلى الخلود. هذا كلام يستعصي على فهم العامة. الشعر يصبح مجرد ملهاة ومُلَح إذا عجز عن الغوص في أعماق مناجم الذات أو عن الصعود إلى أرفع قممها، إنه تحليق مدوّخ في ملكوت المطلق. وهذه درجة لا يقدر عليها إلا الكبار. هناك بيت لأبي العلاء ما قرأته إلا وأخذتني قشعريرة العبقرية:

جسدي خِرْقةٌ تُخاطُ إلى الأرْضِ أيا خائطَ العوالمِ خِطْني

في هذا البيت منتهى التواضع ومنتهى الكبرياء. يقول : أنا لا شيء، مجرد قطعة ثوب ممزق إلا أنه يتوجه إلى الخائط الأعظم طالبا ضمّه إلى نسيج الكون باعتباره عالمَاً قائم الذات. وإن الشاعر الحقيقي لكذلك.هذا الضرب من الشعر المفتوح على الميتافيزيقا يسمو على ما سواه. وعلى غرار جبران والشابي وغيرهما من الحركة الرومانسية غربا وشرقا يدّعي الشعراء النبوة باستحقاق. ومن قبلهم بألف عام يقول المعري أيضا:

قضى الشخصُ ثمّ الذِّكْرُ فانْقَرَضا معًا وما ماتَ كلَّ الموْتِ منْ عاشَ مِنْهُ اسْمُ

وها هو ما يزال يعيش بيننا ويؤثر فينا.

*ولكن المنزلة البشرية تقتضي أن يصطدم الشاعر مهما علا شأنه بالواقع الأرضي بحلوه ومرّه..؟

صحيح أننا مضطرون إلى التعامل مع الأحداث كبيرها وصغيرها وكثيرا ما يقص هذا الواقع من طويل أجنحتنا. أما السياسة فلا مناص من احتكاكنا بها سلبا أو إيجابا حتى قيل ترْكُ السياسة سياسة ونحن، على سبيل المثال، إذا تأملنا من مسيرة الشعر التونسي منذ ثلاثينات القرن الماضي وأيا كان الغرض والموضوع تفاجئنا السياسة في أعلى مراتبها وفي تكتيكاتها، إن أي متابع للحركة الأدبية في تونس حيثما التفت أو انعرج يتفاجأ ببروز طيف الزعيم الحبيب بورقيبة لما كان له من حضور مكثَّف في هذا المجال.

*قبل أن تشرح لنا ذلك نود أن نعرف كيف نشأت موهبة الشعر في وجدانك؟

كنت طفلا هادئا قليل اللعب مع أقراني، كثيرا ما أخلو إلى نفسي في قرية لا تتوفر فيها وسائل التثقيف والمثاقفة، وكان الكتاب غير المدرسي نادرا. قرأت الكتب القليلة المتوفرة وهي لا تكاد تتجاوز قصص كامل الكيلاني والمنفلوطي وفي الواقع قرأت كل ما وقع بين يدي بما في ذلك "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ النفزاوي. أعدت قراءة هذه الكتب مرات حتى قلت في نفسي لماذا لا أقرأ مما أكتب. من هنا راودتني محنة الإبداع ودندنت في رأسي إرهاصات القريحة. وأشترك في هذه التنشئة مع كثير غيري. ولكن دخول مملكة الشعر والحصول على المواطنة فيها كان وما زال يتطلب قراءة آلاف الأبيات

من الشعر الجيد قديمه وحديثه واستظهار مقاطع كثيرة منها. بدون هذا الرصيد تولد القصائد هزيلة كسيحة.

*هل تذكر قصيدتك الأولى؟

لا، فالبدايات كانت مجرد محاولات تدور في فلك الشابي وجبران وعلي محمود طه.

*القصيدة الأولى التي نشرتها؟

فرص النشر كانت قليلة في تونس وهي شبه مستحيلة بالنسبة إلى شاعر قروي ناشئ. ومن المفارقة أن السياسة كانت وراء ظهوري على الساحة. أول قصيدة نشرت لي سنة 1948 مرثية لفقيد الوطن المنصف باي الذي نكلت به سلطات الحماية وهو القائل لزواره الوطنيين بمنفاه "نعشي أنفع لتونس من عرشي" ولكن القصيدة الثانية التي تسببت في بروز اسمي في الفضاء الأدبي كانت سياسية بامتياز عارضت بها الزعيم بورقيبة في مشروعه القائم على استراتيجية "خذ وطالب" وقرأتها أمامه وعلى منصته خلال اجتماع شعبي كبير فتلقفتها جريدة الإرادة الناطقة باسم الحزب الدستوري القديم. كان ذلك في شهر سبتمبر 1950. بعد ذلك بثلاثة عقود عينت مديرا عاما للإذاعة والتلفزة وهو منصب سيادي قريب جدا من رأس السلطة فتولى "أولاد الحلال" تذكير الزعيم بالحادثة فجرى بيني وبينه حوار مقتضب في الموضوع أنهيته بجملة واحدة استساغها الرئيس وطوي الملف. قلت: "أقوى أنواع الإيمان ما جاء بعد كفر". هذه القصيدة تسببت لي في كثير من المتاعب ولكنها هي التي عرَّفتْ بي على نطاق واسع وفتحت لي أبواب الجرائد والإذاعة التي استقبلت شعري وقد بدأ ينضج بعيدا عن السياسة.

*كيف تعيش لحظة كتابة القصيدة؟

-يبدأ نزول " الوحي " في شكل دوار أو غيبوبة لا تعي إلا ذاتها وأحاول الفرار وغالبا ما يكون المخاض عسيرا: تأتي الكلمات مترنحة ثم تتنزل الصور فلا أستطيع استيعابها فيضيع منها ما يضيع وبعد استفراغ الذات من حملها تبدأ عملية الترتيب والتركيب والتهذيب وإذا كانت القصيدة هي بالأساس محصول ساعة إلهام وليلة من التجلّي فإنها لا تكتمل إلا بمرورها عبر أفران الصناعة وتدوم عملية الصهر عندي أياما وليالي. تلك هي معاناة الإبداع الطويلة. لذلك أصنف نفسي ويصنفني الكثيرون بالشاعر المقلّ.

*دخلت السياسة إذن في وقت مبكر وانتهى بك المطاف في ثمانينات القرن الماضي واحدا من المقربين للرئيس الحبيب بورقيبة "المستمع الأكبر" كما سميته في كتاب لك صدر سنة 2022 ، هذا المنصب الذي توليته على عهدتين كان سياسيا بامتياز. كيف كانت العلاقة بين مسيرتيك السياسية والشعرية ؟

دخلت السياسة مكرها. وحتى عندما توليت مقاليد المكتبة الوطنية وهي فضاء أكاديمي مرموق لاحقتني السياسة. كان الدبلوماسيون الأجانب يزورونني بتعلة الاطلاع على نفائس المخطوطات فيدلون لي ببعض التلميحات والمقترحات خارج مسالك الشؤون الخارجية على أمل أن أنقلها إلى الوزير الأول وكثيرا ما كنت أفعل. والملاحظ أن الفترة التي قضيتها على رأس الإذاعة والتلفزة (ما يربو عن سنوات ثلاث) كانت عقيمة لم أكتب خلالها بيتا شعريا واحدا علما بأن ذلك لم يصدني عن تشجيع البرامج الثقافية ودعم الإبداع الشعري جريا وراء ما اعتادت عليه الإذاعة من احتضان الشعر والشعراء منذ انطلاقها في 15 أكتوبر 1938 . أما المناصب التي شغلتها في وزارة الشؤون الثقافية فكانت تستجيب في الغالب لإلحاح القريحة.

*أي دور للإذاعة في نشر الشعر بين الأمس واليوم؟

- الإذاعة، أعني القسم العربي، منذ نشأته، أيام الحماية، استقطب كل الشعراء وكل الأدباء المعروفين المقيمين بالعاصمة وقد أشاد الشيخ الفاضل ابن عاشور في كتابه "الحركة الأدبية والفكرية في تونس" (نشر بيت الحكمة، 2009) باحتضان هذه الوسيلة الجليلة لكل المواهب طوال سنوات المخاض المؤدي إلى الاستقلال. ومن أهم ما اعتنت به هو تطوير الأغنية بين دارجة وفصحى بأقلام شعراء متمكنين كأحمد خير الدين وعبد الرزاق كرباكة وجلال الدين النقاش ومحمود بورقيبة. حتى أبو القاسم الشابي الذي عاجلته المنية قبيل ظهور الإذاعة بأربع سنوات ذاع صيته بفضل ما دأبت هذه الأخيرة على تقديمه من روائعه. واستمرت الإذاعة طوال العهد البورقيبي في إحلال الشعر المنزلة التي يستحقها وذلك بفضل ما كان الزعيم يوليه من عناية ومتابعة من خلال اهتمامه المباشر بالناشئين من ناظمي الشعر وكتبة القصة القصيرة ذكورا وإناثا ممن كان يجمعهم برنامج "هواة الأدب" وكذلك بالعكاضيات التي كانت تقام بمناسبة أعياد ميلاده وما كان يستشهد به من أشعار في خطبه. كان هذا بالأمس أما اليوم فلست أدري...

*هناك من يقول إن "العكاضيات " بما تتضمنه من مدائح مجعولة لإشباع عبادة الذات المتضخمة عند الزعيم. ماذا تقول بهذا الخصوص ؟

العكاضيات فكرة جاء بها عبد العزيز العروي مدة اضطلاعه بإدارة الإذاعة بالنيابة إذ توجه يوم الثالث من أوت 1956 إلى مقر إقامة الزعيم مصحوبا بأحمد خير الدين وجلال الدين النقاش اللذين ألقيا بين يديه قصيدتي تهنئة بالمناسبة وأصبح ذلك في ما بعد سنّة في توسع مطرد حتى شمل كل الولايات. طبعا كان الزعيم يطرب لذلك. كان يبرر هذه الاحتفالات بأن الشعراء هم الذين يخلدون الملاحم ويقول : " أنا أشجع الشعراء عسى أن يظهر بتونس متنبي جديد" وفي اعتقادي أنه كان ينظر إلى أحمد اللغماني على أنه نظير شاعر سيف الدولة. وأذكّر الذين يستنكفون من المديح أن هذا الغرض الشعري أصيل متأصل في ديوان العرب وأن الحكم له أو عليه يتطلب مقاييس أدبية محضة ففيه الجيد وفيه الرديء. والكلمة الأولى والأخيرة في هذا السياق تعود للنقاد.

*كيف تنظر إلى الحركة النقدية للشعر في تونس والوطن العربي اليوم ؟

النقد جنس أدبي قائم بذاته له دور وظيفي أساسي فالناقد هو الذي يعطي القارئ مفاتيح النص وهو الذي يصنف الأنواع الأدبية ويكشف مواطن القوة والضعف ويستخرج من الآثار الأدبية ما تستنبطنه من نظريات ومذاهب وباختصار فإن الناقد الأدبي قارئ متميز يساعد النص على شق الطريق وهذا الصنف النشيط والمنشط من الأدباء كان متوفرا في تونس وفي الأقطار العربية وكانوا وراء معارك أدبية شرسة وملهمة استمرت إلى ستينات القرن العشرين ثم انحسر المجال ونكاد لا نجده اليوم إلا في الدراسات الجامعية ولجأ الكتاب إلى الركض وراء الجوائز الأدبية وتحضرني نادرة في الصدد. أول من ابتدع الجوائز هو الإمبراطور نابليون بونابارت أراد أن يشغل بها الكتاب عن سياساته المثيرة للجدل. ذات يوم، سأل أحد مستشاريه عن هذه البادرة الثقافية فقال له: مولاي في الماضي كان رجالات الفكر يتندرون بتصرفات الجهلة والأغبياء أما بعد إحداث الجوائز فقد أصبح أنصاف المتعلمين يتندرون بما يرون من تكالب رجالات الفكر وتملقهم لأعضاء لجان التحكيم.

* عرفت تونس خلال سنوات الاستقلال الأولى حركية شعرية وأدبية متفردة وثرية ومتنوعة .. هل يمكن اليوم الحديث عن امتداد لها ؟

كان ذلك نتيجة لما شهدته تونس المستقلة من نهضة تربوية وتنموية. دخلنا معركة حامية ضد التخلف وتطلع الشباب الجامعي إلى مزيد من التحرر في الوقت الذي كان فيه الزعيم بورقيبة يرى أن الأولوية للأهم قبل المهم أي أن بناء الدولة يقتضي رص الصفوف لا الانشغال بمعارك جانبية. وصحيح أن الديمقراطية كانت تشكو نقصا ملحوظا في الحياة العامة إلا أن الزعيم كان محقا عندما يقول: "حررنا الوطن من مخالب الاستعمار وعلينا الآن تحرير العقول من سلطان الخرافة الدينية". كان يراهن على ما كان يسميه "المادة الشخمة". وكان لإحداث وزارة الشؤون الثقافية دور فعال في تنشيط الحركة الأدبية والفنية وفي التحفيز على الإبداع وهي التي كانت وراء تطوير النشر والإنتاج المسرحي والسينمائي والحفاظ على التراث، ولا ننسى ما قامت به مجلة "الفكر" من فتح الباب أمام الأقلام الناضجة والناشئة طوال ثلاثين سنة متواصلة. وما زالت الحركة الأدبية تشهد حيوية في مجال الرواية على الأخص إلا أنها تكاد لا تحظى بعناية الدولة.

*من وجهة نظرك الشعر في تونس اليوم مدارس ام تيارات؟

الشعر في تونس فاقد للرعاية لم يعد له الحيز الذي كان يشغله في العهد البورقيبي لقد قلّ حضوره في وسائل الإعلام وفي دور النشر فمن أين تأتي المدارس والتيارات؟ وهذا ينطبق على الشعر في المغرب والمشرق أيضا لقد انتهى الزمن الذي كان فيه عمر أبو ريشة يستطيع أن يسقط حكومة بقصيدة واحدة. لقد تلقى الشعر العربي ضربة قاتلة بوفاة نزار قباني. القرن الحادي والعشرون قرن تقنيات بلا ثقافة. أصبحت القصيدة عملا فرديا وضربا من ضروب الصناعات التقليدية... قال لي أحد الأصدقاء مؤخرا: لا تكن متشائما فالشعر حاضر في شبكات التواصل الاجتماعي قلت : صحيح وفي معظمه استشهادات مغلوطة بما يجعل منها مذبحة للنحو والصرف والعروض. إن أزمة الشعر شديدة الارتباط بالوضع اللغوي المتردي. اللغة هي الكلّ.

*كأني بك تحمّل الأجيال الجديدة مسؤولية هذا التردي ...؟

أنا لا أفاضل بين الأجيال وباعتباري من رجال التعليم فإني أتهم نفسي بالتقصير إزاء هذه الأجيال. نحن قرأنا واستفدنا ولم نحسن غراسة الحاجة إلى القراءة في نفوس اللاحقين.

* لنكن متفائلين فالشعر باق ومن وجهة نظرك ما هي القضايا الحارقة التي تشغل أو التي يجب أن تشغل بال الشاعر اليوم والتي من الضروري التفاعل معها؟

الشعر في الغرب يسعى إلى غزو المطلق فهو يحاول استنطاق ما يستعصي عن العبارة أما الشعر العربي فما زال تحت مطرقة "ما لا يقال" وسندان "ما لا يُنْطَق". هناك قضايا حارقة فعلا منها على الساخن ما يجري في غزة حيث يتقرر لا مصير الإنسان الفلسطيني فحسب بل مصير الإنسان العربي عموما. إن نعت وزير الحرب الصهيوني الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية" تستحق الإبادة هو يعني العرب كافة رافضين ومطبعين على السواء. الصهيونية تمييز عنصري فلا ينبغي أن نخدع أنفسنا: "أبراهام" لا علاقة له بـ"إبراهيم" وعلى الشعراء العرب أن يعيدوا للأمة وعيها قبل عزتها وكرامتها. الشاعر هو الوحيد القادر على الإحاطة بمنزلة الإنسان في زمن الرداءة وأتساءل أين النهضة العربية العارمة الواعدة الممتدة من رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين؟ إن الربيع العربي طوى البساط بمن فيه.

* تكتب الشعر باللغة الفرنسية أيضا ما هو المحدد لهذا التوجه؟

خلال قراءتي المتأنية لأعمال أبي القاسم الشابي الكاملة استوقفتني منه صيحة تحسّر مدهشة. كان في إحدى رسائله لصديقه محمد الحليوي تعرض إلى ما كان يعتبره نقصا فادحا في تكوينه الزيتوني يعني جهله للغة الفرنسية فانفجر قائلا: "أنا عاجز، عاجز، عاجز ، أطير بجناح واحد منتوف " وبما أني ثنائي اللسان قررت أن أطير بجناحيّ الاثنين. وفي اعتقادي أني بهاتين الملَكتيْن أسديت للثقافة العربية خدمات لا يستهان بها من خلال الشعر وما قمت به من دراسات في مجال الأدب المقارن.

* من خلال ترجمتك إلى الفرنسية لقصائد عربية من مختلف العصور. ما هي التقنيات المعتمدة في اختيار نص على حساب آخر لترجمته؟

لم يكن عملي كمترجم ممنهجا ولقد قمت بنقل مقاطع من الشعر العربي في إطار أعمال جامعية وكانت الترجمات أكاديمية إلا أني ترجمت مقاطع عديدة أخرى مقفاة وبشروط العروض الفرنسي وقد شجعني على ذلك صديقي المستعرب الكبير أندري ميكال، رحمه الله، وعمدت كذلك إلى ترجمة أبيات تُنعت ب"الميدالية" أي صالحة للنقش على وسام. من بين من ترجمت لهم المتنبي والمعري وأبو نواس وأبو تمام والشابي وغيرهم وهذه الترجمات مبثوثة في كتبي ومقالاتي المنشورة. ولكن عملية ترجمة الشعر عملية صعبة تتطلب كثيرا من الوقت والمعاناة ولم يعد لي الكثير من الوقت والصبر ومع ذلك تراودني الرغبة في جمع ما ترجمت في كتاب مستقل...

*هناك جدل قائم بين الفصحى والدارجة. الكثير يرون أن الشعر بالدارجة أكثر أصالة وأشد ارتباطا بالهوية من الشعر الفصيح. ما رأيك؟

أرفض الدخول في هذا الجدل العبثي العقيم. إن اللغة العربية تتعرض لحملات مشبوهة أعرف فصولها وغاياتها. لم يكن هناك أي صدام بين الدارجة والفصحى فهما تتعايشان منذ قرون. صحيح أن الشعر بالدارجة كان يدعى بالملحون أي الخارج عن قواعد الإعراب وفي هذه التسمية غبن رفعه بورقيبة الذي كان يستسيغه بمثل استساغته للفصيح فسماه "الشعر الشعبي". شعراء الأغنية الكبار كتبوا بالفصحى وبالدارجة دون مركبات.

عبدالعزيز قاسم.. سيرة موجزة

مبرز في اللغة والآداب العربية من جامعة السربون،

عمل أستاذا بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار وبدار المعلمين العليا تونس وبكلية الآداب منوبة.

تقلد مناصب عليا في مجال الإعلام والثقافة.

كاتب وباحث باللغتين العربية والفرنسية، نشر وشارك في ما لا يقل عن عشرين كتابا من ضمنها ستة دواوين شعرية. تعنى دراساته وبحوثه بقضايا فكرية و في إطار الأدب المقارن. له مقالات عديدة في الصحف والدوريات التونسية والأجنبية.

حاضر في عدد من الجامعات الفرنسية والبلجيكية

انتخب رئيسا شرفيا لبيت الشعر العالمي ببروكسيل (بلجيكا).

شارك في عدة ملتقيات أوروبية حول حوار الحضارات. ...