أعلنت تونس الحرب بشكل مباشر الحرب على البيروقراطية وعلى كل أشكال التعطيلات التي تحول دون انطلاقة البلاد انطلاقة حقيقية. ويعتبر التنقيح الذي أمر به رئيس الجمهورية قيس سعيد مؤخرا للفصل96 من المجلة الجزائية خطوة متقدمة في هذا المجال حيث من المفروض أن يقع بناء على التنقيح الجديد، تجريم تعمد تعطيل المرفق العام، وعن مشاكل البلاد الناجمة عن تعطيل المرفق العام لا تسل.
وهناك أسباب موضوعية دفعت بطبيعة الحال إلى الدعوة إلى تنقيح الفصل المذكور، فهو وإذ ينص على عقوبات بدنية ومالية ضد كل موظف يحقق فائدة لنفسه أو لغيره على غير وجه حق ويتسبب في ضرر للإدارة، فإن ذلك كان كافيا ليجعل العديد من الموظفين يحجمون عن القيام بوظائفهم رفضا للمجازفة وتجنبا للوقوع تحت طائلة القانون، وهو ما اعتبر في قراءة اعتمدتها الدولة مؤخرا، تعلة للتملص من المسؤولية.
لكن إن شددنا دائما على أن الإدارة في تونس تواصل العمل بطرق قديمة وبالية وأنها في حاجة إلى إصلاح جوهري وأن عددا قد لا يكون قليلا من الموظفين يعتبرون بسبب قلة كفاءتهم وبتشبثهم بالبيروقراطية، عبئا على البلاد وهم وراء استمرار الصورة النمطية والسيئة والكاريكاتورية للموظف في تونس، فإن ذلك لا يحول دون الإقرار بان مشكل تخلف الإدارة لا يتحمله الموظف لوحده.
البيروقراطية ذلك "الغول" الكاتم على أنفاس البلاد
صحيح دوره كما قلنا مهما، ولعل مسؤوليته ليست بالقليلة. ولعل أخطر مرض تعاني منه الإدارة والبلاد ككل هو مشكل البيروقراطية التي هي اليوم بمثابة "الغول" الكاتم للأنفاس. وقد أشار رئيس الجمهورية قيس سعيد بالبنان إلى مشكل البيروقراطية في عدة مناسبات وحذر من تغلغلها في الإدارة. ويتنزل الأمر بتنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية الذي أعلن عنه اثر جلسة عقدت بقصر الجمهورية بقرطاج (20 ماي) خصصت للغرض، والذي يخص الموظفين الذين "يتعمدون الامتناع عن القيام بالواجبات الموكولة إليهم" في إطار هذه الحرب المعلنة ضد البيروقراطية.
ولنا أن نذكر بأن للفصل 96 الشهير قصة جديرة بأن نتوقف عندها. فقد استعمل لفترة طويلة كسيف ديموقليس المسلط على رقاب المسؤولين قبل أن تتطور الأمور ويتحول مع مرور الوقت إلى تعلة للتملص من المسؤولية لدى بعض الموظفين. في البداية استعملت المنظومة الحاكمة التي تولت قيادة البلاد بعد أحداث 14 جانفي 2011، هذا الفصل لتصفية الحسابات وقد كان من المهم أن يوضح رئيس الجمهورية، مثلما قام بذلك مؤخرا، أن مثل هذه القوانين جعلت للمحاسبة وليس لتصفية الحسابات لأنه كثيرا ما تم تحويل بعض الإجراءات وبعض القوانين عن أهدافها وتم استغلالها من أجل تصفية حسابات سياسية أو شخصية أو استعملت لأجل أجندات خاصة وكانت البلاد دائما هي الخاسر في قضية الحال.
سيف ديموقليس المسلط على الرقاب
وفعلا استعمل الفصل 96 كسيف ديموقليس المسلط على الرقاب وتم تحويل عدد ليس بالقليل من المسؤولين بالإدارة على أنظار القضاء سواء حقا أو ظلما، بالاعتماد على هذا الفصل الذي ينص تحديدا على ما يلي:"يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما، أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما".
القضية لم تكن دائما انتصارا للقانون
وقد ثبت أن العملية لم تتم دائما باحترام تراتيب واضحة وشفافة وقد خلفت ضحايا لان القضية لم تكن دائما قضية انتصار للقانون بقدر ما كانت تصفية حسابات سياسية ومحاولة للترهيب وهو ما انجر عنه عزوف عن الالتزام بالمسؤولية خوفا من الملاحقة القضائية.
ومع مرور الوقت تبين أن الفصل المذكور قد تسبب في التعطيل أكثر مما ساهم في حل المشاكل ومحاربة الفساد. فإن كان بعضهم يخشى فعلا من القراءات الخاطئة للفصل 96 ومن محاولة تجريمه ظلما على أساسه، فإن آخرين اتخذوه ذريعة للتملص من الواجبات المهنية. وبالتالي كان من الضروري مراجعة هذا الفصل من المجلة الجزائية للحيلولة دون توظيفه توظيفا خاطئا سواء لتصفية الحسابات أو لتعطيل مصالح البلاد.
الفئة التي تجاوزتها الأحداث وتجاوزها الزمن
ربما يحدث تغيير ايجابي بعد مراجعة الفصل القانوني المذكور وربما يتطلب الأمر مراجعة المنظومة التشريعية بالكامل، لكن لا نتوقع أن تتغير الأمور بالسرعة المذهلة، وليت ذلك يحصل فعلا، لأننا سئمنا من التخلف ومن التعطيلات، لكن الواقعية تفرض علينا أن نذكّر بان الإدارة التي "تربت" لعقود طويلة على البيروقراطية ليس من السهل أن تتغير، على انه يظل أي تغيير إيجابي يخفف من كثرة الإجراءات ويقطع مع طريقة التعامل مع المواطن الذي يأتي إلى الإدارة لقضاء مصلحة وكأنه يطلب "مزية" أو يتسول خدمة في حين أن الإدارة جعلت لخدمة مصالح المواطنين والدولة، والموظف يحصل أصلا على راتبه بفضل دافعي الضرائب الذين هم المواطنون بدرجة أولى، مرحب به.
قلنا إذن إن الموظف يتحمل جانبا من المسؤولية، وهذا صحيح، بل يمكننا أن نجزم بان الموظف التونسي وللأسف هو أحد أسباب تخلف البلاد اليوم. نقول ذلك دون مبالغة ومع احترام الكفاءات الإدارية والموظفين المجتهدين وأصحاب الضمائر في الإدارة وهم موجودون لكن تكفي فئة قليلة من نوعية بعض الموظفين الذين تجاوزهم الزمن وتجاوزتهم الأحداث حتى تسقط كل الجهود في الماء. فالعمل الإداري هو عبارة عن حلقة مترابطة من الأجزاء ويكفي أن يقابلك عون الاستقبال بوجه متجهم أو يظهر قلة الصبر معك حتى يعتريك الشك حول إمكانية قضاء مصالحك لان كل شيء يبقى رهين الصدفة أو الحظ مع الإدارة التونسية والمسألة تبقى رهينة الأمزجة بداية من عون الاستقبال إلى كبير المسؤولين أحيانا، أكثر منه مسألة قوانين، وضوابط، وتراتيب وغيرها.
لاحظوا أننا نتحدث عن الحد الأدنى المطلوب ولا نتصور أن تصل بنا الأمور والوضع على ما هو عليه إلى حد مطالبة الموظف باجتهاد أكبر وبأن يحرص بكل تلقائية على تقديم المساعدة لأنه مع احترامنا للكثيرين، فان الموظف يتعامل في أحيان كثيرة مع وظيفته بالإدارة على أنها عبء ثقيل لذلك تراه يحاول في كل مرة التملص من واجبه. وفي بلدان أخرى يقوم الموظف بأكثر مما هو مطلوب منه لأنه يضع دائما في ذهنه انه لا يقدم خدمة لشخص وان يخدم مواطنا وفي خدمة المواطن خدمة للوطن.
إلا انه رغم كل ذلك، لا يرتبط إصلاح الإدارة بالموظف وحده دون سواه. وإنما يتطلب إصلاح الإدارة إعادة النظر في دورها بالكامل في البلاد وخاصة في العلاقة مع المواطن. وهذا لا يتم كما اتفق وإنما نحتاج إلى برنامج إصلاحي يقع إعداده على أسس تقنية وعلمية دقيقة.
أمراض ليست خفية
وفي الانتظار، لا تخفى مشاكل الإدارة في تونس وأمراضها على المهتمين بالأمر. فإدارتنا وبالأسلوب الذي تعمل به تبقى قاتلة للطموحات وهي تحول دون تفجير الطاقات. فأسلوب العمل غالبا ما يكون غير متلائم مع تطورات العصر، عصر السرعة والأفكار المتولدة عن اللحظة وعصر التكنولوجيا والعصر الذي نتخفف فيه ما أمكن من الأوراق لا أن نظل نرزح تحت المطالب والإجراءات وكثرة اللجان واللجان الكبرى والفرعية والمتفرعة عن الفرعية وغيرها.
وفي إدارتنا قلما توجد فرص حقيقية أمام الكفاءات الشابة التي تجد نفسها مجبرة على إتباع نفس مسار السابقين وكثيرا ما ينتهي بها الأمر إلى اعتماد نفس أسلوب العمل لذلك لا نستغرب من وجود إطارات شابة تتعامل بنفس الأسلوب "الاركاييكي" لأنها وريثة شرعية لأساليب العمل التي أرساها من سبق.
وعن المتنفذين لا تسل
ربما هناك تركيز في خطاب الدولة اليوم على الكفاءات الجامعية والعلمية وعلى أصحاب الشهادات العليا وعن دورها في بناء البلاد لكن ماذا فعلنا مع المسؤولين المتنفذين الذين يفتقرون إلى أدنى شهادة ويفرضون قوانينهم على الجميع؟ ثم هل نجد دائما المسؤول المناسب في المكان المناسب؟ نطرح السؤال لأنه في وقت من الأوقات، كان الموظف الحاصل على شهادات عليا ويتميز بكفاءة عالية يعاقب بطريقة أو بأخرى ويجد نفسه أحيانا في موقع اقل من إمكانياته بكثير. كل هذا ألقى بظلاله على الوضع وخلف أثاره واليوم نحن نجني ثمار الفوضى التي عرفتها الإدارة منذ عقود ونجني بالخصوص ثمن العقلية المتكلسة التي سادت طويلا وتسببت في تخلف الإدارة وتدني الخدمات ونفور المواطن منها وانتشار صورة سلبية جدا وكاريكاتورية حولها.
لم نتحدث بطبيعة الحال عن المحاباة وعن الممارسات الخارجة عن منطق القانون ولم نتحدث بالخصوص عن أصحاب النفوذ الذين فرضوا قوانينهم على الإدارة وحادوا بها عن دورها وجعلوها طويلا تعمل وفق نسق خاص بالمواطن العادي وبنسق آخر خاص بأصحاب المال والنفوذ.
وكل هذا يتطلب مراجعات كبرى تهم بالخصوص إعادة الهيكلة وتحديد دور الإدارة في المجتمع وتوضيح العلاقة مع المواطن والقضية بذلك تتجاوز الموظف وإن كان حلقة مهمة، لتكون أشمل. فهي قضية مستقبل دولة ومستقبل وطن.
حياة السايب
تونس – الصباح
أعلنت تونس الحرب بشكل مباشر الحرب على البيروقراطية وعلى كل أشكال التعطيلات التي تحول دون انطلاقة البلاد انطلاقة حقيقية. ويعتبر التنقيح الذي أمر به رئيس الجمهورية قيس سعيد مؤخرا للفصل96 من المجلة الجزائية خطوة متقدمة في هذا المجال حيث من المفروض أن يقع بناء على التنقيح الجديد، تجريم تعمد تعطيل المرفق العام، وعن مشاكل البلاد الناجمة عن تعطيل المرفق العام لا تسل.
وهناك أسباب موضوعية دفعت بطبيعة الحال إلى الدعوة إلى تنقيح الفصل المذكور، فهو وإذ ينص على عقوبات بدنية ومالية ضد كل موظف يحقق فائدة لنفسه أو لغيره على غير وجه حق ويتسبب في ضرر للإدارة، فإن ذلك كان كافيا ليجعل العديد من الموظفين يحجمون عن القيام بوظائفهم رفضا للمجازفة وتجنبا للوقوع تحت طائلة القانون، وهو ما اعتبر في قراءة اعتمدتها الدولة مؤخرا، تعلة للتملص من المسؤولية.
لكن إن شددنا دائما على أن الإدارة في تونس تواصل العمل بطرق قديمة وبالية وأنها في حاجة إلى إصلاح جوهري وأن عددا قد لا يكون قليلا من الموظفين يعتبرون بسبب قلة كفاءتهم وبتشبثهم بالبيروقراطية، عبئا على البلاد وهم وراء استمرار الصورة النمطية والسيئة والكاريكاتورية للموظف في تونس، فإن ذلك لا يحول دون الإقرار بان مشكل تخلف الإدارة لا يتحمله الموظف لوحده.
البيروقراطية ذلك "الغول" الكاتم على أنفاس البلاد
صحيح دوره كما قلنا مهما، ولعل مسؤوليته ليست بالقليلة. ولعل أخطر مرض تعاني منه الإدارة والبلاد ككل هو مشكل البيروقراطية التي هي اليوم بمثابة "الغول" الكاتم للأنفاس. وقد أشار رئيس الجمهورية قيس سعيد بالبنان إلى مشكل البيروقراطية في عدة مناسبات وحذر من تغلغلها في الإدارة. ويتنزل الأمر بتنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية الذي أعلن عنه اثر جلسة عقدت بقصر الجمهورية بقرطاج (20 ماي) خصصت للغرض، والذي يخص الموظفين الذين "يتعمدون الامتناع عن القيام بالواجبات الموكولة إليهم" في إطار هذه الحرب المعلنة ضد البيروقراطية.
ولنا أن نذكر بأن للفصل 96 الشهير قصة جديرة بأن نتوقف عندها. فقد استعمل لفترة طويلة كسيف ديموقليس المسلط على رقاب المسؤولين قبل أن تتطور الأمور ويتحول مع مرور الوقت إلى تعلة للتملص من المسؤولية لدى بعض الموظفين. في البداية استعملت المنظومة الحاكمة التي تولت قيادة البلاد بعد أحداث 14 جانفي 2011، هذا الفصل لتصفية الحسابات وقد كان من المهم أن يوضح رئيس الجمهورية، مثلما قام بذلك مؤخرا، أن مثل هذه القوانين جعلت للمحاسبة وليس لتصفية الحسابات لأنه كثيرا ما تم تحويل بعض الإجراءات وبعض القوانين عن أهدافها وتم استغلالها من أجل تصفية حسابات سياسية أو شخصية أو استعملت لأجل أجندات خاصة وكانت البلاد دائما هي الخاسر في قضية الحال.
سيف ديموقليس المسلط على الرقاب
وفعلا استعمل الفصل 96 كسيف ديموقليس المسلط على الرقاب وتم تحويل عدد ليس بالقليل من المسؤولين بالإدارة على أنظار القضاء سواء حقا أو ظلما، بالاعتماد على هذا الفصل الذي ينص تحديدا على ما يلي:"يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما، أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما".
القضية لم تكن دائما انتصارا للقانون
وقد ثبت أن العملية لم تتم دائما باحترام تراتيب واضحة وشفافة وقد خلفت ضحايا لان القضية لم تكن دائما قضية انتصار للقانون بقدر ما كانت تصفية حسابات سياسية ومحاولة للترهيب وهو ما انجر عنه عزوف عن الالتزام بالمسؤولية خوفا من الملاحقة القضائية.
ومع مرور الوقت تبين أن الفصل المذكور قد تسبب في التعطيل أكثر مما ساهم في حل المشاكل ومحاربة الفساد. فإن كان بعضهم يخشى فعلا من القراءات الخاطئة للفصل 96 ومن محاولة تجريمه ظلما على أساسه، فإن آخرين اتخذوه ذريعة للتملص من الواجبات المهنية. وبالتالي كان من الضروري مراجعة هذا الفصل من المجلة الجزائية للحيلولة دون توظيفه توظيفا خاطئا سواء لتصفية الحسابات أو لتعطيل مصالح البلاد.
الفئة التي تجاوزتها الأحداث وتجاوزها الزمن
ربما يحدث تغيير ايجابي بعد مراجعة الفصل القانوني المذكور وربما يتطلب الأمر مراجعة المنظومة التشريعية بالكامل، لكن لا نتوقع أن تتغير الأمور بالسرعة المذهلة، وليت ذلك يحصل فعلا، لأننا سئمنا من التخلف ومن التعطيلات، لكن الواقعية تفرض علينا أن نذكّر بان الإدارة التي "تربت" لعقود طويلة على البيروقراطية ليس من السهل أن تتغير، على انه يظل أي تغيير إيجابي يخفف من كثرة الإجراءات ويقطع مع طريقة التعامل مع المواطن الذي يأتي إلى الإدارة لقضاء مصلحة وكأنه يطلب "مزية" أو يتسول خدمة في حين أن الإدارة جعلت لخدمة مصالح المواطنين والدولة، والموظف يحصل أصلا على راتبه بفضل دافعي الضرائب الذين هم المواطنون بدرجة أولى، مرحب به.
قلنا إذن إن الموظف يتحمل جانبا من المسؤولية، وهذا صحيح، بل يمكننا أن نجزم بان الموظف التونسي وللأسف هو أحد أسباب تخلف البلاد اليوم. نقول ذلك دون مبالغة ومع احترام الكفاءات الإدارية والموظفين المجتهدين وأصحاب الضمائر في الإدارة وهم موجودون لكن تكفي فئة قليلة من نوعية بعض الموظفين الذين تجاوزهم الزمن وتجاوزتهم الأحداث حتى تسقط كل الجهود في الماء. فالعمل الإداري هو عبارة عن حلقة مترابطة من الأجزاء ويكفي أن يقابلك عون الاستقبال بوجه متجهم أو يظهر قلة الصبر معك حتى يعتريك الشك حول إمكانية قضاء مصالحك لان كل شيء يبقى رهين الصدفة أو الحظ مع الإدارة التونسية والمسألة تبقى رهينة الأمزجة بداية من عون الاستقبال إلى كبير المسؤولين أحيانا، أكثر منه مسألة قوانين، وضوابط، وتراتيب وغيرها.
لاحظوا أننا نتحدث عن الحد الأدنى المطلوب ولا نتصور أن تصل بنا الأمور والوضع على ما هو عليه إلى حد مطالبة الموظف باجتهاد أكبر وبأن يحرص بكل تلقائية على تقديم المساعدة لأنه مع احترامنا للكثيرين، فان الموظف يتعامل في أحيان كثيرة مع وظيفته بالإدارة على أنها عبء ثقيل لذلك تراه يحاول في كل مرة التملص من واجبه. وفي بلدان أخرى يقوم الموظف بأكثر مما هو مطلوب منه لأنه يضع دائما في ذهنه انه لا يقدم خدمة لشخص وان يخدم مواطنا وفي خدمة المواطن خدمة للوطن.
إلا انه رغم كل ذلك، لا يرتبط إصلاح الإدارة بالموظف وحده دون سواه. وإنما يتطلب إصلاح الإدارة إعادة النظر في دورها بالكامل في البلاد وخاصة في العلاقة مع المواطن. وهذا لا يتم كما اتفق وإنما نحتاج إلى برنامج إصلاحي يقع إعداده على أسس تقنية وعلمية دقيقة.
أمراض ليست خفية
وفي الانتظار، لا تخفى مشاكل الإدارة في تونس وأمراضها على المهتمين بالأمر. فإدارتنا وبالأسلوب الذي تعمل به تبقى قاتلة للطموحات وهي تحول دون تفجير الطاقات. فأسلوب العمل غالبا ما يكون غير متلائم مع تطورات العصر، عصر السرعة والأفكار المتولدة عن اللحظة وعصر التكنولوجيا والعصر الذي نتخفف فيه ما أمكن من الأوراق لا أن نظل نرزح تحت المطالب والإجراءات وكثرة اللجان واللجان الكبرى والفرعية والمتفرعة عن الفرعية وغيرها.
وفي إدارتنا قلما توجد فرص حقيقية أمام الكفاءات الشابة التي تجد نفسها مجبرة على إتباع نفس مسار السابقين وكثيرا ما ينتهي بها الأمر إلى اعتماد نفس أسلوب العمل لذلك لا نستغرب من وجود إطارات شابة تتعامل بنفس الأسلوب "الاركاييكي" لأنها وريثة شرعية لأساليب العمل التي أرساها من سبق.
وعن المتنفذين لا تسل
ربما هناك تركيز في خطاب الدولة اليوم على الكفاءات الجامعية والعلمية وعلى أصحاب الشهادات العليا وعن دورها في بناء البلاد لكن ماذا فعلنا مع المسؤولين المتنفذين الذين يفتقرون إلى أدنى شهادة ويفرضون قوانينهم على الجميع؟ ثم هل نجد دائما المسؤول المناسب في المكان المناسب؟ نطرح السؤال لأنه في وقت من الأوقات، كان الموظف الحاصل على شهادات عليا ويتميز بكفاءة عالية يعاقب بطريقة أو بأخرى ويجد نفسه أحيانا في موقع اقل من إمكانياته بكثير. كل هذا ألقى بظلاله على الوضع وخلف أثاره واليوم نحن نجني ثمار الفوضى التي عرفتها الإدارة منذ عقود ونجني بالخصوص ثمن العقلية المتكلسة التي سادت طويلا وتسببت في تخلف الإدارة وتدني الخدمات ونفور المواطن منها وانتشار صورة سلبية جدا وكاريكاتورية حولها.
لم نتحدث بطبيعة الحال عن المحاباة وعن الممارسات الخارجة عن منطق القانون ولم نتحدث بالخصوص عن أصحاب النفوذ الذين فرضوا قوانينهم على الإدارة وحادوا بها عن دورها وجعلوها طويلا تعمل وفق نسق خاص بالمواطن العادي وبنسق آخر خاص بأصحاب المال والنفوذ.
وكل هذا يتطلب مراجعات كبرى تهم بالخصوص إعادة الهيكلة وتحديد دور الإدارة في المجتمع وتوضيح العلاقة مع المواطن والقضية بذلك تتجاوز الموظف وإن كان حلقة مهمة، لتكون أشمل. فهي قضية مستقبل دولة ومستقبل وطن.