لم يعد السؤال المطروح اليوم حول مستقبل الصراع الدولي القادم ومحدداته هو من يشغل العالم، ويشغل الأوساط الأكاديمية والجامعية، بقدر ما أصبح السؤال الأكثر إلحاحا هو: كيف سيكون هذا الصراع في قادم السنوات؟
سؤال يحمل إشكالية معقدة، لا يمكن فهم اتجاهاتها إلا إذا ما تم تحديد مراكز هذه الاتجاهات ومحدداتها ونقاط ارتكازها وحدود قوتها، واستشراف حدود تلك القوة في بحر السنوات والعقود القادمة.
فمستقبل الصراع الدولي، قد يحدد شكل النظام القادم الذي سيرتب العلاقات بين الدول، سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية. كما أن نفس هذه العلاقات ستؤسس شكلا جديدا من علاقة "مركز القوة" (أو مراكز) القادم (القادمة) و"الأطراف"، وكذا السؤال عن دور "الدولة" (الوطنية أو القومية التي ظهرت منذ مؤتمر "ويستفاليا" في ألمانيا سنة 1648) في الصراع الدولي الجديد. والواضح اليوم أن هذا الصراع، بات ينتقل شرقا نحو ضفاف المحيطين الهندي والهادئ، وينتشر على كل هذه الرقعة الجغرافية الواسعة، خصوصا وأن "رأس" النظام الدولي الحالي، الولايات المتحدة الأمريكية، يطمح للحفاظ على "زمن سلامه" لمدة أطول، وهو ما لا يتواءم مع انتظارات الصين، وكذلك روسيا، وقوى اقليمية أخرى في طور التشكل.
-3 اتجاهات ورؤى متعددة
ثلاث قوى على اﻷقل، كل واحدة منها، لها تصورها الخاص حول العالم القادم، وان كانت ّ تنقسم إلى فريقين، أولهما يرى ضرورة قصوى لاستمرارية النظام الحالي، وتربعها عليه وهي الولايات المتحدة، وينظر إلى تطلعات الفريق الآخر (روسيا والصين)، بأنهما "تحد للنظام الدولي" كما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في افادته أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي منذ أسبوع.
-اختلافات في الاستراتيجيات واﻷهداف
هذا الفريق الثاني، وإن كان "ينّظر" لعالم متعدد الأقطاب، ونظام دولي جديد بأقطاب جديدة، وتمثله الصين وروسيا، إلا أن تلك "التنظيرات" تختلف بين البلدين.
فبالنسبة للصين، أو "الأرض الوسطى" (باللغة الصينية الماندرينية الصين تعني الأرض الوسطى)، ترى أن رقعتها الجغرافية تعتبر مركز العالم، وبالتالي ترى أنها ستكون مركزا للعالم وأن لها محددات القوة اللازمة لذلك، وهذا ما يفسر لحد بعيد استراتيجيتها للامتداد غربا عن طريق إستراتجية "طريق وحزام الحرير".
هذه الإستراتيجية حتى وإن كانت منطلقاتها اقتصادية، إلا أنها تحمل بذور السياسة، خصوصا وأنها تبنى وفق "تواصلية" بينها وبين "الأطراف"، وبلغة اقتصادية بينها وبين اللأسواق المستهدفة في أوروبا وإفريقيا، والتي تشكل كذلك بالمقابل، منابع المواد الأولية اللازمة لتشغيل "مصنع العالم".
-"تواصلية" طريق الحرير
وهذه "التواصلية" اللازمة في الإستراتيجية الصينية، تتطلب إلى حد بعيد بناء أحلاف إقليمية متماسكة بين الدول التي يمر منها "طريق وحزام الحرير"، تلك التحالفات الإقليمية يمكن أن تخلق من جهتها "أنظمة إقليمية" يوجد فيها كذلك "مركز" و"أطراف"، كما أن هذه التواصلية على المستوى المكاني تستوجب كذلك الاستقرار لتحقيق اﻷهداف، خصوصا وأنها تستعمل أدوات "القوة الهادئة"، لتحقيق أهدافها والمتمثلة أساسا في "تثبيت اﻷسواق" واستقرار أسعار المواد اﻷولية اللازمة لاستمرار الإنتاج والتصنيع.
وهذه الاستراتجية الصينية تنطلق من "سحر ماضيها التليد" الذي حدده التاجر الإيطالي ماركو بولو قديما في رحلته البرية، والتي سماها بـ"طريق الحرير"، نحو عاصمة الإمبراطورية الماغولية في عهد قبولاي خان قرب العاصمة الصينية الحالية بكين، أو وفق الطريق البحري الذي خطه البحار تشنغ خه، والذي ربط الصين بالشرق في رحلته الأسطورية خلال القرن 15.
-روسيا و"العالم اﻷوراسي"
أما بالنسبة لروسيا، فإنها ترى أن النظام العالم القادم "متعدد" الأقطاب، يجب أن يكون فيه تحديد لمنطق سيطرة كل قوة فيه، وهي في ذلك تحدد ما سمي بـ"العالم الأوراسي" كمنطقة نفوذ لروسيا، معظمها يضم دولا من اتحاد الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا، بالإضافة إلى "المثلث السلافي" الذي يربط بين أوكرانيا (شرق وجنوب أوكرانيا من خاركيف إلى أوديسا على البحر الأسود أو ما اسماه عقل بوتين الجيوسياسي بروسيا الجديدة) وبلاروسيا (أو روسيا البيضاء) وروسيا. هذا "العالم الأوراسي"، ترى فيه موسكو امتدادا لتاريخها ومنطقة "نفوذ حيوي" لها، ولذلك فإن عقيدتها العسكرية والأمنية تعمل على ضرب كل القوى التي تسعى لـ"قضم" جزء منها، وهو عين ما تشير إليه بوصلة الإستراتيجية الأمريكية، الموروثة حتى من قبل الحرب الباردة وسقوط مبدأ "مونرو" (فرض سنة 1823 من جيمس مونرو الرئيس اﻷمريكي الخامس) في فرض الانعزالية اﻷمريكية عن بقية أوروبا منذ القرن 19 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
تلك الاستراتيجية التي ترى أن من يحكم "قلب العالم" فقد "حكم العالم"، وقلب العالم هذا مكانه في قلب الأراضي الروسية (أو قلب الجزيرة العالمية كما أطلق عليها صاحب النظرية البريطاني هالفورد ماكندر في بداية القرن الـ20). كما ترى موسكو، التي تعتبر نفسها- في خضم التحولات في الصراع الدولي- مركزا لهذا النظام، وأن "الإشعاع الأوراسي"، لا يمكنه منع وجود "إشعاعات" لأنظمة إقليمية أخرى على الخارطة الدولية تكون موسكو مركزها الدولي.
روسيا اليوم ترى أنه يجب استغلال كل فراغ سياسي تتركه (أو تعمل عليه موسكو) القوى المناوئة لها في العالم لتملأه (ما فعلته في مالي وإفريقيا الوسطى والنيجر وتشاد وسوريا غير بعيدة عن ذلك).
وقد تعمل موسكو اليوم على ملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذا ما واصلت واشنطن في إستراتيجيتها في "التملص" من تكلفة الصراع في هذا المنطقة، والانسحاب منها.
وهذا ما انخرطت فيه موسكو عسكريا (مساعدة الأسد في سوريا في حربه على معارضيه وعلى تنظيمات ارهابية والسيطرة على موقع استراتيجي على البحر المتوسط).
حتى الصين تعمل على نفس التكتيك الروسي سياسيا، أو اقتصاديا (ربط التنمية في بعض الدول الافريقية بالاتفاقيات الاقتصادية واستغلال المواد اﻷولية والتنقيب عنها).
فسياسيا، قامت الصين بالوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهذا ما أقلق واشنطن ودفعها دفعا إلى التفاوض مع الرياض حول اتفاق جديد بين الطرفين يلبي احتياجات الرياض اﻷمنية والمتعلقة خاصة بالردع من إيران (الذي قد يعوض اتفاق البارجة كوينسي بين الملك السعودي السابق عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت سنة 1945، والذي ربط أسعار النفط بالدولار الأمريكي حدد إلى حد بعيد معالم النظام المالي الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية).
الولايات المتحدة والغرب
أما الولايات المتحدة، ومن خلفها كل الغرب (دول أوروبا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا)، فإنها ترى أنه يجب الاستمرار في النظام الدولي ذي الأحادية القطبية و"العلوية" الغربية، بما يخدم مصالحها الإمبراطورية، ضمن محددات عسكرية وأمنية يؤسسها نظام حلف الشمال الأطلسي، أو ضمن محددات اقتصادية تحددها المؤسسات المالية لما بعد الحرب العالمية الثانية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبورصة وول ستريت، مما يضمن تواصل "عولمة رأس المال" واتجاه ربحه التي تصب في البنوك اﻷمريكية في نيويورك وكاليفورنيا.
وهي بالتالي ترى أنه من الضرورة القصوى أن تحاصر كل "الجزيرة العالمية" (التي تضم كلا من الصين وروسيا) وأن تحاول احتواءها ضمن حدودها الأرضية الحالية، وهذا ما يفسر التوتر بين بكين وجيرانها في البحر الصين الجنوبي (الفلبين فيتنام) وما يفسر قيام الحرب في أوكرانيا والتوترات في القوقاز (حرب إقليم ناغورنو كراباخ، والاجتياح الروسي لجورجيا) وحصار "الثورات الملونة" التي اجتاحت فناء بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، وكذلك ازدياد حدة التوتر بين بكين والهند.
-الهند وأمريكا اللاتينية
الهند التي يبدو أن واشنطن تريدها لعب دور "رأس الحربة" في الإستراتيجية الأمريكية القادمة، سواء في محاولة احتواء الاستراتجية الصينية (استراتيجية الرواق الهندي بين نيودلهي وأبو ظبي وعمان وتل أبيب)، أو منع روسيا من "زيادة إشعاعها الأوراسي" ووصوله إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي.
ويأتي هذا في وقت يبدو فيه أن لـ"الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة، دول أمريكا اللاتينية (أمريكا الجنوبية والوسطى)، بدأت في اختيار "طريق ثالث" يتوافق مع الرؤية الصينية والروسية. حيث أصبحت هذه الدول تطالب بدور أكبر لها يتماشى وقدرتها الاقتصادية الجديدة كالبرازيل في مرتبة أولى والأرجنتين والمكسيك في المرتبة ثانية.
ويبدو أن التحول إلى "العالم متعدد الأقطاب" قد تكون له تكلفة عالية مادية وبشرية، حيث بدأت بالحربين في أوكرانيا وغزة ولن تنتهي في هذه المناطق فقط. فالتاريخ يؤكد أن لكل صراع حدود وتخوم تحدد مناطق نفوذ كل قوة، تلك التخوم قد تكون مشتعلة، تقام فيها "حفلات الدم" التي تعلن فيها نهاية "زمن إمبراطوري" وانطلاق "زمن إمبراطوري آخر".
بقلم: نزار مقني
تونس-الصباح
لم يعد السؤال المطروح اليوم حول مستقبل الصراع الدولي القادم ومحدداته هو من يشغل العالم، ويشغل الأوساط الأكاديمية والجامعية، بقدر ما أصبح السؤال الأكثر إلحاحا هو: كيف سيكون هذا الصراع في قادم السنوات؟
سؤال يحمل إشكالية معقدة، لا يمكن فهم اتجاهاتها إلا إذا ما تم تحديد مراكز هذه الاتجاهات ومحدداتها ونقاط ارتكازها وحدود قوتها، واستشراف حدود تلك القوة في بحر السنوات والعقود القادمة.
فمستقبل الصراع الدولي، قد يحدد شكل النظام القادم الذي سيرتب العلاقات بين الدول، سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الاجتماعية. كما أن نفس هذه العلاقات ستؤسس شكلا جديدا من علاقة "مركز القوة" (أو مراكز) القادم (القادمة) و"الأطراف"، وكذا السؤال عن دور "الدولة" (الوطنية أو القومية التي ظهرت منذ مؤتمر "ويستفاليا" في ألمانيا سنة 1648) في الصراع الدولي الجديد. والواضح اليوم أن هذا الصراع، بات ينتقل شرقا نحو ضفاف المحيطين الهندي والهادئ، وينتشر على كل هذه الرقعة الجغرافية الواسعة، خصوصا وأن "رأس" النظام الدولي الحالي، الولايات المتحدة الأمريكية، يطمح للحفاظ على "زمن سلامه" لمدة أطول، وهو ما لا يتواءم مع انتظارات الصين، وكذلك روسيا، وقوى اقليمية أخرى في طور التشكل.
-3 اتجاهات ورؤى متعددة
ثلاث قوى على اﻷقل، كل واحدة منها، لها تصورها الخاص حول العالم القادم، وان كانت ّ تنقسم إلى فريقين، أولهما يرى ضرورة قصوى لاستمرارية النظام الحالي، وتربعها عليه وهي الولايات المتحدة، وينظر إلى تطلعات الفريق الآخر (روسيا والصين)، بأنهما "تحد للنظام الدولي" كما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في افادته أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي منذ أسبوع.
-اختلافات في الاستراتيجيات واﻷهداف
هذا الفريق الثاني، وإن كان "ينّظر" لعالم متعدد الأقطاب، ونظام دولي جديد بأقطاب جديدة، وتمثله الصين وروسيا، إلا أن تلك "التنظيرات" تختلف بين البلدين.
فبالنسبة للصين، أو "الأرض الوسطى" (باللغة الصينية الماندرينية الصين تعني الأرض الوسطى)، ترى أن رقعتها الجغرافية تعتبر مركز العالم، وبالتالي ترى أنها ستكون مركزا للعالم وأن لها محددات القوة اللازمة لذلك، وهذا ما يفسر لحد بعيد استراتيجيتها للامتداد غربا عن طريق إستراتجية "طريق وحزام الحرير".
هذه الإستراتيجية حتى وإن كانت منطلقاتها اقتصادية، إلا أنها تحمل بذور السياسة، خصوصا وأنها تبنى وفق "تواصلية" بينها وبين "الأطراف"، وبلغة اقتصادية بينها وبين اللأسواق المستهدفة في أوروبا وإفريقيا، والتي تشكل كذلك بالمقابل، منابع المواد الأولية اللازمة لتشغيل "مصنع العالم".
-"تواصلية" طريق الحرير
وهذه "التواصلية" اللازمة في الإستراتيجية الصينية، تتطلب إلى حد بعيد بناء أحلاف إقليمية متماسكة بين الدول التي يمر منها "طريق وحزام الحرير"، تلك التحالفات الإقليمية يمكن أن تخلق من جهتها "أنظمة إقليمية" يوجد فيها كذلك "مركز" و"أطراف"، كما أن هذه التواصلية على المستوى المكاني تستوجب كذلك الاستقرار لتحقيق اﻷهداف، خصوصا وأنها تستعمل أدوات "القوة الهادئة"، لتحقيق أهدافها والمتمثلة أساسا في "تثبيت اﻷسواق" واستقرار أسعار المواد اﻷولية اللازمة لاستمرار الإنتاج والتصنيع.
وهذه الاستراتجية الصينية تنطلق من "سحر ماضيها التليد" الذي حدده التاجر الإيطالي ماركو بولو قديما في رحلته البرية، والتي سماها بـ"طريق الحرير"، نحو عاصمة الإمبراطورية الماغولية في عهد قبولاي خان قرب العاصمة الصينية الحالية بكين، أو وفق الطريق البحري الذي خطه البحار تشنغ خه، والذي ربط الصين بالشرق في رحلته الأسطورية خلال القرن 15.
-روسيا و"العالم اﻷوراسي"
أما بالنسبة لروسيا، فإنها ترى أن النظام العالم القادم "متعدد" الأقطاب، يجب أن يكون فيه تحديد لمنطق سيطرة كل قوة فيه، وهي في ذلك تحدد ما سمي بـ"العالم الأوراسي" كمنطقة نفوذ لروسيا، معظمها يضم دولا من اتحاد الجمهوريات السوفياتية السابقة في وسط آسيا، بالإضافة إلى "المثلث السلافي" الذي يربط بين أوكرانيا (شرق وجنوب أوكرانيا من خاركيف إلى أوديسا على البحر الأسود أو ما اسماه عقل بوتين الجيوسياسي بروسيا الجديدة) وبلاروسيا (أو روسيا البيضاء) وروسيا. هذا "العالم الأوراسي"، ترى فيه موسكو امتدادا لتاريخها ومنطقة "نفوذ حيوي" لها، ولذلك فإن عقيدتها العسكرية والأمنية تعمل على ضرب كل القوى التي تسعى لـ"قضم" جزء منها، وهو عين ما تشير إليه بوصلة الإستراتيجية الأمريكية، الموروثة حتى من قبل الحرب الباردة وسقوط مبدأ "مونرو" (فرض سنة 1823 من جيمس مونرو الرئيس اﻷمريكي الخامس) في فرض الانعزالية اﻷمريكية عن بقية أوروبا منذ القرن 19 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
تلك الاستراتيجية التي ترى أن من يحكم "قلب العالم" فقد "حكم العالم"، وقلب العالم هذا مكانه في قلب الأراضي الروسية (أو قلب الجزيرة العالمية كما أطلق عليها صاحب النظرية البريطاني هالفورد ماكندر في بداية القرن الـ20). كما ترى موسكو، التي تعتبر نفسها- في خضم التحولات في الصراع الدولي- مركزا لهذا النظام، وأن "الإشعاع الأوراسي"، لا يمكنه منع وجود "إشعاعات" لأنظمة إقليمية أخرى على الخارطة الدولية تكون موسكو مركزها الدولي.
روسيا اليوم ترى أنه يجب استغلال كل فراغ سياسي تتركه (أو تعمل عليه موسكو) القوى المناوئة لها في العالم لتملأه (ما فعلته في مالي وإفريقيا الوسطى والنيجر وتشاد وسوريا غير بعيدة عن ذلك).
وقد تعمل موسكو اليوم على ملء أي فراغ تتركه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذا ما واصلت واشنطن في إستراتيجيتها في "التملص" من تكلفة الصراع في هذا المنطقة، والانسحاب منها.
وهذا ما انخرطت فيه موسكو عسكريا (مساعدة الأسد في سوريا في حربه على معارضيه وعلى تنظيمات ارهابية والسيطرة على موقع استراتيجي على البحر المتوسط).
حتى الصين تعمل على نفس التكتيك الروسي سياسيا، أو اقتصاديا (ربط التنمية في بعض الدول الافريقية بالاتفاقيات الاقتصادية واستغلال المواد اﻷولية والتنقيب عنها).
فسياسيا، قامت الصين بالوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهذا ما أقلق واشنطن ودفعها دفعا إلى التفاوض مع الرياض حول اتفاق جديد بين الطرفين يلبي احتياجات الرياض اﻷمنية والمتعلقة خاصة بالردع من إيران (الذي قد يعوض اتفاق البارجة كوينسي بين الملك السعودي السابق عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية والرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت سنة 1945، والذي ربط أسعار النفط بالدولار الأمريكي حدد إلى حد بعيد معالم النظام المالي الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية).
الولايات المتحدة والغرب
أما الولايات المتحدة، ومن خلفها كل الغرب (دول أوروبا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا)، فإنها ترى أنه يجب الاستمرار في النظام الدولي ذي الأحادية القطبية و"العلوية" الغربية، بما يخدم مصالحها الإمبراطورية، ضمن محددات عسكرية وأمنية يؤسسها نظام حلف الشمال الأطلسي، أو ضمن محددات اقتصادية تحددها المؤسسات المالية لما بعد الحرب العالمية الثانية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبورصة وول ستريت، مما يضمن تواصل "عولمة رأس المال" واتجاه ربحه التي تصب في البنوك اﻷمريكية في نيويورك وكاليفورنيا.
وهي بالتالي ترى أنه من الضرورة القصوى أن تحاصر كل "الجزيرة العالمية" (التي تضم كلا من الصين وروسيا) وأن تحاول احتواءها ضمن حدودها الأرضية الحالية، وهذا ما يفسر التوتر بين بكين وجيرانها في البحر الصين الجنوبي (الفلبين فيتنام) وما يفسر قيام الحرب في أوكرانيا والتوترات في القوقاز (حرب إقليم ناغورنو كراباخ، والاجتياح الروسي لجورجيا) وحصار "الثورات الملونة" التي اجتاحت فناء بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، وكذلك ازدياد حدة التوتر بين بكين والهند.
-الهند وأمريكا اللاتينية
الهند التي يبدو أن واشنطن تريدها لعب دور "رأس الحربة" في الإستراتيجية الأمريكية القادمة، سواء في محاولة احتواء الاستراتجية الصينية (استراتيجية الرواق الهندي بين نيودلهي وأبو ظبي وعمان وتل أبيب)، أو منع روسيا من "زيادة إشعاعها الأوراسي" ووصوله إلى المياه الدافئة في المحيط الهندي.
ويأتي هذا في وقت يبدو فيه أن لـ"الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة، دول أمريكا اللاتينية (أمريكا الجنوبية والوسطى)، بدأت في اختيار "طريق ثالث" يتوافق مع الرؤية الصينية والروسية. حيث أصبحت هذه الدول تطالب بدور أكبر لها يتماشى وقدرتها الاقتصادية الجديدة كالبرازيل في مرتبة أولى والأرجنتين والمكسيك في المرتبة ثانية.
ويبدو أن التحول إلى "العالم متعدد الأقطاب" قد تكون له تكلفة عالية مادية وبشرية، حيث بدأت بالحربين في أوكرانيا وغزة ولن تنتهي في هذه المناطق فقط. فالتاريخ يؤكد أن لكل صراع حدود وتخوم تحدد مناطق نفوذ كل قوة، تلك التخوم قد تكون مشتعلة، تقام فيها "حفلات الدم" التي تعلن فيها نهاية "زمن إمبراطوري" وانطلاق "زمن إمبراطوري آخر".