إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الروائي الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر لـ"الصباح": مدونة السرد تقدم للقارئ ما لا يقدمه المؤرخ والدارس ورجل السياسة

حوار محسن بن احمد

عاشق مُتيًم بالكتابة الإبداعية إلى حد الانصهار الكامل فيها .. ما إن يُنهي نصا حتى ينطلق في آخر بنفس الحماس والشوق والجدية والمسؤولية .. الكتابة عنده هي الاكسيجين الذي يستمد منه الحياة التي يريدها و يبغيها ولا يروم غيرها.

الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر يحمل اليوم على كاهله مسيرة  أدبية إبداعية ثرية ومتنوعة استثنائية مفعمة بالحب الكبير والعشق بلا ضفاف للوطن وتربته .. الوطن ملهمه الأول في كل كتاباته بتفاصيله الدقيقة.. تجربة أكدت معدنه الأصيل المؤمن بنبل رسالته الإبداعية التي ترصد الواقع وتكتب الحقيقة دون أصباغ فالكتابة الإبداعية الأدبية عنده فكر ينشد الإنسانية في أسمى معانيها والإنسان في اجل قيمه.

*تأتي إلى العاصمة لقضاء شؤون سرعان ما تعود إلى مسقط الرأس أكثر شوقا ...فأي تأثير للمكان في نحت شخصيتك الإبداعية؟

عكس ما استنتجت أنت ,فأنا آتي إلى العاصمة متشوقا تحملني شقاوة الشباب وسنوات الوظيف وفترات التسكع بين النوادي الأدبية ومقرات الصحف والمجلات ودور النشر، ويستولي علي الإحساس بالبقاء في العاصمة أطول  فترة ممكنة حتى أتمكن من السير في كل الأنهج والشوارع والساحات واستمتع بالتوقف أمام واجهات المغازات، وخاصة الجلوس والارتخاء في فضاء المقاهي التي أحببتها وشعرت فيها بالدفء , تلك المقاهي آوتني صباحا ومساء لأنجز الكثير من كتاباتي، كيف لا أمر بكل مكان في العاصمة ... شارع الحرية حيث مقر مؤسسة الإذاعة والتلفزة التي افتتحت مسيرتي بالعمل فيها مذيعا ومحررا في مجلتها، وساحة باب سويقة حيث تنقلت فيها في بداية حياتي بين "كافيشانطاتها"... أقوم بجولات ووقفات وجلسات في ليالي رمضان، ويظل لدي نهم للأمكنة ..ثم أحزم أمتعتي وأشد الرحال إلى قريتي "بئر الحفي " التي احتضنتني في مختلف مراحل الحياة ، وما تزال تحتضنني بمحبة وتستقبلني فضاءاتها في حدود القرية، وعبر مزارعها وحقولها التي أصبحت أشجارا مختلفة وثمار مختلفة أكلها ..أنظر في كتاباتي رواية " الاثم " ورواية " عتبة الحوش " ورواية " الزيتون لا يموت".. وستكتشف أن أهم الشخصيات القصصية والروائية ولدت هناك واكتسبت ملامحها من تراب القرية وهوائها ومائها .. هناك أيضا في تلك الرحاب وتلك العتبات أقيم ولا اشبع من الإقامة.

*أعلنت أكثر من مرة أن الرواية تفتك الوطن من العابثين ...فكيف لنص سردي أن يقوم بذلك من وجهة نظرك؟

-الأوطان مقدسة، وأول من يؤمن بقدسية الوطن هو الكاتب، ولولا الحس الوطني والشعور بالانتماء والتجذر في تاريخ الوطن وواقعه ومكتسباته وخصوصياته وثقافاته ومنجزاته في مختلف الميادين لما انبرى الكاتب للغوص في همومه وقضاياه لإنجاز مدونته.

أمام الكاتب وهو ينجز نصوصه الإبداعية فريقان في المجتمع يتعايشان ويتصارعان على مر الزمن، فريق يسعى إلى استنزاف خيرات البلاد وتسخيرها لمآربه وفريق يلتزم بمحبة الوطن والدفاع عنه والتضحية من أجل ازدهاره وتطوره لبلوغ درجة الدول الراقية.

أمام هذا التناقض في المجتمع الواحد، في حضن وطن حركة بناء وحركة تهديم ليس أمام الكاتب المبدع إلا أن يؤسس منجزاته بالحفر في ملامح المجتمع، في الوجوه وفي العيون، وفي ما وراء النظرة والحركة وردة الفعل وما تخفي الصدور ليدرك أصل الحكاية ...أصل الهموم والمعاناة ... حقيقة الواقع الذي لا تدركه العين فهو منطو في سردية الأحداث.

إن محبة الوطن والاعتزاز به تتجلى لدى الكاتب في التعبير عما لا يقدر الآخرون على التعبير عنه .. هكذا في خضم الحفر بحثا عن الحقيقة في كل طيف وكل حركة وما تخفي النفوس تتمكن المنظومة الروائية القصصية من تعرية زيف الزائفين وخيانة الخائنين وعبث العابثين .. يكفي مدونة السرد فخرا أنها تقدم للقارئ ما لا يقدمه المؤرخ والدارس ورجل السياسة.

*في كتاباتك السردية تشبث بالوطن وعشق للأرض ...فأي وطن تبحث عنه من خلال هذه الكتابات؟

أبحث عن وطن يشعر فيه الإنسان بإنسانيته بحكم الحب الخالص، علاقات أهله بعضهم ببعض أي أن يكون رصيد المحبة لدى أهله ما يجعل حركة التأسيس متجددة، وظاهرة الهدم منعدمة ..

إن الأوطان وجدت كي تكبر وتنمو وتتميز فنشعر بالأمل والطمأنينة وفرص الحياة الكريمة أي  تلك التي تتوفر فيها الحقوق والعدالة للجميع..لكن إذا انخرمت الموازين وأصبح لصراع الطبقات الكلمة العليا وانتشرت ظواهر الغش والتحيل والسطو وحب التملك، وتجاوز القوانين واستعمال القانون من أجل المصالح الشخصية الضيقة، في هذه الحالة فاسأل عن عشاق الأرض والوطن والتاريخ والحضارة والمكتسبات ثقافة وحضارة .. اسأل عنهم فهم القادرون إذا توفرت الإرادة الوطنية إلى افتكاك الوطن من أيدي العابثين ولعلك واجد في كتاباتي السردية وغيرها هذا الإحساس المرهف بالوطن، ففي كل إصدار جديد ، وفي كل مقال ودراسة تعبير عن هذا التعلق بالأرض وبالوطن، ولن يبرحني هذا الإحساس، أما إذا ما انحرف، وإذا غاب الإحساس بالمقدسات فاعلم أن ما تقرا لا ينتسب لي ولا انتسب له.

*أنت عاشق الكتابة بلا حدود ...كيف تعيش لحظة الانصهار الكلي فيها؟

عشق بلاحدود .. نعم تلك هي قناعاتي منذ البداية، وذلك هو أنا على مدى السنوات الطويلة التي التزمت فيها الكتابة منذ " الزيتون لا يموت" " إلى "عاشق وطن" , إلى " هنشير اليهودية " وأخيرا " غيمات بيضاء .. ما أبعدها " انا والكتابة كتلة واحدة .. شكل واحد ومضمون واحد.. لو يوما لا يلتقي فيه القلم بالورقة أشعر بأنني أذنبت في حق نفسي وإنني خنت واجبا مقدسا , وإنني لن أدرك النوم والراحة.

لقد جعلت من الكتابة مسيرة حياة , وعقد بيني وبين الآخر يتضمن سعيا متواصلا لفك طلاسم  ما يحيط بنا , قد نلتقي وقد نصل إلى الصدام في الرأي  وفي حالات أخرى قد يسأل عني ويلح علي أن أدله عن المكتبة التي تباع فيها إصداراتي .. يفرحني ذلك ايما فرح، غير أن الشعور بالفرح سرعان ما يختفي ذلك لأنني ما كتبته من إبداع وخرج من بين يدي إلى القارئ لا يجب بحال من الأحوال أن يتكرر في إصدار آخر.

المهم أن الصراع بيني وبين الكتابة لا تنطفئ ناره .. انه الخوف من المضامين والأشكال، هل هي ما ينتظره القارئ آم إنني خارج انتظاراته.

إذن فلا مهرب لي من مواجهة نفسي وما اكتب وذلك يتطلب مني انصهارا يوميا في الكتابة وهروبا من نص إلى نص ينعدم فيهما التشابه.

*ما سر الابتعاد عن الساحة الأدبية بمهرجاناتها الثقافية على اعتبار أننا لا نراك فيها؟

الابتعاد لا يخص الساحة الأدبية فقط ، بل الساحة الثقافية بمختلف هياكلها وبرامجها وأنشطتها .. الكل يعلم وربما نسي البعض او تناسى إنني تعرضت خلال العامين الماضيين إلى حصار مستحكم ، إلى حد غير مسبوق , بل إلى ما هو أكثر من ذلك وأخطر .. لكن هل يستسلم من كتب ونشر " الزيتون لا يموت"،  ومن تجرأ فجعل من رواياته تشريحا أدبيا اجتماعيا سياسيا لأعداء هذا الوطن والذين استنزفوه وشوهوا صورته .. لقد ظللت واقفا وسأظل .. انني لمن يطلع على روايات " الاثم" و" قنديل باب المدينة" و" من قتل شكري بلعيد" و" جنان بنت الري " و" احزان الجمهورية الثانية " وصولا الى الرواية قبل الأخيرة "بتلات الاقحوان " أن يستخلص من الأحداث وصراع الشخصيات والاهتمامات والمعاناة التي خضتها مدى المواجهة التي اعتمدتها في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والتي تتجاوز حد الشجاعة .. وقد كنت أحاسب كل مرة على هذه المواقف بطرق مختلفة إلا أنني بقدر ما حافظت على مواقفي واصلت الكتابة في كل الظروف، رأيت أن ابتعد عن التظاهرات الثقافية قدر ما استطيع ذلك أن تخصيص مساحة من الوقت لحضور اللقاءات يعني اقتطاع مساحة من الكتابة، والكتابة هي الباقية والتظاهرات اغلبها ملء فراغ.

لست الوحيد الذي يحيا ويعاني هذه المواقف التي تتحول فيه الثقافة الوطنية على أيدي بعض العابثين إلى سلاح للانتقام والتحييد.

ما يثلج الصدر ويخفف من المعاناة هو اهتمام الجامعيين بالانكباب على دراسة المنظومة الأدبية رواية وقصة ودراسة بلا كلل.

ملخص القول إن أمرّ ظلم وأشده على النفس ذاك الذي يفرض على الناس ولا يستطيعون رده أو يتجاهلون خطره .. أليس الوطن عزيزا علينا جميعا ، أليس من حقنا أن نحب الدولة حين نراها تسعى الى توجيه السفينة التي تحملنا إلى ساحل الأمان رغم عصف الرياح وهيجان الموج .. لكن هناك من يسعى في الخفاء  إلى تمرير رسالة مسمومة فيعمد في حمًى الصراع إلى حرق السفينة .. أما شاهدت معي عملا دراميا  أنتجته وتبثه احدى القنوات التي تأخذ اعتماداتها من الدولة من خزينة المال العام , تبثه وتعيد بثه لها علمها وسيادتها وقوانينها باعتبار أن الدولة الأم لم يعد يطاق العيش فيها .. والشخصية الرئيسية صاحبة مشروع الدولة قادمة من الغرب مكلفة ضمنيا من دوائر معادية لتمرير خيوط مؤامرة , وهي نفس المؤامرة التي اعتمدت لتدمير سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن ... أترى هل هناك ظلم أمرً وأشدً من هذا الظلم. 

*هل ينتابك إحساس بالظلم ادبيا؟

نعم ينتابني إحساس بالظلم، لا الظلم الموجه الي شخصيا وإنما الظلم الموجه إلى منظومة الأدب والإبداع والخلق الأدبي والدراسات الفكرية والأدب الذي يمكن تحويله إلى مسلسلات تلفزيونية.

ان الظلم أنواع متنوعة –موقف بعض المؤسسات الثقافية من الأدب والأدباء مما يتعارض مع مبادئ المسيرة الوطنية , ومن هذه المواقف ما هو مقصود وهذا اخطر ما يضرب به الادب ويحيد به الادباء , وهناك من المواقف ما هو برود روتيني وكسل ولا اهتمام وعدم خوف من المحاسبة ..بعض المسؤولين وهم مكلفون بالسهر على تنمية الثقافة وتطهيرها كي نباهي بها الثقافات الأخرى لا يكلفون أنفسهم الجهد لتأسيس ثقافة حية متطورة متجددة فكأنهم خارج الزمن ولا تعنيهم مبادئ المسيرة الوطنية , الى جانب هذا هناك ظلم اصبح هو نفسه "ثقافة" لدى بعض المسؤولين وعدم الاهتمام بالإصدارات مهما كان نوعها وقيمتها .. هل تعلم إنني أصدر كل عام عنوانا أدبيا إلا أن كل هذه العناوين لم تلفت انتباه أيا من القناتين الوطنيتين .. اي إنني منذ ثلاثة عشرة سنة لم ادع إلي أي برنامج ثقافي تلفزي في مؤسستنا الوطنية بينما نرى طوائف من الأدباء تسرح وتمرح .. ليكن الله في عون الجميع .

ان الإحساس بالظلم المسلط على الأدب عظيم ومتواصل على عكس توجه الدولة وبرامجها .. لقد اخفوا عمدا العيد الوطني للثقافة لتشويه العلاقة بين رجل الثقافة والفن والأعلام ورئيس الدولة

*ماهي رسالة الكاتب اليوم التي من الواجب تحملها؟

الرسالة السامية التي يجب على الكاتب تحملها هي قول كلمة حق .. هي أن لا يستكين ويغمض عينيه ويقف على الحياد فكأن لا تعنيه  الأحداث والمسارات والمؤامرات وحركات الهدم والتضليل وبث السموم ومحاولة تثوير الناس بدون وجه حق ضد كل مسار صحيح وكل سياسة وطنية تستقيم فيها المسارات ويعلو فيها القانون على الجميع.

رسالة الكاتب هي ان يكون جنديا محاربا ليجعل من الأدب فكرا ينشر رسالة محبة من اجل الإنسانية في أسمي معانيها والإنسان في أجل قيمه

*تعدد الملتقيات والمهرجانات الثقافية والأدبية اليوم هل تراها ظاهرة صحية ام انه لا جدوى منها؟

ان التظاهرات الثقافية تصبح لا شك فاعلة وإيجابية ومجدية اذا ما خرجت عن سلطة اللوبيات والصداقات والاخوانيات

أما إذا بقي بعضها في خدمة مطامع شخصية لمسؤولين لا يعنيهم ازدهار الوطن وتطوره وتميزه بين الأوطان فان المسارات الثقافية سيغشاها الضباب .. فبدلا من أن نؤسس لثقافة وطنية متطورة ومتنوعة نتجه إلى جني أرباح مادية شخصية.

إنني زاهد انظر من بعيد وازددت زهدا حين رأيت أخيرا ما حصل في معرض الكتاب الدولي الأخير من توزيع كتب ومنشورات تشجع على ظاهرة المثلية لضرب المجتمع في مقتل وهذا يتزامن مع انتاج عمل درامي يدعو إلى قيام دولة داخل الدولة لضرب السيادة الوطنية.

*كيف تنظر لظاهرة التهافت على نشر الدواوين الشعرية بدرجة أولى في غياب قارىء لها؟

ظاهرة نشر المجموعات الشعرية لا تدعو إلى الدهشة وإنما تدعو إلى الإسراع بمعالجة سوق الطباعة والنشر معالجة جذرية من طرف المسؤولين الذين أمنتهم الدولة على إصلاح القطاع العام

إن ما ينشر من مجموعات شعرية ليس كله خاليا من القيم الجمالية والفنية والموضوعية غير أن النسبة قليلة لما يجب ان يتوفر فيه مستوى الشعر ..أليس الشعر هو أرقى الفنون.

اعتقد أن هذه الظاهرة ترتبط بدخلاء يهدفون من وراء منشوراتهم إلى الحصول على مكان مربح ومريح في الساحة الثقافية، لكم شاهدنا من قصائد تتلى عبر شاشات القنوات فلا هي شعر ولا نثر ولا أدب ولا رسم ولا كلام عادي ينتظم فيه المعنى وتتجسم الصورة .. إن أصحاب هذا الفيض لا همً لهم إلا تأمين مقعد كما أشرنا سابقا، في كل التظاهرات الثقافية والبرامج التلفزية ودور الثقافة والنوادي ومع تأمين المقعد تأمين "كاشي" مريح.

إن هذه الظاهرة تبدو محصنة بلوبيات تتمعش من الشعر وتتبادل الخدمات، وبإقبالها على النشر دون رقيب أو حسيب ازدهرت من ورائها وبسببها المطابع ودور النشر التي لا يعنيها من الأدب إلا الأرباح السريعة المتجددة .

 

عبد القادر بن الحاج نصر.. سيرة موجزة

عبد القادر بن الحاج نصر أصيل مدينة " بئر الحفي " بالجنوب الغربي للبلاد التونسية ..عمل  مذيعا بالإذاعة الوطنيّة ومحرّرا بمجلّة الإذاعة والتّلفزة الوطنيّة (مدّة سنتين).

سافر إلى فرنسا (سنة 1971) وتابع الدّراسة الجامعيّة بباريس بجامعة باريس «السّربون الجديدة» وأحرز منها الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة (سنة 1974)، و«الأستاذيّة» (1975). وتابع فيها الدّراسة في المرحلة الثّالثة، وأحرز شهادة التّعمّق في البحث العلمي (سنة 1976) وشهادة دكتوراه المرحلة الثّالثة في اللّغة والآداب العربيّة (سنة 1979).

التحق بالأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة من سنة 1980 إلى سنة 2008 وقد عمل فيها أخصائيّا ثم وزيرا مفوّضا.

نال بفضل أعماله السّرديّة الرّوائيّة خاصّة، عددا من الجوائز الوطنيّة وكرّم وطنيّا وجهويّا ومحلّيّا في مناسبات ولقاءات ثقافيّة عديدة. من أعماله القصصية والروائية على سبيل الذكر لا الحصر-الزّيتون لا يموت– صـاحبـة الجـلالة- زقاق يأوي رجالا ونساء- الإثم- امرأة يغتالها الذّئب- قنديل باب الـمدينة- مقهى الفنّ -ساحة الطرميل- جنان بنت الريّ- أحزان الجمهوريّة الثانيّة- من قتل شكري بلعيد- صلعاء يا حبيبتي –البـرْد- أولاد الحفيانة.

كتب للتلفزة التونسية عديد المسلسلات التي لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا منها الحصاد-الريحانة- من أيام مليحة – دروب المواجهة – عنقود الغضب – الحمامة والصقيع.

قصة قصيرة للكاتب عبد القادر بن الحاج نصر: سيّدة المدينة

ذات صباح، على أحد أرصفة المدينة، قفصة الّتي أعشقها.. تلك الّتي لا يصحّ أن أنزل بمسقط الرّأس بئر الحفي ولا أتمشّى في شوارعها وأنهجها وأستعيد بعض الذّكريات الّتي تشدّني إليها منذ الصّبا. لا يصحّ أن أقضي ليلة في قفصة ولا أنهض باكرا قبل آذان الصّبح بساعة، أتهيّأ للصّلاة في جامع بن يعقوب الّذي يتوسّط المدينة، بعد ذلك أتوقّف دقائق معدودات في محلّ بائع اللّبلابي.. آكل على مهل صحفة لبلابي محلاّة ببيضة مسلوقة، وبنصيب من زيت الزّيتون الّذي لا أشكّ في أنّه صاف صفاء شموس المدينة وأقمارها.. ورغم ذلك! المعذرة يا صاحب اللّبلابي فأنا ببداوتي المتأصّلة أشكّ في كلّ شيء.. أخذت منّي المواقف الكذّابة إزاء محنة الغزّاوّيين كلّ طيبتي وبراءتي وبلاهتي ونقاء نيّتي وعروبتي وثقتي في الحاكم وحاشيته ومن والاه. غادرت وسط المدينة، وسرت في اتّجاه حيّ سيدي أحمد زرّوق أين أجلس كلّ مرّة أزور فيها قفصة صحبة الرّوائيّ الكبير عبّاس سليمان في مقهى قريبة - عفوا إذ أؤنّث كلّ المقاهي ولا أذكّرها بسبب عناد جُبلت عليه - في الطّريق شاهدت أضواء ولافتة فدفعتني غريزتي البدويّة إلى أن أتوقّف أمامها.. قاعة شاي عصريّة مؤثّثة أحسن تأثيث، سقفها تزيّن بديكورات فنّية مبتكرة. قرّرت أن أتناول قهوتي في هذه القاعة. عدت إلى سيّارتي أبحث لها عن مكان آمن.. أخذت أنظر في كلّ الاتّجاهات خوفا من حرس المرور ومن سيّارة الشّرطة البلديّة الّتي تحمل السيّارة المخالفة إلى مستودع المحجوزات. فجأة.. تناهى إلى سمعي صوت دافئ رقيق يقدّم لي تحيّة الصّباح..التفتّ.. ما أروع صباحا في مدينة قفصة أمام قاعة شاي.. المعذرة يا أدباء ويا شعراء لقد وددت أن أذكّر قاعة الشّاي ما دمت قد أنّثت المقهى، لكنّني خجلت من تطاولي على الواقع وعلى مفردات لغتنا العربيّة الجميلة. قالت لي.. أردت أن أساعدك لمّا رأيتك حائرا. قلت لها.. نعم أنا تائه في المدينة الّتي أحبّها، أبحث عن مكان آمن أطمئنّ فيه على سيّارتي.. ساعديني سيّدتي إن كنت قفصيّة من مدينة قفصة. قالت لي بلهجة تقطر خجلا أنثويّا.. إنّها من سيدي بوزيد وتشتغل مسؤولة في أحد المصانع بقفصة وإنّها على معرفة بمداخل المدينة ومخارجها.. «عليك أن تترك سيّارتك حيث هي.. الأمن مستتبّ هنا فلسنا في حيّ الزّيتون بغزّة.» تردّدت وهي تهمّ بالذّهاب.. أدركت بغريزتي البدويّة وتجربة الكاتب الّذي قضّى أغلب أيّام حياته متسكّعا في شوارع العاصمة وأنهجها أنّ هذه السيّدة ترغب في أن أدعوها إلى تناول قهوة صباحيّة، لكن ماذا أفعل ورغبة الكتابة الملعونة لديّ تخنقني خنقا. لم أتجرّأ على الانصراف إلى حال سبيلي قبل أن تنصرف هي إذ مازالت لديّ بقيّة من حياء رجال البدو. خلال لحظات التّردّد نظرت إليها، تركت لنظري حرّيّة الجولان في تفاصيلها.. جميلة كتمثال من شمع، متفتّحة كالوردة، مرفرفة الملامح كطائر يبسط جناحيه ويقبضهما بسرعة الرّيح، عيناها موجة بحر تلاحق موجة، على شفتيها رعشة خفيفة متواصلة كصفحة ماء تداعبها نسمة عابرة.. خدّان رمّانيّتان انشقّتا نصفين. بكلّ وقاحة جمعت تفاصيلها في لوحة، عمل صاحبها على العناية بكلّ التّفاصيل، بل غاص في تفاصيل التّفاصيل.. أنا كاتب أجبرته بلادة بعض الحكّام وقلّة حيائهم على أن يطلّق الخجل واللّياقة..تعلّمت أن أسبّ وأشتم وألعن وأتّهم وأهجو وأحمل سكيّنا أغرزها إن استعطت في صدر كلّ خائن يعترض طريقي. ما أمرّ الخيانة وما أفظعها! أخرجتني السيّدة من ذهولي حين ابتسمت. - لا تستغرب سيّدي إن استنتجتَ ما حدّثتك به نفسك عنّي.. إنّه استنتاج خاطئ، وهم في وهم.. عيبي الوحيد أنّني متحرّرة من القيود، وبعبارة أدقّ مطلّقة حديثا. ما إن ارتديت فستان العرس حتّى خلعته ولجأت إلى الانفصال. لذلك لا أجد أيّ حرج في أن أتحدّث إلى عابر سبيل كلّما بدا لي ذلك ضروريّا.. ماذا تشتغل في حياتك؟ - أنا! أمتهن الاعتداء على الآخرين. أسرق منهم خصوصيّاتهم، أسجّلها على الورق ثمّ أنشرها بين النّاس ولا أطلب ثمنا، لا جزاء ولا شكورا.. سيّدتي أنت أجمل من وردة في حديقة حاكم عربيّ فكيف طلّقك زوجك؟ ارتسمت حركة اشمئزاز على ملامحها. - أنا الّتي طلّقته.. كرهت في شكله ومضمونه كلّ الرّجال.. رأيته مهتمّا بمباهج العرس، منغمسا في تفاهاته حتّى أنّه أطفأ جهاز التّلفاز كي لا يشاهد أنهار الدّم تجري في شوارع غزّة.. كرهته وكرهت رائحته ورائحة أشباهه. مدّت لي يدها، صافحتني ثمّ استدارت وانصرفت. بقي في الخاطر حركة الاشمئزاز مرسومة على شفتيها وعينيها.. وانطبعت في الذّاكرة صورة السّيّدة الجميلة.. جدّا جدّا.. والثّائرة.. جدّا جدّا.. والمرأة الّتي أنجبها الوطن واحتضنها بحرارة فرفضت أن تنجب أشباها قد يطفئون التّلفاز لينغمسوا في شهوة الجسد ولا شيء غير الجسد.

الروائي الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر لـ"الصباح":  مدونة السرد تقدم للقارئ ما لا يقدمه المؤرخ والدارس ورجل السياسة

حوار محسن بن احمد

عاشق مُتيًم بالكتابة الإبداعية إلى حد الانصهار الكامل فيها .. ما إن يُنهي نصا حتى ينطلق في آخر بنفس الحماس والشوق والجدية والمسؤولية .. الكتابة عنده هي الاكسيجين الذي يستمد منه الحياة التي يريدها و يبغيها ولا يروم غيرها.

الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر يحمل اليوم على كاهله مسيرة  أدبية إبداعية ثرية ومتنوعة استثنائية مفعمة بالحب الكبير والعشق بلا ضفاف للوطن وتربته .. الوطن ملهمه الأول في كل كتاباته بتفاصيله الدقيقة.. تجربة أكدت معدنه الأصيل المؤمن بنبل رسالته الإبداعية التي ترصد الواقع وتكتب الحقيقة دون أصباغ فالكتابة الإبداعية الأدبية عنده فكر ينشد الإنسانية في أسمى معانيها والإنسان في اجل قيمه.

*تأتي إلى العاصمة لقضاء شؤون سرعان ما تعود إلى مسقط الرأس أكثر شوقا ...فأي تأثير للمكان في نحت شخصيتك الإبداعية؟

عكس ما استنتجت أنت ,فأنا آتي إلى العاصمة متشوقا تحملني شقاوة الشباب وسنوات الوظيف وفترات التسكع بين النوادي الأدبية ومقرات الصحف والمجلات ودور النشر، ويستولي علي الإحساس بالبقاء في العاصمة أطول  فترة ممكنة حتى أتمكن من السير في كل الأنهج والشوارع والساحات واستمتع بالتوقف أمام واجهات المغازات، وخاصة الجلوس والارتخاء في فضاء المقاهي التي أحببتها وشعرت فيها بالدفء , تلك المقاهي آوتني صباحا ومساء لأنجز الكثير من كتاباتي، كيف لا أمر بكل مكان في العاصمة ... شارع الحرية حيث مقر مؤسسة الإذاعة والتلفزة التي افتتحت مسيرتي بالعمل فيها مذيعا ومحررا في مجلتها، وساحة باب سويقة حيث تنقلت فيها في بداية حياتي بين "كافيشانطاتها"... أقوم بجولات ووقفات وجلسات في ليالي رمضان، ويظل لدي نهم للأمكنة ..ثم أحزم أمتعتي وأشد الرحال إلى قريتي "بئر الحفي " التي احتضنتني في مختلف مراحل الحياة ، وما تزال تحتضنني بمحبة وتستقبلني فضاءاتها في حدود القرية، وعبر مزارعها وحقولها التي أصبحت أشجارا مختلفة وثمار مختلفة أكلها ..أنظر في كتاباتي رواية " الاثم " ورواية " عتبة الحوش " ورواية " الزيتون لا يموت".. وستكتشف أن أهم الشخصيات القصصية والروائية ولدت هناك واكتسبت ملامحها من تراب القرية وهوائها ومائها .. هناك أيضا في تلك الرحاب وتلك العتبات أقيم ولا اشبع من الإقامة.

*أعلنت أكثر من مرة أن الرواية تفتك الوطن من العابثين ...فكيف لنص سردي أن يقوم بذلك من وجهة نظرك؟

-الأوطان مقدسة، وأول من يؤمن بقدسية الوطن هو الكاتب، ولولا الحس الوطني والشعور بالانتماء والتجذر في تاريخ الوطن وواقعه ومكتسباته وخصوصياته وثقافاته ومنجزاته في مختلف الميادين لما انبرى الكاتب للغوص في همومه وقضاياه لإنجاز مدونته.

أمام الكاتب وهو ينجز نصوصه الإبداعية فريقان في المجتمع يتعايشان ويتصارعان على مر الزمن، فريق يسعى إلى استنزاف خيرات البلاد وتسخيرها لمآربه وفريق يلتزم بمحبة الوطن والدفاع عنه والتضحية من أجل ازدهاره وتطوره لبلوغ درجة الدول الراقية.

أمام هذا التناقض في المجتمع الواحد، في حضن وطن حركة بناء وحركة تهديم ليس أمام الكاتب المبدع إلا أن يؤسس منجزاته بالحفر في ملامح المجتمع، في الوجوه وفي العيون، وفي ما وراء النظرة والحركة وردة الفعل وما تخفي الصدور ليدرك أصل الحكاية ...أصل الهموم والمعاناة ... حقيقة الواقع الذي لا تدركه العين فهو منطو في سردية الأحداث.

إن محبة الوطن والاعتزاز به تتجلى لدى الكاتب في التعبير عما لا يقدر الآخرون على التعبير عنه .. هكذا في خضم الحفر بحثا عن الحقيقة في كل طيف وكل حركة وما تخفي النفوس تتمكن المنظومة الروائية القصصية من تعرية زيف الزائفين وخيانة الخائنين وعبث العابثين .. يكفي مدونة السرد فخرا أنها تقدم للقارئ ما لا يقدمه المؤرخ والدارس ورجل السياسة.

*في كتاباتك السردية تشبث بالوطن وعشق للأرض ...فأي وطن تبحث عنه من خلال هذه الكتابات؟

أبحث عن وطن يشعر فيه الإنسان بإنسانيته بحكم الحب الخالص، علاقات أهله بعضهم ببعض أي أن يكون رصيد المحبة لدى أهله ما يجعل حركة التأسيس متجددة، وظاهرة الهدم منعدمة ..

إن الأوطان وجدت كي تكبر وتنمو وتتميز فنشعر بالأمل والطمأنينة وفرص الحياة الكريمة أي  تلك التي تتوفر فيها الحقوق والعدالة للجميع..لكن إذا انخرمت الموازين وأصبح لصراع الطبقات الكلمة العليا وانتشرت ظواهر الغش والتحيل والسطو وحب التملك، وتجاوز القوانين واستعمال القانون من أجل المصالح الشخصية الضيقة، في هذه الحالة فاسأل عن عشاق الأرض والوطن والتاريخ والحضارة والمكتسبات ثقافة وحضارة .. اسأل عنهم فهم القادرون إذا توفرت الإرادة الوطنية إلى افتكاك الوطن من أيدي العابثين ولعلك واجد في كتاباتي السردية وغيرها هذا الإحساس المرهف بالوطن، ففي كل إصدار جديد ، وفي كل مقال ودراسة تعبير عن هذا التعلق بالأرض وبالوطن، ولن يبرحني هذا الإحساس، أما إذا ما انحرف، وإذا غاب الإحساس بالمقدسات فاعلم أن ما تقرا لا ينتسب لي ولا انتسب له.

*أنت عاشق الكتابة بلا حدود ...كيف تعيش لحظة الانصهار الكلي فيها؟

عشق بلاحدود .. نعم تلك هي قناعاتي منذ البداية، وذلك هو أنا على مدى السنوات الطويلة التي التزمت فيها الكتابة منذ " الزيتون لا يموت" " إلى "عاشق وطن" , إلى " هنشير اليهودية " وأخيرا " غيمات بيضاء .. ما أبعدها " انا والكتابة كتلة واحدة .. شكل واحد ومضمون واحد.. لو يوما لا يلتقي فيه القلم بالورقة أشعر بأنني أذنبت في حق نفسي وإنني خنت واجبا مقدسا , وإنني لن أدرك النوم والراحة.

لقد جعلت من الكتابة مسيرة حياة , وعقد بيني وبين الآخر يتضمن سعيا متواصلا لفك طلاسم  ما يحيط بنا , قد نلتقي وقد نصل إلى الصدام في الرأي  وفي حالات أخرى قد يسأل عني ويلح علي أن أدله عن المكتبة التي تباع فيها إصداراتي .. يفرحني ذلك ايما فرح، غير أن الشعور بالفرح سرعان ما يختفي ذلك لأنني ما كتبته من إبداع وخرج من بين يدي إلى القارئ لا يجب بحال من الأحوال أن يتكرر في إصدار آخر.

المهم أن الصراع بيني وبين الكتابة لا تنطفئ ناره .. انه الخوف من المضامين والأشكال، هل هي ما ينتظره القارئ آم إنني خارج انتظاراته.

إذن فلا مهرب لي من مواجهة نفسي وما اكتب وذلك يتطلب مني انصهارا يوميا في الكتابة وهروبا من نص إلى نص ينعدم فيهما التشابه.

*ما سر الابتعاد عن الساحة الأدبية بمهرجاناتها الثقافية على اعتبار أننا لا نراك فيها؟

الابتعاد لا يخص الساحة الأدبية فقط ، بل الساحة الثقافية بمختلف هياكلها وبرامجها وأنشطتها .. الكل يعلم وربما نسي البعض او تناسى إنني تعرضت خلال العامين الماضيين إلى حصار مستحكم ، إلى حد غير مسبوق , بل إلى ما هو أكثر من ذلك وأخطر .. لكن هل يستسلم من كتب ونشر " الزيتون لا يموت"،  ومن تجرأ فجعل من رواياته تشريحا أدبيا اجتماعيا سياسيا لأعداء هذا الوطن والذين استنزفوه وشوهوا صورته .. لقد ظللت واقفا وسأظل .. انني لمن يطلع على روايات " الاثم" و" قنديل باب المدينة" و" من قتل شكري بلعيد" و" جنان بنت الري " و" احزان الجمهورية الثانية " وصولا الى الرواية قبل الأخيرة "بتلات الاقحوان " أن يستخلص من الأحداث وصراع الشخصيات والاهتمامات والمعاناة التي خضتها مدى المواجهة التي اعتمدتها في طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والتي تتجاوز حد الشجاعة .. وقد كنت أحاسب كل مرة على هذه المواقف بطرق مختلفة إلا أنني بقدر ما حافظت على مواقفي واصلت الكتابة في كل الظروف، رأيت أن ابتعد عن التظاهرات الثقافية قدر ما استطيع ذلك أن تخصيص مساحة من الوقت لحضور اللقاءات يعني اقتطاع مساحة من الكتابة، والكتابة هي الباقية والتظاهرات اغلبها ملء فراغ.

لست الوحيد الذي يحيا ويعاني هذه المواقف التي تتحول فيه الثقافة الوطنية على أيدي بعض العابثين إلى سلاح للانتقام والتحييد.

ما يثلج الصدر ويخفف من المعاناة هو اهتمام الجامعيين بالانكباب على دراسة المنظومة الأدبية رواية وقصة ودراسة بلا كلل.

ملخص القول إن أمرّ ظلم وأشده على النفس ذاك الذي يفرض على الناس ولا يستطيعون رده أو يتجاهلون خطره .. أليس الوطن عزيزا علينا جميعا ، أليس من حقنا أن نحب الدولة حين نراها تسعى الى توجيه السفينة التي تحملنا إلى ساحل الأمان رغم عصف الرياح وهيجان الموج .. لكن هناك من يسعى في الخفاء  إلى تمرير رسالة مسمومة فيعمد في حمًى الصراع إلى حرق السفينة .. أما شاهدت معي عملا دراميا  أنتجته وتبثه احدى القنوات التي تأخذ اعتماداتها من الدولة من خزينة المال العام , تبثه وتعيد بثه لها علمها وسيادتها وقوانينها باعتبار أن الدولة الأم لم يعد يطاق العيش فيها .. والشخصية الرئيسية صاحبة مشروع الدولة قادمة من الغرب مكلفة ضمنيا من دوائر معادية لتمرير خيوط مؤامرة , وهي نفس المؤامرة التي اعتمدت لتدمير سوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن ... أترى هل هناك ظلم أمرً وأشدً من هذا الظلم. 

*هل ينتابك إحساس بالظلم ادبيا؟

نعم ينتابني إحساس بالظلم، لا الظلم الموجه الي شخصيا وإنما الظلم الموجه إلى منظومة الأدب والإبداع والخلق الأدبي والدراسات الفكرية والأدب الذي يمكن تحويله إلى مسلسلات تلفزيونية.

ان الظلم أنواع متنوعة –موقف بعض المؤسسات الثقافية من الأدب والأدباء مما يتعارض مع مبادئ المسيرة الوطنية , ومن هذه المواقف ما هو مقصود وهذا اخطر ما يضرب به الادب ويحيد به الادباء , وهناك من المواقف ما هو برود روتيني وكسل ولا اهتمام وعدم خوف من المحاسبة ..بعض المسؤولين وهم مكلفون بالسهر على تنمية الثقافة وتطهيرها كي نباهي بها الثقافات الأخرى لا يكلفون أنفسهم الجهد لتأسيس ثقافة حية متطورة متجددة فكأنهم خارج الزمن ولا تعنيهم مبادئ المسيرة الوطنية , الى جانب هذا هناك ظلم اصبح هو نفسه "ثقافة" لدى بعض المسؤولين وعدم الاهتمام بالإصدارات مهما كان نوعها وقيمتها .. هل تعلم إنني أصدر كل عام عنوانا أدبيا إلا أن كل هذه العناوين لم تلفت انتباه أيا من القناتين الوطنيتين .. اي إنني منذ ثلاثة عشرة سنة لم ادع إلي أي برنامج ثقافي تلفزي في مؤسستنا الوطنية بينما نرى طوائف من الأدباء تسرح وتمرح .. ليكن الله في عون الجميع .

ان الإحساس بالظلم المسلط على الأدب عظيم ومتواصل على عكس توجه الدولة وبرامجها .. لقد اخفوا عمدا العيد الوطني للثقافة لتشويه العلاقة بين رجل الثقافة والفن والأعلام ورئيس الدولة

*ماهي رسالة الكاتب اليوم التي من الواجب تحملها؟

الرسالة السامية التي يجب على الكاتب تحملها هي قول كلمة حق .. هي أن لا يستكين ويغمض عينيه ويقف على الحياد فكأن لا تعنيه  الأحداث والمسارات والمؤامرات وحركات الهدم والتضليل وبث السموم ومحاولة تثوير الناس بدون وجه حق ضد كل مسار صحيح وكل سياسة وطنية تستقيم فيها المسارات ويعلو فيها القانون على الجميع.

رسالة الكاتب هي ان يكون جنديا محاربا ليجعل من الأدب فكرا ينشر رسالة محبة من اجل الإنسانية في أسمي معانيها والإنسان في أجل قيمه

*تعدد الملتقيات والمهرجانات الثقافية والأدبية اليوم هل تراها ظاهرة صحية ام انه لا جدوى منها؟

ان التظاهرات الثقافية تصبح لا شك فاعلة وإيجابية ومجدية اذا ما خرجت عن سلطة اللوبيات والصداقات والاخوانيات

أما إذا بقي بعضها في خدمة مطامع شخصية لمسؤولين لا يعنيهم ازدهار الوطن وتطوره وتميزه بين الأوطان فان المسارات الثقافية سيغشاها الضباب .. فبدلا من أن نؤسس لثقافة وطنية متطورة ومتنوعة نتجه إلى جني أرباح مادية شخصية.

إنني زاهد انظر من بعيد وازددت زهدا حين رأيت أخيرا ما حصل في معرض الكتاب الدولي الأخير من توزيع كتب ومنشورات تشجع على ظاهرة المثلية لضرب المجتمع في مقتل وهذا يتزامن مع انتاج عمل درامي يدعو إلى قيام دولة داخل الدولة لضرب السيادة الوطنية.

*كيف تنظر لظاهرة التهافت على نشر الدواوين الشعرية بدرجة أولى في غياب قارىء لها؟

ظاهرة نشر المجموعات الشعرية لا تدعو إلى الدهشة وإنما تدعو إلى الإسراع بمعالجة سوق الطباعة والنشر معالجة جذرية من طرف المسؤولين الذين أمنتهم الدولة على إصلاح القطاع العام

إن ما ينشر من مجموعات شعرية ليس كله خاليا من القيم الجمالية والفنية والموضوعية غير أن النسبة قليلة لما يجب ان يتوفر فيه مستوى الشعر ..أليس الشعر هو أرقى الفنون.

اعتقد أن هذه الظاهرة ترتبط بدخلاء يهدفون من وراء منشوراتهم إلى الحصول على مكان مربح ومريح في الساحة الثقافية، لكم شاهدنا من قصائد تتلى عبر شاشات القنوات فلا هي شعر ولا نثر ولا أدب ولا رسم ولا كلام عادي ينتظم فيه المعنى وتتجسم الصورة .. إن أصحاب هذا الفيض لا همً لهم إلا تأمين مقعد كما أشرنا سابقا، في كل التظاهرات الثقافية والبرامج التلفزية ودور الثقافة والنوادي ومع تأمين المقعد تأمين "كاشي" مريح.

إن هذه الظاهرة تبدو محصنة بلوبيات تتمعش من الشعر وتتبادل الخدمات، وبإقبالها على النشر دون رقيب أو حسيب ازدهرت من ورائها وبسببها المطابع ودور النشر التي لا يعنيها من الأدب إلا الأرباح السريعة المتجددة .

 

عبد القادر بن الحاج نصر.. سيرة موجزة

عبد القادر بن الحاج نصر أصيل مدينة " بئر الحفي " بالجنوب الغربي للبلاد التونسية ..عمل  مذيعا بالإذاعة الوطنيّة ومحرّرا بمجلّة الإذاعة والتّلفزة الوطنيّة (مدّة سنتين).

سافر إلى فرنسا (سنة 1971) وتابع الدّراسة الجامعيّة بباريس بجامعة باريس «السّربون الجديدة» وأحرز منها الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة (سنة 1974)، و«الأستاذيّة» (1975). وتابع فيها الدّراسة في المرحلة الثّالثة، وأحرز شهادة التّعمّق في البحث العلمي (سنة 1976) وشهادة دكتوراه المرحلة الثّالثة في اللّغة والآداب العربيّة (سنة 1979).

التحق بالأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة من سنة 1980 إلى سنة 2008 وقد عمل فيها أخصائيّا ثم وزيرا مفوّضا.

نال بفضل أعماله السّرديّة الرّوائيّة خاصّة، عددا من الجوائز الوطنيّة وكرّم وطنيّا وجهويّا ومحلّيّا في مناسبات ولقاءات ثقافيّة عديدة. من أعماله القصصية والروائية على سبيل الذكر لا الحصر-الزّيتون لا يموت– صـاحبـة الجـلالة- زقاق يأوي رجالا ونساء- الإثم- امرأة يغتالها الذّئب- قنديل باب الـمدينة- مقهى الفنّ -ساحة الطرميل- جنان بنت الريّ- أحزان الجمهوريّة الثانيّة- من قتل شكري بلعيد- صلعاء يا حبيبتي –البـرْد- أولاد الحفيانة.

كتب للتلفزة التونسية عديد المسلسلات التي لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا منها الحصاد-الريحانة- من أيام مليحة – دروب المواجهة – عنقود الغضب – الحمامة والصقيع.

قصة قصيرة للكاتب عبد القادر بن الحاج نصر: سيّدة المدينة

ذات صباح، على أحد أرصفة المدينة، قفصة الّتي أعشقها.. تلك الّتي لا يصحّ أن أنزل بمسقط الرّأس بئر الحفي ولا أتمشّى في شوارعها وأنهجها وأستعيد بعض الذّكريات الّتي تشدّني إليها منذ الصّبا. لا يصحّ أن أقضي ليلة في قفصة ولا أنهض باكرا قبل آذان الصّبح بساعة، أتهيّأ للصّلاة في جامع بن يعقوب الّذي يتوسّط المدينة، بعد ذلك أتوقّف دقائق معدودات في محلّ بائع اللّبلابي.. آكل على مهل صحفة لبلابي محلاّة ببيضة مسلوقة، وبنصيب من زيت الزّيتون الّذي لا أشكّ في أنّه صاف صفاء شموس المدينة وأقمارها.. ورغم ذلك! المعذرة يا صاحب اللّبلابي فأنا ببداوتي المتأصّلة أشكّ في كلّ شيء.. أخذت منّي المواقف الكذّابة إزاء محنة الغزّاوّيين كلّ طيبتي وبراءتي وبلاهتي ونقاء نيّتي وعروبتي وثقتي في الحاكم وحاشيته ومن والاه. غادرت وسط المدينة، وسرت في اتّجاه حيّ سيدي أحمد زرّوق أين أجلس كلّ مرّة أزور فيها قفصة صحبة الرّوائيّ الكبير عبّاس سليمان في مقهى قريبة - عفوا إذ أؤنّث كلّ المقاهي ولا أذكّرها بسبب عناد جُبلت عليه - في الطّريق شاهدت أضواء ولافتة فدفعتني غريزتي البدويّة إلى أن أتوقّف أمامها.. قاعة شاي عصريّة مؤثّثة أحسن تأثيث، سقفها تزيّن بديكورات فنّية مبتكرة. قرّرت أن أتناول قهوتي في هذه القاعة. عدت إلى سيّارتي أبحث لها عن مكان آمن.. أخذت أنظر في كلّ الاتّجاهات خوفا من حرس المرور ومن سيّارة الشّرطة البلديّة الّتي تحمل السيّارة المخالفة إلى مستودع المحجوزات. فجأة.. تناهى إلى سمعي صوت دافئ رقيق يقدّم لي تحيّة الصّباح..التفتّ.. ما أروع صباحا في مدينة قفصة أمام قاعة شاي.. المعذرة يا أدباء ويا شعراء لقد وددت أن أذكّر قاعة الشّاي ما دمت قد أنّثت المقهى، لكنّني خجلت من تطاولي على الواقع وعلى مفردات لغتنا العربيّة الجميلة. قالت لي.. أردت أن أساعدك لمّا رأيتك حائرا. قلت لها.. نعم أنا تائه في المدينة الّتي أحبّها، أبحث عن مكان آمن أطمئنّ فيه على سيّارتي.. ساعديني سيّدتي إن كنت قفصيّة من مدينة قفصة. قالت لي بلهجة تقطر خجلا أنثويّا.. إنّها من سيدي بوزيد وتشتغل مسؤولة في أحد المصانع بقفصة وإنّها على معرفة بمداخل المدينة ومخارجها.. «عليك أن تترك سيّارتك حيث هي.. الأمن مستتبّ هنا فلسنا في حيّ الزّيتون بغزّة.» تردّدت وهي تهمّ بالذّهاب.. أدركت بغريزتي البدويّة وتجربة الكاتب الّذي قضّى أغلب أيّام حياته متسكّعا في شوارع العاصمة وأنهجها أنّ هذه السيّدة ترغب في أن أدعوها إلى تناول قهوة صباحيّة، لكن ماذا أفعل ورغبة الكتابة الملعونة لديّ تخنقني خنقا. لم أتجرّأ على الانصراف إلى حال سبيلي قبل أن تنصرف هي إذ مازالت لديّ بقيّة من حياء رجال البدو. خلال لحظات التّردّد نظرت إليها، تركت لنظري حرّيّة الجولان في تفاصيلها.. جميلة كتمثال من شمع، متفتّحة كالوردة، مرفرفة الملامح كطائر يبسط جناحيه ويقبضهما بسرعة الرّيح، عيناها موجة بحر تلاحق موجة، على شفتيها رعشة خفيفة متواصلة كصفحة ماء تداعبها نسمة عابرة.. خدّان رمّانيّتان انشقّتا نصفين. بكلّ وقاحة جمعت تفاصيلها في لوحة، عمل صاحبها على العناية بكلّ التّفاصيل، بل غاص في تفاصيل التّفاصيل.. أنا كاتب أجبرته بلادة بعض الحكّام وقلّة حيائهم على أن يطلّق الخجل واللّياقة..تعلّمت أن أسبّ وأشتم وألعن وأتّهم وأهجو وأحمل سكيّنا أغرزها إن استعطت في صدر كلّ خائن يعترض طريقي. ما أمرّ الخيانة وما أفظعها! أخرجتني السيّدة من ذهولي حين ابتسمت. - لا تستغرب سيّدي إن استنتجتَ ما حدّثتك به نفسك عنّي.. إنّه استنتاج خاطئ، وهم في وهم.. عيبي الوحيد أنّني متحرّرة من القيود، وبعبارة أدقّ مطلّقة حديثا. ما إن ارتديت فستان العرس حتّى خلعته ولجأت إلى الانفصال. لذلك لا أجد أيّ حرج في أن أتحدّث إلى عابر سبيل كلّما بدا لي ذلك ضروريّا.. ماذا تشتغل في حياتك؟ - أنا! أمتهن الاعتداء على الآخرين. أسرق منهم خصوصيّاتهم، أسجّلها على الورق ثمّ أنشرها بين النّاس ولا أطلب ثمنا، لا جزاء ولا شكورا.. سيّدتي أنت أجمل من وردة في حديقة حاكم عربيّ فكيف طلّقك زوجك؟ ارتسمت حركة اشمئزاز على ملامحها. - أنا الّتي طلّقته.. كرهت في شكله ومضمونه كلّ الرّجال.. رأيته مهتمّا بمباهج العرس، منغمسا في تفاهاته حتّى أنّه أطفأ جهاز التّلفاز كي لا يشاهد أنهار الدّم تجري في شوارع غزّة.. كرهته وكرهت رائحته ورائحة أشباهه. مدّت لي يدها، صافحتني ثمّ استدارت وانصرفت. بقي في الخاطر حركة الاشمئزاز مرسومة على شفتيها وعينيها.. وانطبعت في الذّاكرة صورة السّيّدة الجميلة.. جدّا جدّا.. والثّائرة.. جدّا جدّا.. والمرأة الّتي أنجبها الوطن واحتضنها بحرارة فرفضت أن تنجب أشباها قد يطفئون التّلفاز لينغمسوا في شهوة الجسد ولا شيء غير الجسد.