حاوره محسن بن احمد
عاشق للصفاء والقوة والتفرد .. متمرد في كتاباته الإبداعية المتنوعة .. في أشعاره نفس متميز قوامه عمق التأمل وتعدد المواضيع وتنوع البناء اللغوي.
عادل معيزي واحد من ابرز جيل التسعينات الذي أسس لتقاليد وثوابت في العملية الإبداعية بدرجة أولى .. حاسم في اختياراته ومواقفه لا يقبل المهادنة اذا تعلق الأمر بالإبداع الجاد الذي يبني ويرتقي بالمتلقي إلى الأفضل والأرقى والأجمل في الحياة.
يحمل على كاهله مسيرة متفردة جمعت بين الكتابة الإبداعية المتمردة على السائد والمستهلك والمتداول وكل ماله علاقة بالشأن العام في البلاد.
عادل معيزي الشاعر والمبدع يستعيد في هذا الحوار المثير معه العديد من الذكريات الشعرية ويتوقف عند العديد من هواجسه الإبداعية.
* عادل المعيزي من جيل التسعينات الشعري ماذا بقي في الذاكرة من هذه التجربة؟
كانت التسعينات الهادرة لحظة تاريخية فارقة في العالم وفي البلاد العربية وفي تونس إذ شهدت تحولات جيوستراتيجية كبرى وبشرت بنهاية المعسكر الاشتراكي مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق وانتصار النموذج الغربي القائم على الليبيرالية واقتصاد السوق وعلى تمجيد الحريات الفردية.. أما في عالمنا الشرقي فقد دشّن الوطن العربي عقد التسعينات بحرب تدمير العراق واتفاقيات أوسلو التي أنهت الرؤية القديمة للقضية الفلسطينية وبشرت بتعايش كيان فلسطيني صغير بسلطة محدودة جدا ثمنها نسيان القدس مع كيان غاصب يعترف بسلطة فلسطينية وهمية وثمنها التطبيع مع الأقطار والكيانات العربية. أما في تونس فقد شهدت التسعينات التضييق الشديد على الحريات الفردية والحريات العامة مما أدّى إلى اختناق المجتمع تحت نير نظام استبدادي يقوم أساسا على محاصرة النشاط السياسي المعارض وعلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وعلى التعتيم الإعلامي وعلى التدجين الثقافي (...)
في هذا الخضم نشأ جيل أدبي جديد من النوادي الأدبية وملتقيات أدب الشباب التي انتشرت في عدة مدن منذ نهاية عقد ثمانينات القرن العشرين وكان للحراك الأدبي الجامعي دور محوري أيضا في ولادة جيل شعري مختلف عن الأجيال السابقة ومنشق عنها على مستوى الأساليب والمضامين إلا أنّه بدا خجولا ومسالما في معركة الحريات وهنّأه على ذلك الكثيرون في حين كان ينبغي عليهم توبيخه ومرد ذلك أن تلك الحثالة من النقّاد كانت تحقد على المعارك الإيديولوجية وتعتبرها غير جديرة بالشعر وحتّى عندما نخبرهم أنّنا نخوض صراعا خارج القصيدة من أجل الحرية تأتي الوصايا مشبعة بالغرور الهرم أنّ "على الشاعر أن يكتب قصيدته ويهتم بتجربته الشعرية فحسب" ومن بين هؤلاء من كان أستاذا جامعيا أو مسؤولا ثقافيا أو رئيس منظمة أدبية أو صحفيا ثقافيا أو غيره... وقد كان مبرّر هؤلاء أنّ السلطة التي قامت بالقضاء على الإخوان المسلمين تعرف ماذا تفعل وهو ما أدّى بقسم كبير من هؤلاء إلى موالاتها موالاة عمياء ومنهم من يفعل الشيء نفسه اليوم ويتغاضى على المس من الحرية وعلى أخطاء السلطة بتعلّة أنها تحارب الإخوان والفساد وتسعى جادة للكشف عن قتلة الشهداء.. ومن جهة أخرى كان ثمة معارضون بسبب الحصار الذي ضرب عليهم في الداخل كانوا يلتجئون إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومنظماتها للاحتماء بها من بطش السلطة إلا أنّ المسألة الثقافية والإبداعية كانت في الغالب الأعم أبعد ما يكون عن اهتماماتهم... غير أن جيل التسعينات (على الأقل الذي أعرف ممثليه وأدور في فلكه إذ من سماته أنّه جيل غير متجانس بل ومختلف ومتعدّد ) لم يكتف بتجاهل أولئك الروّاد روّاد الموالاة العمياء بل كان منشقّا عنهم ولم ينتظر أن يجيئه من الخارج من يقوم عنه بثورته ويعيد إليه أحلامه وطوباويّته وإنّما ظلّ منغرسا في بيئته لذلك كان يدرك جيدا حركة التاريخ إلاّ أنّ الساسة كانوا باستمرار منشغلين عن الإصغاء له... أمّا الآن فها هم الخصوم السابقين لهذا الجيل وقد تحوّلوا إلى منظرين لواجب الولاء الذي تقاعسنا عنه سابقا ولاحقا.. لا أدري أيّ لعنة أصابت ذلك الجيل لكي لا ينتج في ذروة ازدهاره غير هؤلاء البقالين الذين نراهم اليوم في كل مندبة !! هل كان من الواجب على مسار ثوري بمثل هذا التعقيد أن ينتج مثل هؤلاء الأوباش؟ ربما كان لابدّ من المرور بهذه المحن كي يتاح لنا أن نلتقي بهذه السفالة وجها لوجه...أفكر اليوم في تلك اللحظات المفعمة بالحماسة والاندفاع وفي تلك الأفكار الخرقاء وتلك الأحلام الكبرى (...)
*ماذا قدم شعراء التسعينات لمدونة الشعر التونسي من وجهة نظرك؟
حسب تقديري من ناحية الكم لم يكن ممكنا الحديث عن مدونة للشعر التونسي لجيل ما قبل التسعينات عدا بعض التجارب الشعرية المبثوثة هنا وهناك وبعض الأسماء التي نشرت بعض المجاميع ولكن مع نهاية الثمانينات ونهاية احتكار الدولة تقريبا للنشر بنهاية الشركة التونسية للنشر والشركة التونسية للتوزيع وولادة عدة دور نشر في العاصمة وفي عدة مدن ومع انحسار المد الفكري الذي ترك المجال لمدّ أبداعي جعل كلّ الكتّاب مهما كانت اهتماماتهم الفكرية أو العلمية يحاولون الشعر ومع انتشار ظاهرة النشر على الحساب الخاص ومع انتشار النوادي والملتقيات الأدبية في الساحة الثقافية وفي الحركة الطلابية، أصبح لنا في سنوات قليلة دون مبالغة مئات الشعراء والشاعرات ومن خضم هذا التراكم الكمي ظهرت تجارب شعرية نوعية وترسّخت تجارب أخرى سابقة في الزمن وبذلك أصبحت مدوّنة الشعر التونسي في عقد التسعينيات لا يمكن مقارنتها بأي عشرية أخرى طوال قرون من الزمن... هذا من جهة الكم أمّا من جهة النوع فقد برزت تجارب مهمة وأصبح لها سيط عربي وحتى عالمي ومازال هؤلاء إلى اليوم يؤثّثون المشهد الأدبي التونسي بل ويقودون حركة النشر والحركة الأدبية بشكل عام ولك أن تتذكّر أيّ اسم لتجد أنّه من جيل التسعينات أو على الأقل شهدت تجربته مراكمة أو تحوّلا في عقد التسعينيات لذلك يمكنني القول إنّه لا شيء من هزّاتنا الحديثة ومن صراعاتنا ومن رؤانا الأنطولوجية والإيديولوجية إلا وهو نابع من التسعينات.
*إلى وقت غير بعيد كانت الجامعة التونسية نهرا لا ينضب معينه من الشعر والشعراء من خلال مهرجان الشعراء الطلبة والذي كنت أحد الفاعلين البارزين فيه... كيف تنظر اليوم إلى هذه التجربة التي اندثرت؟
لقد تمّ اليوم حسم المسألة التي كان أعداء الشباب يطرحونها في شأن التسعينات "هل خُلق جيل التسعينات عبثا؟" كلاّ إنّ لهذا الكيان الكبير معنى، وأيّ معنى.. بوسع قراءة موضوعية لم تولد إلى حد الآن أن تكشف أنّه يمتدّ أبعد من حدوده الزمنية والجغرافية وأنّ لحضوره في كل مكان أثرٌ ما قد يُذكّر بالأزمة ولكنّه يُذكّر بالأخطاء التي حدثت.. وقد كانت الحركة الشعرية التونسية في جزء منها صنيعة الجامعة إذ عندما تمّ التضييق على الحركة الطلابية في بداية التسعينات وتصفية رموزها بالملاحقات وبالانتهاكات والقضاء على الصراعات الايديولوجية والفكرية التي كانت تميزها عن غيرها من الكثير من الجامعات في كل بقاع الدنيا، أطلّ جيل آخر ولم يشأ أن يواصل في تمجيد الفراغ لذلك أسسنا ملتقى الشعراء الطلبة وبعد دورات قليلة أصبح قبلة الشباب الطلابي المبدع وقبلة الحركة الأدبية والثقافية بشكل عام... لنمنح الشباب فرصة القيادة أو الريادة أو ليفتكّ فرصته في الممارسة الإبداعية في أي مجال من المجالات وسندرك كم نحن مجحفين في حقّه.. هل تذكر أيّام كنت أطلق تلك الدعابات النارية خلال ملتقى الشعراء الطلبة وأنا أقرأ على مسامع المارة أكثر القصائد فحشا لابن عبد ربه أو لعبد الرحمان الكافي أو غيرهما ولم يكن ذلك عن رغبة في الفضيحة بقدر ما كانت تعبيرا عن حمّى مقاومة الصمت لم أجد دواء لها سوى في الجنون اللفظي.. اعتقدت أيّامها أنّ سبب تخلف عقلنا القروي العنيد هم الآباء لذلك أطلقت فكرة قتل الأب من خلال الهزء بتجارب السابقين وقد استقبله المعنيين به بالاحتراز والاعتراض وبالعدائيّة واعتبروني من أَكَلَة لحوم البشر على حد عبارة سيوران ..
* ألا يزال الحنين يهزك إلى تلك الفترة – أعنى فترة مهرجان الشعراء الطلبة ؟
حين أستعيد تلك الأيّام أدرك هوسي بفكرة التحديث ولن أستطيع أن أقول لك كيف استطعت الفكاك من كل ذلك السعار لأنّني لم أتمكن من الفكاك منه بل مازلت أحلم بالثورة على كل ما ترسّخ وعلى كل ما لم يترسّخ وأحلم بإعادة التأسيس على قواعد جديدة
* كيف تبدو لك المهرجانات الشعرية اليوم ؟
إنّ ما يعوزنا هو الخيال وعدم القدرة على التجدّد وإنّي لأتعجّب من أنّ بعض تلك المهرجانات يشرف عليها مبدعون وشعراء ومع ذلك تكون في تناقض تام مع نصوصهم .. إنّ جدوى الشعر تتحقّق عندما يزوّد المجتمع بالأفكار الخلاقة القابلة لأن تصبح واقعا.
* ما الذي تغير في عادل المعيزي الشاعر بين الأمس واليوم؟
أصبحت قصائدي أكثر خوفا على بلادي من ذي قبل! لم أفكّر في المستقبل إلا وخطرت لي صورة مهولة -أو لأقل قصيدة سوداء-وانتابتني أحاسيس في شأن مصيرنا أخشى أن أعبّر عنها فأتّهم بالاختلاق.. إنّ معضلة السياسة التونسية أنّها لا تصغي لمبدعيها وإن حدث وأن أصغت إليهم فإنّها لا تأخذ بآرائهم.
* أي قصيد يريده عادل معيزي اليوم ؟
كل شيء فينا يبحث عن أوّله، يلازمني إحساس ما باللقاطة لأنّ شمسا صلبة بزغت يوما على أرض صلبة في أزمنة لا نتفكّر فيها إلاّ ورادتنا أسئلة كانت لازمة للتعرّف على ثوابتنا.. حكاية قرطاج من سؤال الوجود إلى سؤال الخلود. لم يتصدّ الإبداع التونسي إلى كتابة تاريخ قرطاج ولم نعثر إلى اليوم على ملحمة تأسيس قرطاج.. هل يُعقل أنّ حضارة بذلك الإبداع وذلك الخيال وذلك التطوّر السياسي والاقتصادي والثقافي والتقني لا يكون لها أدباء ولا تخلّف نصوصا كبرى؟؟ أحلم بكتابة ملحمة قرطاج المفقودة. ملحمة التأسيس وملحمة الإبادة خصوصا ونحن نشاهد يوميا فصلا من فصول الإبادة التي ينفذها الإجرام الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل والمعزول.
* يتحدث الكثير عن أن أزمة الشعر اليوم تكمن أساسا في غياب قارئ له ؟
الشعر لا يحتاج إلى قارئ آنيّ أو إلى مستهلك سريع يلتهم قصيدة بين فاصلتي إشهار، إنّه يحتاج إلى قارئ تاريخيّ ولعلّ الشعر سيزدهر والقصيدة ستنتشر في غياب ذلك القارئ الآني.. أعتقد أنّ القارئ الحقيقي للشعر هي لغته الحيّة وكلما قَرَأَتْ القصيدة لغة الحياة اليومية بحرارتها وارتجافاتها كلّما أصبحت منكتبة على أيدي جميع الناس.
* ما هو مفهومك للحداثة في الشعر؟
هذا السؤال يحتاج لمحاضرة ! لقد كتبت عدّة مقالات في الموضوع منذ تسعينات القرن الماضي.. ولكن ما الذي يمكن إضافته بعد أن خبا سؤال الحداثة في الحوارات الثقافية والنقاشات الأدبية؟؟ حسب تقديري لا يمكن الحديث عن حداثة شعرية بمعزل عن حداثة المجتمع بشكل عام فحتّى وإن ظلت القصيدة مستبقة لزمانها فإنها لا يجب أن تنفصم عن كاتبها وإلا فإنّه لا معنى لها بمعنى يجب أن يكون الشاعر حداثيا حتى يكتب قصيدة حداثية أي يجب أن يتسلح برؤية تؤمن بقيم الحداثة لا بإجراءاتها فحسب، وفي اعتقادي فقد فشلت الحركة الشعرية العربية في مجملها في ترسيخ قيم الحداثة وقد بشّرت بفشلها منذ اجتراح مصطلحات مضطربة ومتناقضة على غرار جمع النثر والشعر بالحديث عن القصيدة النثرية في حين كان الأجدى اعتماد مصطلح أكثر تعبيرا وأكثر انسجاما مع رؤية الحداثة ومع قيمها وهو القصيدة الأفقية أي في مقابل عمود الشعر الذي يعبّرعن العلاقات البطريركية وعن علاقات الهيمنة سواء في الاقتصاد أو في السياسة أو في الثقافة أو غيرها ينبغي التفكير في أفق الشعر الذي يعبر عن المستقبل وعن المساواة ويستوعب قيم الحرية والديمقراطية وكل ما يتعلق بمنجزات الحداثة ومنجزات ما بعد الحداثة ويخرجنا من النثرية ويبقينا في فضاء الشعرية التي أصبحت تنسحب على مجمل التعبيرات الإبداعية
* كشاعر اليوم هل أنصف النقد تجربتك؟
هذا سؤال في الحقيقة يدعو للسخرية إذ أنّ الجامعة التونسية عدا بعض المحاولات مازالت منغلقة في وجه التجارب الشعرية التونسية ولكن بالنسبة لي فقد تناول الكثير من النقاد التونسيين أو حتى العرب مجموعاتي الشعرية بالدراسة ولكن هي كتابات تتناول مجموعة بعينها أمّا تناول مدونتي الشعرية بمجملها والتي تمتد على عشر مجموعات شعرية وعلى ما يقارب 1500 صفحة فلم يحدث ذلك إلى حد الآن وهو يعود إلى العدائية المجانية لبعض أساتذة الجامعة المهيمنين على أقسام العربية من جهة وربما يعود كذلك إلى عدم توفّر مدوني الشعرية في جزء واحد أو في جزأين وهذا لا يمكن أن تقوم به دار نشر بمواردها الذاتية
* أنت أول من ناديت بضرورة عقد مؤتمر وطني للثقافة ... فهل مازلت على هذا الرأي؟ وما يمكن أن يقدمه للثقافة والمثقفين في تونس ؟
لقد ظل المشهد الثقافي التونسي مشهدا بائسا خلال زمن بسبب تهافت الفاعلين السياسيين وتغييب الفاعلين الثقافيين ولعلّ المرحلة أصبحت ملحة للدعوة إلى مؤتمر وطني للثقافة والإبداع تتنادى إليه كل مكوّنات المجتمع المدني الثقافي التي لها الشرعية التاريخية وكل الشخصيات الإبداعية والثقافية وكل المثقفين الثوريين وكل الذين لهم علاقة بالثقافة والتعليم والإبداع إنتاجا واستهلاكا وإعادة إنتاج... يجب الاستفادة ممّا تمنحه التجربة التونسية من إمكانيات التنظّم القاعدي وذلك عبر آليات المؤتمرات الثقافية المحليّة التي يمكن أن تنعقد وتقدّم مداولاتها الحلول الثقافية والإبداعية من جهة ومعالجة القضايا السياسية والاقتصادية من جهة أخرى ويمكن أن تؤدّي تلك المؤتمرات المحلية إلى مؤتمرات جهوية تترسّخ فيها الخيارات الثقافية والاقتصادية والسياسية لتكون انعكاسا أمينا لخيارات المؤتمر الوطني.
نحن نعتقد أنّ كلّ ما يحدث في تونس، من فساد وظلم وتخلّف وتمييز وفقر وبطالة ومعاناة واحتكار ومحسوبية وفشل وانحطاط وانحرافات ورداءة في مختلف المجالات، ما ظهر وما خفي... كلّ ذلك أجزاء مترابطة لمنظومة متكاملة، جذورها الوصاية، أي التبعيّة وارتهان القرار الوطني وفروعها الخيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.. وهذه المنظومة المتغلغلة في الدولة وفي المجتمع والمدجّجة بقوّة السلطة والمال والإعلام، ستستمرّ في عملها الممنهج من أجل إبقاء الشعب ضعيفا وتحت السيطرة ومستسلما، وإبقاء البلاد في حالة استقرار هشّ في ظلّ الوصاية.
وقد كان التشخيص قاصرا أو سطحيا أو جزئيا أو غائبا، فكانت الثورة غير مكتملة. إذ أنّ الأزمة أكبر وأعمق وأخطر من أن يعالجها إسقاط بن علي ونظامه والطرابلسية، الذين لم يكونوا سوى واجهة وأدوات لمنظومة الوصاية والفساد المتغلغلة في الدولة والمجتمع، والتي تحكم تونس منذ زمن بعيد، ما بين استعمار واستبداد، وتسبّبت في دمار شامل في كلّ المجالات، وتشوّهات في العقول والنّفوس وفي القيم، واستدامة للجمود والتخلّف، بينما كانت دول وشعوب في مثل وضعنا أو أسوأ في مختلف القارات ومن مختلف الأحجام، تقلع تباعا على مدى ستّة عقود، رغم أنّهم لا يفوقوننا بشيء، وواجهوا عراقيل وصعوبات سلمت منها تونس وشعبها... وتكرّر في 2011 ما وقع في 1956، بنفس الطريقة مع تنوّع الوسائل ولنفس الأسباب، من التفاف على مطالب الشعب وتطلّعاته وأحلامه. فقد شهدت تونس بعد 14 جانفي انفجارا لـ"جماعات التفكير" التي قامت بتوجيه الرأي العام عبر إحداث عشرات القنوات ومئات الإذاعات وآلاف الصفحات الورقية ومئات آلاف الصفحات الالكترونية وعبر برامج المقابلات التلفزية المختلفة من أجل إشباع الخطاب العام بالمصالح والسلطات والقوى التي يصعب تصوّر حدودها وتنوّعها والمحصّلة هي قبول العامة باستمرار المنوال الليبيرالي لدولة ما بعد بن علي والتي تتحول شيئا فشيئا إلى دولة غير مسؤولة أمام المواطنين وغير مسؤولة عن البيئة الطبيعية والمسؤولة فقط أمام "بنية ضخمة من شركات عالمية لا تردعها حدود تقليدية أو سيادات"... ولعلّ من أكثر المظاهر تراجيديّة أنّ الشعب التونسي أو الجزء الأعمّ منه على الأقل قد نسي أو أنسوه السبب الحقيقي الذي خرج من أجله يوم 17 ديسمبر 2010 وما بعده ودفع من أجله مئات الشهداء وآلاف الجرحى !!...
إنّ المثقفين والمبدعين هم الحل الأجدر بتونس الآن، لذلك أجدّد الدعوة التي أطلقتها سنة 2011 إلى مؤتمر وطني للثقافة والإبداع يحمل على عاتقه اقتراح البدائل الثقافية والإبداعية لتونس بعيدا عن السياسة السياسوية التي تتحدّث دائما عن المصالح الدائمة منكرة المبادئ الأكثر ديمومة وهي التي تؤصّل للقيم البديلة التي يحتاجها الشعب التونسي اليوم خصوصا في ظل انهيار منظومة القيم القديمة وغياب بدائل القيم الجديدة، وعلى المثقفين والمبدعين أن يتحمّلوا مسؤوليتهم وينقذوا وطنهم ممّا تردّى فيه من هوان وتخلّف... مؤتمر يسعى لتفعيل الطاقات والكفاءات المعطّلة، وتوحيد الجهود المبعثرة والتائهة... حتّى يصبح المظلّة الكبرى لكلّ من/ما هو وطني، من مبدعات ومبدعين ومثقفات ومثقفين وهيئات المجتمع المدني المؤمنة بالثقافة الوطنية الديمقراطية التقدمية المتحرّرة من ربقة الاستعمار والتبعيّة، يلتفّون حول المشروع، ويضخّون فيه خبراتهم وتجاربهم وأفكارهم ومبادراتهم...من أجل أن يتحوّل إلى تيّار قادر على الفعل المؤثّر، وعلى إسناد أي مسار سياسي يسعى إلى مقاومة منظومة الوصاية والفساد...
* هل تغير توجه وزارة الشؤون الثقافية بعد الثورة وحققت الإصلاحات الواجب القيام بها لفائدة الكتاب والمثقفين والثقافة بشكل عام ؟
للأسف لم يتم ذلك بل إن هذه الوزارة التي كان من المفروض أن تقود قاطرة الحراك الثوري من أجل إشاعة القيم الجديدة وتحفيز الإبداع وتشجيع الخيال فقد كانت عائقا حقيقيا أمام كل تغيير وكل تقدّم حتى أصبحت بعد سنوات قليلة المكان المثالي لتصفية المبدعين وسجنهم وتشريدهم ولنا أن نذكر في هذا الصدد على سبيل الذكر لا الحصر لسعد بن حسين وأمامة الزاير وخالد الهداجي وسامي الذيبي ونزار الجلاصي وصابر العبسي وسيف عمار المداني والناصر بن عمارة وغيرهم كثير... للأسف الشديد منذ نهاية النظام القديم لم يتم اعتماد سياسة ثقافية تقوم على بدائل ثورية من أجل تحفيز الناشئة والنخبة والمجتمع في اتجاه انتاج القيم البديلة بل ظلت هذه الوزارة عبارة على مؤسسة لإدارة الفعاليات الثقافية من مهرجانات ومعارض وحفلات والإشراف على التسيير اليومي للمؤسسات التابعة لها... هل يُعقل في تونس التي يمتد تاريخها على آلاف السنين ألا تكون لنا وزارة للآثار والتراث تتصدّى للحفريات والاكتشافات الأثرية وحماية الآثار من النهب والتدمير وتثمينه وإقامة المتاحف وصيانة التراث وهو ما يمكن أن يشكل فائض قيمة لا يقدّر بثمن؟؟؟ إنّه لمن المحزن حقّا أن لا يكون لنا علم القرطاجيات يُدرّس في الجامعات ويثمّن المنجزات القرطاجية ويحاول فهم هذه الامبراطورية الذكية التي كانت تقود العالم...
سيرة موجزة
عادل المعيزي شاعر وحقوقي وكاتب تونسي يكتب الإيبيغراما والرواية الشعرية واليوميات الشعرية والأقاصيص والسيناريو الشعري والمسرحيات الشعرية... تُرجمت نصوصه إلى الفرنسية والأنقليزية والاسبانية والبرتغالية حائز على عدة جوائز وطنية وعربية من بينها جائزة فدوى طوقان للشعر العربي التي تسندها مؤسسة فلسطين الدولية بعمان سنة 2013 عن ديوان "أما أنا فلأي فردوس" وصدرت له عدّة كتب من بينها "وطان القصيدة" و"أمس منذ ألف عام" عن دار الفارابي ببيروت و "قصائد مؤقتة" و "استدارة كاملة ينقصها جناح" و"هذا الذي يقوله الجسد"
من أشعاره
الزقزقاتُ
دواءُ أرواحٍ مُعلّقَةٍ
على قضبانِ هذاك القفصْ
الزقزقاتُ..
برغم سونيتاتها
السيرُ صارَ إلى الوراء
صُورٌ ككثبان القصصْ
الزقزقاتُ..
رنينُ ذاكرةٍ
مطابقةٍ لأطيافِ العسسْ
الزقزقاتُ..
لأنها مثل الدليل
على الحقائق تختفي
قد تختفي من عالم لا يحتفي
إلا بما خلف الجرسْ
الزقزقاتُ..
كريش أجنحة الطيور
يطول أبعد من طريق
يُدركُ العرش الغريب كشهقةٍ
رغم المقصْ
الزقزقاتُ..
تداعبُ الأرواحَ في أوج الكلام
على الغرام تقاطرتْ
نورا على شفةِ الخرسْ
الزقزقاتُ..
وثورةٌ مرسومةٌ في القلب موسيقى
على الارهاب
والتكفير
والتحريض
والفتن التي انتشرتْ ظلاما في القبسْ
شعبٌ كما استعصى سيستعصي
على الجبروت
والبهموت
والطغيان
وكتم أنفاس الغلسْ
الزقزقاتُ..
كأنها..
حرية
لولا السوادُ
والحدادُ
والرمادُ
والكسادُ
والحرسْ